سودانيات .. تواصل ومحبة

سودانيات .. تواصل ومحبة (http://www.sudanyat.org/vb/index.php)
-   منتـــــــــدى الحـــــوار (http://www.sudanyat.org/vb/forumdisplay.php?f=2)
-   -   من هو محمد الفيتوري الذي يحتفل به غوغل ؟ (http://www.sudanyat.org/vb/showthread.php?t=62857)

elmhasi 24-11-2021 11:50 PM

من هو محمد الفيتوري الذي يحتفل به غوغل ؟
 


المصدر : وكالات
التاريخ : 24 نوفمبر 2021م
يحتفل محرك البحث العالمي غوغل اليوم بذكرى ميلاد
الشاعر السوداني البارز محمد الفيتوري Muhammad al-Fayturi
وذلك من خلال شعار خاص يظهر على صفحته الرئيسية للبحث في الدول العربية .
وقالت جوجل إن أعمال الشاعر والكاتب المسرحي والدبلوماسي السوداني محمد الفيتوري بلغتها الثورية بثت حياة جديدة في الأدب العربي المعاصر بمزيج من الفلسفة الصوفية والثقافة الإفريقية والدعوة إلى مستقبل خال من الاضطهاد .
ولد محمد مفتاح رجب الفيتوري في مثل هذا اليوم من عام 1936م في الجنينة ، وهي بلدة تقع على الحدود الغربية للسودان، وذلك لأب ليبي وأم مصرية، وانتقل في عمر الثالثة إلى مصر، حيث أمضى ما تبقى من طفولته، ثم تابع دراسته في الأدب والعلوم وتخرج في جامعة الأزهر، ثم وجد عملا كمحرر في الصحف المصرية والسودانية بعد التخرج .
وفي عام 1956م ، نشر محمد الفيتوري مجموعته الشعرية الأولى بعنوان «أغاني إفريقيا» والتي استكشفت آثار الاستعمار على الهوية الإفريقية الجماعية وشجع قراءه على اعتناق الجذور الثقافية لقارتهم السمراء ، ثم نشر بعدها العديد من المسرحيات والكتب والمجموعات الشعرية، حيث عاش وعمل كاتبا وصحفيا في معظم الدول العربية، ونشر الفيتوري آخر أعماله في عام 2005م .
وتوفي محمد الفيتوري في يوم الجمعة 24 إبريل عام 2015م في المغرب ، والتي كان يعيش فيها مع زوجته المغربية ، وذلك عن عمر ناهز 85 عاما بعد صراع طويل مع المرض .

elmhasi 25-11-2021 03:31 PM


محمد الفيتوري ... 3 قراءات في مسيرة شاعر مثير للجدل

الأربعاء - 19 شهر ربيع الثاني 1443هـ - 24 نوفمبر 2021مـ

لندن : «الشرق الأوسط»
احتفى موقع «غوغل» ، الأربعاء ، بالذكرى الخامسة والثمانين لميلاد الشاعر السوداني الراحل محمد الفيتوري الذي هيمن ظله على المشهد الشعري في بلادهـ ، فيما كانت مسيرته حافلة بالمتناقضات المثيرة للجدل ، من البدء بالدفاع عن ضحايا الديكتاتورية وانتهاء بالتحول إلى صوت لمعمر القذافي .
في ما يلي ثلاث قراءات من ثلاثة شعراء من لبنان والعراق ومصر، تتناول جوانب مختلفة في حياة الفيتوري وأثرهـ ومشروعه الشعري :-

محمد الفيتوري من الدفاع عن الضحايا إلى التماهي مع الجلاد

لعنة الفيتوري على شعراء السودان



elmhasi 25-11-2021 04:05 PM


محمد الفيتوري من الدفاع عن الضحايا إلى التماهي مع الجلاد

شاعر «السحر الأسود» الذي طالما حبس الأنفاس بحضورهـ المنبري
الأربعاء - 12 شعبان 1440 هـ - 17 أبريل 2019 مـ رقم العدد [14750]

