عرض مشاركة واحدة
قديم 20-03-2008, 05:49 AM   #[42]
فيصل سعد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية فيصل سعد
 
افتراضي

[align=center]
هو السودان تاني بيتحكم ؟ (الشريف حسين الهندي)
أعباء الدعم الخارجي وسياسات "المباصرة" بين الأشقاء الألداء
وتصب انتفاضات الهامش في حياض الديمقراطية

عبدالماجد محمد عبدالماجد [/align]



ظللت أرقب النذر وأديم النظر في علامات الساعة :ساعة التغيير الذي يطمح الجمهور في تحققه في لبوس جديد نوعا وجوهرا وهو ما يحذره القدامى ممن لا يروق لهم إلا ما اعتادوا على تسويقه من سلع يعيدون إنتاجها - دوما - ولكن بنفس المقاييس والمواصفات ويصرون على تغليفها (غرطستها) في ورق أكثر لمعا وأشد بريقا .

ولا أخفي أن كثيرا من الحذر والخوف اصطحباني في مراقبتي هذا الأمر وأولها التخوف من محاولات إبطال ثورة حلة البخار (البريستو): إنها ستنضج الطرفين كليهما خلسة بنار ليس لها ضرام ( وقد تصهرهما وتكسبهما نضجا رويدا رويدا) : طرف الجالسين على كرسي البارود يتحسسون كل ذبال وفتيل من حولهم فرقا من الشرارة وذعرا من ألسنة اللهب ، أما الطرف الآخر فيرابط في سكة المعارضة يعترض على الغاشي والماشي ويسائل: " من أين جاء هؤلاء". وأضرب المثل بمن عرفت ورافقت انتماءً . سمعتها والله ، بأنبوب أذني اللتين يحثوهما غدا الرمل يوم ألحد في حفرة اسمها "بكرة الدود بياكلنا".

قالها رأس من عجزوا عن حفظ الوصية. كان الحسين الهندي رحمه الله يوصي باستمرار: (عضوا على القضية بالنواجذ) وفي المجالس المغلقة كان يقول : (هو السودان تاني بيتحكم؟!) وكان ذلك قبيل رحلته للحج ومغادرته لمؤتمر خالكيزا باليونان حيث فاجأت فيه المنية. ومنهم قلة تعزت بأن السودان ليس بعقيم (عفوا ، الحزب ليس بعقيم), وبقي الأمل في المؤتمرين وحفنة من عصاة الداخل. ولكن يكثر بينهم من يحب الكلام أو يدمن الطعام أو يرى من تمام الزينة الحلف بالطلاق (وهو يفسر غياب مخز لدور المرأة في ذلكم الحزب، وكيف وهي ترى نفسها يقايض بكرامتها ويستهتر بقيمتها في جلسات الونسة السياسية وولائم ما قبل الاجتماعات حيث تقرر المصائر قبيل إضفاء شبهات الشرعية عليها في لقاءات ومؤتمرات وهمية (وسوف يأتي دور هذه إن شاء الله)، قرفت المرأة فبحثت عن حقوقها في تنظيمات أخرى (والمكضب يعمل إحصائية)). وقرف العمال وقرف المزارعون أو قل لم ينظر لهم كقوة فاعلة في المجتمع كما فعل اليسار في البدء – على سبيل المثال – و الجبهة لاحقا (افتقدوا الناس حين لم يفتقدهم المعنيون إلا يوم الاقتراع – ويكفي أن يقال: "الفقدك ما حقرك").

تبدو كلمة الشريف حسين " هو السودان تاني بتحكم؟" تبدو ملتبسة وقد يرى فيها بعض المنزعجين من صحوة الأطراف (الأقاليم) بأنها تعني تطلع العراة والرعاة أو "مشاباتهم" لاستنقاذ ما ضيّعه المركز - غفلة أو عمدا - من حقوق للناس. ومثل هذا التفسير مسيء للرجل. وقد يستدل به البعض - خطاَ - بأن القبول بالرجل كان لميزة يحملها وراثة. وهؤلاء أقرب للحيران وإن فكوا الحروف عربيّها ولاتينيّها أو أتقنوا إحكام ربطات العنق وأحسنوا أدب المائدة في تناول الطعام بشوكة في اليد اليسرى وسكين حاذقة تستأصل أصفر البيض من بياضه ولا تخطيء .

