عرض مشاركة واحدة
قديم 17-01-2007, 01:35 PM   #[3]
محمد حسن العمدة
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية محمد حسن العمدة
 
افتراضي

مقدمة
في فجر الثلاثين من يونيو/حزيران 1989م عزفت الموسيقى العسكرية في أم درمان معلنة وقوع انقلاب عسكري جاء في بيانه الأول أنه "ثورة الإنقاذ الوطني".
بذا يكون السودان قد عاش منذ استقلاله في يناير 1956م ثلاثة نظم برلمانية ليبرالية هي:
الأول 1954- 1958م
الثاني 1964- 1969م
الثالث 1985- 1989م
كما عاش ثلاثة نظم عسكرية هي:
الأول 1958- 1964م
الثاني 1969- 1985م
الثالث 1989-
والأمر الذي يسترعي الانتباه هو أن النظم العسكرية الثلاثة تردت من أحسن إلى أسوأ فأولها هو أفضلها وآخرها هو اسوأها، بدليل: أن الانقلاب الأول وجد مباركة القوى السياسية الأساسية في بداية عهده وحقق قدرا من التنمية أما الانقلاب الأخير فولد معزولا تماما وأداؤه في العام الأول من عهده أداء تخبط وإخفاق.
هذا بينما النظم الديمقراطية الثلاثة صعدت إلى أحسن بمعنى أن أضعفها هو أولها وآخرها هو أفضلها، بدليل: الأول عرف ظاهرة الانقسام داخل الأحزاب الكبيرة (انقسام الحزب الوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي) وعرف ظاهرة الصدام الحزبي الحاد الذي أدى للعنف في الشارع السياسي السوداني (حوادث اول مارس 1954م) وعرف ظاهرة نخاسة النواب كما عرف ظاهرة الجفوة التامة بين الأحزاب والنقابات، ولكن البرلمان الأخير (الجمعية التأسيسية المنتخبة في عام 1986) فقد شهد تماسك الأحزاب الكبيرة في داخلها، وظاهرة التوجه القومي في العلاقات بين الأحزاب، وظاهرة الوفاق الحزبي النقابي واختفت تماما نخاسة النواب.
هذا كما أن الانقلاب الأول والثاني وجدا لأنفسهما بعض التبرير لأنهما وقعا في أعقاب أزمة دستورية في النظام البرلماني القائم خلقت فراغا سياسيا: الانقلاب الأول في نوفمبر 1958م سبقه تأزم سياسي حاد دفع رئيس الوزراء آنذاك إلى التخلي عن النظام الدستوري القائم والتفاهم مع قيادة القوات المسلحة على البديل.
وقد سبق الانقلاب الثاني في عام 1969م تأزم سياسي دفع رئيس الوزراء في ذلك الحين لتقديم استقالته والامتناع عن المواصلة حتى تتمكن الأحزاب من حسم الخلافات بينها، ولم تتمكن من حسمها حتى آخر لحظة.
أما الانقلاب الأخير في يونيو 1989م فقد وقع في وقت استطاعت القوى السياسية الحاكمة زيادة سندها البرلماني، واستطاعت حل المشاكل السياسية الأساسية، واستطاعت التوصل لوفاق سياسي نقابي.
صحيح أن المواطن السوداني عانى من الضائقة المعيشية وهي ضائقة لها أسبابها الموضوعية:
*فالناس في السودان يستهلكون أضعاف ما ينتجون.
*والصرف على الحرب في الجنوب والأحداث الطارئة مثل لجوء اللاجئين ونزوح النازحين بأعداد كبيرة، والصرف على إعادة التعمير بعد السيول والفيضانات غير العادية في عام 1988م، عوامل زادت من الإنفاق العام وهذا بدوره إنعكس على زيادة الأسعار.
*زيادة الأسعار ساهمت في الدفع الى حركة مطلبيه إنفجرت مطالبة بزيادات، وأي زيادات حدثت ساهمت في عجز الميزانية وفي مزيد من ارتفاع الأسعار.
إنها عوامل موضوعية لا علاج لها إلا بزيادة الانتاج وخفض الاستهلاك وتوازن الحقوق والواجبات.وقد حدث مثلها أضعافا مضاعفة في البلاد الأخرى في فنزويلا والأرجنتين وفي تونس والجزائر ومصر وأدى التعامل معها الى عدد كبير من الخسائر في الأرواح والجراح.
استغلت عوامل اخرى ظاهرة الضائقه المعيشية لتجرف البلاد نحو هاوية الإنقلاب هي:
أولا: لقد ضاقت القوات المسلحة ذرعا بالحرب في الجنوب لاسيما والقوات المسلحة قد خرجت من نظام مايو المباد في أسوأ حالاتها فقد استخدمها النظام كشرط’ أمن لحمايته(وإكتفى بالإعتماد على إتفاقية الدفاع المشترك للدفاع عن البلاد).ولكن الطرف الآخر في الإتفاقية (الحكومة المصرية) لم تعترف بالعوامل الخارجية المساندة لحملة السلاح في الجنوب وإعتبرت الأمر كله مشكلة أمن داخلي.
صحيح أن تجدد القتال في الجنوب عام 1975م بعد ثلاثة أعوام من إتفاقية السلام بإسم حركة أنانيا الثانية كان مجردا من أي سند خارجي .ولكن منذ 1982 وبعد قيام الحركة الشعبية والجيش الشعبي برز العامل الخارجي.
كانت القوات المسلحة تواجه قتالا ضد قوات تجد سندا خارجيا بينما إمكاناتها الذاتية بسيطة ولا تجد عونا خارجيا يذكر.لقد كان هناك تسليح غربي من الولايات المتحدة الأمريكية ولكن هذا المصدر تناقص حتى توقف.
ورغم جفاف المصدر الأمريكي فإن البلاد في العهد الديمقراطي لم تالوا جهدا في تزويد قواتها المسلحة من مصادرها الذاتيه ومن مصادر الاشقاء حتى بلغت قيمة ما خصص للقوات المسلحة من معدات وذخائر في آخر عامين للديمقراطية أربعمائة وخسمين مليون دولار(450مليون دولار) في العام الواحد.وتصاعد الإنفاق من الميزانية العامة على القوات المسلحة حتى بلغ في آخر ميزانية (89/90) ثلث الميزانية العامة.
إن هذا الجهد لم يسعف القوات المسلحة ولم يؤد الى درجة أعلى من الآداء وذلك للأسباب الآتية:-
أ-كان كثير من القادة المكلفين بالقيادة في مواقع حربية معينة غير مؤهلين لهذا الدور القيادي الميداني إما لأنهم أصلا من تخصصات فنية وأما لأنهم أصلا من عناصر مغضوب عليها.
ب-كان أسلوب القتال دفاعيا وتقليديا لم يتطور فيه أسلوب الهجوم والمفاجأة ولا الغطاء الشعبي بأساليب تلائم البيئة التي يدور فيها القتال دعما للإسلوب النظامي المعهود.
ج-ظهر شعور في بعض الأوساط الشمالية يدل على عدم الإقتناع بالحرب في الجنوب بمنطق اننا لسنا أمة واحدة وأن أراد الجنوبيون الانفصال عنا فليكن.هذا الشعور مع عوامل أخرى أدى لسلبيات عديدة أهمها عدم الجدية في القتال وإنصراف البعض للمتاجرة والتكسب.
د-هذه العوامل إشتركت معا لتذهب بالروح المعنوية لدى القوات المسلحة الى درجة بالغة.
هـ-مورس إعلام صحفي غير مسئول لا سيما جريدة الرأي.. عمل على كشف أسرار القوات المسلحة وعلى بث آراء وتعليقات كان لها أثرها السلبي على الروح المعنوية في القوات المسلحة.
و-كان أداء التوجيه المعنوي متدنيا جدا .فقد كان منوطا به ان يشرح أسباب القتال بصورة مقنعة ويشرح برنامج السلام بصورة متكاملة مع الواجبات القتاليه، وكان عليه ان يشعر القوات المسلحة في جبهات القتال أن شعبهم معهم بإرسال الوفود من كل المستويات لمقابلتهم والتحدث اليهم.وكان عليه أن يرسل وفودا من الفنانين والشعراء بل وفودا من كل قطاعات المجتمع في إطار برنامج موجه للقوات في جبهات القتال.
لقد كان أداء التوجيه المعنوي بالقياس لما كان ينتظر منه باهتا جدا.
ز-كذلك كان أداء الإستخبارات العسكرية متخلفا.لقد شغلت الإستخبارات العسكرية طول عهد الفترة الإنتقاليه بمهام أمن السودان الخارجي وإستمرت كذلك إلى ان نشأ جهاز أمن السودان للقيام بهذه المهمة.ولكن قبل وبعد إنشاء الجهاز الجديد فإن الإستخبارات العسكرية لم تفلح في الكشف عن خطط الخصم ومصادر دعمه بالصورة المطلوبه.هذه السلبيات ظهرت في كثير من وجوه الأداء العسكري ولكنها ظهرت بصورة قوية جدا بعد سقوط الناصر في نوفمبر 1988م.
لقد كان سقوط الناصر بعد صمود مجيد نتيجة لإخفاق الكتيبة118 في نجدة الناصر مع العلم بأن الكتيبة المذكورة كانت معدة بكل الإمكانات المطلوبة.فقلد كان إخفاقها قياديا.
هذه السلبيات أزعجت رئيس الوزراء وزملاءه في القيادة السياسية فواجه بها هيئة القيادة العامة فاعترفت بها ووعدت بدراستها ووضع برنامج لعلاجها ولكن بدل وقفه صريحه مع النفس ونقد الذات رؤي تبرئة القيادة العسكرية من التقصير وتعليق مسئولية الإخفاق على نقص الإمكانات وعلى اختلاف الجبهة الداخلية وعلى السياسيين.هذا الأسلوب نجح في صرف النظر عن النقد الذاتي والمحاسبة العسكرية وهيأ الأذهان للمحاسبة السياسية.هذا خلق مناخا استغله الانقلابيون لتحويل البنادق من وجهتها الميدانية الى وجهه انقلابية في العاصمة.



محمد حسن العمدة غير متصل   رد مع اقتباس