شوقي بزيع
كنت بعدُ طالباً على مقاعد الدراسة حين دُعي محمد الفيتوري لإقامة أمسية شعرية في بيروت ، في مطالع سبعينيات القرن الفائت. لم يكن اسم الفيتوري يومها جديداً على الجمهور اللبناني الذي كان قد تعرّف ، قبلها بسنوات ، وفي المكان إياهـ ، إلى الشاعر السوداني الشاب وهو يقف جنباً إلى جنب مع فحول القصيدة العربية التقليدية ، لينشد في رثاء الأخطل الصغير قصيدته الميمية التي يحفظ الكثيرون من أبياتها قول الشاعر «أنت في لبنان والشعر له/ في ربى لبنان عرشٌ ومقامُ/ أنت في لبنان والخلْد هنا/ والرجال العبقريون أقاموا/ حملوا الكون على أكتافهمْ/ ورعوا غربته وهو غلامُ . غرسوا الحب فلما أثمر الحب أهدوهـ إلى الناس وهاموا».
على أن الحشد الذي ملأ «قاعة الأونيسكو» في الأمسية اللاحقة لم يكن مدفوعاً إلى الحضور بتأثير من المناسبة الأولى فحسب ، بل بما تركته أعمال الشاعر المبكرة ، التي اتخذت من المعاناة الأفريقية محوراً لها ، من أثر عميق في نفوس قرائه ومتابعيه . وقد عملت أحزاب اليسار العربي ، والشيوعيون بوجه خاص ، على الترويج للفيتوري بوصفه شاعر القارة المقهورة ، والمعبّر الأمثل عن سعيها إلى التحرر من ربقة الفقر والجهل والاستعباد . وإذا كانت قصائد الشاعر في تلك الأمسية قد دغدغت أسماع الحضور بأسماء قادة ثوريين من طراز لوممبا وعبد الناصر ونكروما وأحمد بن بيلا ، فإن أكثر ما يتذكرهـ الحضور من تلك الأمسية هو إلقاؤهـ المميز لقصائدهـ ، حيث استطاع أن يحبس الأنفاس بصوته الأجش الراعش ، وبصرهـ المسدد نحو نقطة ثابتة في سقف القاعة ، وتلوينات أدائه المسرحي التي فعلت بصعودها وهبوطها المتعاقبين ، فعل السحر في الحاضرين . حتى إذا فرغ الشاعر من قراءة قصيدته المؤثرة في رثاء المناضل السوداني عبد الخالق محجوب ، الذي أعدمه النظام الحاكم آنذاك ، انفجرت القاعة بالحماس الغاضب ، وبدا للكثيرين أن عصر الشيوعية «السعيد» ليس بعيداً جداً ، رغم تعاظم الخيبات ودموية الطغاة الجلادين .
قد تكون تجربة الفيتوري ، على المستويين الشخصي والإبداعي ، واحدة من أكثر التجارب الشعرية التي تفتح شهية النقاد والدارسين لتناولها بالكتابة والتحليل . ليس فقط لخصوصية موضوعاتها وعناصرها الأسلوبية ، بل لأن المفارقات التي حكمت شخصية الشاعر وتحولات مسيرته الحياتية ، لا تحصر دراسته في المستوى النقدي التقليدي ، بل تترك لعلمي النفس والاجتماع أن يقولا الكثير في طبيعة هذهـ التجربة وتتبّع انعطافاتها الدراماتيكية ومآلاتها المتعارضة . والحقيقة أن أي تتبع عميق لمسيرة صاحب «معزوفة لدرويش متجول» لا بد أن يوصلنا إلى الاستنتاج بأننا أمام نسَخ ثلاث ، على الأقل ، من شخصية الفيتوري المركبة . وهي أولاً نسخة الشاعر الثوري الذي أمدّهـ فقرهـ وسواد لونه وموقعه الهامشي ، بمشاعر التمرد والنقمة والاحتجاج على الواقع . ونسخة الشاعر المتأمل الذي وجد في التجربة السودانية الصوفية ، بما تمتلكه من ثراء ميتافيزيقي وروحي ، ما يُخرجه من مأزقه . ونسخة الشاعر المتسلق الذي راهن على خلْعة السلطان وعطاءاته المجزية لكي يتخلص من إرث الماضي المثقل بالآلام والمكابدات وعقد النقص . وإذا كانت القيمة الفعلية لأي شاعر لا تحددها سلوكياته الشخصية أو مواقفه السياسية ، بل تحددها معايير متعلقة بمنجزهـ الإبداعي وحدهـ ، فإن ذلك لا يحول دون إيجاد صلة أو نسب ما بين الحياة والكتابة ، كما بين صدق التجربة ومصداقية التعبير عنها . وهو ما سنجد ترجمة له في المحطات المختلفة لمسيرة الفيتوري منذ بداياته المبكرة وحتى سنيه الأخيرة .
يؤكد محمد الفيتوري في تقديمه المسهب لأعماله الشعرية ، التي صدرت في بيروت عام 1972م ، على أن بواكيرهـ الموزعة بين نبرتي الحزن والرفض كانت تتغذى من المعاناة التاريخية القاسية لقارته السمراء ، بقدر ما تتغذى من معاناة شخصية موازية تَسبب بها شعور عميق بالفقر والمهانة تبدو انعكاساته في غير قصيدة من قصائدهـ . وقد تكون جرأة السياب ، الذي سبقه في العمر والتجربة ، على الاعتراف بدمامته التي جعلت نساء العراق يكتفين بالافتتان بشعرهـ دون شخصه ، هي واحدة من العوامل التي دفعت الفيتوري إلى القول
«دميمٌ ... فوجهٌ كأني به \ دخانٌ تكثّف ثم التحمْ \ وعينان فيه كأرجوحتينِ \ مثقلتين بريح الألم \ وأنفٌ تحدّر ثم ارتمى \ فبان كمقبرة لم تتمْ».
لكن هذهـ النبرة المأساوية المهيضة سرعان ما تخلي مكانها لنبرة التمرد والغضب والحث على النهوض ، حيث تتقاطع حركة الصحوة الأفريقية التي جسدها كلّ من ليوبولد سيدور سنغور وأوغستينو نيتو وآخرون ، مع حركة الحداثة العربية ذات البعد النهضوي التموزي . وهو ما جسدته بشكل واضح مجموعات «أغاني أفريقيا» و«اذكريني يا أفريقيا» و«عاشق من أفريقيا». وكالكثير من مجايليه كان الفيتوري ، الذي كرر في غير مناسبة إعجابه ببودلير، يعيش صراعاً داخلياً واضحاً بين ذهابه في مغامرة التجديد حتى نهاياتها ، وبين وقوعه تحت وطأة الواقعية الاشتراكية التي ترى في الشعر وسيلة ناجعة لإثارة الجماهير وتحريضها على الثورة . وقد ظل الشاعر أبداً أسير ذلك الترنح المؤرق بين الخيارين . فهو يلعب حيناً على وتر الجرْس التطريبي والتجييش «الثوري» العاطفي :-
«زمني يا أختَ هواي عجب \ زمني جلاد لا يرحمْ \ زمني يا أخت هواي أصم \ يخنقني كي لا أتكلمْ \ وأنا إنسانٌ يتألمْ».
