عرض مشاركة واحدة
قديم 20-02-2012, 05:29 PM   #[8]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صلاح الدين سر الختم علي مشاهدة المشاركة
6
اتذكرهما ... عمك وابيك طفلين تكسو وجهيهما شقاوة بادية وهما يضحكان عند ضفة النهر وهما يتراشقان بالمياه فى تلذذ ، وهما يمتطيان حمارا واحدا فى طريق السوق ، وهما يركضان على عجل بحذاء بعضهما على اثر صوت صفارة القطار البعيدة ، وشيئا فشيئا بدأت شكوك اخرى تفترسنى بقسوة ، قلت لجدك ذات مساء ودون مناسبة : (اخشى ان نكون ظلمناها وظلمنا ابننا ، اخشى ان نكون قد تسرعنا ، اخشى ...) قاطعنى جدك بعصبية : (تقولين ذلك الان ؟ اللعنة على النساء ، لا يستقر بكن المقام على شىء ابدا ، اللعنة عليك وعلى اولادك الملاعين ، اللعنة على كل شىء) ، تناول عصاه وهب واقفا وانطلق لا يلوى على شىء ، تركنى مشدوهة وحدى اشتعل بداخلى الحريق اشد ضراوة مما كان فقد كنت اعرف جدك جيدا ، وهالني رد فعله ، لم يكن لثورته تلك سوى معنى واحد ، اننى لست وحدى التى بدأت تشك فيما كان واقعا لا يقبل الجدل ، اننى لست وحدى التى اتعذب وارى طيف امك الحزينة كل ليلة ، كان جدك يريد من يكذب له ظنونه ، من يقول له انها اضغاث وهم ، وان الحقيقة لها وجه واحد فقط ، ولكن تساؤلاتى زلزلت اخر ما تبقى له من سكينة ونسفت اخر اماله فى الوئام المفقود مع النفس ، كان وجودك وحده حريق من نوع اخر ، كان يكفى المرء ان ينظر فى عيونك الصغيرة وهى تبحث فى براءة عن وجه مفقود فيسيل الدمع انهارا وتنهمر الاسئلة فى الدواخل حارقة معذبة للروح ، كان يكفى ان تبكى مثل ما يبكى جميع الاطفال فترتسم الاحداث من جديد فى الذاكرة كأنها حدثت فى ذات الصباح وتلتمع الاسئلة (هل كنا على حق ؟ من المسئول عن هذا البكاء من المسئول عن الحيرة فى العيون الصغيرة؟) كان ابيك يهرول على صوت البكاء وحين يبلغ باب الغرفة يتوقف ، يتسمر هناك ، يروح ويجىء فى سكون ، يبتعد عن الباب ، يأتى صراخك فيهرول نحو الباب المفتوح ويغيب فى الظلام اياما ، اسابيع ، يتكرر المشهد .... ذات مرة لحقت به عند الباب قبل ان يغادر قلت له فى حزم : (كفاك هروبا ، يجب ان تضع حدا لكل هذا ) شحب وجهه اكثر ، اشاح بوجهه بعيدا ، قال دون ان يستدير (ماذا تريدين ان تقولى يا امى ؟) قلت له وانا اغالب دموعى : (انك ظلمتها كثيرا ، انت لم تر وجهها وهى تقبل ابنتها فى تلك الليلة ، لم تسمع صوتها ، لم تعذبك صورتها فى منامك مثلما تعذبنى ، ولم تر وجه اخيك وهو يغادر الدار، انت ...) قاطعنى بصوت حاد (كفاك يا امى ... كفاك) وهرول نحو الباب المفتوح ، لاحقته بصوت باك (لن اغفر لك ما حييت) لم يرد... انهارت اخر سدود مقاومتى وإنخرطت فى بكاء طويل ، غاب فى الظلام وبقى الباب مفتوحا والريح تولول فى الخارج كوحش حبيس ، كان ابيك من تلك الطينة من البشر التى تلعق جراحها فى صمت وتبخل على الاخرين بلحظات ضعفها البشرى ، كان منذ صغره عنيدا قليل الشكوى ، ينسكب حزنه الى الداخل لا يترك اثرا لتدركه العين ابدا ، كان من الصعب جدا على حتى انا ادرك متى هو سعيد ومتى هو حزين ، متى هو غاضب ومتى هو راض ، ومع الزمن ادركت انه لا يهرب من الحوار ومن الناس الا حين يكون ضعيفا وممزقا ، كان يشارك الناس لحظات القوة والفرح لكنه يقتل نفسه ولا يسمح لاحد كان ان يتطفل على حزنه ولحظات ضيقه ، كان محبا للحياة على طريقته هو ، محبا للناس ولكنه شحيح الاصدقاء ، ملولا لا يستقر على حال ، يتحمس لشخص ما فجأة ، وبذات السرعة ينطفىء الحماس ويفتر ويحل محل الود جفاء ونفور ، قلائل جدا اولئك الذين دامت علاقتهم معه طويلا ، وحين حدث ما حدث تبخرت حتى هذه الفئة القليلة وامسى أرنبا بريا لا يجيد سوى الركض بعيدا والتلفت فى قلق بعيون حزينة حزنا لا يخفى على احد .
............



التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس