عرض مشاركة واحدة
قديم 21-12-2006, 05:35 PM   #[100]
عجب الفيا
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

(3)

وعلى الرغم من بداهة التوصيف الذي تطرحه صيغة ( الغابة والصحراء ) وعلى الرغم من أن القول بأن السودان بلد عربي أفريقي ثقافيا وعرقيا هو من المسلمات التي لا يمكن المجادلة حولها . إلا أن أصحاب هذا الاتجاه قد تعرضوا لحملات من النقد وصل في بعض الأحيان إلى حد التشويه المتعمد والاستنتاجات الخاطئة لآرائهم من بعـض ذوي النزعـات الأيدولوجيـة والشوفينيـة . فالإسلاميـون رأوا فـي صيغـة ( الغابة والصحراء ) دسيسة علمانية للحد من دور الإسلام في المجتمع السوداني . وبعض القوميون العرب رأوا فيها محاولة لتحجيم انتماء السودان للعروبة والإسلام .

أما بعض أهل اليسار فرأوا في نموذج ( مملكة سنار ) الذي تطرحه ( الغابة والصحراء ) كمثال للتعايش السلمي والتعددية الثقافية ، استمرارا لتكريس هيمنة الثقافة العربية الإسلامية على الثقافات الأخرى . وربما رأوا فيها ثغرة تعطى المجال لبروز مشروع الدولة الدينية .
لذلك عمد أصحاب هذا الاتجاه إلى إنشاء تجمع مناوئ من المبدعين باسم ( آباداماك ) في أواخر الستينات . وقد أخذ هذا التجمع اسمه من أحد آلهة مملكة مروي النوبية القديمة وكأنهم أرادوا بذلك أن يقولوا لأهل ( الغابة والصحراء ) إذا كنتم ستعودون بنا إلى ( سنار ) فنحن سنعود بكم إلى أبعد من سنار ، إلى مروي أقدم حضارة سودانية أفريقية . إلا أن توجهات ذلك التجمع لم تخرج في مجملها عن مقولات وأطروحات ( الغابة والصحراء ) فلم يجد أصحاب هذا الاتجاه في النهاية بد من الذوبان في التيار ( الأفروعربي ) الكاسح والذي تفرضه معطيات الواقع المتشابكة أكثر مما تفعل الشعارات والأيدولوجيات .

والحقيقة عندما نادى دعاة الأفروعربية بالعودة إلى ( سنار ) للتعبير كرمز للتعبير عن واقع حال الهوية السودانية لم يقصدوا بذلك العودة إلى نموذج الدولة الدينية الذي كان مطبقا في مملكة سنار كما لم يقصدوا تجاهل الحضارات والممالك السودانية السابقة على سنار . وإنما هدفوا ببساطة إلى تقديم نموذج من تاريخ السودان يرمز ويعبر عن التعايش والتمازج السلمي بين الثقافات السودانية المختلفة . وقد رأوا في سنار الخلاصة التي تلتقي عندها كل حضارات السودان القديمة والمعاصرة . والعودة إليها هي بالضرورة عودة إلى مروي وكرمة النوبية وعلوة والمقرة المسيحية .

ففي ديوانه ( العودة إلى سنار ) يستلهم محمد عبد الحي الكثير من الرموز والأساطير من الحضارات النوبية القديمة . وفي ديوانه ( السمندل يغني ) توجد قصيـدة بعنـوان ( مروي ) في إشارة إلى الحضارة المروية القديمة وفي الصفحة المقابلة مباشرة توجد قصيدة أخرى باسم ( سنار ) في إشارة إلى مملكة سنار أكثر من ذلك أن محمد
عبد الحي في دراسته القيمة من أسطورة ( الشيخ إسماعيل صاحب الربابة ) وهو أحد متصوفة مملكة سنار يذهب أبعد من ذلك ويحاول إيجاد وشائج بين سيرة الشيخ إسماعيل وبين سائر الثقافات والحضارات القديمة بما في ذلك التأثر بالتراث اليوناني القديم حيث يرى أن الشيخ إسماعيل هو في الحقيقة أورفيوس سوداني . ويخلص إلى أن سيرة الشيخ الصوفي تمثل اللاوعي الجمعي أو الذاكرة التراثية للإنسان السوداني حيث تلتقي عندها الثقافة العربية الإسلامية بالثقافات اليونانية والنوبية والمسيحية .