فيما يؤثر أحياناً أخرى أن يتلمس الشعر عبر الصفيح الساخن الذي تنصهر فوقه نُذُر الثورة ووعود الأنوثة :-
«هذا مسار نجمهم \ أيتها الحبيبة الغريبة \ الحبيبة ، الجمالُ والدمامة \ هذا مسار نجمهم \ يركض في الزاوية الكبرى قليلاً \ ثم ينهار رماداً \ راسماً في جبهة الشرق وعينيه علامة \ فابتسمي حتى تمرّ الخيل والبيارق المذهّبة \ فالخيل ليست خيلَنا نحن ولا الصهيلْ \ واختبئي في مطر الضفائر المضطربة \ وكبرياء حقدك الجميلْ».
أما الوجه الآخر للفيتوري فيتمثل في نزوعه الصوفي الذي تبدو تجلياته واضحة في دواوينه «معزوفة لدرويش متجول»، وبعض قصائد «سقوط دبشليم» و«البطل والثورة والمشنقة» كما في أعمال وقصائد لاحقة . وهذا النزوع متأتّ بشكل أساسي من البيئة السودانية المحلية التي تعج بالطقوس الدينية والطرق الصوفية المختلفة . وهو بالتالي لا يقتصر على تجربة الفيتوري وحدها ، بل يتعداها إلى تجارب أخرى للتيجاني يوسف بشير ومحمد المهدي المجذوب ومحمد عبدالحي وغيرهم . على أن من يمعن النظر في نتاج الشاعر وإصداراته أواخر ستينيات القرن المنصرم وأوائل سبعينياته ، لا بد أن يلاحظ أن النقلة المهمة التي حققها الشاعر على مستويات الأسلوب واللغة والرؤية لم تتحقق بفعل الصدفة ، بل كان لإقامته في بيروت وتفاعله مع حراكها الثقافي ومغامرتها الحداثية النشطة الدور الأبرز في تعميق تجربته وتوسيع مخيلته والتخفيف من نزوعه الخطابي والآيديولوجي المباشر . هكذا أتيح للفيتوري أن يكتب نصوصاً مختلفة من مثل : «لماذا تظلّ الوجوهـ المليئة بالصمت موغلة في الذهابْ ؟\ أأقنعة أم وجوهٌـ محدقة في مرايا العذابْ ؟ \ لماذا المقاعد مصفوفة والقناديل والزهرُ ..\ حتى كأن ستار النهاية \ ستارُ البداية \ لماذا أنا أنتِ يا ويلتاهـ ؟». أو نصوصاً مميزة أخرى حفظها آلاف القراء ، من مثل «في حضرة مَن أهوى\ عبثتْ بي الأشواقْ\ حدّقتُ بلا وجهٍ\ ورقصتُ بلا ساقْ\ وزحمْتُ براياتي\ وطبولي الآفاقْ\ عشقي يُفني عشقي\ وفنائي استغراقْ\ مملوككَ لكني\ سلطان العشاقْ».
وقد يكون الفيتوري قد وجد في المقاربة الصوفية للعالم ما يعفيه من كل شعور بالنقص ، حيث معايير الرفعة والجمال تنبع من لآلئ الداخل الإنساني وكشوفه ، لا من اللون والشكل والملامح الظاهرة .
لكن البوصلة التي رسمت لمحمد الفيتوري سبل الوصول إلى جوهر الشعر من جهة ، وسبل تجاوز عقد نقصه الشخصية عبر نقلها إلى الخانة الأوسع المتصلة بالدفاع عن قيم العدالة والحرية والكرامة الإنسانية ، من جهة أخرى ، ما لبثت أن انقلبت على وجهتها الأساسية لتقودهـ إلى التماهي الكامل مع صورة الطاغية التي سبق أن صب عليها جام غضبه قبل ذلك . ومنذ أن وضع الشاعر نفسه في عهدة معمر القذافي وتصرّفه ، منتقلاً من خانة الفقر والتهميش إلى خانة الوجاهة الاجتماعية والمناصب المرموقة والثراء الباذخ ، حتى بدأت الشعلة المتوهجة بالضمور، ليتحول الشعر الخلاق إلى نظم احترافي لمعلقات المديح ، وليتحول الانبثاق الروحي التلقائي إلى عرض استعادي للمهارات البلاغية الشكلية . والشاعر الذي سبق له أن هتف ذات يوم : «لماذا يظن الطغاة الصغار/ وتشحب ألوانهمْ/ أن موت المناضل موتُ القضية!».
هو نفسه الذي سيقول في مديح الحاكم الليبي ، ونظير النميري في الطغيان : «ها أنت ذا فوق صخر الموت تزدهرُ\ تصحو ، وتصحو المرايا فيك والصوَرُ\ كأنما جئتَ من كل العصور، وقد\ كنتَ النبوءة في أحلام من عبروا\ يا حامل الوحدة الكبرى إلى أفُقٍ\ راياتهُ النجمتان : المجدُ والظفَرُ». وإذا كنا سنلحظ في مجموعات الشاعر اللاحقة ارتفاعاً لمنسوب القصائد التي تحتفي بالهموم القومية وحركات المقاومة في شتى ديار العرب ، فإن ذلك لا يعني بالضرورة ارتفاعاً موازياً في منسوب الالتحام بقضايا الأمة ومعاناة شعوبها ، بل هو نوع من «التبييض» الأخلاقي الرمزي لسواد التحالف مع الطغاة والانحياز إلى خانة الجلادين . ولن تستطيع الكتابة عن فلسطين وسواها في مجموعة «يأتي العاشقون إليك»، أو قول الفيتوري عن أطفال الحجارة «ليس طفلاً ذلك الخارج من قبعة الحاخامِ\ من قوس الهزائمْ\ إنه العدل الذي يكبر في صمت الجرائمْ\ إنه التاريخ مسقوفاً بأزهار الجماجمْ\ إنه روح فلسطين المقاومْ» .
أن يحجب تسويغ الشاعر للعسف السلطوي ، وللدماء البريئة التي أريقت ، وما زالت تراق في ساحة عربية لم يأخذ جرحها بعد طريقه إلى الالتئام .
على أنه ليس من العدل بمكان أن نكتفي بقراءة شاعر متميز كمحمد الفيتوري من جانب سقوطه السياسي وحدهـ ، أو من الجانب المتعلق باستمرائه لمقتضيات الإنشاد المنبري والتحريضي ، بل تجب قراءته أيضاً في تجلياته الروحية العميقة ، وفي براعته الأسلوبية العالية . فالخيارات الخاطئة لصاحب «أقوال شاهد إثبات» لا ينبغي بالقطع أن تحجب وهجه الشعري عن الأعين . وما سيظل من الفيتوري ليست منظوماته الحماسية التقريرية ، ولا تملقه المتكلف للحكام ، بل بعض نصوصه العالية التي تنبثق من مكابدات النفس ، ومن أكثر الأماكن صلة بالشغاف ، من مثل قوله «شحبتْ روحي\ صارت شفقاً\ كالدرويش المتعلق في قدمي مولاهـ أنا\ أتوهج في بدني\ غيري أعمى\ مهما أصغى لن يبصرني\ فأنا جسدٌ حجرٌ\ شيءٌ عبَر الشارعْ\ جزُرٌ غرقى في قاع البحر أنا\ وحريقٌ في الجسد الضائعْ».




