عرض مشاركة واحدة
قديم 05-04-2008, 11:18 AM   #[20]
الخير ابنعوف
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية الخير ابنعوف
 
افتراضي



*ترجمة من مجلة ناشيونا جغرافيك:
http://ngm.nationalgeographic.com/20...rt-draper-text
طمس التراث النوبي ( مقال من مجلة المجلة) هام جداً

للكاتب/احمد شاطر
________________________________________
هل واجهت المملكة السمراء ما واجهته أتلانتس؟

ثلاثة أرباع قرن من الزمان هي الفترة التي حمل فيها أبناء النوبة لقب "فرعون" وحكموا مصر خلال تلك الفترة التي ظلت مجهولة بالنسبة للمؤرخين إلى أن خرجت إلى النور على استحياء أثناء عمليات إنقاذ آثار النوبة عند بناء السد العالي. وتكرر الحديث عن هذا التاريخ بعد أن ظهرت مدى أهميته مع بناء سد موري الذي ينتهي خلال عام ويعيد نفس الحديث عن مخاطر تهدد بإغراق النوبة للمرة الثانية لتكون مثل أتلانتس التي غرقت ومعها أسرارها. ولكن النوبة تختلف أنها قد أفصحت عن بعض أسرارها في مرحلة تعد فصلاً مطوياً من التاريخ.

* أطلق مصطلح "الفراعنة السود" على ملوك النوبة الذين حكموا مصر خلال 75 سنة وسموا بالأسرة الخامسة والعشرين. وقد اهتمت مجلة National Geographic بهذا الموضوع وقدمت ملفاً كاملاً في عدد شهر فبراير يكشف الكثير من أسرار تلك الفترة الثرية.
استطاع علماء الآثار أن يتتبعوا تأثير هؤلاء الحكام ليس على مصر فحسب بل على القارة بأسرها نظرا لأن النوبة تعد حلقة الوصل بين الشمال وبين بقية القارة السمراء, فقد نجحوا في توحيد مصر التي مزقتها الانقسامات شر ممزق وقاموا بإعمارها من جديد وعملوا على تشييد العديد من الآثار العظيمة. وكونوا إمبراطورية قوية مترامية الأطراف تمتد من الحدود الجنوبية للمنطقة التي تقع فيها مدينة الخرطوم حالياً حتى البحر المتوسط شمالاً. ولم يقتصر دورهم في التاريخ المصري على مجرد إعادة توحيد وإعمار مصر وإنما في حمايتها من خطر الآشوريين كما يفترض بعض العلماء أن لهم نصيباً في حماية أورشليم من خطر الآشوريين.
وحتى الآن لا يزال المؤرخون يعتقدون أن هناك صفحات مطوية من تاريخ هذه الحقبة المهمة لم يمط عنها اللثام بعد فقد كان تاريخ الفراعنة السود مجهولاً حتى نجح علماء الآثار في الخمسين عاماً الماضية فقط من سبر أغوار هذه الأسرة ذات التأثير الكبير في التاريخ المصري.. وقد أسفرت عمليات التنقيب عن مفاتيح حياة هؤلاء الملوك-الفراعنة. وأظهرت أنهم لم يأتوا من العدم أو بمجرد صدفة فهم نتاج حضارة إفريقية ازدهرت على ضفتي النيل جنوبا لمدة 2500 سنة مما يجعل فترة ازدهارها تتواكب مع ظهور الأسرة المصرية الأولى.
ومن أهم الشواهد على حضارة الفراعنة النوبيين تلك الأهرامات التي قاموا بتشييدها في صحراء النوبة. ويقارن التقرير بين تلك الآثار في السودان ومثيلتها في مصر ومدى التجاهل الإعلامي الدولي الذي تعاني منه الأولى حيث أن السودان بالنسبة للعالم لا يعني إلا تغطية أنباء أزمة دارفور من ناحية أو الأزمة في الجنوب من ناحية أخرى. كما أن تلك المعالم ليست كلها مفتوحة للزيارة سوى تلك الكائنة في مدن كورو وميرو ونوري. وتقف تلك الأهرامات وحيدة في الصحراء بما لا يعبر أبداً عن تلك الحضارة المزدهرة التي قامت بتشييدها.

