سودانيات .. تواصل ومحبة

سودانيات .. تواصل ومحبة (http://www.sudanyat.org/vb/index.php)
-   منتـــــــــدى الحـــــوار (http://www.sudanyat.org/vb/forumdisplay.php?f=2)
-   -   الجـــــــــــــــــــــــــان أب لـــــــــــمـــــــــــــبــــــة (http://www.sudanyat.org/vb/showthread.php?t=32480)

الوليد عمر 30-07-2020 08:25 PM

الجـــــــــــــــــــــــــان أب لـــــــــــمـــــــــــــبــــــة
 
في لحظة (سرحة كدا) في ملكوت الخالق و تأملات في الحال و المآل و صفعات البعد و الغربة و الشوق ، تذكرت بحنين طاغي طفولتي البعيدة و سنوات العمر المجيدة و أحاجي حبوباتنا الهدهادة و المهدِّدة و المهدئة التي كانت لا تنتهي إلا حين تبدأ ، و لا تبدأ إلا حين ينتهي الصغار من الغلبة و الشيطنة، و للحبوبات و الأمهات مِزاج دائم في الأقاصيص الغريبة و ليس بين حكاويهن قصة واحدة تخلو من الملائكة و الجن و الشياطين و الحيوانات الناطقة و مخلوقات الخيال الممتد و الخرافة و الأساطير التي ينسجنها بعناية كبيرة ، الحبوبات نسوة وصّافات و مثّالات، يسردن الحكايات البسيطة و الجميلة و يجملن القصة بموسيقاها التصويرية و يدفعن خيال الطفل الصغير دفعا بأصواتهن المحبوبة و حركات أياديهن المعرورقة و قسمات وجوههن الطيبة ذوات الشلوخ و خطوط العمر المسطرة تسطيرا علي الجباه السمراء القديمة فترتسم شخصيات القصة في الأذهان الغضة كأننا نراها عيانا بقرونها و أجنحتها و فكاكها المسننة و تتردد في الأذان الصغيرة أصوات العواء و الزئير و حفيف أجنحة الملائكة، لقد كانت الحبوبات يتخيرن لكل حشد من الصغار حكاية و لكل وقت من اليوم حكاية و لكل حال من الأحوال حكاية ، و لكل قصة منهن هدف و مرامي يسعين لتحقيقها، (حجوة فاطنة السمحة و الغول) تحكي لكل صغار الوطن لتغرس فيهم القوة و الأمل و محبة الخير و (حجوة الدهيبة و القرادة) و (القمرا و مشاط القمرية) تحكي للفتيات الصغيرات وأحاجي المرافعين و الشواطين و الكائنات المخيفة تحكي لتخويف الصغار الذين يغالبون النوم فيختبؤون عميقا في حضن الحبوبة و يملؤون أنوفهم من رائحتها الذكية المضمخة بالصندلية و زيت الكركار الحار و هي تلفلفهم بأطراف توب الزراق الجميل.

كانت تعجبني كل الحكاوي التي سمعتها مرارا و تكرارا من حبوبة، تلك الحكاوي التي لم أملها يوما ولا زالت تتردد الكلمات في ذاكرتي حتي اليوم و لكن تلح في بالي الأن الحجوات التي كانت نسجتها حبوبة بخيالها الخصب و من ولعها الشديد بشجرة جدنا الكبير (بكري) و التي زعمت أنها شجرة غرسها شيخ الجان بنفسه و تعهدها بالسقاية و الرعاية حتي طالت و أظلت و ترامت فروعها و برزت بين الأشجار الأخري و عندما حل جدنا الكبير في المكان و إستظل بهذه الشجرة هو و عوله سمح لهم صاحب الحضرة شيخ الجن بأن يضربوا خيامهم و يوقدوا نارهم فأقاموا بالمكان عقودا و عمروه و جعلوا منه قريتهم و موطنهم يزرعون حول شجرة بكري (بِلداتهم) و يرعون في رحابها بهائمهم، يأكلون و يتناسلون حتي أمسوا أقواما كثيرة و بطون للبيوت، شمخت الشجرة و عمرت دهرا طويلا محروسة بحكاوي الحبوبات حول المرافعين و الجان أب لمبة و غنم إبليس و دبايب (أم أجنيب) السوداء مستدقة الراس التي تقفز قفزا أقرب لطيران (ود أبرق) و التي تقتل الحصان بلدغة واحدة و لكن شيخ الجن كان قد منع أم أجنيب من التعرض لضيوفه من عيال الجد (بكري الكبير) الساكنين في رحاب الشجرة المباركة في قرية (أم ماجغيم) .. و تتحاكي كافة حبوبات أم ماجغيم بفخر كبير و عزة متعاظمة عن مرور قوافل الحجيج القادمة من الغرب و من أواسط أفريقيا في طريقها إلي الأراضي المقدسة بواسطة (البابور) الرابض في إنتظارهم في سواكن فينزلون ضيوفا عند (بكري الكبير) تحت ظل الشجرة المقدسة في الوادي المقدس (طوي) فيكرم وفادتهم و يعقر لهم الشايلات و يطلب منهم الدعوات و يأمنهم علي السلام الذي يرسله معهم (لأبو فاطنة) عليه الصلاة و السلام و لعلي الكرار كرم الله وجهه.

رحل القوم عن المكان في دهر من الدهور بعد قدوم الإنجليز الملاعين (أبان وجوها دم) و بعد قيام مشروع الجزيرة، رحلوا عن رحاب شجرة بكري الكبير و بنوا قطاطيهم في تلك الفضاية المقابلة لغابة السنط و التي جزها الإنجليز جزا بالكراكات حتي نبتت في مكانها حشيشة السعد و الضريسه و سموها (اللُّقُد) ، و لكن بقيت الشجرة العجوز تترائي بعد العين للناس من مقامهم الجديد، كنا نراها بعيوننا، تلك الصغيرة و هي شامخة في الأفق تهز في فروعها مع كل هبة ريح و كأنها تلوح للسالمين بالسلام ، كبرنا قليلا و كبرت حكاوي حبوبة معنا و لكن إعتقادها في الشجرة المباركة ظل قابعا فى جوف الأقاصيص التي تحجينها حتي جفت الشجرة و تهاوي جذعها ذات يوم و ماتت.

تقول حبوبة في حكايتها الأخيرة أن (شيخ الجن) نزع بركته عن المكان بعد موت شجرته المحبوبة و أرسل علينا غضبه وحلت منه اللعنة علي الناس فما عاد ينفعهم ما يأكلون و ما عادت تنجب لهم نساؤهم الفرسان وما عادت تحلب أبقارهم اللبن، غضب شيخ الجن علي البشر جميعهم و فرق عياله المشوطنين في السهول و الحقول و التلال ينصبون الفخاخ للبشر و يضلونهم عن الطريق و تقول حبوبة أن الجان المعروف في كل بقاع السودان ب: (أب لمبة) هو إبن شيخ الجن (البِكري)، و هو (ذات الجان أب لمبة) الذي يمارس هوايته المحببة فيتبين للعابرين و المسافرين و سالكي الطريق فيتبدي لهم كالرهاب و يشلع لمبته و تنير أضواءها مثل كهارب الحواضر حتي تتأمم شطرها وجوه المسافرين فيضل القوم عن مقصدهم، و لذلك ظلت حبوبة توصينا بعدم السفر بالليل حتي لا يلعب بنا (الجان أب لمبة) و يمرقنا في (سقط لقط).

#الخال_أبو_بكري
دبي 25/07/2020


الساعة الآن 09:27 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.