عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-2012, 03:18 PM   #[14]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي

12
افقت من احلام يقظتى ، كان فى مواجهتى الجبنة الصغية المصنوعة من الفخار الاحمر ، نقلت بصرى سريعا الى هناك ، الى سحارتى المذهبة الجوانب حيث يرقد فنجان جدك هناك فى قاعها ، دبت فى جسدى قوة مفاجئة ، انحنيت على ركبتى ، فتحت السحارة على مهل ، اخرجت الفنجان بحرص شديد ، نظرت فى قاعه طويلا ، قلت له وانا ابكى : (حمدا لله ان بمقدورى ان افى بنذرى ، حمد لله ان عبدالله جاء اخيرا ، ساصنع له قهوته الاثيرة ، اقدمها له فيك عله يجد فيك شيئا منه ومن شوقه اليه) ، الله وحده يعلم يا صغيرتى كم انتظرت هذا اليوم طويلا ، كم رأيت كل هذا فى منامى ليلة وراء اخرى كان حلمى الاخير الساحر الذى يتملكنى كما تتملك المدمن الرعشة حين يحين موعد المخدر .


فى الظهيرة عاد عبدالله ، احتسينا القهوة فى صمت ، كنت قد عقدت العزم على ان اترك له تحديد مسار كل شىء ، كنت اعلم فى اعماقى ان حاجته للبوح اكبر منى ، وان من الافضل ان اترك المقود فى يده ، لم يتأخر عبدالله كثيرا ، ولم يخب ظنى فيه ، احتسى فنجانه الاول ، امسكه طويلا قبل ان يعيده الى موضعه ، تناولت (الجبنة) كى اصب فنجانا جديدا ، لكنه اشار بيده ممانعا ، ثم غاب فى صمت جديد ، وددت ان يرد على احتجاجى ، زفر زفرة حرى وانشأ يتحدث كأنه يحادث نفسه فى صوت خفيض (كان ينبغى ان ابقى يا امى ، كان ينبغى ان اواجه العاصفة ولا انحنى لها ابدا ، لربما لو فعلت ما كان ينبغى على فعله لكانت اشياء كثيرة حدثت لم تحدث قط ، كنت كمن يهرب من سفينة مثقوبة فى عرض البحر تاركا فيها كل من يربطونه بالحياة ويحيا المرء لاجلهم وعندما بلغ الشاطىء وحيدا حاصرته االوجوه الغائبة وصيحات الاستغاثة ، بات كل شىء مرا كالعلقم ) ، قلت له بصوت خافت : (لا تزد عذابى ، يكفى ما رأيت من ابيك) التمعت عيناه ، نظرالي فى فضول باد وقال : ابى ؟ ماباله ابى ، لقد كان صامتا والصمت اجابة ، كنتم جميعا داخل المركب المثقوب) قلت له وانا انفجر باكية (حسبك يا عبدالله ، لاتقل شيئا اخر ، انك لا تدرى شيئا ، ابوك لم يكن قط كما تقول ، كان مؤمنا بك حتى ... حتى مماته ، انت لا تدرى شيئا) الجمته الدهشة فغر فاهه فى بلاهة ، بدأ مأخوذا تماما وهو يتمتم (امى استحلفك بالله لا تزيدى عذابى ... قولى ان هذا غير صحيح ، انك تقولينه لكى تخففى عنى ، لا تقولى اننى ظلمته حيا وميتا كل هذه السنوات ... كل هذا الغضب ... كل هذه المرارة وهو مؤمن بى؟ يا الهى ، اى اسرة تعسة نحن ، هذا مستحيل ... مستحيل) ثم لفنا الصمت من جديد ، من بين دموعى رويت له كل شىء حدثته عن عن كوابيس الليالي التى لم تنقطع ، عن حزن جدك الطويل ، عن رغبته التى لم تتحقق فى ان يراه قبل الرحيل ، عن ابيك والجدار الذى انتصب بيننا جميعا ، عندما فرغت اجهش عمك بالبكاء كالاطفال ومضى فى صمت وهو يترنح خارجا من الدار .

فى المساء والقمر يسل اشعته على صفحة الرمال الممتدة جلسنا سويا ثانية ، كان السؤال الذى يؤرقنى يتقافز فى اصرار حتى وجدتنى اقول : (هل تزوجت ياعبدالله؟) صمت برهة ورد فى هدؤ (نعم ، مرتان) ولم يذد انتظرت ان يحكى لى المزيد لكنه غاب فى صمت طويل ، ترددت قليلا ثم قلت له (واحفادنا اين هم الان ؟ كم بلغ اكبرهم من العمر؟ لماذا لم تحضرهم ؟) كان الصمت هو الاجابة ، كررت سؤالى ، حرك عبدالله شفتيه فى بطء وقال : (لا شىء يا امى ... لا شىء البتة ، ولهذا عدت) قلت له (ماذا تريد ان تقول ؟ ماذا حدث ؟) انتصب عبدالله واقفا ووجهه خال من التعبير وقال (عشرة اعوام كاملة يا امى ، عشرة اعوام من الهروب المجنون والركض الى ما لا نهاية ، دامت الزيجة الاولى اربع سنوات ولم يرزقنا الله بشىء ، حسبت العلة منها ، انتظرت عامين اخرين ، تزوجت ثانية ، تكررت القصة القصة نفسها وانتظار لا حدود له واشواق موؤدة وحلم بعيد المنال عندها فقط واتتنى الشجاعة واخضعت نفسى لفحوصات الاطباء وكانت النتيجة مذهلة يا امى ، ليس بمقدورى ولم يكن بمقدورى فى يووم من الايام الانجاب ، هكذا كانت مشيئة الله ، كان كل شىء مسطورا فى كتاب القدر ان يحدث ما حدث ويهدم الجنون هذا الدار ، ان اتغرب واتعذب سنينا ، ان يحرمنى الله من الذرية كى يعطيكم الحقيقة الضائعة بين ظلال الشك والظنون وتزول البقع السوداء التى لطخت ثوبا ابيضا ناصعا لملاك وحيد يرقد بعيدا الان ، كانت مفارقة فادحة يا امى ، ان يسمع المرء قرار اعدام صادر فى حقه ويكون سعيدا كالاطفال ، نعم كنت سعيدا ، انشأت اضحك فى وجه الطبيب فى جنون واقول ، حمدا لله حمدا لله ، لم بفهم الطبيب شيئا ، اخذ ينظر الى فى خوف وتوجس ، ربما لم يحدث له فى حياته المهنية كلها مثل ما حدث ذلك اليوم ابدا ، دفعت الباب وخرجت الى حيث الريح و الشوارع ، فى اليوم التالى حزمت حقائبى وكنت اطوى المسافة الى هنا ، كان الثمن فادحا يا امى عندما افكر فى الامر كله الان لا املك الا ان اضحك ، كنت احتاج الى ان افقد رجولتى كى استعيدها ، كم هى فادحة الثمن تلك الحقيقة التى نامت سنينا طويلة لتصحو كمارد وتحطم القمقم من جديد ؟ )



التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس