الموضوع: زهرة الغَرَق
عرض مشاركة واحدة
قديم 23-02-2011, 08:08 AM   #[1]
محسن خالد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية محسن خالد
 
افتراضي زهرة الغَرَق

خالد يا صديقي في الغار، كيفك؟ بَلَّغَتَ زهرتَكَ يدَ جميلتها يا عبد، واستغنيت من ملح الفتنة هذي، ونحلها.
أضحكتني، وأبكيتني، بالجد عَمَلت فيني حركات المصحف كلّها، وذكّرتني غيبتُك بصديقنا ريلكه، لما قال، كُلُّ ما أستسلم له يغتني ويهجرني.
ما نزال مع الفلس والنقصان، عندي وجع حلق، وها هي الصيدلية أمامي، أرى ثعبانها الملتف على كأسه، لسَّاهو نخب الكلوركين مدوِّر فينا. وما تزال الدروب تقودنا عبر خُطّة، يضعها موظّفو بلدية يلبسون نظاراتٍ داكنة، مع سفاري يدلدل رجليه من بنطون البلاهة في ماء الأناقة. بينما هم "يشيلوا ويرسموا"، انعطف يساراً، عبور للمشاة، مُش عبور للمشاة، شاحنات ثقيلة، خفيفة، وهذا الإضحاك كلّه، إلى أن نبلغ المراحيض العامّة، وما انتهينا بعد. فلكي نقضي حاجتنا نتبع أسهم خضراء خلفيتها مضيئة، الفكرة القديمة ذاتها في مزاوجة الطحالب مع الضوء، عقل الشجرة وروح الحياة، أو خراء الضفادع، لكَ ما تعيش.
أسهم خضراء لأجل تحذيق وجودنا علينا أكثر، حتى تنحشر دُخَانيّة السماء تحت أقمصتنا، جِلْداً فوق جلودنا، سماء مِدَخِّنَة من اجتياح رحلة جراد كاسرة، يطنُّ فوقَ فروِ رسمةٍ لامرأة، أو فرو رسمة لرجل، وأحياناً فرو رسمةٍ لبيبي.. فلكلٍّ منّا مرحاضه الخاص به، والمُحَذَّق عليه جيّداً، كي لا ينفلت ويغيب في مراحيض الآخرين.
ياااخ، لسّانا في عصر المرور بالأسهم، وحلقي مسدود تماماً، أشابي للهواء مشاباة، وإشارة الثعبان الملتف على كأسه، تسقف المدينة كلَّها، لا الصيدلية ودُكَّان العطرون المجاور لها وحدهيهما. فسبحان الذي أسرى بك على عجل من هذا العصر الهيروغليفي، عصر دين الحجر، نمط الرموز، إشارات التلقين، والشافي الله.
بركة البلغت الصحَّة.
البعيو، لسَّاهو، يحمل وزينه ويبحث له عن جزيرة، عاام وعاام وقلّع، يا سلام.
بينما هي كلّها، غَرَق وجابية، عصر دين حجر، أو دين حديد، ذَوِّبه في جركان محاية وقُل دين عطرون، المهم، هذا ما يضحكني من فكي الأزمنة.
الذي أغماني، وأبكاني، وأغمى مُنبّه الساعة لجواري، على الطربيزة، أنّك كنتَ دوماً تلقى الناس "محشّش يا مان!".
وهَسَّ شايفك محشِّش بغيابك. ولو كنتَ تُدخِّن.. لاقترحت عليك الغليون، يا خسارة، حصَّتك من الكوهيبا لم تجد مُهَرِّباً يقدّس السلطنة، نزلت قبل مينائك بعُقدة واحدة من تمتير القراصنة للبحر، وتفدينه أرحاماً، أتقول دايرين يحمِّلوه، كان يضوق طعم الولادة!
محشّش يا مان، أيَّامك.
ترتدي كاروهات الضباب، مستطيل الضحكة والشهامة، قائم البهجة أبداً، ولكن لا زاوية لنا بعدك، من فوح الحبور، مثلثة الأركان أو دائريتها، ولا تلك التحيات المغيِّمة التي لا تحدها الهندسة، ولا الأرصاد.
يا صاحبي، جرحك يُطَيِّب الفراشة للتوابل.
غايته، جُر الباب وراك يا بحر، مضافة السكون، من مراهقة اللارنج، ومقطوفة من كل الهنا، نعرف ذلك. وأيضاً نعرف أنَّنا ننشر تشجيرنا على حبال الوريد، ولا نبالي أبداً، ولن يهمنا ولو خَرْمَة سفّة، إن وطئت الريحُ موجتَها، أو اتْكَسَّر فينا الدم، وحصى المد والجزر.
وهذا التحدّي في الانبذار، كي نكون القيامة مهما طال الزمن، بتقويم الدورة الميلادية. طبعاً "دا" إذا كنت بتهظّر، يا بحر، أو يا موت، ولااا فرقت كتير، الزَّارعها الله في البحر بتقوم. أما لو كنت جاداً، يا بحر، فخليني أصَرِّم حنكاتك بالخلال الذي سَقَط، منذ آخر طنوب لبن نَزَل من ثدي أم، وأوَّل رضعة غرق لياسر وسعد ولدا خالتنا شامة. عبر الرتم الواحد للشهامة، المدوزنة والمُهلكة بإيقاع النوبة ذاتها، والقديمة المكررة عينها وكراعها. أي أن ينزلق واحد، ويحاول الثاني إنقاذه، فيُرْضعهما البحر، معاً، بضفتين. البندقية أم ماسورتين، فكرة التنشين فيها، مأخوذة من البحر أب ماسورتين. ولم يعثر أحدٌ على جثتي ياسر وسعد أبداً، إثر وجبة البحر تلك. التي لا ندري أوأدتهما أم أقامت أودهما لطبيعة عيش آخر، ومختلف! فهذا الفعل الواحد للعيش والموت، معاً، في روحه ملخبط! وخالتنا شامة من بعد اتلخبطت، فوقعت بالأم منها، بالأم منها على وجه الاحتضان، وقعت نازلةُ الارتباط، بتقويم الدورة الوجودية هذه المرَّة، وبحسابات الزِّريعة والتَّخَمُّر. ومنذ، بُندق البحر تلك، أم ماسورتين، أصبحت شامة محارسة البحر لديمة، ودهر الداهرين. بتقويم الدورات كلّها، ولمنتهى أنواع الفصول، وبالمحارسَة، الجُوَّانيّة والبرّانيّة، التي يتشمّر قلبُ صاحبها، وبين يديه طورية ومنجل.
كانت ترى انعاكسَ صورتيْ ابنيها من داخل رحمها على صفحة النهر مباشرة.
فتنتظرهما، ممسكة بحبل سُرِّي منظور لها وحدها، ولم يعد من المحتمل أن تفارقها آلامُ مخاضه السِّري ذلك، ما دامت حيّة. فقد كُتب عليها الاستفهام الأبدي للبحر، كما كُتب على السامري استفهام البريَّة، تسأل البحر، دوماً، بحرقة ملتاعة لا ينفد تشوينها..
أحييي.. اللتنين؟ اللتنين؟ ماك نصيح عاد، أحييي!
فيتكاثف عليها أقاربها والأهل، متكالبين، ومهرولين خوف أن تغرق هي نفسها. فتقاومهم جميعاً، وترفض الانصياع لهم بِشَكَل من يَتَخَرَّتْ وينزلق نحو ثأرٍ حااار، يِتِشْ في القلب، هم فقط لا يرونه. وتنهنه، تتخرَّت من فَرَقِ أياديهم، وتشابي لحلقوم البحر من جديد. تَصَوْصِو، بعمر ما بقي معه ريش، هي المرأة الشائبة تَسَوْسِو، راجفة من أقصاها الروحي لمنتهاها المتجسِّد، وهامدة كلها، من هناااك، لذا اللحد. تطحر في ولادة كاذبة، ومجنونة. أمّا جناها فما قبضت يداها من شرش حبل لمشنقة ولادة بائدة، حبل مدقوق في سقف سماء فاضية. عَزَّلوا يا مَنْ تَكَوْكِوْ، فلا تخوتنا بالله. وخَلَت مقاعدهم السماوية، الأثيرية تلك، من أحدٍ بوسعه أن ينشل. تفك يديها من سماءٍ لا تنشل، تفكّهما في الهواء، في الهواء ساكت، كما فككنا أيدينا بعدك يا خالد. ثم تضعهما خالتك شامة باردتين، ومُجَرَّحَتين، على وسطها، وتجأر..
الليلة يا أولاد حشاااي، والليلة يا بنات أمي؟
يا ولية قومي، لمّي توبك فوق رأسك المكشوف دا، كشفتِ حالنا بين الخلق. ينهرها ود عِتْمَان، بينما، من طرف آخر، يجر ملفحته عاضَّاً عليها بأسنانه، ومشيحاً بدمعه بعيداً عن أعين الرجال. الغَبَا.. يا وليَّة الغَبَا، في زول حَنَّن الموت قبالك يعني؟ وألا كمان لوم سنبره البخوج دا، والبشتنة والتِّخِرِّت فوق هَدَّامه وقيفه، جابن من حَنَكَاتو زول راجع قبال كدي؟
وترى هي أشباحاً لولديها تتخلّق من بوخ أنفاسها، فتنهنه بصوت مخنوق، أريد الله جابهم لي، أريد الله جابهم لي.
فيلفظ ود عِتْمَان آخر ما في نفسه من حقد على اللاشيء، ضد اللاقدرة.. كان اتنين كان ديش! ديل اتوكّلوا خلاص، تاني عليَّ الطلاق، لا الله يجيبهم ليك ولا بطنك تجيبهم.
فتدغي هي إثره، على الفور، الليلة يا بطنييي، والليلة يا عَمَاري.
وود عِتْمَان بلؤمه هذا، يُصَفّي حساباً مع البحر، ولا يعنيها إلا بإشفاق لا يُخَلّص غارقاً واحداً، ناهيك عن اثنين، أخوين، وحيدين. لأنّه يُمِضّه، ويسوءه، أن يراها مطحونة كل مرة، تحت كجّامة البحر، ولا يستطيع أن يخلِّص من ارتباط رحمها ولبن قلبها ودمها ذلك، سوى النزيز المسحون. يهرج من قل الحيلة وينفش ملعلعاً..
يا حمد، أنحن نقعد نشوف معايشنا، وألا نَغَفِر البحر خوفاً علي شامة؟
يلاويها حمد الطيبان، بحيل مغلوب سلفاً، حمد المسيكين كما كانت تحاننه وتراحمه أيام كانت هي شامة، وهو لا يزيد على مسيكين، محاننته تصل القربى وتتعداهم لدخول الجنّة. يتمتم المسيكين، شامة، يا شامة، شامة بت خالي، دا شنو هو دا! إنت عويرة وألا مالك؟ أنا كم مرة هديتك من البحر، والجن البتسوي فيهو دا؟
وما هي بواعية لتجيبهم من حيث تقع ضفتهم، كانت على ضفة غير، موت الولدين دَخَل عليها بالحيل، وبالعدم. وأصبحت تجد في كل طائر أو دابة، مسموعٍ، مشروبٍ، لونٍ، تجد في كل محسوسٍ أو معنوي مُقَدَّمَةً ما، لإلزاق قافيتها الواحدة من عمر حياتها الذي استحال إلى رثاء محض، وغَدَتْ صوتاً يُشَطِّر الوجود بكاءً، ولا أكثر.
أريتو يابا، أريتوو كان البحر بِنْغَفِر.. يا ود عِتْمَان! أهي أهي، أمشي وين أنا عاد منو؟ شال رويحتي ودنيتي، أقبِّل وين؟
وتردد أغنية قديمة أو من تأليفها، لا يهم. المهم أنَّها تتحَدَّث عن أخوين هلكا، حينما لحق أحدهما بماشيته المختفية ولم يعد. ففزعه أخوه الآخر ولم يعد أيضاً! أكلتهما حَرَابَة مهاجرية، أم ضوارٍ، لا يهم.
البولاد ولدي.. البولاد... طَبَق رتينتو وما جاني صاد..
لحقو الشنحيب أخو... وصاقعة الخلا الهدّاد...
لا جاتنا أم سرج عرجون..
ولا نَعَش انقاد
تتوتَّد شامة صنفوراً، في الحنان الزيتي، إيييه، هل رأيتَ صنفور القطر أيّها المسافر؟
سهمٌ ضخم، من المعدن الثقيل، وأحياناً تكون قاعدته من الخرسانة، ينشحطُ دائماً لجوار قضبان القطر، وسكّته. حتى القطار الذي بالأساس، له دربٌ واحدٌ، صنعوا له صنفوراً. نظاراتهم داكنة وبيرسول، عرباتهم داكنة، ولها أرداف، خبيرو الأسهم مما جميعه وأينما تكون، في البلدية، والبورصة، والجامع، المدرسة، الطابونة.
يلتقط ود عِتْمَان طوريته التي ألقاها كي يمسك بشامة، ولا وجَّالة يوجِّل بها دمعه الذي سقط، ولا مُحجان يأتيه بالذي تناثر منه ثمراً في الهواء وهو يعافرها، ثم يلتقط نقمته من جديد، مواصلاً هَرجْته، الوليّة بالله العظيم بقت صنفور بحر، لا حول ولا قُوَّة إلا بالله.
صنفور بحر، يُدير حركة الطحالب والزبد، وأحلام السمك وتشكّلات الطمي، وافتراس الذي هو أكبر، مهتدياً بأسهم الذي هو مواقيت ومواسم، تسابٌ فوق تساب، واضمحلالٌ تحت اضمحلال، ولكن من يوقف تيار الميلاد وزرّيعة الموت؟
لم تكن شامة تترك الهوهوة في وجه البحر، إلا حين تأتيها ابنة الخرطوم تلك لتُمَضِّي معها شيئاً من إجازتها، وكانت بنتاً بعيون إنسان واسعة، لا مَهَا، وخطيبةً لأحد ابنيها الغارقين.
تندعكُ فيها شامة وتندعك، تحضنها وتبرمها في حضنها، بما يُراوس عيدان التبغ مع عيدان الخضراء، رأساً برأس، وجزيرة عزلة بجزيرة. وبقـقـق ينشخت عود الكبريت، من رائحة الخرطوم الغريبة تلك في ثياب البنيّة، من رائحة ابنيها الضائعين، ومزاجهم. من ضحكتهما، تلك الضحكة التوأم لشابين خصّت شامة كُلَّ واحدٍ منهما بتسعة أشهر لم تُخصم من حمل أخيه وشقاء ابتكاره. تنهنه البنيّة أيضاً، وتبادلها البكاء في بؤس، أنا أعمل شنو لكن يا أمّي؟ فتتعالى ضحكتهما التوأم بجوف شامة سماواتٍ، وهما يرفعان ابنة الخرطوم على الحمارة لتتعلّم الركوب، وشامة تصيح فيهما مهدِّدة، وشفقانة..
بتكتلوها بتي، وبتسووني في ندامة، تسوَّد علي، الله أداني ليها بعد عُقُر.
إنسانٌ شامة هذه، منسوبها في المواسم كلّها أعلى من منسوب "حنينة" وحسب، وبتعصر الوجود كلّه عليها، جنىً لها، ومَسْرَة.
ما كان لقولها، ولو بالمصادفة، أن يكون، بتكتلوها بت الناس، بتسوونا في رقبة، تسوَّد علي أمها. وما أنتج ذلك تمحيص فلاسفة منها، بل محض سجيّة إنسان كامل فيها، يتمثّلها، ولا تتمثّله.
