عرض مشاركة واحدة
قديم 18-03-2008, 07:31 AM   #[41]
فيصل سعد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية فيصل سعد
 
افتراضي

[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم

علاقة الزمالة والصداقة الحميمة بين
الشريف الحسين والإمام الهادي المهدي [/align]






يقول الشريف حسين في مذكراته عن هذه العلاقة عند وقوع إنقلاب مايو:

وفي مساء يوم ما، حضر إليَّ ( م ) وقد أخفى الشريف اسمه حماية له من إرهاب نظام مايو وبطشه ،وكان أحد ملازمي الإمام الهادي المقربين ، موضع السر ومحل الثقة ؛ وهمس في أذني : " يقول لك الإمام ، إذا بللت رأسك للحلاقة ، فاحْـلِقه عندي في الجزيرة (أبا) .

كانت صلتي بالإمام الهادي قوية وثابتة ، لم يؤثر عليها مرور عشرات السنين ؛ ولا عبور العديد من المشاكل ؛ ولا اختلاف الانتماءات السياسية . وكان تقديري لصفاته الخلقية ، ولدينه ووطنيته واستقامته وأمانته ووفائه ، وليدة التجربة المستمرة والمعايشة الدائمة ، منذ أن كنا أطفالا ؛ وكان يكبرني ببضع سنوات .. ولم تكن وليدة الاسم ولا اللقب ولا الأسرة ؛ بل هي ثمرة التجربة الطويلة المتواصلة والاختبار اليومي ، في صِغار الأمور وفي كِبارها .. خلق بيننا ثقة متبادلة ومحبة متواصلة .

وكنت أعرف أنه المتدين ليس بالوراثة ، والأمين ليس بالأسرَة ، والوفيَّ بغير اللقب ، والشجاع لا بالولادة ؛ بل بالمعدن والأصل والطبع والخلق . وكنت أعيش مشاكله وآلامه ، وآماله ومثله وقيمه كما لم يعشها ؛ ولم يعرفها أقرب الناس إليه من أفراد أسرته . وأستطيع أن أؤكد بالأمس واليوم وغداً ، أنه منذ الإمام المهدي وإلى اليوم ، لم تلتحم جماهير الأنصار بشخص ، أيقظ فيها نفس الشحنة الدينية التي صنعت (المهدية) ، ولم يعاشر الأنصار من يقاربه تدينا والتحاما بهم ، واقترابا بمشاعرهم مثله ؛ وليس بذلك غرابة .. فقد كان تدينه الفطري ، واستقامته الغريزية ، وامتزاجه بالبسطاء الطيبين - رهبان الليل وفرسان النهار- المتهجدين آن السحر ، والمتواجدين لدى "راتب الفجر" ، التاركين متاع الدنيا ، وملذاتها وصغائرها وراءهم ، والمستقبلين رضاء الله ؛ الساهرين في سبيل مرضاته ، الخبيرين بلقائه ، والمستبشرين برضائه ؛ والباذلين النفس والنفيس في نصرة دينه . كان هؤلاء هم أحب البشر إليه ، مما جعله مثلا لفرسان عصور الإسلام الزاهرة، وبقية السلف الصالح، الذي انقرض منذ عهود غابرة.

وكنت مستودَعا لأدق أسراره ، وشريكا أصيلا وفيَّاً له في مساره ؛ ولذلك .. فلم استغرب رسالته ، بل أسرعت لتلبيتها لأقف بجانبه ؛ وحتى لأموت دونه أو معه ، وبلادنا تمتَحَن في دينها وكرامتها واستقلالها ؛ فأنا أعرف مشاعره وتصرفاته ، ومواجهته لمثل هذه الامتحانات القومية المصـيرية ..

لو لم يكن للجزيرة (أبا) دور في التاريخ ، غير أنها كانت مأوى لكل مواطن شريف ، لا جريرة له إلا أنه ليس من المجرمين، ولا من مرتادي السجون؛ ومع ذلك فهو لا يحس بالأمن إلا إذا دخل الجزيرة(أبا)، وقابله أهلها مرحبين:" أدخلوها بسلام آمين " ؛ ومن دخل الجزيرة (أبا) ، فهو آمـن .. لكفاها هذا الدور في التاريخ - التاريخ الذي أظلت فيه أحرار الرجال وأعراضهم وعقائدهم ؛ وأحاطتهم بحماية من دماء أبنائها من الأنصار.

ونار الضيافة لا تنطفئ فيها ليل نهار ؛ ويقوم بالخدمة فيها على كل من احتمى ، آلاف الرجال والنساء ؛ ويخرج من منازلها عشرات الآلاف من أواني الأكل والشرب ملأى ؛ وتفرش فيها آلاف الأسِرَّة ؛ وتجد فيها وحدها - دون كل أرض السودان - بشاشة السودانيين وأخلاق السودانيين؛ ودينهم وكرمهم وإيثارهم على أنفسهم، ولو كانت بهم خصاصة .

سوف يسجل التاريخ أنه لقرابة عام كامل ، كانت الجزيرة (أبا) هي السودان .. كما نعرفه ونحبه وننتمي إليه؛ وبقي كل السودان غريبا عنا .. الأحرار فيه هم السجناء ، والمجرمون فيه هم الطلقاء ؛ ليس فيه مكان لأبنائه المخلصين البررة ؛ وأصبح البقاء فيه احتواءا جغرافياً ، وليس انتماءا وجدانياً وعاطفياً . وبقيت الجزيرة (أبا) .. إمامها البطل .. أنصارها المخلصون البواسل .. نساؤها ، أطفالها ، شيبها ، شبابها .. هم كل السودان ، وكل ما يمثل أهل السودان ، من نبل وكرم وشهامة وحماية.

بقيت هكذا .. ولجأ إليها واحتمى بها كل مقهور؛ فلم يسئ إليه أحد ؛ ولم يعبس في وجهه أحد ؛ ولم يبت فيها أحد على الطوى ؛ ولم تمتد إليه يد السلطة الغاشمة المستبدة . بقيت هكذا حتى تجمعت ضدها كل قوى الشر والعدوان ، ودافع أهلها عنها دفاع الأبطال . وأساطير شجاعتها مشاعل للتاريخ ؛ كافحت العدوان في البحر والجو والبر؛ ومن قوَى تفوقها عدداً أضعافا مضاعفة ؛ ومن عدة دول لا دولة واحدة.

وسأكتب في مذكراتي ، عن معركة (الجزيرة أبا) ؛ ويومها سيتضح لكل من يعلم : أنها إحدى ملاحم الصمود والشجاعة التي قَلَّ أن يسجل التاريخ مثلها. والذي أريد أن أسجله هنا .. أنه يوم فتحت الجزيرة (أبا) ، لم تســقط هي ؛ بل سقط كل السودان .. بتاريخه ودينه وخلقه وقيمه ؛ فلقد ظلت هي السودان مكبراً ومصغراً ، صامدة عاماً كاملاً ؛ في داخلها السودان كله : المؤمن الوطني المسلم ؛ وفي خارجها جسم غريب لا ينتمي للســودان ، ولا لأهـله ، ولا لكل ما يمثلون من أخلاقيات بشيء.

توقفت في الخارج مدة من الزمن ، أتأمل في اللاجئين من النظام ، من مختلف الاتجاهات ؛ وأتأمل في الحركة الدائبة لخدمتهم . وفي هذه اللحظة وصل السيد/ الإمام الهادي ، إلى الجانب في دار الضيافة ، الذي كنت أجلس فيه . تقدم إلى كعادته يطأ الثرى متمهلا ، والبِشر والبشاشة ينضحان من وجهه ، الذي يتألق بنور من الهدى والتقوى؛ والابتسامة المخلصة الوضاءة الوقورة، تسابق يده الممدودة في مودة لمعانقتي.

كان هادئا وعاديا على غير ما يقتضي الموقف ؛ وكنت أتوقع ذلك منه ، فلقد شاهدته وشاركته ، في مواقف عديدة عصيبة وشائكة ، مثل هذه من قبل ؛ ولكن كان هناك شيء جديد في عينيه ؛ فيهما عمق وإصرار أكثر مما كانا يمتلئان به، في مواقف مشابهة مستعصية .. وأدركت لتوِّي مدى اهتمامه بالموقف وقياسه له، ولم ينتظر. فكما قيل ، فليـس هناك أمور تشرح أو تحلل .. كنت قد شرحت له الموقف في الخرطوم ، ومحاولاتي لمنع الانقلاب . كان مهتما ويساعد مجهوداتي لثقته المطلقة فيَّ ، وكنت قد حددَّت له هوية الانقلاب قبل أن يحدث؛ ولذلك فلم يضع وقتا في الحديث والتفت إلى قائلا :

" إنني لا أعتبر نفسي مسلما ، إذا عشتُ وارتضـيتُ حكما ملحدا؛ وكــذلك لن أعــايش حكما غـير ديمـوقراطي ؛ ولن أقبل حكما عسكريا ".

وكان واضحا أن اهتمامه بالناحية الدينية أكبر؛ ولم يكن هذا جديدا على وليس غريبا عليه ؛ ولم نتناقش طويلا ، إذ كانت وجهات نظرنا متطابقة؛ ونظر إلى يسأل سؤال من يعرف الجواب، وقد حدده سلفا: " ليس هذا مثل حكم عبود ؛ وسنضطر للدخول في مواجهة مسلحة " . قلتها والألم يعصر قلبي ؛ وقال :

" لقد توقعت هذا الرد وليس لي رأي غيره ؛ ونحن ملزَمون شرعا ومضطرون وطنيا " ..

والتفت إلى وقد زاد ذلك البريق في عينيه اشتعالا:

" إن هذا موقف يحتاج لأمور لن يسـتطيع غيرك القيام بها وأنا لا أقصد طلبا في كلامي هذا ؛ فأنا واثق أن هذه قناعتك " .

ثم تكلمنا عن وجوب وجود تنظيم جبهوي لمواجهة الموقف ؛ واتفقنا على ذلك ، وأضاف : " إن هذه عادة قد استنها الأئمة في أزمات قومية ، ولذلك فأنا موافق على ذلك إن معركة الجزيرة (أبا) الحربية ، وغزوها بكل أنواع الأسلحة الحديثة ، والدول التي تحالفت عليها ، وشهداؤها الذين قابلوا الرصاص بالسلاح الأبيض ، وصدورهم مفتوحة للموت ، والذين دفنوا أحياء وهم يحملون القرآن في قلوبهم ، وفي أيديهم وفي ألسنتهم ... لها باب خاص في مذكراتي هذه . أما أيامي التي عشتها فيها قبل الغزو ، فهي أيام خوالد في تاريخي ، وفي تاريخ الرجولة وأخلاق العروبة ، ليس لها مثيل ....



التوقيع: اللهم اغفر لعبدك خالد الحاج و
تغمده بواسع رحمتك..

سيبقى رغم سجن الموت
غير محدود الاقامة
فيصل سعد غير متصل   رد مع اقتباس