النوبة ومصير أتلانتس
وثمة تهديد تواجهه آثار الفراعنة النوبيين ويعيد الغموض ليسيطر على مصيرها. ويتمثل هذا التهديد في اتجاه الحكومة السودانية لإقامة سد ضخم على النيل يبعد 600 ميل عن السد العالي في أسوان والذي تسبب إنشاؤه في الستينيات في إغراق العديد من القرى النوبية تحت مياه بحيرة ناصر (التي تسمى في الجنوب ببحيرة النوبة). وبنهاية عام 2009 سيتم الانتهاء من بناء سد ميرو, ومن المتوقع أن تكون أول نتائج إنشائه أن تقوم البحيرة بامتداد 106 أميال بغمر آثار قائمة إضافة لآلاف الأماكن التي لم تكتشف بعد. وخلال السنوات التسع الماضية نشط علماء الآثار في رحلاتهم الاستكشافية في تلك المنطقة ولم يخفوا الغصة التي يشعرون بها من أن هذه الأرض التي شهدت فترة تاريخية غاية في الأهمية ستلقى نفس مصير أتلانتس. إلا أنهم يشيرون إلى أن أتلانتس لم يتأكد بعد مدى واقعيتها بعكس النوبة التي سيتم إغراقها للمرة الثانية خلال أقل من نصف قرن حضارة عاشت على أرض الواقع ولا تزال شواهدها تؤكد للعالم بأسره مدى الازدهار الذي وصلت إليه.

أصل الفراعنة
لم تكن مسألة اللون أو العرق لتشغل البال وقت قيام الغزو التاريخي لأرض مصر على يد ملك النوبة (بيا) الذي يطلق عليه (بعنخي) و (منخبر رع). ففي التاريخ القديم كان فنانو مصر واليونان والرومان يبدون اهتماماً واضحاً بكل تفاصيل الجسد لاسيما تلك التي تميز عرقاً عن الآخر, وكذلك بلون البشرة. ولكن لا يوجد دليل على أن لون البشرة الأسود كان يضع صاحبه في مرتبة أدنى إذ أن مسألة اللون لم تكن ذات أهمية إلا أن هذا تغير منذ احتلال القوات البريطانية قارة أفريقيا في القرن التاسع عشر حين بدأت الدراسات تبدي اهتماماً أكبر بمسألة لون بشرة النوبيين.
وقد قام المستكشفون بإعلان اكتشاف معابد وأهرامات بديعة التصميم من حطام حضارة قديمة اسمها (كوش). وعمل بعضهم على تدمير تلك الآثار بحثاً عن الكنوز كما فعل الإيطالي جسيبو فرليني الذي نسف قمم بضعة أهرامات نوبية بل إنه دعا الآخرين أن يحذوا حذوه. في حين أولى ريتشارد ليبسيوس اهتماماً أكبر بالجانب العلمي, وقام بالعديد من الأبحاث إلا أنه خرج بنتيجة اعتبرتها الأوساط العلمية نسفاً لكل أبحاثه نظراً لعدم منطقيتها. فقد قرر أن أهل النوبة ذوو أصول قوقازية. ونفس الأمر للعالم الشهير جورج ريسنر الذي يعد أول من قدم دليلاً على أن ملوك النوبة الذين حكموا مصر إلا أنه عاد وأعلن أن النوبيين ليسوا هم من قام بتشييد الآثار التي أسهم في اكتشافها. وكان يؤمن أن حكام النوبة الذين حكموا مصر لم يكونوا أصحاب بشرة سوداء بل بشرة فاتحة فهم من أصول مصرية-ليبية. وقد قامت هذه الطبقة بحكم الشعوب البدائية من الزنوج في تلك المنطقة وسرعان ما اختلطوا بهم فاكتسبوا الملامح المميزة لهم.
وقد ذهب بعض علماء المصريات المهتمين بالناحية التشريحية إلى أن قدماء المصريين بصفة عامة كانوا أفارقة ذوي بشرة سوداء بدءاً من توت عنخ آمون إلى كليوباترا مدللين على ذلك بما زعمه البعض أن الملكة تي جدة الملك توت كانت ابنة لأحد الفراعنة النوبيين وهو ما لم يثبت بعد.