نعم، فهي من يومها، أم الوجود كلّه لا ياسر وسعد فحسب! اللذان لم تلد غيرهما، ولكنّها ربّت معهما، وغيرهما، كُلَّ من قابلها، بلا فرز أعمار، ولا دم، ولا نوع، ولا دين، دينها كان الرباية من طرف.
تعصر البنيّة عليها شديييد، وتبكي، وتبكي، وتبكي، وتُصَوِّت تلك القُبُلات المشرومة كلّها، بحجم شرمة هلال العرسان على الجبين، وقوسه المَضَرْضَر بالصندل، فائض النبلة من التراب، بعد أن يمضي الحجر، وفائض بيت الأم من الأماكن والسكون، بعد أن يمضي لبيتهما العرسان. فالبنيّة..
كانت وجيباً على الوجيب
وتِرْتِرَة.
ترفعها، من فُراش البحر، بالذي هو معول وأَجَنَة، تقتلعها من صبَّة الصنفور، أمّي، أمّي، تغرف البنيّة بحضنها النزيزَ المسحون من شامة، وغالباً يعاونها المسيكين، حمد، إن كان حاضراً. ويذهبان بها، إلى عنقريب القِدْ، المرمي تحت الحَتّاتة، الكبيرة. وهي "كور" النخل، الذي يحت تمره دون حجارة. مجموعة من النخل تنمو من أساس واحد، ويحضنُ بعضها بعضاً بالجذور، تحت الأرض. فالبنيّة..
كانت حليباً على الحليب
وتِرْتِرَة.
في مَرَّة، رآها التَّلِّي، فساررها بعيداً عنهم، العفن، أب قلباً مرضان، بتوصيف هَرْجَة ود عِتْمَان فيه قبل أن يصفعه، رِمَّة أصلك، ومن يومك جتّة تور.
يقاطعه التلّي وهو يتدرّق ببرود، ويحتج على غضبة عمّه ود عِتْمَان ببرود.
اجمع إيديك عليك، إنت راجل عمّي، وما بدور أتلوّم فيك. يقول جملته هذه ببرود عمييق، مثلما تسمع خفقاً لسرب طيور عابر، ثم يدافع عن نفسه، طلبتها للزواج أنا، ما قلتلها كلاماً ناقص.
وتُضيء الأسهم من جديد، الأسهم التي أرضعت دقاليب العينين، كلتيهما، لتترِّع واحدة منهما بالفرح، ولتترِّع الأخرى بالبكاء، ولتسبح دقاليب الرؤية بعدها، في عَكَر هذه المناصفة إلى الأبد.
فأية نظرة هيئة مفتونة، من امرأة لرجل، أو من رجل لامرأة، هناك دقلوب يجعلها تكون محذّقةً أكثر من الهيئة، حتى تفوح رائحتها في المسافة، بينهما، بما يكفي لدعوة ذئب حياة.
فالدقلوب الحقير نفسه، هو للأسف حامل العنخ، رمز الحياة ورباط الصندل.
يَاكا تَلِّي، صَدَق السَّمّاك تلّي، ثم يبصق ود عِتْمَان، طاوياً حبله في يده، وأعرافه النبيلة مُنْجَرَّة وراء حبله، فهي ذاتها مضفورة من السَّعَف، ويقف في عين مَسَلَّة ضفيرتها دقلوب.
عين، وفي "اللتنين"، تلاتة والفي الستَّة. طابَة ويوم، تَلِّي.. أرْبَجِي، وأسود.. أزرق.
أصلها كلّها، لعبة، مأخوذة من إرث العبودية البشرية الأبدي، الذي إن استأصل عبودية البشر للبشر، فكيف له أن يستأصل عبوديتهم لهذه اللعبة! أصلها كلّها، لعبة، ولا تختلف عن "الطاب" في شيء. النَّاس يجلسون للعبها، في صفّين، متواجهين، وبينهما "العِجَّة"، وعيونها تنـچـر بالكلاب، التي سترحّل الصفوف كلّها إلى مكان غامض، وتستمر اللعبة وحدها دهر الداهرين.
يطير الطاب في الهواء مثل طائر، وينزل مثل حجر. ويصيح اللاعب إثره، أكْرَت.
الذي يوافيه الطالع بـ"طابة"، وهي عين بيضاء واحدة، يصبح من حظوظه أن يتحرَّك له في العِجَّة كلبٌ واحد، خطوةً واحدة. ولكن في المقابل، يصبح الشخص الذي يواجهه من الخصوم، عبداً له، ويُسَمَّى بـ"الخادم". ومهما لعب الخادم، فإنَّ لعبه يتحوَّل إلى سيّده، ما لم يحرز طابة هو الآخر كي يتحرَّر بها. وإلى أن يحرزها تكون كلاب الخصوم أكلت كلابهم، والعِجَّة ميّتة ميّتة، لا محالة، وفي الأحوال كلّها.
عين، وفي "اللتنين"، تلاتة والفي الستَّة.
تُدمدم البنيّةُ شامةَ على عنقريب القِد، تريحها قليلاً تمهيداً لنقلها إلى بيتها، فتغمر شامة من المَحْزَنَة أم شفرات. تَغَمَر بذلك الصباح النَّدِي، والهواء المبلول ببَرَد النهر؛ لون العرجون الذي لا يُشبّه ولا يُضاهَى، يجعل من السماء بُرتقالياً، أم صفاراً! أو ذهبياً، تركوازي الحِفَاف! ذلك اللون الذي ليس في متناول القواميس ولا المُصَنَّع في علب الألوان، غير المُسمّى، المكسور بالغموض، وبنحل نشوة غامضة، تسيل على السبيط. يتصلُ غَمَر شامة بمتصل غَمْرٍ لا يوصف هو الآخر، تواصل في سلام الذي أصبح تُغَمِّرُهُ الحياةُ، ويفلّيه الموتُ بالحنان.
همبول الموت، الموتُ هنْبُولُه، ولو كان همبوله حَيَّاً من لحمٍ ودم، لدخلت شامة في بطنه من هنا وطلعت بهناك تُسَبِّح بمصارينه، باسم الأرض الشجر، باسم السماء القمر، باسم البوابير في الحقول، باسم التوربينات في المصانع، باسمنا، الحياة.
ولكن من هي الآن؟ أو ما هي؟ لن تستطيع أن تحدس، ما تكون شامة، وما يكونها، في هذه اللحظة الوارفة من أنفاس النخيل، لحظة الغَمَر الكُلّي، إثر مخاضة حزن بلا آخر، والطير يترتر فوق الجريد.
الفَقْدُ في مثل هذه الأمور يتم على صعيد الذاكرة الوجودية، لذا فهو لا يُعَوَّض. حبنا لشخص لا يعوضنا عنه حُبُّ شخصٍ تالٍ. وفرحتنا بشيء لا يمكن استعادة لحظتها من خلال لحظة سعادة ثانية إطلاقاً. ما يذهب من النَّاس يذهب، وما يموت من النَّاس يموت.
تَغَمَر شامة، منقوعةً في الخل، والعطرون، واللامعنى اللذيذ، اللاحرص المسبَّك. منقوعة في السم، إلى أن يخفس من جهتها الثانية ويُشَكِّل بمصارينها حرفاً هيروغليفياً على لافتة صيدلية. تتوتَّد شامة سمح في اللاشيء، والعقم، وفراغ عظمة الظهر من سلالتها، وتتكل يديها بمخاطهما، بالدموع، وكحة البكاء المُر، بالوجيب، وباللبن، وتغمر وتمشي بتحت.. بتحت للغَمَرَان، تِحِّحححت.
تحط مركب الدَّالي، الحواتي، بحّار الدنيا والآخرة، المتصوّف، والزاهد الذي في عيونه أرَضَة تأكل من المناظر غَوَايتَها.