ومثَلُ من لم ينتفع بتلك الصحبة الكهربائية النادرة من هؤلاء أو يشحذ همته ويشحن قدراته الفكرية والقيادية (وليس الوجدانية الفجّة في حضن الوله ألأبله) مثل من ورد الماء ظمآناً ورجع وهو أشد ظمأً أو كما يقول أهلنا: (كالمرفعين نزل البحر بجنابتو ورجع بجنابتو). أولئك لم يتضح لهم الوجه الآخر لمقالة الحسين (رحمه الله)، وهو قول تفسره كلمة أخرى أكثر من تكرارها : "ماذا نفعل مع جماعات يفتقر معظمها للمؤهلات والمقدرات ويصر كل من أفرادها بأحقيته في قيادة العمل السياسي؟ّ" وكأنه يقول :"جاطت" أو " هزلت حتى بدا منها كُلاها *** وحتى سامها كل مفلس" وحاشاه يتفوّه بمثل هذا فقد كان عف اللسان. وكان يلح في النصح بالخروج عن التشرذم. ولم يعدم من يذكره بأنه ليس بمستثنىً من تحمل جزء من مسئولية ما آل إليه الأمر. وهذا حديث يطول ويستحق معالجة منفصلة. ولكن تجدر الإشارة إلى أن ذلك النقد لم يخل من بعض قسوة أو ظلم:

فالرجل لم يخف أن كاهله كاد ينوء بأثقال غالب طبقة المثقفين المخضرمين من حوله وامتلائهم بالذاتية والاستعلاء وغيرتهم من الجيل الصاعد وحنقهم على قيادات بالداخل من جلابة السوق ممن اتخذ من المعارضة سبيلا للازدياد برغم تفرد فئة منهم بروح ثورية نادرة واستعداد للنزال والتضحية ممن لا يلين عزما أو يهن همةً وإن نحل جسدا واشتعلت منه الرأس شيبا (وخلا كتابه من برامج شاملة؟).
غير أن ما كان يقلق الرجل وحفنة معه (منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) ظل يتحقق باستمرار: تفاقمت الانقسامات وازداد التشرذم واستفحلت الخصومات الشخصية لتشرخ الحزب شروخا غائرة أضعفت جميع أطرافه واضطرت فئات كثيرة للارتماء في أحضان الألداء أو الانقياد الأعمى للأقوى من الحلفاء وربما الاستكانة الكاملة و الذوبان في فكر الشركاء.

وليس هذا كله بجديد. بدأ الاضمحلال منذ اضطرت المعارضة للهجرة للضغط على الأنظمة من الخارج (وهي هجرة مشروعة كان يمكن لها أن تثمر أكثر لو كانت انطلقت من أراض تنعم بالديمقراطية. ولكن، وللأسف تعرضت المعارضة في الخارج لضغوط ولإملاءات ومحاولات اختراق كثيرة إضافة لاختراقات في الداخل من قبل الأنظمة نفسها، فجند البعض حتى خان ومرق وآخرون روٍّضوا أو استؤنسوا. وهو السبب الذي أدخل المعارضة الاتحادية في أزمة مع شريكيها العربيين مما اضطر الحسين رحمه الله لنقل القيادة السياسية للندن والإبقاء على العسكريين في الصحراء لا سيما وأن النظام الليبي كان جوادا بالسلاح (كما سمعت منه) ولكن الاختلاف في الرؤى السياسية كان مصدر إزعاج شديد أدخل القيادة في مأزق ما كان ليسوسه إلا حاذق لبيب كان يمكن أن يدفع حياته ثمنين: ثمنا لاختلافه مع نظام الخرطوم وثمنا لاختلافه مع الحلفاء المضيفين. وللتاريخ نشهد بأنه ما كان على وفاق كامل أو ود شديد مع البلدين وإن الطواف بجثمانه عبر الأجواء لم يكن إسداء عرفان للمضيفين كما قيل بقدر ما كان تخويفا (وتلويعا) لنظام الخرطوم وربما قصد غير ذلك كاستدرارٍ أخير لموارد جففها الموت).