تجاهل تاريخ قارة
ويبدو تجاهل فترة حكم النوبيين مصر في عدم تعرض المؤرخين لهذه المرحلة المهمة من التاريخ القديم ففي كتاب "عندما حكمت مصر المشرق" الذي قام بتأليفه عدد من علماء المصريات الأوربيين 1942 لم يتم التعرض للأسرة النوبية التي حكمت مصر ولا لمؤسسها (بيا) إلا بثلاث جمل فحسب تخلص إلى أن تأثيرها تلاشى سريعاً.
وقد تسبب هذا التجاهل في جهل العالم بحقبة مهمة من التاريخ إضافة إلى الجهل بحضارة قارة كاملة ظلت لقرون في دائرة النسيان حتى أن العالم السويسري الشهير تشارلز بونيه يقول إنه تعرض للاتهام بالجنون عندما أعلن أنه سيدرس حضارة النوبة. ولم تتغير تلك النظرة إلا منذ حوالي أقل من خمسين عاماً في إطار الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة قبيل إنشاء السد العالي وذلك بالاكتشافات المتعاقبة لقطع تنتمي لحضارة النوبة القديمة, ومن هنا بدأ اهتمام المستكشفين بتلك البقعة الثرية.
وتمضي السنوات ليأتي بونيه في 2003 بعد أن أمضى أربعة عقود من الأبحاث ليعلن الكشف عن سبعة تماثيل حجرية لفراعنة نوبيين بعد عشرات السنين من التنقيب أسفرت عن التوصل للعديد من الحقائق عن أصحاب تلك الحضارة. ومن ذلك أنها كانت تعتبر مركزاً زراعياً مهماً بما فيها من حقول غنية وإنتاج حيواني. كما أن أهل النوبة كانوا في قمة الثراء نتيجة تجارتهم في الذهب والأبنوس والعاج. ويخلص بونيه إلى أن تلك المملكة كانت بمعزل عن مصر وأن لها طابعا مميزاً إضافة لاختلاف الطقوس الجنائزية. ويؤكد أن هذه الحضارة كانت في أوجها عندما انتهت المملكة الوسطى في مصر بين عامي 1785 – 1500 ق.م.