لكن يبدو أن البعض يأبى إلا أن ينظر إلى الواقع بعين واحدة ، فيرى الأشياء إما بيضاء وإما سوداء ويعجز أن يرى الرؤية الرمادية التي تفسح المجال للنظرة التعددية المتسامحة .

وللتاريخ نقول أن شعراء ( الغابة والصحراء ) ليسوا جماعة تربطهم رابطة أدبية أو يجمع بينهم أي تنظيم أو حزب سياسي ولم يصدروا حتى بيان مشترك يعلنون فيه عن توجههم وإنما هم نفر من المبدعين التقت أفكارهم في غير ما اتفاق حول رمزية الغابة والصحراء للدلالة على خصوصية الهوية السودانية .

وهذا ما جعل عبد الحي ينفي أن تكون هناك مدرسة شعرية باسم الغابة والصحراء في حوار معه أجرى معه سنة 1984م ظنه البعض تراجع عن فكرة الغابة والصحراء يقول عبد الحي :
" إن مدرسة الغابة والصحراء أمر مضحك فإذا كان هنالك بعض الشعراء والمتشاعرين كتبوا قصائد محشوة بالغابة والصحراء دون أن يكتبوا شعرا رصينا لا توجد مدرسة أو منهج لكل الناس الشعر هو الشعر " . فالغابة والصحراء بالنسبة له مفهوم وليست مدرسة شعرية . وهذا المفهوم عنده ليس حصرا على السودان وحده كما يقول في ذات الحوار بل " يمتد إلى الصومال وإريتريا وشمالي أثيوبيا وشمالي نيجريا ومالي وغانا والسنغال … الخ أنه شعب يكتب باللغة ويدين بالدين الإسلامي وهم داكنو الجلد امتزجوا بثقافتين الثقافة العربية والثقافة الإسلامية … الثقافة هي الأساس وليس بالتوالد " .

وفي سبيل البحث عن صيغة أكثر شمولية لاستيعاب الكل المركب الذي تموج به الساحة السودانية الثقافية أوجد نفـر مـن المثقفيـن فـي الثمانينـات صيغـة جديـدة هـي ( السودانوية ) وهي لا تختلف في أطروحاتها وفي نظرتها عـن ( الغابـة والصحــراء ) إلا أنهــا رأت فــي هــذه الصيغــة الجديــدة خروجــا عــــن ثنائيـــة ( الأفروعربيـة ) ومن أبرز دعاة ( السودانوية ) الشاعر كمال الجزولي والدكتور نور الدين ساتي و للبروفيسور أحمد الطيب زين العابدين .
ومع ذلك هنالك من لا يتحمس لكل هذه الصيغ والنظم الجمالية ويفضل الاكتفاء باسم السودان للدلالة على الحالة الثقافية التي يمثلها ومن هؤلاء الدكتور حيدر إبراهيم علي وغيره كثر .

ومهما كانت الصيغ المطروحة ومهما تبدلت الشعارات والمواقف ستظل ( الغابة والصحراء ) هي الناظم الجمالي الأكثر جاذبية وشاعرية في التعبير عن واقع الهوية السودانية . فالصحراء موجودة والغابة موجودة وما بينهما السافانا كذلك . وهل الحرب الدائرة الآن إلا نتيجة اختلال في المعادلة بين ( الغابة والصحراء ) ؟

انتهي .

عبد المنعم عجب الفيا



عجب الفيا غير متصل   رد مع اقتباس