والحق إن الحزب لم يتدحرج للوراء – في ما أحسب – كما تدحرج في تلك الفترة فقد استخدم الدرهم بشح شديد وتقتير أشد لتحجيم الحركة الاتحادية الجديدة. وزرعت فتن بين قياداتها ولكنها استطاعت كشف التآمر ومحاولات إضعافها تارة بالتشكيك في الأمانة وتارة بوضع العراقيل أمام تحرك بعض ناشطيها. والمثل على ذلك انعقاد بعض المؤتمرات لإصلاح ذات البين سرا ليس خيفة من النظام ولكن حذر الحلفاء. عروبية الحزب الصارخة (برغم توجهه الليبرالي) جرت عليه أدواء العروبية الشمولية المزمن .ولم يشفع له إيمانه بالمؤسسية الديمقراطية، بالعكس، فقد كان ذلك النزوع نحو التعددية وبالا عليه. ونستطيع القول أن الدور الاتحادي في مؤتمر الصمود والتحدي أصاب بعض الحلفاء بالذعر من انطلاقة عروبية تؤمن بالديمقراطية التعددية. وما كان مثل ذلك التطور شيئا يراد من أولئك الشموليين الذين شرعوا في عملية الإضعاف, ويعاونهم الأجل.

ومن حاضرة الرشيد كان العون يجيء بمقدار ولكن أصابع القطريين كانت تضغط بشدة على أزرار التحكم في الحزب مع الحرص على إبقائه حيا لأن في استمراره ضعيفا شرط تمددها في رقعته وانتشارها على أرضه.(وبالدوغري: يريدون نشل الحزب مثلما يتوسم آخرون ويعشمون).

لعله اتضح لك الآن شيء من عوامل ضعف الاتحادي ومسببات انحساره وتستطيع أن تلمح ما جعل ولوج الآخرين مداخله سهلا ويمكن إجمال ذلك في خلوه من الأطر التنظيمية واعتماده على القيادات الفذة (فإن لم تولد هذه القيادة توجب عليه انتظارها بالتشبث بأي قيادة طالما ادعت نسبا مميزا). هذه العروبية التي أجبر عليها لما هاجرت قيادته وهرع إليها شطر منه طائعا مختارا لما في قصر الرئاسة وبقي الشطر الآخر يناور من أجل شراكة مماثلة ولكن الشطرين لم ينفضا عنهما غبار الشحناء التاريخية وإن بحت أصوات كثيرة بنبذ الفرقة والخلاف والجلوس لرأب الصدع. وغريب حقا أن لا يلأم الشطران خلافهما ولكن ليس بغريب أن يشاركا خصمهما الذي يحمل شعاريهما الأساسيين ( الإسلام والعروبة) سواء كان ذلك قبل التوالي أو بعدها. ولك أن تتساءل عن اختلافهما في الإيمان بالتعددية ولم لا يقف عائقا أمام تلك الشراكة. ونقول أن الديمقراطية كان التنصل منها أخذ شوطا بعيدا وأنها منذ البدء أخذ من مظهرها أكثر مما أخذ من جوهرها وإن الشكل الديمقراطي الذي ينادى به اليوم (طوعا أو كرها) ربما كان هو الأكثر ملاءمة لتطلعات الشعب السوداني.

فاليوم نحن اليوم نسمع مصطلحات جديدة (تنمية، توازن، اقتسام سلطة، اعتراف بالآخر، قضايا الجندرة وحقوق الأطفال .... الخ) كانت شبه غائبة أو مغيّبة. ولقد كان هذا الغياب من جملة الأسباب التي حدت بالكثيرين على الترحيب بالانقلابات أملا في تحقيق إنجازات تغير مجرى الحياة اليومي بعدما سئم الناس ثقافة الكلم الرطب والخطب الرنانة.