بين الحرب والحب
يعد العالم السويسري أن (كرمة) عاصمة مملكة كوش هي أول مدينة حضرية أنشئت على ضفاف النيل قبل 27 قرناً من الزمان. وقامت بها حضارة هائلة إلى أن تمكن الفرعون بساماتيك من تدميرها بعد أن سيطر على منطقة النوبة في عام 664 ق.م ولهذا لم توجد تماثيل واضحة للفراعنة السود. وجاء هذا في ظل النزاعات التي كانت تنشب بين النوبة ومصر. ويرجع المؤرخون هذا إلى أن المصريين لم يرق لهم وجود مملكة بهذه القوة في الجوار خاصة أن ملوك النوبة استغلوا مناجم الذهب الموجودة في أراضيهم في مد نفوذهم إلى غرب آسيا وهو ما رآه الفراعنة خطراً محدقاً عليهم فقاموا على أثر هذا بتشييد القلاع والحصون على امتداد مجرى النيل. كما قامت الأسرة الثامنة عشرة بإرسال الجيوش لغزو بلاد النوبة بهدف تأمين طرق التجارة التي تربط مصر بقارة أفريقيا وتمر عبر أراضي النوبة إضافة للرغبة في الاستيلاء على ثروات النوبة.
ولكن العلاقة بين البلدين لم تكن حروباً على الدوام فالتاريخ يسجل أن حالة من الانسجام سادت الحياة بين الشعبين حتى أن أهل النوبة كانوا من أوائل الذين كان لديهم وله بكل ما هو مصري Egyptomania -بحسب ناشيونال جيوغرافيك- ومن هذا أن العديد من النوبيين قد تولوا مناصب مهمة في مصر , وآثر أهل النوبة الانخراط في الحياة الاجتماعية المصرية وكذلك المعتقدات فقد عبدوا الإله آمون. ومن تلك المظاهر استخدامهم اللغة المصرية القديمة واتباعهم الأسلوب المصري في الدفن بديلاً عن الطريقة النوبية التي تقوم على وضع الميت في حفرة بيضاوية الشكل بحيث يرقد على جنبه الأيمن ويكون في وضع الجنين ويتجه إلى الغرب.
وقد اعتبر المؤرخون في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أن هذا دليل على الضعف. ولكن المعلومات التي توافرت عن تلك الفترة فيما بعد أثبتت أن العلاقة بين الطرفين كانت طيبة لأبعد حد لدرجة أن عالم الآثار تيموثي كيندال يذهب إلى أن الكهنة المصريين هم من طلب العون من ملوك النوبة لكي يعيدوا لمصر مكانتها السابقة. وكان الليبيون يحكمون الشمال في القرن الثامن قبل الميلاد وكانوا يتظاهرون بعبادة الآلهة المصرية ويقدمون لها فروض الطاعة وذلك لمجرد نيل الشرعية، وكانوا سرعان ما ينقلبون على هذا بمجرد تولي السلطة حيث يرجعون عن ولائهم الزائف. وأخذ الكهنة المصريون يبحثون عن حكام أقوياء يخلصونهم من هؤلاء ولا ينقلبون على آلهتهم. ولم يجدوا خيراً من ملوك النوبة الذين أعادوا لمصر استقرارها دون أن يتدخلوا في شؤون المصريين وشعائرهم بأي حال من الأحوال. ويرى كيندل أن النوبيين بذلوا جهوداً حقيقية لإعادة الاستقرار لمصر دون انتظار مقابل.