elmhasi 26-11-2021 04:54 PM


محمد الفيتوري .. شعرية الصرخة
تنوعت في شعرهـ وارتبطت بحرية الإنسان
الثلاثاء - 10 رجب 1436هـ - 28 أبريل 2015مـ

https://aawsat.com/sites/default/fil...?itok=_qiiEDu0
محمد الفيتوري
القاهرة : جمال القصاص
تشكل شعرية النشيد المدار الفني لتجربة الشاعر محمد الفيتوري الذي رحل عن عالمنا الأسبوع الماضي ، وتتوثق علائقها بشكل لافت في فضاء الصرخة الإنسانية ، وقد عانق شعرهـ تجليات هذهـ الصرخة ، في مستويات هبوطها وصعودها من السطح إلى القاع ، وتحتها تراكمت خبرته ، وتنوعت في سياقات معرفية جمة ، مكنته من الاحتفاظ دوما بمقدرة العودة إلى الجذور لرحم الصرخة .
في نشيدهـ الأول ، والذي يشكل مدار طفولته الشعرية ، اتسمت الصرخة بدفقة ثورية بكر، بدت وكأنها نابعة من أزمنة سحيقة ، لكن ظل اللعب الفني على السطح ، سطح اللغة والحالة والرؤية ، هو الشكل الملائم لغواية فتى ، كان كلما نظر إلى المرآة تحولت سمرته ، أو بمعنى أدق «زنجيته» إلى قيود وسياط تلاحق خطواته وتتربص له في الخيال والحلم ، وهو ما جعل دواوينه الأولى المبكرة «أغاني أفريقيا» و«عاشق من أفريقيا» و«اذكريني يا أفريقيا» بمثابة شلال من الصرخات الموجوعة بنضال إنسان القارة السمراء في التحرر من الاستعمار، ونيل حقوقه في الحرية والكرامة والعدل .
ولأن شعرية النشيد تتميز بإيقاع مجلجل وجرس موسيقي له رنين جذاب على الأذن ، أذكر وأنا صغير أحبو فوق شطوط الشعر واللغة ، أنني كنت مشغوفا بهذا النمط من الشعرية ، بل أحيانا كنت أتصبب عرقا وأنا أقرأ نماذج منها ، كنت أحبس نفسي بين جدران الغرفة ، حتى يمكنني القراءة بصوت عال ، والاستمتاع بصدى الصوت ، وهو يرتد إليّ ، وينزلق فوق صدري كرزاز شفيف .. إنها شعرية تلامس الحنجرة دوما ، وقد ساعدتني هذهـ القراءة في هضم الكثير من تراث الشعر العربي ، لكن في حالة الفيتوري ، كنت أشعر دائما أنني إزاء صرخة تدوي في أفق بعيد ، إزاء منشد شعبي ، يستطيع أن يهز الناس جسدا وروحا ، لذلك بقي الفيتوري في ذاكرة الشعرية العربية ، بقوة الصرخة والنشيد معا ، فتحت مظلتيهما هتف :
«يا أخي في الشرق ، في كل سكن / يا أخي في الأرض ، في كل وطن / أنا أدعوكَ .. فهل تعرفني؟ / يا أخا أعرفه .. رغم المحن / إنني مزقت أكفانَ الدجى/ إنني هدمت جدران الوهن/ لم أعد مقبرة تحكي البلى/ لم أعد ساقية تبكي الدمن/ لم أعد عبد قيودي/ لم أعد عبد ماض هرم عبد وثن/ أنا حي خالد رغم الردى/ أنا حر رغم قضبان الزمن/ فاستمع لي .. استمع لي/ إنما أذن الجيفة صماء الأذن».
لم يخفت نشيد الفيتوري ، فبمرور السنين وتحولات مجرى الشعر والحياة ، نضج سؤال الفتى الأفريقي الأسود ، ومشت في قصيدته السمراء مياهـ ورياح كثيرة ، نضجت الفكرة والمعرفة ، واكتسبت حرقةُ الشك وجمرةُ اليقين حيرةَ الوجود ومتاهة الحلم ، غادرت الصرخة السطح البكر، انخرط النشيد في دوائر أوسع ، ارتدى قناع الأغنية ، خلع الشاعر رداء المنشد العفوي التلقائي ، ابتعد قليلا عن صوت الجماعة التي تلتف وتتحلق حوله ، وانشغل الفيتوري بالهم العربي العام ، بجراحات لا تندمل في مملكة الدم الواحد ، وخطاب شعري ، استحلب أقصى طاقات الغنائية والتحريض والهجاء السياسي . جسدت صرخة الفيتوري في هذا السياق محنة الإنسان العربي ، فغني لأطفال الحجارة في فلسطين:
«ليس طفلا ذلك القادم في أزمنة الموتى إلهي البشارة/ ليس طفلا وحجارة/ ليس بوقا من نحاس ورماد/ ليس طوقا حول أعناق الطواويس محلى بالسواد/ إنه طقس حضارة».
وغنى للشهداء في سيناء وبيروت ، ورافقت قصيدته صعود المقاومة الوطنية ضد أنظمة تكرس للتسلط والقمع والتواطؤ على حساب مقدرات وأشواق وأحلام شعوبها .. هذا التسلط عبر عنه الفيتوري ، موحدا بين الخاص والعام ، باحثا عن براءة الحلم وسط ركام من صكوك الإدانة ، وفي ظل مشهد مأساوي يساوي بين الجلاد والضحية ، وكما يقول الشاعر نفسه :

«عربات الموتى المذهبة الصفراء
تدوس على قلبي المخضوضر
تغرس في حوافرها
ذات الوهج السوداء
والقتلى يبتهلون بأوجههم
يبكون.