يحبس المركب، بينما عيناه على شامة، مَحَيَّنَة بالقلق، الهلب ينزل في الطين، بالتوقيت ذاته الذي ينزل به هلب شامة في قلب دالي. وحبل اللَّلَس الغليظ يلف ثلاث لفّات، ثم يشابي الموج الذي جرّته المركب إثر هذا الدفع لليابسة، ويخمد صبيب المياه، تَفْ، تَفْ، تَف.
يخرج متعجّلاً، ويقول للبنية مربّتاً على كتفها، بارك الله فيك، بارك الله فيك، الرَّبَّاك رَبَّى لقدامه.
ثم يقرفص لجوار عنقريب القِد، أمام شامة الغمرانة، وينفض التراب عن شعرها المغبَّر، يعقصه لها، ويداريه ليضع حَدَّاً لبكائه هو لا لعورة شعرها. أهناك عورة أكبر من هذا الموت، ومن هذا الغرق! أدب الصوفية، أدب البصيرة التي تجاوزت، البصيرة التي لا تستعرض، ولا تكذب، ولا تدّعي، ولا تتنطّع، ولا تؤذي، البصيرة التي هي في سلام الإدراك، ومن جوف النباهة لا قشرتها. بصيرة أوفق من التجريب وأكبر من ليل الوجود. فلو صَحَّ الشفافُ حقاً، والتجاوز، فماذا غيرُ المحاننة، والرفق، والمشايلة، وسط هذه الحواشات من الخناجر والخيزران!؟
خلّيها يا المبروكة، خلّيها، وِدْرَتْ بعيد أمّك. يقولها بهدوء من يحادث نفسه، لا البنيّة. ثم يذهب ليغرف المياه من بطن مركبه ويعيدها للبحر. يغرف ذلك الغدر الذي كان يُسَرِّبه البحر نقطة نقطة، ويعيده مرَّة ثانية إلى ماعون غدره بسلام.
ولكن كيف يصل النَّاس إلى سلام دالي هذا؟
في الحقيقة لا وجود لمثل هذا السلام، أو هو غير منتشر، وغير منتمٍ لعالم الأسئلة "ربما"! أم يا تُرى هو قد تجاوزها! ولكن كيف؟ فالحياة بعدمها هذا، تتعارض جوهرياً مع فكرة السلام. كيف؟ كيف؟ كيف؟ حتى تحلب ضَرْعَيْ "كيف" هذه وتتعشَّى.
ففي اليوم الواحد نموت أكثر من حصتنا في الموت الكُلّي. ولا دليلَ مطلقاً، يقوم على أنَّنا أحياء، سوى أنَّه ما يزال بوسعنا أن نحلم بموتنا!
لماذا لا يُبَدِّلون هذا السلام الذي لا وجود له إذاً؟
الحياة عليكم يا أخي وأختي.
وعليكم الحياة ورحمة هذه الدالية من العنب، حتى تلط.
لاحق المواصلات. أدّيني حق المواصلات. بركبوا ليها من محطّة كم دي؟ المواصلات بعد حداشر بتقيف. ياخي دي آخر حافلة، أسرع.
وكلّه، مهما تبرطع، ومهما تلحق أو تتأخَّر، لا يُسَوِّفك عن مشوار المحافير وعزفها المنفرد على الرمل، بين الحسكنيت والعُشَر والكِتِر والقَرَض.
وعليكم الحياة ورحمة هذه الدالية من العنب، حتى تلطوا.
صُب، في صحّتنا، نحن المجنزرين بالعمر، نبول قيودنا شعيراً للنباتات على شواهد القبور. ونعيش بفتنة ما، يمكن بميتة قلب ما، مع هذه القروح كلّها، إلى ذلك اليوم الذي تأتي فيه دودةٌ قليصةٌ بِمُكْحُلَتِها وتمكيج أجفاننا بأنبوب حكيمٍ لا مرود. أنبوبٌ لا ينتهي إلى معدة كالعادة. فالدود لا معدة له، كما يرد في كراسة العلوم، كي يكون مفتوحاً من حيث يقضم، على عالم البشر والأحياء، وليكون مفتوحاً من حيث يُخْرِج على كورَس المحافير، مباشرةً، وإلى الأبد الذي لا يُذيّله توقيع.
صاح والله، وزين البعيو، لا يلزمنا في شيء، وسننهره إلى أن يطير رامياً خلفه ستارة المسرح، فليس معه وجهة نظر، ويفسد الدور. والحق كلّه مع وزين ود البكري، الذي يحمله في سَلّة، وباليد الأخرى مسبحة طيران العُمُر. يا الوزين حليل أيامنا، زي الصيد حُنان ناس آمنة. شفت الصيد ورد جافل، ليلنا الولّى قام آفل، يا الأخوان حليل أيامنا..
وجوهن تضوي كالبدرِ
وأنا الجابني بس قَدَرَي
حاجبو الفي الجبين ملفوف
وقالوا الحي مصيرو يشوف
يا المريود حليل أيامنا
هذا وزين فاهم، ورقّاص، أكثر من وزين البعيو، ولا يشتر عزف المحافير.
تسارع البنيّة لمعاونة دالي في شطف المياه من المركب. لا، لا، المبروكة، بتنزلقي، أحرسي أمّك ديك. حَبَّة المِهِيّة دي براي بقدرها وبقضاها، الله يخضّر ضراعك يا بتي، الرَّبَّاك رَبَّى لقِدَّامه.
ولكنّها تُصر، وتدخل إلى المركب، وتأخذ المُكْرَاد من بين يديه الراعشتين، وهي تشعر بمرح الخير.
ويجلس شبحاهما ببطن المركب، ويتدلَّى شفقٌ بعيد، يحجِّل السماء في قوس، ويصبُّ لها دالي شاياً أغبرَ من ثيرموسه الحجري والمزلّط.
تنظر البنيّة في فورة البحر، وفي فورة أبدٍ يراها حُزْنُهَا وَحْدُهُ، وتؤشِّر لافتةً له، إلى شكل غريب من الزبد، شبه منتظم، وكأسي، تدفعه المياه ناحية المركب دون أن تحطم هيئته، وتماسكه.
بقولوا عليها زهور الغرق يا بتي.
بالجد اسمها كدا؟
أيوة صحيح، اسمها السمعناه من يوم وعينا.
يقع في حِجْر البنيّة قمرٌ.. القمرُ النبيُّ، القادم حافياً في الرؤيا تتبعه الحياة منتعلة ومتلبِّسَة.
تتأمَّل البنيّة في ذلك الشكل الغريب، عالٍ لدى أطرافه، مع تثنيّات قوسية، ناحية بؤرة المنتصف بقلب دائرته. تثنيات تَظْهَرُ تعليتُها أكثر من خلال لون الطمي الغامق. هذه زهرة واضحة البتلات والمياسم، وما هي بزهرة من تهيئات الاستحضار، مرصودة لا منجورة، يرسمها البحر بزبده وطميه، وبالتيار.
تنزح عينا البنيّة في الشكل النازح، وتسمع صوت دالي بعيداً ويأتي من عمق البحر، بتلك البقبقة العجيبة للمياه، مواصلاً، بعد أن فاتها الكثير مما قاله.. ونبي الله الخضر، بمرق من البحر، ومن لَمّة السيّال الغزير في الخلاء بمرق، من ريقان الطُنْضُدُب، ومن أنصاص الليالي الكابيات برضو.
تتعرَّف البنيّة على البحر ذاته، وكلّه، لأوَّل رشفة شاي أغبر لها في حياتها، لا على أشجاره وزهوره وحدها فحسب. تنزح روحها، في بياض دوامة الزَّبَد النَّازحة، وتخضُّ يديها في المياه الغبراء، والمِرَغَيَة، محاولةً الإمساك بِـزَهْرَةَ الغَرَق.
يا صاحبي، لك من كل بحر..
زَهْرَةَ غَرَق.
من كل طائر..
إتاوة جناح.
عديلة.



التعديل الأخير تم بواسطة محسن خالد ; 24-02-2011 الساعة 04:59 AM.
محسن خالد غير متصل   رد مع اقتباس