حملة لإنقاذ الشمال
يعد الفرعون (بيا) هو الأب الروحي للأسرة الخامسة والعشرين والتي تمثل فترة ظهور الفراعنة النوبيين. وفي عام 730 قرر أن غزو مصر هو أفضل طريقة لحمايتها من الانقسامات التي كادت تعصف بها وأودت بها إلى حالة غير مسبوقة من الوهن والضعف. وبالفعل أعد العدة لغزو مصر, وتسجل الآثار التي تركها الخطبة التي ألقاها أمام قواد الجيش قبيل التحرك شمالاً وأوضح خلالها أن استقرار البلاد يقبع تحت أسنة سيوفهم ورماحهم.
وقد كانت مصر خلال تلك الفترة في حالة من الانفلات خاصة بعد أن سادت الخلافات بين الأمراء الذين سعى كل منهم لمحاولة الاستقلال بالجزء الذي يتولى إدارته مما وضع البلاد في حالة من التفتت تهدد بسقوط تلك الحضارة التي قدمت للبشرية إسهامات لا تنكر. وخلال عشرين عاماً لم يكتف الملك النوبي بحكم النوبة بل اعتبر نفسه الحاكم الفعلي لمصر والوريث الشرعي للمكانة الروحية التي يحتلها الفراعنة لدى الشعب. إلا أن إقامة (بيا) في مملكته دون زيارته الإقليم الشمالي قط قللت بعض الشيء من إعلانه تنصيب نفسه حاكماً للبلاد ولم يؤخذ كلامه مأخذ الجد. لكن مجريات الأمور أثبتت أن الملك النوبي لم يكن عابثاً عندما أعلن هذا, وأنه يعني كل كلمة تفوه بها. وتنقل عنه الكتابات التي خلفها قوله: "ستدرك مصر أنني جاد في إصراري على وضع بصمة لا تنسى من تاريخها".
وبدأت قواته تزحف شمالاً متجهة إلى طيبة –الأقصر حالياً- جاعلة منها نقطة انطلاق نحو غزو مصر. وقد أمر جنوده باتباع طقوس معينة تؤكد ولاء الجيش النوبي للإله آمون فقد كان (بيا) يعلن عبادته لآمون, وكانت تعليماته تنص على أن يقوم الجنود بتطهير أنفسهم قبل بدء الحملة وذلك بالنزول في نهر النيل بعد أن يرتدوا ملابس فخمة ويتوجهوا إلى البحيرة المقدسة في معبد الكرنك التي يمدها النيل بالمياه عبر قناة صغيرة. وجاء اختياره معبد الكرنك أكبر معبد جنائزي في العالم لأنه مكان عبادة آمون. ولم يقتصر الأمر على الجنود بل إنه قام أيضاً بالاحتفال معهم وقدم قرابين للإله آمون. وبمجرد انتهاء تلك الطقوس بدأت الحملة العسكرية في التحرك قاضية على أي جيش تواجهه في طريقها فتحقق له السيطرة على طيبة إضافة إلى سلطان اسمي على مصر الوسطي –بني سويف حالياً-. وسرعان ما تناقل قادة القوات المصرية تلك الأنباء وسرى الرعب في أوصالهم خاصة بعد أن رأوا هذا الجيش القوي لم تنجح أية قوات في التعامل معه إذ كانوا يطلقون على النوبة اسم (تا سيتي) وتعني أرض النبال نظراً لمهارة النوبيين في فنون الحرب. ولم تفلح محاولة إقامة تحالفات لصد الهجوم النوبي. وبنهاية العام خضع جميع الولاة في مصر للملك النوبي بما فيهم (تف نخت) أحد ملوك الأسرة الرابعة والعشرين رغم قوة إقليم الدلتا. وتسجل الكتابات المصرية القديمة رسالة من تف نخت الذي اضطر للاختباء في مستنقعات الدلتا إلى (بيا) جاء فيها: "كن رحيماً بنا؛ فأنا لا أجرؤ على رفع وجهي أمامك في أيام العار تلك؛ ولا أستطيع أن أقف أمام غبار خيولك. وها أنا أطلب عفوك". ووصل الأمر إلى أن حكام المناطق التي دخلها الملك النوبي الطموح سعوا للتقرب إليه فعرضوا عليه أن يصلي في معابدهم كما قدموا إليه المجوهرات القيمة وتنازلوا له عن خيولهم ذات السلالات النقية.
ومن جانبه عمل على تعزيز وضع الأسرة النوبية عن طريق السيطرة الدينية أجبر الزوجة البشرية للإله آمون شبن-أوبت ابنة أحد ملوك الأسرة الثالثة والعشرين على تبني أخته أمنريدس.

العودة إلى الوطن
تم تتويجه "سيد القطرين" وسرعان ما حمل له الشعب مشاعر التقدير ولم ينظروا إليه كغازٍ حيث أنه لم يلجأ لإحداث أية تغييرات في أي جانب من جوانب حياتهم. ولكن الملك النوبي –الفرعون الجديد- اتخذ قراراً مفاجئاً لا يزال المؤرخون يجهلون سبب الإقدام عليه معتبرين أنه قرار غير عادي بالمرة إذ قرر أن يتجه جنوباً عائداً إلى أرض النوبة ولم يذكر التاريخ أنه عاد إلى مصر مرة أخرى.رأى بعض المؤرخين أن عودته إلى مملكته ربما كانت خوفاً من حدوث أية انقلابات قد يتعرض لها في مصر. ولكن غالبية دارسي تلك الفترة يجزمون أنه استطاع تقليم أظافر أية قوة مسلحة خلال حملته العسكرية التي لم تستغرق سوى عام واحد كان كفيلاً بإخضاع أقوى الحكام؛ كما أنه تمكن –خلال فترة وجيزة- أن يغير نظرة المصريين إليه، فقد اعدوه مخلصاً من الوضع السيئ الذي كانت عليه البلاد, بل ذهب بعض المؤرخين إلى أن الشعب رأى فيه بارقة أمل في توحيد البلاد التي عانت حالة من التمزق لم تشهدها من قبل. لكنه كان يرى (نباتا) هي عاصمة ملكه ولم يكن يريد حكم مصر بنفسه.وعندما مات الفرعون (بيا) عام 715 ق.م في النوبة بعد فترة حكم استمرت 35 عاماً تم تنفيذ وصيته التي نصت على أن يدفن كما يدفن الفراعنة في مصر بوضعه في أحد الأهرامات التي شيدها في النوبة, وأن يوضع بالقرب منه أربعة من أحب الخيول إليه وتم بالفعل إمضاء وصيته.ويجمع علماء الآثار على أن ثمة خسارة كبيرة تتمثل في عدم وجود صورة كاملة لهذا الفرعون المعجزة. وفي المعبد الموجود في (نباتا) عاصمة مملكة النوبة يوجد له تمثال لم يتبق منه سوى رجليه. ولم يؤد هذا التمثال إلا إلى التأكد من معلومة واحدة وهي أن هذا الفرعون كانت بشرته سوداء وهو الدليل الذي دحض أية شكوك عن وجود أسرة فرعونية جاءت من النوبة حكمت مصر. وبهذا يعد (بيا) أول حكام مصر الذين أطلق عليهم اسم "الفراعنة السود" بفضل حملته العسكرية الناجحة التي مهد فيها لتلك الحقبة التي حكم فيها ملوك النوبة مصر. كما يكون بذلك الملك-الفرعون وهنا تجدر الإشارة إلى خطأ شائع في إطلاق لفظ "فراعنة" على عموم قدماء المصريين فاللفظ يقتصر على الحكام الذين ينالون مباركة الآلهة المعبودة آنذاك وهو ما فرق به القرآن الكريم بين "فرعون" في قصة موسى و"الملك" في قصة يوسف عليهما السلام.