هذهـ المدائن الخرساء ، لم تخذل الفيتوري ، انتصرت لصرخته الأولى «أصبح الصبح ، فلا السجن ولا السجان باق». وانتفضت لصرخته ، حين مسها اليأس والحبوط ، ورفضت أن تتحول هذهـ الصرخة إلى مرثية ، أو أن ترتد إلى صدر الشاعر نفسه حين جرب اللعب مع السلطة وابتلى بأقنعتها ، ورأى كيف تحاك خيوط المؤامرات والتواطؤات في دهاليزها :
«كان الدجى عباءة . صلوا على الجلاد والضحية/ وقالت الحرية/ أولهم آخرهم . صلوا على الإنسان والحرية . وقالت القضية/ يا فقراء استيقظوا/ صلوا على الخائن والقضية.‏

تحصنت الصرخة بيقينها البكر، تقلصت المسافة بين الحلم وبين الذاكرة ، بين شطح البصر ووعي البصيرة ، أصبحت القصيدة تمتلك القدرة على النفي والإثبات ، وأصبح النشيد معجونا بالأمل ، متشبثا بإرادة الحياة ، أصبح شاهدا على غد آخر سوف يأتي .. ومن ثم :
«فهذا هو الدم العربي
الذي يتدفق عطشان
من فجوات الجراح
إلى فجوات الشوارع».


اغترب الفيتوري وتنقل بين عدد من العواصم العربية والمدن الأوروبية ، وواجه خلال ذلك الترحال الكثير من العثرات والصعاب ، لكنه استطاع بإعادة القراءة والتأمل أن يحيِّد فكرة الشعور بالمنفى ، معتزا بقصيدته باعتبارها سكنه الأول ، ونقطة الضوء في النفق المعتم .
في هذا المناخ مسك الفيتوري بخيوط الصوفية ، والتي تمثل أجلى وأعمق مراتب صرخته الشعرية ، فهي اللحظة التي يتوحد فيها السطح بالعمق وينكشفان بمحبة خالصة تحت فضاء القصيدة ، هي اللحظة التي تنصهر فيها الذات بموضوعها ، وتتلبسه ككقناع شفيف ، تنحل تحته ثنائيات الوجود ، والفواصل العميقة للزمن في العناصر . وفي رأيي أن هذهـ الصوفية ، بكل تموجاتها ، تمثل استراحة شاعر، عارك الشعر ، ووضعه على محك الجرح الإنساني العام ، لكنه ظل طفلا يغمغم فوق سرير اللغة والإيقاع . وكان لافتا أن تتشرب هذهـ الصوفية بنفس سوريالي ، يمنح القصيدة كمعطى روحي قواما ماديا وفنيا ، حينئذ تصبح الصرخة معولا لتفكيك أدغال الأفكار والرؤى والكلمات ، ومن ثم ، يتحول الهم الصوفي إلى فعل تمرد ، على القصيدة والذات والوجود .. فهكذا من تحت عباءته الصوفية يحلم الفيتوري قائلا :

«لو أن الجسد الملقي على كرسيه
مال قليلا
لاستيقظت من نومها مدينة النحاس
واستغرق الحراس في البكاء والضحك
فزائر الموت الذي زار سليمان الملك
كان ثقيلا
وسليمان الملك
مات طويلا».


لقد ولد الفيتوري بقوة الشعر، وحين تفتحت عيناهـ واشتد عودهـ ووعيه بالدنيا ، كان محيطه الأفريقي ، مسقط رأسه ومرتع صباهـ ينزف في براثن الظلام والاستعمار والقمع والاستبداد . وكان عليه حينذاك أن يوحد بين صرخته الطفولية الغضة ، وبين صرخة أخرى لا تعرف الهدوء أو المساومة ، أكثر عمقا واتساعا ودويا ، وهي صرخة الشاعر الثائر ، الذي يتخذ من قصيدته سلاحا ضد الظلم والطغيان ورفيق درب في النضال ، حتى صار الشعر صديقا حميما يبثه نجواهـ وهمومه ، ويرى فيه مرآته الحقيقية ، من دون تزييف أو رتوش .
انحاز الفيتوري لأفريقيا لأحلامها وأشواق شعوبها في العدل والحرية ، وظلت أفريقيا كأسطورة وحلم ، وأغنية ، وصرخة ، ومعجزة ، تلازمه كظله ، في تجواله وترحاله في صخبه وصمته ، ظلت تخطف الروح والجسد معا ، وتهزهما في طقوس واحتفالات وعادات وتقاليد حية ، نابعة من ثقافة عريقة شديدة الخصوصية والندرة ، تنفك فيها العقد والفواصل السميكة في الزمن والعناصر والأشياء . فلا فرق ، بل لا فواصل ، لا مسافة في شعرهـ بين أفريقيا وبين الحبيبة العشيقة ، أو بينها وبين شمس الطهر والطهارة ، أو بينها وبين إشراقة الصبح حين تخب من تحت ركام الظلام . أفريقيا كراسة النور والأمل ، لا تشع فقط من شقوق الأرض وفجوات السنين ، وإنما تنصهر وتعرج بمحبة الحياة إلى قدسية السماء ، إنها محراب الناسك ، وعباءة العراف ، وورد الصوفي .. وعلى حد قول الفيتوري نفسه :
«من أجلكِ يا أفريقيا يا ذاتَ الشمسِ الزنجيّة/ يا أرض الأيام الحيَّة/ يا أغنيةً في شفتيَّ.. / صوتُك هذا؟ إنني أكادُ أن ألمسُهُ/ أكادُ أن أنشُق من غصونه رائحةَ الأرض وعرقَ الجباهـ/ صوتُكِ يا أفريقيا صوتُ الإله».

