عرض مشاركة واحدة
قديم 23-12-2006, 04:41 AM   #[101]
عجب الفيا
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

أربعون عاما على الغابة والصحراء ..

مضت أربعون عاما على مولد الغابة والصحراء كتيار في الأدب السوداني وفي الشعر بالذات. وإذ يلتفت المرء إلى الوراء ناظرا في ملابسات الولادة والنشوء لهذه المدرسة الأدبية فان ما يسترعي النظر هو تمددها السريع ثم اندثارها السريع في صحراء القبول المتعجل والرفض المتعجل الذي يميز الممارسة الثقافية في السودان.فبعد المناوشات الأولى مع رافضيها من متنطعة العروبيين بدا وكأنها قد لامست شغاف القلب من الكثيرين وشجعتهم على البوح بدخائلهم كمهجنين يغالطون واقعهم وينسبون أنفسهم إلى عرق يريدهم ولا يريدهم، فهو يراهم في بعض الأحيان إضافة للعدد والموارد وأحيانا يرى في انتمائهم إليه إزدراءً به وتحقيراً. وزاد من مظهرية القبول تلك الدعوات التي برزت إلى الوجود منتحلة لباس الغابة والصحراء أو ملتبسة بها مثل تجمع ابادماك ودعوة السودانوية ،وكلاهما لم يأت بجديد ولم يقدم إضافة للفرضية الأساسية. وفي هذا الصدد بالذات لم يحفل احد من مبدعي الحركة بالاحتجاج أو المغالطة باعتبار أن الغابة والصحراء هي أصلا دعوة فنية لإنتاج أدب وفن يعبران عن حقائق وجماليات سودان يعي ذاته ويحبها. أما حين يخرج الموضوع عن نطاق الأدب ويذهب إلى مجالات الاجتماع والانثربولوجيا ودراسات الهوية فانه يكون عندئذ متروكا لطارقيه.

لم تكن الغابة والصحراء معادلة من معادلات الجبر أو نموذجا من نموذجيات الاقتصاد وإنما كانت اعترافاً بالغ البساطة بحقيقة متناهية الوضوح هي الهجنة العرقية للسودان الأوسط ووقوعه في منطقة التنازع بين ثقافة عربية ودم أفريقي. وهي حقائق تعيش على السطح في سيماء السحن والوجوه التي تشير جميعها إلى شعب أفريقي الأعراق تبنى ثقافة شرقية. والوجه الآخر لنفس العملة يرينا شعباً عربياً اندمج في الأعراق الأفريقية وطرأت عليه تغيرات مهمة ولكنه ظل محافظاً على العناصر الأكثربروزاً في ثقافته وخاصة لغته التي لتفوقها التعبيري أصبحت صلة الوصل بين اقوام البلاد .

وللمرء ان يتساءل :إذا كانت تلك الوقائع من قبيل المسلمات فلماذا المبادرة إلى تقريرها ودعوة الناس إلى الاعتراف بها طالما هي بكل ذلك الوضوح؟ وما هو عنصر الجدة والمبادرة أو الريادة إن شئت في أن يتصدى شباب جامعي لترديد تلك المسلمات؟

لم تكن الحال هي الحال في مطالع الستينات ففي تلك الحقبة وما سبقها كان السودانيون يعضون على عروبتهم بالنواجذ في صورة متشددة من صور التمسك بالنقاء العرقي. فقد كانت القبلية حية بين سكان السودان الأوسط وكانت تفرض تراتبية معينة على المجتمع بحيث تأتي قبائل النهر المستعربة في المقدمة تتلوها قبائل النهر النوبية (دنقلة ومحس وحلفا) وفي نهاية السلم الاجتماعي يقبع أهل الغرب وجبال النوبة فالجنوب.وفي ذلك المناخ لم يكن هنالك من يستطيع المجاهرة بأن له نسباً يعيده إلى أصول غير عربية إذ كان ذلك كافياً ليجعل الناس تتحدث من وراء ظهره بما يحرمه من الصهر والإصهار ويهبط بمكانته الاجتماعية من الانتساب الى العرق المتفوق إلى نسل المستعبدين وضحايا الاسترقاق.