ثمّة عامل آخر ساعد في اجتذاب الأحزاب الليبرالية (أفراد أو جماعات) نحو مضيفها الحالي (شريكهما), وهو قدراته التنظيمية المتفوقة ومهارته في توفير أهم عوامل المنعة والقوة: المال مع القدرة على تحصيله وإنمائه. وقد تحصنوا به وبذلوه وجعلوا منه مخصصات للمجموعات المشاركة لأجل إبقائها حية (ذات نفس يعلو ويهبط ولكن على السرير) . هذه الحياة السريرية ضرورية للإبقاء على الشكل و اتقاء ما يجلب ضيقا أو "عكننة". أما الجمهور فيسهل تخديره أيًرخى له ويًشد بحسب الظرف (ومنه الحوافز التي تمنح للعمال والموظفين والتي يشاع أنها أحيانا تتجاوز الراتب الأساسيّ، والله أعلم).

ودليل قلق الشريك الأكبر من علل شركائه استدعاء رأس مجموعة من مجموعات شراكة التوالي لمناقشة خلافات حزبه الداخلية مع أخطر شخصية سياسية على الساحة كما يطلق عليه بعض أعضاء الحركة الشعبية قبيل نيفاشا. لعله قلق من شدة الاعتلال (الجماعة ديل الحقوهم ،عايزين يموتوا لينا في إيدينّا ولا شنو ؟) ولا يستبعد أن يستبد القلق أيضا إذا نعمت هذه الأحزاب بتمام الصحة وكمال العافية فالشراكة القوية لها مثالبها أيضا لاسيما في ضوء المستجدات وما وًعِد بتطبيقه.

وبرغم ذلك فلا بد من أن نترك هامشا لمزيد من القراءات كأن نستمع لمن يرى أن المؤتمر الوطني لا يرى خلافا برنامجيا بينه وبين الاتحادي تحديدا وبالتالي فاتحادهما أو ذوبان أحدهما في الآخر غير مستبعد إن لم يكن متوقعا. ذهب المؤتمر الوطني بعيدا في تنفيذ برامجه الإسلامية والعروبية وقطع شوطا في تنقية الأجواء مع الحليف الاتحادي الاستراتيجي (مصر) وبدأ في الدنوّ مما علا به الصوت الاتحادي حتى كاد يضج به الفضاء: "الديمقراطية" وفوق ذلك وقع اتفاقية سلام ذات بنود تنص على مزيد من التطور الديمقراطي والخروج به من الشكل إلى المضامين ليشمل الاقتصاد والبناء المتوازنين واعترف بحقوق الأقليات والمستضعفين (وتشكر الحركة الشعبية وانتفاضة الأطراف (وأرى أن البرمة ما زالت تغلي)). لا غرابة إذن في الاحتفاء المتواصل بالأزهري من قبل النظام الحاكم الحالي وبإكثار رئيس الجمهورية من ترداد اسمه في معظم المناسبات مما قد يحسبه البعض استهلاكا أو قطع للطريق أمام الجناح المعارض. ولا غرابة أيضا في اتخاذ الشريف زين العابدين الهندي موقفه المعروف مع النظام للدرجة التي جعلت الكثيرين يظنون به الظنون ويحيّرهم تفسير موقفه وبخاصة على خلفية زهد شهد عليها الكثير من الناس. وأحسبها قناعة مؤسسة على قواسم مشتركة ( متطابقة؟). ولعل الجناح الآخر لم يستبن ذلك إلا مؤخرا أو كان يعلمه، ولكن يساوم فتستعصي عليه المساومة مع طرفين يتأففان من الطائفية ( وإن قبلت في بعض المراحل كرها أو اضطرارا) .