تحديات تهدد الإمبراطورية الجديدة
بعد وفاة مؤسس الأسرة النوبية في مصر تولى شقيقه (شاباكا) المسمى نفر كا رع- واتخذ مقراً له في ممفيس العاصمة المصرية آنذاك. وقد نصب نفسه بحسب العادات المصرية وأبدى احترامه لعادات وشعائر المصريين. وله إسهامات واضحة في معبدي الأقصر والكرنك، ففي الأخير قام بعمل تمثال من الجرانيت الوردي يصوره مرتدياً تاج مملكة كوش ومعه شعار ثعباني الكوبرا الذي يرمز إلى شرعيته كحاكم للقطرين. وكما ظهرت براعة النوبيين في ساحات القتال أثبت هو مدى براعتهم في مجال البناء والمعمار. ولكن فترة حكمه شهدت تحديات تمثلت داخلياً في تمكن تف-نخت من استعادة نفوذه على غرب الدلتا, وخارجياً في خطر الآشوريين الذين أخذت إمبراطوريتهم في الاتساع بسرعة كبيرة. وفي عام 701 ق.م قرر النوبيون أن يتصدوا لهم وتم ذلك في أرض فلسطين.وعلى الرغم من إعلان الآشوريين انتصارهم بعد أن أعملوا السيوف في جيش النوبة إلا أن أحد أبناء الملك السابق (بيا) استطاع أن ينجو من الموت مما جعل نصر الآشوريين محدوداً. وواصلوا تقدمهم بنصر أبتر حتى أسوار أورشليم التي ضربوا حولها حصاراً شديداً. وتمنى حاكمها حزقيال لو تمكن حلفاؤه المصريون أن يهبوا لنجدة المدينة كما جاء في العهد القديم. وما هي إلا أيام حتى استيقظ أهل أورشليم على معجزة إذ تم فك الحصار ولم يتبق جندي آشوري واحد حولها وكأنهم تبخروا. ولا يزال السر مجهولاً حتى اليوم. ومن جانبه يعرض "هنري أوبين" وجهة نظره في كتاب "إنقاذ أورشليم" بان اندحار الجيش الآشوري يرجع إلى أنباء تواترت عن تمكن الجيش النوبي من ترتيب صفوفه بفضل الأمير النوبي (تاهاركا) – ويسمى أيضاً نفر تم خورع- الذي نجا من المعركة السابقة, وأن الجيش في طريقه لنجدة أورشليم.
وقد وصف الآشوريون الأمير الشاب فيما بعد بأنه محاط برعاية كل الآلهة في إشارة لمهارته العسكرية والإدارية.