في ظل كل هذا ، تفرد قاموس الفيتوري الشعري ، وأضاف إلى لغة الشعر الكثير من المفردات الطازجة الخاصة ، كان من أبرزها مفردات الأبيض والأسود ، أو الأبيض والزنجي ، وما يرشح تحتهما من تدرجات الظل واللون والرائحة ، لقد توحدت هذهـ المفردات في قصيدة الفيتوري وتزاوجت وانصهرت مع بعضها بعضا ليس فقط باعتبارهما متوالية فنية تحرر اللوحة التشكيلية من نمطيتها وفراغها الرخو، وإنما باعتبارهما سلاحا لهتك الثنائيات الضدية العقيمة في لوحة الوجود والعدم ، ولدحض سياسة القمع والتعسف والتمييز العنصري ضد إنسان أفريقيا ، صاحب الأرض والتاريخ والحلم .
وقبل أن يصرخ محمود درويش بأعوام طويلة في قصيدته الشهيرة «سجل أنا عربي/ ورقم بطاقتي خمسون ألف»، كان الفيتوري يصرخ في قصائدهـ صرخة لا تكتفي بالتحريض والتمرد على قيد العبودية ، وإنما صرخة هوية واحتجاج ضد الوجود ، وسياسة الإزاحة والتهميش قائلا :
«أنا زنجي وأبي زنجي الجَدِّ/ أنا أسودُ ... لكني أمتلكُ الحرّية/ أرضي الأبيض دنَّسَها/ فلأمضِ شهيدًا وليمضوا مثلي شهداءَ أولادي/ لأن وجهي أسودُ ولأن وجهك أبيض سمَّيْتني عبدا/ ووطئت إنسانيِّتي فصنعت لي قيدا».
ومثلما انحاز الفيتوري لأنشودته الأفريقية ، كنقطة للخلاص والأمل انحاز أيضا لأقنعته ورموزهـ ، غمر في مياهها روحه ، ليمنح جسدهـ ومضا من الدفء والحيوية ، ويكسب جسد القصيدة معنى التواصل مع الماضي في لحظاته الحميمة الخلاقة ، فلا بأس وهو الشاعر أسمر البشرة ، أن يلبس في لحظة استثنائية على المستوى النفسي والتاريخي قناع الفارس الشاعر عنتر بن شداد . لكنه يحتفظ بمسافة فنية بينه وبينه ، حتى يستطيع أن يخلع القناع في الوقت المناسب ، حريصا على ألا يقع في أسر الشخصية . الأمر نفسه مع المغني الأميركي الزنجي «بول روبنسون»، باعتبارهـ أحد المناضلين ضد العنصرية ، لقد اتخذ الفيتوري من هؤلاء مجرد غلالة لتكثيف طبقات المعنى والدلالة في القصيدة ، وأيضا كنافذة يطل منها على نفسه ، في مرآة الآخر ، صاحب الحلم والمعاناة المشتركة .
إن منجز الفيتوري ، الشعري لا يزال بحاجة إلى الاهتمام النقدي الحقيقي من الحركة النقدية العربية ، بعيدا عن النظرة الإنشائية التقليدية ، والتي راجت في الكثير من الدراسات النقدية عنه ، سواء في موطن مولدهـ السودان ، أو في ليبيا التي شكلت المدار الطويل لرحلته في العمل على الصعيدين الثقافي والدبلوماسي ، أو في مصر التي تشكل فيها جزء حميم من وعيه الثقافي والمعرفي والتعليمي ، وجعلته يردد بأسى في الكثير من حواراته الصحافية «أنا في الحقيقة شاعر أنتمي إلى الفكر والثقافة المصريين وكذلك التراث المصري ، ولا أعلم لماذا يتجاهلون هذا!!!». وهو ما تجسد في شعرهـ ، وكأنه وصيته الأخيرة في الحياة :

«سأرقد في كل شبر من الأرض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق حقول بلادي
مثلي ليس يسكن قبرا».









elmhasi 27-11-2021 12:01 PM


لعنة الفيتوري على شعراء السودان
أسماء شعرية وروائية وأدبية شكلت حاجزاً أمام الأجيال التي تلتها

الاثنين - 22 شهر رمضان 1442هـ - 03 مايو 2021مـ رقم العدد [15497]

عارف الساعدي
شكلت بعضُ الأسماء الأدبية ما يمكن أن نطلق عليه لعنة الأجيال ؛ بمعنى أن هناك أسماء شعرية وروائية وأدبية ظهرت في فترة من الفترات ، فترسخت بشكل كبير، ولكنها في الوقت نفسه شكلت حاجزاً أمام الأجيال التي تليها ، والحاجز المقصود منه هو الحاجز الدعائي ، وليس الإبداعي ، وهذهـ الظاهرة منتشرة في معظم الدول العربية ، ولا يمكن أن نستثني منها أحداً إلا بنسب متفاوتة ، كالعراق ومصر والشام ، ذلك أنه على الرغم من وجود الجواهري والسياب ، فإنهما لم يستطيعا أن يسحبا البساط من الأجيال اللاحقة ، فظهرت بعدهما أسماء كبيرة راسخة في الشعر، فالسياب لم يمنع اسمه من ظهور وانتشار سعدي يوسف أو يوسف الصائغ وآخرين ، وكذلك الجواهري لم تمنع سطوته الكبيرة من ظهور وانتشار عبدالرزاق عبدالواحد أو مصطفى جمال الدين أو عبدالأمير الحصيري ، وكذلك في الرواية إذ لم يستطع غائب طعمة فرمان ولا فؤاد التكرلي أن يكونا الخيمة الوحيدة للرواية في العراق ، فعلى أهمية اسميهما الرائدين ، فإن الروائيين العراقيين واصلوا النتاج والحضور في الوقت نفسه ، فظهر عبدالخالق الركابي ومحمد خضير وأحمد خلف وعشرات آخرين ، ومن بعدهم ظهرت أجيال أخرى حققت حضوراً طيباً في المشهد الأدبي بشكل عام .
إنَّ ظاهرة اختصار إبداع بلد ما بشخصية من الشخصيات هي ظاهرة عامة على ما يبدو . فمن خلال فحص المشهد الثقافي لعدد من البلدان العربية ، نجد أن محمود درويش يكاد أن يكون فلسطين كلها ، فلا يُذكر الشعر في فلسطين إلا وكان درويش وجهه الأنصع ، علماً بأن هناك شعراء لا يقلون جمالاً وإبداعاً عن درويش ، كمريد البرغوثي أو طه محمد علي ، والأخير يكبر درويش بعشرة أعوام ، وحين قرأتُه كأنَّي أكتشف روح الشعر من جديد ، فمثلاً قصيدته «انتقام» أحد أهم النصوص في شعرنا الحديث ، كما أزعم ، ولكنها مغيبة عن ثقافتنا ووعي أجيالنا .
يقول فيها :
«أحياناً/ أتمنى أن أبارز الشخص الذي قتل والدي/ وهدم بيتنا/ فشردني/ في بلاد الناس الضيقة/ فإذا قتلني/ أكون قد ارتحت/ وإنْ أجهزتُ عليه/ أكون قد انتقمتُ/ لكن .../ إذا تبيِّن أثناء المبارزة/ أن لغريمي أمَّاً تنتظرهـ/ أو أباً يضع كفَّ يمينه/ على مكان القلب من صدرهـ/ كلَّما تأخَّر ابنُه/ ولو ربع ساعة/ عن موعد عودته/ فأنا عندها/ لن أقتله إذا تمكنتُ منه/ كذلك أنا لن أفتك به/ إذا ظهر لي أن له إخوة وأخوات/ يحبَّونه/ ويديمون تشوقهم إليه/ أو إذا كان له زوجة ترحب به، وأطفال لا يطيقون غيابه/ ويفرحون بهداياهـ/ أو إذا كان له أصدقاء أو أقارب/ جيران أو معارف/ زملاء سجن/ رفاق مستشفى/ أو خدناء مدرسة/ يسألون عنه ويحرصون على تحيته/ أما إذا كان وحيداً/ مقطوعاً من شجرة/ لا أب ولا أم/ لا إخوة ولا أخوات/ لا زوجة ولا أطفال/ من دون أصدقاء ولا أقارب ولا جيران/ من غير معارف/ بلا زملاء أو رفقاء أو أخدان/ فأنا لن أضيف إلى شقاء وحدته/ ولا عذاب موت ولا أسى فناء/ بل سأكتفي بأن أغض الطرف عنه/ حين أمر في الطريق/ مقنعاً نفسي/ بأن الإهمال بحد ذاته هو أيضاً/ نوع من أنواع الانتقام».
إن مثل هذا النص الهائل كان يجب أن يكون في كل مناهج الدراسة لطلابنا ، وفي كل مدننا وبلداننا ، لأن فيه روحاً كبيرة تدعو للتسامح والسلام ، بطريقة مختلفة عن السائد ، ومن دون ضجيج وعنتريات .
إنَّ مثل هذهـ النماذج العالية كثير في العالم العربي ، إلا أن هناك أسماء - كما قلنا - ترسخت وأصبحت تابوهات لا يمكن المساس بها أو انتقادها ، وأصبحت أشبه باللعنة على الأجيال التي تأتي بعدها .
أسوق هذا الحديث لأمرَّ على منطقة إبداعية غاية في الثراء والجمال ، وهي السودان ، كنت يوماً ضيفاً فيها على «بيت الشعر في الخرطوم» ذلك أننا جميعاً حين نتذكر السودان ، فإننا نذهب مباشرة باتجاهـ «محمد الفيتوري» في الشعر، وباتجاهـ «الطيب صالح» في الرواية . وهذهـ إشكالية كبيرة في أنْ تُختصر المدن والبلدان بأسماء محددة - على أهمية تلك الأسماء - وهذا الكلام ليس انتقاصاً لتجارب هؤلاء الكبار، قدر ما هو إضافة للمشهد الذي ترسخ بأذهاننا ، فالشعر الحقيقي ربما ينزوي في مناطق معتمة بعيدة عن الضوء ، ولكنها مناطق غاية في السحر غاية في التجاوز الجمالي ، إلا أنها مناطق ينقصها الظهور، وربما كما يقول أدونيس «إن الشاعر كلما كثر جمهورهـ ضعفت شاعريته». أعود إلى السودان الذي ذهبت إليه في الزيارة الأولى وأنا محملٌ بـ«الفيتوري والطيب صالح» ولكننَّي على أرض الواقع وجدت عشرات الفيتوريين وعشرات الطيبين الصالحين ، غير أن الشهرة تكتفي دائماً بالقطارات التي تصل ، وتغض الطرف عن القطارات التي لم تصل بعد . ففي السودان مثلاً ، وجدتُ جيلاً كبيراً من الشعراء والشواعر مهمومين بالقصيدة وتحولاتها ، منشغلين بشكل جاد بأهمية هذا التحول ، وبوعي عالٍ بما يصنعون ، أجيال مختلفة تفكر بشكل مختلف ، متصالحة مع نفسها ، وبالنتيجة هي متصالحة مع الأشكال الشعرية التي كانت في يوم من الأيام عقدة العقد ، شعراء يقطعون عشرات ومئات الكيلومترات ليلتقوا ، ويقرأوا الشعر تحت ظروف متعبة صعبة جداً ، هل هناك جنون أكثر من هذا ؟ وهل هناك انتماء للغة أكثر من هذا الانتماء ؟
أجمل ما في الموضوع أنني وعدد من الشعراء كنا جالسين على منصة كبيرة في الجلسة الأولى لـ«ملتقى النيلين» والجلسة توشك على الانتهاء ، وبلحظة دخل شيخ كبير ناحل جداً ، بيدهـ عصا والتعب بادٍ على وجهه ، ولكن اللافت في الأمر أن الجالسين في السطر الأمامي نهضوا جميعاً له بإجلال وتقدير، فيما عريف الحفل توقف ليرحب به ، وإذا به الشاعر الكبير «عبدالله شابو»، وإكراماً له لم ينهوا الأمسية ، إذ استئنفت بقراءات جديدة ، وحين أنهينا الأمسية بدأ يتلطف معه الشعراء الشباب ، ويلتقطون الصور معه ، ويرددون أشعارهـ بمرحٍ عالٍ وهو يلاطفهم ويمزح معهم ، وحين سألت عنه واقتربتُ منه ، وجدتُه أحد أكثر الأسماء الشعرية تأثيراً في السودان ، أكثر ربما من الفيتوري ، فهو القائل ، وما أجمل قوله :
«سيُكتب فوق الشواهد من بعدنا/ بأنا عشقنا طويلاً/ وأنا كتبنا بدمِّ الشغاف/ كأنْ لم يقل شاعرٌ قبلنا/ وأنا برغم الجفاف/ ملأنا البراري العجاف/ صهيلاً صهيلاً/ وأنا مشينا إلى حتفنا/ رعيلاً يباري رعيلاً/ وأنا وقفنا بوجه الردى/ وقوفاً جميلاً/ سيُكتبُ فوق الشواهد من بعدنا/ بأنا كذبنا قليلاً/ وأنا انحنينا قليلاً/ لتمضي الرياح إلى حتفها/ وأنا سقطنا سقوطاً نبيلاً».
وحين سألت أكثر، وجدتُ التأثير الأكبر للتجاني يوسف بشير، ولمحمد المهدي المجذوب ، ولصلاح أحمد إبراهيم ، ولكن الفيتوري غطَّى بشهرته على هذهـ الأسماء ، مثلما غطَّى أبوالقاسم الشابي على شعراء تونس ، وعرار على شعراء الأردن ، ونزار قباني على سوريا .
السودان بلد ضاج بالشعر، صاخب بجنون أبنائه ، ولادٌ للأجيال الشعرية ، فهذا المتوكل زروق أحد شعراء جيل التسعينيات السوداني ، إن صحت التسمية ، هو وأسامة تاج السر وعشرات آخرون . يردد زروق نشيدهـ مع الفقراء:
«قلتُ ألا أكون مكانك/ كي لا تراك كما لا تريد/ فقيراً من الناس/ يحرسك اليأس من نوره المستطاب»
أو أسامة تاج السر الذي يؤمن بالشعر معبراً لروحه ، حيث يردد:
«بروحي وما روحي سوى خفقة الورى/ أعاصير هبت تبتغي الشعر معبراً»
أو الواثق يونس المفتون بروح الشعر:
«من هنا يبدأ الصاعدون/ إلى الزرقة الأبدية رحلتهم فارهين/ تترقرق ذائبة في شفاهـ الكؤوس/ ابتسامتهم والشجون/ وتحرسهم نجمة عالية».
والواثق على الرغم من جمالية ما يكتب ، فإنه دائماً يرغب في أن ينادى عليه بالفيتوري الصغير، حباً وتعلقاً بمحمد مفتاح الفيتوري ، حتى أن أصدقاءهـ دائماً ما يمازحونه بهذا الطرح . وهناك كثير من الشعراء السودانيين الذين انصهروا بالشعر، فشكلوا جيلاً صلداً مؤمناً بقضية الشعر وأهميته ، ومنهم : إدريس نور الدين ، وحاتم الكناني ، والواثق يونس ، وأسامة تاج السر، والسر مطر، ومحمد عبد الباري الذي يختط له اسماً كبيراً في الشعرية العربية . أما الظاهرة الأخرى ، فهي الشواعر السودانيات ، حيث وجدتُ عدداً بهياً منهن يحتل مكانة ممتازة في الشعرية السودانية ، ويتحركن بحرية عالية في كتابة الشعر ونشرهـ ، وفي الحضور في الملتقيات العامة ، وأنا أعتقد أن وجود الشواعر هو دليل عافية للثقافة في السودان ، ذلك أنه كلما نبتت شاعرة في بلد ما ، فإنَّها تشكل وخزة في بالون العادات المتحجرة . ومن الشواعر السودانيات اللواتي فرضن حضوراً رائعاً في الأوساط الثقافية ابتهال تريتر، ومنى حسن ، وروضة الحاج ، ومناهل فتحي ، ودينا الشيخ ، ووئام كمال الدين ، وشيريهان الطيب . والأخيرة يعدونها آخر عنقود الشواعر السودانيات . ولو تمثلتُ بنصوص لتلك الشواعر المهمات لما اكتفينا بمقالة أو مقالتين ، ولكني أورد هذهـ الأسماء - وقطعاً هناك أسماء أخرى أغفلتها سهواً- للتدليل على أهمية المشهد الشعري وحيوية عافيته في بلد ربما غفل الإعلام الثقافي أن يسلط عليه بعضاً من الضوء ، ولهذا ضاعت علينا جواهر كثيرة .

ما لاحظته أيضاً أن بيت الشعر في السودان شكل رديفاً للمؤسسات الثقافية الرسمية هناك ، فقد وجدته حاضنة لمعظم إبداعات السودانيين ، ممتلئاً بورش عمل نقدية وجمالية .





الساعة الآن 06:13 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.