ولا فكاكَ من الطائفية السياسية في السودان على المدى القريب ، في تصوري. ذلك لأن الطائفية السياسية هي الإفراز المنحرف لأسّ البعد الإيماني المقوّم للعقيدة الدينية والذي تشكّل في السودان بصورة محلية أعطت الإسلام نفسه هوية متفرّدة, فلا غرو أن أصبحنا نسمع اليوم كثيرا من المثقفين يتحدثون عن الإسلام السوداني. هؤلاء يتحدثون عن التصوف (ولا غبار عليه لأنه من وسائل إشباع البعد النفسي وفيه ملء وتحريك للحياة الجوانية التي يفتقر إليها إنسان المجتمع المادي البحت (حيث خواء الروح)، ولا أريد الخوض في مسائل البحث عن الحقيقة الحقّة (The really real) في هذا النزوع السوداني الخاص (أو سمّه الابتكار)). أسميته انحرافا ولم أسمه انهيارا أو خروجا كاملا عن مسار ما أبدعه المجتمع السوداني عبر قرون ليست بالطوال. وإذا سلّمنا بأن أي نشاط إنساني (فكري أو عملي) قابل للانحراف وأن كل انحراف قابل للتعديل, نستطيع القول بأن هذا الانحراف يمكن تداركه وبتعديله يسهّل قبوله والتعايش معه, وهذا أسلم وأصح من محاولات التحايل المتبادل على المسير سويا., وهو نوع من أنواع "مباصرة الآخر ومخاتلته", هذه المباصرة صرفت أنظار الحاكمين والطامحين عن مهامهم الأساسية وشغلتهم عن حاجات العباد وصرفت معظم وقتهم لمراقبة ما يدور في الأروقة أو في حضرات الأضرحة والقباب و استنفذت طاقاتهم في محاولات تخمين ما يجري في أذهان الآخرين.

غير أن مراجعة الانحراف الطائفي (أي الميل نحو تحقيق مكاسب للطائفة عبر بوابة القصر (الطمع)) أمر ممكن ولكنه شاق ويتطلب مراجعة مستمرة. ومن أدواته التعليم ونشر الاستنارة الغير معادية والغير متربصة وتحريض الجمهور على وضع يده على مفاصل أدوات التغيير في ما يتعلق بأمور المعاش وبطريقة يمكن أن يتصور معها جموع مختلفة الطرق والعقائد تعمل مجتمعة من أجل المنطقة الجغرافية المعينة بغض النظر عن اختلاف العقائديات والإثنيات. عندئذ – أي بعدما يتحقق شرط إمساك الناس بأزمة الأمور – تكون الطائفة مصدر إلهام للناس وطريق لممارسة شعائر العبادة من شكر وحمد وطلب لمعرفة المزيد وتحقيق الأكثر نفعا. ستكون الطرق من آليات ترقية السلوكيات الفردية والجماعية لشعوب وقبائل تتعارف وتتضافر (تتنافس) لاجتلاب الخيرات ولا تتصارع من أجل الهيمنة فلا نسمع بعدها (شيخي أفضل من شيخك أو أبونا غوث وأبوك نقيب لا غير). هذا أفضل من محاولة إفراغ الطرق (مفرخة الطوائف) من كل مضامينها عن طريق استبدالها بتأويلات جديدة غريبة على الأرض والمجتمع. والكل يعلم مغبة محاولات استيراد فقه البداوة الأولى وتطبيقه في مجتمع شديد الاختلاف عن مجتمع نشأة هذا الفكر المستورد (ولك أن تتصور مبلغ الضرر لو سمح للرؤية اللادنية (من بن لادن) بالترعرع في السودان.

الإسلام لا يحتاج لإعادة نظر والمسيحية لا تحتاج, وكذلك كريم العقائد, ولكن الاجتهاد والتأويل أمران لا مناص منهما لمن يريد أن يعيش حياته في وئام. ولئن لم يحمل أمر التجديد هذا محمل الجد فلا يلومًنّ الناسً إلا أنفسهم في قتل دينهم وما بني عليه انحرافا (بما فيه الطوائف نفسها): سيقول كثير من الناس لا خير في أمر يفرّق ولا يجمع, وسيمرقون. فانتبهوا(وإني ليفزعني خواء الروح ويقرفني الطمع – الكاتب). ولا إجابة عني عن المطلوب الآن سوى نصيحة تهدى لطالبها:

لا مبرر لاختلاف هذه الأجنحة لو كانت ذات برنامج مشترك أوموثق غليظ. فإن قالوا: (لدينا) قيل: إذن لا يمنع توحدكم إلا بقية من حقد أو نار من حسد، ولستم بأهل للريادة ولا استحقاق لكم في القيادة. أين البرامج المعدّة إعدادا جيدا متأنيا لمؤتمر عريض لا تحصر فيه رقاع الدعوة على من يؤمن جانبه من أصحاب البيعة المطلقة والمساندة المسبقة؟ وكفى مؤتمرات عجلة ومكلفتة (كلفتة الإقصاء )).

ولئن رأينا اليوم شيئا من تقدم وبارقة أمل في الشعارات الجديدة والمصطلحات التي لم تكن واردة في الماضي, يبدو لنا أن ضغوط الأطراف الملتهبة كانت عاملا من عوامل إعادة النظر المحمودة هذه. إن تصدى الناس في الأطراف للنضال من أجل حقوق الهوامش المهضومة نتج عنه توجه نحو مزيد من الديمقراطية وصارت أطروحاته تجد قبولا في المركز (وهو محمدة) وقبولا من المعارضين. ولا نقول بأن إدراج هذه المستجدات مجرد انحناء مؤقت لعاصفة طارئة. نعتقد أنه قبول رضا واقتناع برغم ارتفاع أصوات ترتفع هنا وهناك تريد إطفاء هذه النور بأفواهها. أحسب أن جميع الأصوات المعارضة لتوجه السودان نحو ديمقراطية اللامركزية تخفي خوفا من مصالح ذاتية (آنيا أو مستقبليا).

ولا شك لدي في أن الضغط الشعبى كان دائما هو العامل الأساسي في تطور الديمقراطية (حتى في مواطن نشأتها) سواء كان الوسيلة هي الإضراب أو التظاهر أو إرسال العرائض (ولنرجع لمراجعة تطور الديمقراطية في بريطانيا كمثال). وأكاد أكون على يقين بأن حكومة بلا معارضة لن تتقدم كثيرا ، وستترهل لانعدام عامل الرقابة والمساءلة وربما فسدت نهائيا في ظل القبول المطلق، وأحسب أن آذانا في الخرطوم وعت ذلك وأدركته. هؤلاء يمدون في أسباب استمراريتهم بإصغائهم لحس الشعوب واستجابتهم للمطالب العادلة والمعقولة (ومما هو غير معقول تجزئة البلد ولا أرى أحدا جرؤ على رفعه وقد علقته الحركة الشعبية في رقاب الشماليين, وكذلك يعلقه أبناء بقية الأقاليم ممن يحسون هضما).

هذه الحركات الجديدة – برغم ما بينها من اختلافات ستقلص من حجم الغفلة (وربما التواطؤ والتقاعس) التي عرف المركز منذ نشوئه وتخفف من قبضة قاسية قسوة المستعمر المستعلي. وفي اعتقادي أن كل فجاج السودان وقراه ستشهد انتفاضات (ليس بالضرورة أن ترفع كلها الأسنّة، ولا عاقل يدعو له): انتفاضات يسلحها الوعي بالحقوق والواجبات وستحرسها معارضاتها الداخلية ودستور في المركز توصل له بالتراضي ولم يكتب بالإنابة أو الوصاية.

هذه الحركات التي ركبت أسنة الرماح ستركب غدا القلم والورق وتمتطي صهوات الإعلام وإيصال الصوت بكل الوسائل الممكنة. ومن المهم أن نتصور وضع الانحرافات المحتملة:
ستكون انحرافات صغيرة يمكن معالجتها محليا. وسترغم الأحزاب فتنتقل للانتشار من القواعد ويمتنع عليها تصدير النواب. في ذلك اليوم يمكن لكل طامح أن يسعي لتحقيق برامجه بطمأنينة. طمأنينة مردها واقعية البناء من قاعدة الهرم لا من قمته.
إن ما يحدث في بلادنا ثورة
ثورة بدأت من أطرافه وتبناها رجال ونساء في كبد عاصمته وما زالوا يكابدون.
عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة، لعله اتضح لكما الآن علاقة هذه الكلمة المسهبة بعنوانها واعتذر عن الاستطراد الذي حتمته الضرورة. ولست بحاجة للاعتذار عن عدم ضربي أمثلة بأحزاب غير تلك التي عايشتها وادعي أنني ملم ببعض خباياها.



التوقيع: اللهم اغفر لعبدك خالد الحاج و
تغمده بواسع رحمتك..

سيبقى رغم سجن الموت
غير محدود الاقامة
فيصل سعد غير متصل   رد مع اقتباس