الفرعون الطموح
فاق طموح الفرعون الشاب (تاهاركا) -31 سنة- طموحات والده وعمه فبعد أن وضع تاج ممفيس عام 690 ق.م تولى لمدة 26 سنة حكم الإمبراطوريتين اللتين اتحدتا آنذاك: مصر والنوبة. وكان أمراء الدلتا قد بلغوا غاية الضعف كما أن الآشوريين قرروا عدم غزو مصر بعد فشل محاولة غزو أورشليم. وتروي الأساطير أن الآلهة باركت اختياره حاكماً لمصر حتى أن فيضان النيل لم يعد يؤذي أحداً بعد أن كان يعصف بقرىً كاملة قبل ذلك وهو ما رأوه مباركة من آمون له.
وقد أدت النهضة التي قام بها مع الجيش القوي الذي يتحكم فيه إلى إصابته بجنون العظمة بحسب ريتشارد بونيه إذ أن الجيش النوبي أصبح قوة دولية لا يستهان بها مما جعله يتصور أنه حاكم العالم.ووصل الأمر إلى حد الاستهانة بالآشوريين فأرسل إليهم قوة صغيرة للتصدي لهجوم قاموا به عام 674 ق.م وتم القضاء على هذه القوة ونجح الآشوريون في عبور الحدود لكن الجيش النوبي استدرك الموقف وأعادهم من حيث أتوا. إلا أن الآشوريين استطاعوا التسلل بالإبل إلى شبه جزيرة سيناء وبدأوا في تنظيم صفوفهم استعداداً للتوجه صوب دلتا النيل. واستمرت المواجهات لمدة خمسة عشر يوماً ودارت معارك طاحنة نجح الآشوريون في أن يدفعوا النوبيين إلى التقهقر جنوبا نحو ممفيس التي لم تصمد طويلاً. وتم ذبح سكانها وأخذ الآشوريون أبناء ونساء الفرعون سبايا والاستيلاء على ممتلكاته. وبلغ الأمر أنهم قاموا بعمل لوحة تصور ابنه يسجد للقائد الآشوري. وحاول الفرعون النوبي استعادة المدينة ولكن حدثت انقلابات في الجيش حالت دون ذلك. وأصبح الخيار الوحيد أمامه هو العودة إلى (نباتا), ولم يسجل أنه عاد إلى مصر مرة أخرى. وأوصى أيضاً بأن يدفن مثل والده حسب الطقوس المصرية لكنه اختار مكاناً مخالفاً للدفن يشرف على النيل في نوري.

دراجات الإنجليز فوق ملك النوبة
عرف عن (تاهاركا) ولعه ببناء المعابد والتماثيل, وعمد إلى إنشاء بانوراما فنية غير مسبوقة من الآثار التي خلفها في جميع المناطق الواقعة بين عاصمتي ملكه: (طيبة ونباتا) بكافة الأشكال من تماثيل ولوحات جدارية تحمل اسمه وغير ذلك من القطع التي تقبع في متاحف العالم إلا أن أعداءه لم يتوانوا في طمس أية إشارة إليه.
ومن الطريف أن وكالات الأنباء طيرت عام 2000 خبراً مفاده أن الصدفة وحدها قادت إلى اكتشاف أن أحد تماثيل الفرعون (تاهاركا) يوجد في فناء متحف ساوثهامبتون في انجلترا مقلوباً على وجهه ويبدو كأنه صخرة يقوم الموظفون بركن دراجاتهم عليها إلى أن اكتشفه أحد المتخصصين بعد أن ظل على وضعه هذا لمدة خمسين عاماً. ولم يعرف بعد كيف وصلت هذه القطعة النادرة إلى هذا المكان .

مجلة المجلة:احمد شاطر



التعديل الأخير تم بواسطة الخير ابنعوف ; 05-04-2008 الساعة 11:36 AM. سبب آخر: تغديل اسم الكاتب
الخير ابنعوف غير متصل   رد مع اقتباس