وفي نفس الحقبة -أعوام 1963و1964- كانت الحرب بين الشمال والجنوب تشهد فترة ملتهبة من أطوار عنفها الدوري فقد لجأت الحكومة العسكرية لتلك الايام الى اقسى تدابير القمع ضد المقاتلين الجنوبيين وكانت أنباء القتل والإحراق وتصفيات المثقفين الجنوبيين تتسلل الى أسماع المثقفين الشماليين وضمائرهم فتشعل فيها الرفض والاستنكار للفظائع التي يجري ارتكابها باسم الشطر الشمالي الذي ينتمون اليه.وكان من المصادفات المعبرة أن هبت ثورة اكتوبر 1964في مدى عام واحد من ظهور حركة الغابة والصحراء بمناسبة تخص الجنوب السوداني وتهدف الى الاقتصاص له من الحكم الذي مارس ضده كل تلك القسوة والفظاعات.

في تلك الأيام التي تدير الرأس بدا لنا ان الاعتراف بالهجنة العرقية ربما يتكفل بتحقيق التقارب المطلوب بين مكونات البلاد الإثنية ويلغي الحرب التي كانت تخاض على اعتبار انها حرب العرب على الأفارقة. ومتى اعترف العرب المزعومون بانهم أفارقة سود تجمعهم اواصر القربي بأعدائهم المتوهمين فان ذلك يفتح الأبواب أمام السلام ويضع نقطة الختام لحرب سخيفة سيئة التسمية.وكانت الحركة في مجموعها حركة أدباء شباب فقد نأت عن الحراك السياسي واستهدفت وجدان الجمهور القاريء لتوحي اليه من خلال الاشكال الأدبية أن يجد الشجاعة الكافية ليعترف بذاته الحقيقية ويحبها ويحب شركاءه في الدم والوطن.

في ذلك المناخ المتشدد المريض جأرنا بقولتنا فكان ذلك نوعاً من الزلزال الفكري استدعى المقاومة والإنكار من المجتمع. واتخذت المقاومة شكلين كان أفضلهما الرفض الصريح لفكرة الهجنة والنسب المدخول.أما الشكل الآخر فكان التجريح الشخصي والتشكيك في الدوافع. فالأفضل كثيرا أن تجد من يقول لك انك مخطيء وعرب السودان كلهم عرب اقحاح وهذا السواد الذي يجلل سحنهم هو من فعل الشمس أو النسبة الامومية التي لاتقدم ولا تؤخر لأن الانتساب يكون للآباء وليس للأمهات والجمل ينقاد من الأمام وليس من الخلف كما يعبر المثل السوداني. ولكنك تجد من يقاوم فكرك بتجريح شخصك مؤكدا لك انك أنت وحدك مدخول النسب..أنت فلاتي،أنت غرباوي تريد أن تضمنا إلى زمرتك ولسنا منها- نحن عرب نسبتنا مؤكدة إلى العباس وأبي بكر الصديق وجابر بن عبد الله.

ثم هنالك ما هو أوفر مكرا وحيلة ،إذ هنالك من يقول لك أنت راغب في الهروب من مقدسات المجتمع السوداني وتريد أن تتحلل من التقاليد هارباً إلى مجتمع أفريقي بلا خلق ولا اخلاق..أنت ضحية قراءاتك للمستشرقين البريطانيين الذين أوحوا إليك أن في السودان أقواماً ليسوا من العرب وان أنسابنا الصحيحة هي أنساب منتحلة وكل ذلك كلام استعماريين.بمثل هذه الترهات فاه صديقنا الدكتور عبد الله على ابراهيم وذلك انه في حرصه على نشر كامل تراثه وتكبير كومه أعاد نشر مقالة قديمة عفى عليها الزمن هي مقالته الموسومة(الآفروعروبية: تحالف الهاربين) وسنعود اليها بعد حين لنوضح كيف أصبح صديقنا القديم في طليعة الهاربين الى الجنة الأمريكية حيث ما زال يقيم.

أقرر بين هلالين أنني لم أقرأ كتابات المستشرقين على الإطلاق وأنني لم استمد معلوماتي عن التكوينة السكانية لبلادي من الكتب أيا كانت تلك الكتب وانما من علمي الخاص - من المشاهدة ومن أفواه الرجال الثقاة.ولقد نشأت في مدينة الأبيض وهي واحدة من مدن التمازج الثقافي في السودان وهي مدينة متنازعة بين عدة قبائل من قبائل السودان.ورغم أنها أصلا مدينة البديرية(بديرية زاكي الدين) ونوبة الجبال وحاضرة البادية التي تضم دار حامد والحمر والكبابيش والهوا وير،إلا إنها تكتظ بالقبائل المهاجرة وعلى رأسها قبايل البديرية الشماليين (من كورتي والدبة) وقبائل الدفار والدناقلة ،والشايقية وكانوا قد وفدوا عليها بعد ظهور الشيخ إسماعيل الولي الكردفاني وهو أصلا من الدفار. وفي أعقاب أولئك وهؤلاء جاء الشايقية والجعليون والرباطاب والدينكا والنوير متزامناً كل ذلك مع هجرات التكارنة وقبائل التشاد. وخدمت الأبيض كعاصمة إقليمية لأهل دار فور وكل قبائلها ممثلة في أحياء المدينة العتيقة وذلك انسجاماً مع تاريخ طويل أفرد في يوم من الأيام حياً لأهل المغرب وبعض قبائل شمال السودان الذين صاروا يعرفون باسم (الحضور).

وليس عيباً أن يأخذ الإنسان علمه من الكتب ولكن التأكسد يبلغ بالبعض أن يظنوا أن كل معلومات الدنيا محفوظة في دفتي كتاب.ولو كان الأمر كذلك،أي لو كان كل العلم مدوناً مسجلاً لاستحال التأليف ولتوقف الإنتاج الفكري.وأمثال المستشرق فلان لو بعثوا مرة أخرى أو جاء اخلافهم لطلبوا علمهم منا نحن أبناء البلاد ولسألونا عن اصل تلك القبيلة أو هذه فأفادوا علماًغزيراً موثـقاً.

لقد تلقينا تأنيباً عنيفاً في هذه النقطة. فالشاعر محمد.عبد الحي ذو السحنة العربية قيل له مراراً وتكراراً أنت من البيضان، فما شأنك بهذه الزمرة من المتأفرقين. وبعد أعوام قليلة كان ينكر على رؤوس الأشهاد وجود (مدرسة) فنية اسمها الغابة والصحراء ولكن مطولة (العودة إلى سنار) احتفظت له بمقعده دافئاً في نفس الزمرة التي أريد له أن يتخلى عنها..وهوجم النور عثمان بأصوله الأفريقية وفي الدفاع عن نفسه كتب مقاله الشهير(لست عربياً ولكن).ولم أسلم شخصيا من الأذى فقد هوجمت عند نشري الجزء الأول من مسرحيتي الشعرية عن الشاعر النوبي المخضرم سحيم عبد بني الحسحاس وذلك بصورة أفقدتني الرغبة في إكمالها حتى اليوم.وقد اختصني أحد الكاتبين بنقد لاذع فنسبني إلى التأثر بما كتب الإداريون الإنجليز عن أعراق السودان ونعى على قلة الإطلاع على أدب العرب.

ما هذا؟
هل هي الغيرة على مجد القبيلة والدفاع عن نقائها العرقي على طريقة الجاهليين؟ أم هو الرغبة الغريزية في مقاومة الجديد؟أم هي الغيرة من مجد متوهم يصيبه من يبادر إلى أمر من الأمور.

يتبع ...

محمد المكي ابراهيم



عجب الفيا غير متصل   رد مع اقتباس