عرض مشاركة واحدة
قديم 03-01-2008, 08:29 PM   #[9]
محمد حسن العمدة
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية محمد حسن العمدة
 
افتراضي

الجمعية التأسيسية
كانت الجمعية التأسيسية المنتخبة عام 1986م أفضل جمعية تأسيسية عرفها السودان في تاريخه الحديث وذللك لأنها تميزت عن سابقاتها بالآتي:
1-لم تشهد انقسامات كبيرة فالبرلمان المنتخب عام 1954م شهد انقسام الحزب الوطني الاتحادي والبرلمان الثاني المنتخب عام 1965م شهد انقسام حزب الأمة .أما هذه فلم تشهد انقساما.
2-لم تشهد ظاهرة تصدير المرشحين فقد كان المرشحون من كل الأحزاب بتأييد القواعد في دوائرهم،هذا لا ينطبق على البرلمانات السابقه.
3-لم تشهد ظاهرة نخاسة النوابوتحول الأعداد الكبيرة من حزب الى آخر وهي ظاهرة عرفتها البرلمانات الأخرى.
4-كان مستوى التعليم والثقافه والوعي فيها عاليا جدا بحيث يمكن القول ان نصفاعضائها كانوا حملة شهادات والنصف الأخر غالبا أعلى قدر من التعليم والتجربة.
بيد ان الجمعية قد رزئت بظاهرتين سلبيتين:
الاولى: كثرة غياب النواب في الجلسات وهي ظاهرة ارتبطت بكل البرلمانات في العالم بيد أنها ظهرت بصورة مخله لأن اللائحة كانت تتطلب نسبة عاليةمن الحضور حتى في الجلسات العادية علىغير مادرجت عليه برلمانات العالم واستمر هذا الى ان تم تعديل اللائحة اخيرا.
الثانية: تأخر تكوين لجان الجمعية لدرجة اثرت سلبا على ادائها ويعزى السبب لتأخر حزب الاتحادي الديمقراطي في تقديم مرشحيه لهذه اللجان .ورغم ذلك فان الجمعية قد قامت بدورها التشريعي وبدورها في مراقبة الحكومة اضافة الى الدور الدبلوماسي المتمثل في استقبال الوفود وايفاد النواب الى الخارج وخلت الجمعية غالبا من التهريج ومتبذل الحديث بل كان المناخ فيها وديا بين النواب وخلت الجمعية من الاجراءات الكيدية حتى انه لم يناقش فيها مرة واحدة سحب الثقه من الحكومة.
وانعكس في الجمعية نجاح التجربة الديمقراطية السودانية فكانت حكومة الوحدة الوطنية (الحكومة الاولى) تحظى بتأييد 70% من النواب وحظيت حكومة الجبهة الوطنية المتحدة (الحكومة الاخيرة) بتأييد 80% من النواب.
المعهود في الحكومات انها تفقد السند البرلماني بالتدريج مع مضي الزمن اما ان يكون الاتجاه هو العكس أي حدوث زيادة في السند البرلماني فان في هذا تأكيد لنجاح التجربة.
ربما لم يتابع كثير من الناس هذه التطورات ولعل تغيير الحكومات قد بدا لهم كأنه لعبة كراسي ولازالة هذا اللبس وتوضيح اسباب اختلاف الحكومات من حكومة الوحدة الوطنية الى حكومة الوفاق الوطني الى حكومة الجبهة الوطنية المتحدة فإننا نسلط الضوء على ما جرى ليتضح انه جزء لا يتجزأ من حركة التطور السياسي والممارسة الديمقراطية السليمة.
لقد كون رئيس الوزراء ثلاث حكومات في الفترة الديمقراطية تمت تسميتها على التوالي:
1-حكومة الوحدة الوطنية(1986-1987م).
2-حكومة الوفاق الوطني (1987-1989م).
3-حكومة الجبهة الوطنية المتحدة(مارس1989-يونيو1989م).
وكانت التغييرات اشبه بتعديلات وزارية منها بتغييرات جذرية في الحكم.
قبل الخوض في تفاصيل التجربة سنتناول بيان كيفية انتقال السلطة من الاستبداد الى الحرية عبر ثورة رجب/ابريل 1985م وكيفية انتقال السلطة من الحكم الانتقالي القائم على التراضي الى الحكم الديمقراطي القائم على نتيجة الانتخابات العامة.
وكان نظام مايو نظاما محاكيا عديم الاصالة،فنقل الى السودان تجربة الاتحاد الاشتراكي من مصر وهي تجربة فشلت في مصر نفسها كما فشلت في كل البلاد العربية الاخرى التي اقتبستها من مصر مثل سوريا،والعراق،واليمن،وليبيا.
فكرة الاتحاد الاشتراكي هي أن تحل محل الأحزاب في قيادة البلاد سياسيا وفي اتاحة المشاركة الشعبية والجماهيرية والفئوية عن طريق تحالف خمس فئات سميت قوى الشعب العاملة. العمال،والمزارعون،والموظفون،والجنود،والرأسمالية الوطنية.لقد كانت هذه القطاعات محض لافتات بينما كانت السلطة الحقيقية يمارسها جعفر نميري مستندا على سيطرة انقلابية على القوات المسلحة.
ان للقوى السياسية والحزبية والفكرية في السودان جذورا عميقة ولذلك كان أمرا شكليا لم يمس واقع وجودها وكذلك ان للنظم النقابية في السودان جذورا وتجارب فلم يستطع النظام ان يهمشها كما اراد.
لقد شكلت القوى السياسية الحزبية والنقابية الحرة تيارا رافضا فلم يحظ النظام المايوي أبدا بالاستقرار ولا بالقبول.
ودون الولوج في تفاصيل المعارضة والمقاومة لنظام مايو وهي أمور فصلناها في مجال آخر (انظر المصالحة الوطنية في الألف الى الياء)نتناول تطورات العام الأخير لنظام مايو.
قرر جعفر نميري في عام 1983م تطهير الهيئة القضائية فطرد عددا من القضاة ورماهم بسوء الاخلاق والسلوك .هذا الاجراء عارضته الهيئة القضائية وتبعه تقديم القضاة لاستقالات جماعية.ولما استمروا في صمودهم حاول نميري الاستنجاد بقضاة من مصر أو بتعيين اداريين في المعاش للقضائية فلم يفلح وفي النهاية قرر التراجع امام موقف القضاة ولكنه قرر كذلك أن يغطي تراجعه بحركة هجومية فاعلن ماأسماه "الثورة التشريعية" فاشتملت على اصدار قوانين اسلامية .لقد اعتقد نميري ان هذا الاجراء سوف يمكنه من ان يكون حاكما مطلقا ، طاعته واجبه لأنه طبق الشريعة.واعتقد ان احكام الشريعة نفسها بما تتيح من عقوبات على الردة والبغي ستعطيه عصا غليظة لردع معارضيه واعتقد ان احكام الحدود ستروع المواطنين وتجعل الجميع تحت رحمته.
وكان نميري وهو يقدم على هذه الثورة التشريعية حريصا على الا ينسب الفضل فيها لأحد سواه لذلك لم يشرك أيا من حلفائه في توقيتها ولا في صياغة قوانينها بل أوكل هذا الامر برمته الى "النيل أبوقرون" شخص سبق له ان التقاه في حلقة ذكر صوفي فاستصحبا تطلعات غيبيه غامضة حول دور ديني يقوم به نميري في السودان فكلف ابوقرون بصياغة القوانين الاسلامية حيث استعان بصديق له يدعى عوض الجيد إضافة الى بدرية سليمان.
وبسرعة انبرى الرجلان لمهمتهما وصاغا القوانين التي اصدرها نميري فيما بعد بأمر جمهوري في 8/9/1983م صيغت القوانين على عجل وصدرت على عجل كذلك وأمر النميري مجلس الشعب بألا يخضعها للإجراء التشريعي المعهود .فقررت لجنة التشريع اجازتها دون مناقشة بإعتبارها توجيها قياديا.انقسم المسلمون في السودان امام هذا الاجراء،فالاغلبية رفضته وشجبت عيوبه والأخوان المسلمون(الجبهة الاسلامية القومية فيما بعد)أيدوه واعتبروه امتثالا لأمر الله والجنوبيون رفضوه بما فيهم أولئك الذين كانوا متحالفين مع النظام المايوي.
وفي يوم 18/9/1983م احتشد الناس لصلاة عيد الاضحى المبارك في الجامع العتيق أمام قبة الإمام المهدي وأم السيد الصادق المهدي الناس واشار الى القوانين التي اصدرها النظام واورد بالقول انهم يرحبون بتطبيق الشريعة في السودان ويعتبرونه واجبا دينيا ووطنيا ولكن التشريعات التي صدرت تميزت بالآتي:-
1-انها صدرت بدون دراسة وشورى.
2-انها بدأت تطبيق الشريعة بالعقوبات وهي معلوم انها وسائل يحمى المجتمع المسلم بها نفسه فينبغي ان يسبقها قيام المجتمع المسلم العادل الرحيم فتصدر من بعد لحمايته.
3-انها لم تأخذ في الحسبان العوامل الاجتماعية،فعمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يطبق حد السرقه على غلامي بن ابي بلتعة لأن اجورهما لاتكفي حاجتهما،كذلك جمد حد السرقة في عام الرمادة (مجاعة عام 18هـ)نتيجةلهذا الرفض تم اعتقال السيد الصادق المهدي مع نخبة من شيوخ وقيادات وكوادر الانصار في يوم 25/9/1983م.
أما الاخوان المسلمون بقيادة الترابي فقد رحبوا مع آخرين بالقوانين الجديدة واستعدوا لتطبيقها على اوسع نطاق،ونظموا الاحتفالات الشعبية لها داخليا وساعدوا على دعوة عدد كبير من العلماء المسلمين من خارج السودان لمباركة المسيرة (مسيرة السودان الاسلامية).
ولكن كل هذا الضجيج لم يفلح في صرف نظر أهل السودان عن مشاكلهم المحلة واخفاق النظام في حلها فتعددت اضرابات النقابات: اضربت نقابة الاطباء في اغسطس1984م واضربت بعدها نقابة المحاسبين والصيارفه..الخ أمام سيل الاضرابات هذا قرر النظام اعلان حالة الطوارئ وأقام في ظلها محاكم سياسية التكوين سماها محاكم العدالة الناجزة لتستخدم القوانين الجديدة بطريقة مختصرة متخلية من ضوابط العدالة جملة واحدة، مروعة المواطنين أيما ترويع.وبينما كان النظام يلوح بهذه العصا الغليظة وتعمل محاكم العدالة الناجزة بالضرب بها أثناء الليل واطراف النهار بصورة مسرحية قطعا وجلدا وقطعا من خلاف دون مراعاة لقواعد الاثبات الشرعية كانت المجاعة تلتهم السودان،بل كان حال السودان كأن الطبيعة نفسها اعلنت الحداد فسجل نهر النيل اسوأ إنحسار له منذ قرن وأمسكت السماء تماما بحيث صار موسم عامه الشريعة الاولي 83/1984م هو عام "رمادة" بالسودان.
لقد اعتادت الحركة الطالبية السودانية ان تكون ضمير شعبها في السودان وكانت رأس الرمح في التعبير عن مواقفه يساعدها على ذلك حماسة الشباب ومثاليته وتجمعها بإعداد كبيرة في مواقع الدرس والتحصيل ودور الجامعات والمعاهد.
ان لحركة الاخوان المسلمين باعا طويلا في العمل الطالبي مما أدى لتبعية معظم الاتحادات الطالبية لها. هذه التعبية مكنت الاخوان المسلمين لبعض الوقت من تجميد دور الطلبة الريادي المعهود ازاء القضايا المصيرية.
وفي اكتوبر 1983م استطاع الطلبة الانصار في جامعة امدرمان الاسلامية ان يكونوا تحالفا طالبيا هزم الاخوان المسلمين مزيحا لهم من قيادة اتحاد الطلبة فتم تكوين اتحاد طالبي من قوى هذا التحالف الجديد فسير الاتحاد الجديد موكبا معارضا للسلطة في 26/مارس 1985م فتحالفت مع هذا الموكب قطاعات اخرى من قواعد الطلبة والمواطنين فكانت رأس الرمح لانتفاضة رجب/ابريل 1985م.
دعت نقابة اساتذة جامعة الخرطوم لموكب يبرز المعارضة للنظام في يوم 3أبريل 1985م واستجاب للدعوة عدد من النقابات المهنية، الأطباء،المهندسون، المحامون، البنوك،المحاسبون والصيارفه، وقبل خروج هذا الموكب اعلن النظام لموكب اسماه موكب الردع يوم الثلاثاء 2 أبريل 1985م كان موكب الردع هزيلا وكان موكب الاربعاء ضخما عظيما اشتركت فيه النقابات المذكورة والأحزاب السياسية السودانية وعندما تم بحث الدور السياسي المطلوب من موكب الاربعاء كان الرأي ان يكون:
أ-التوقيع على ميثاق وطني يضم كل القوى السياسية المشاركة في الموكب.
ب-اعلان اضراب سياسي يلتزم به ويعمل له الجميع حتى سقوط النظام المايوي وفي مساء يوم الثلاثاء 2 أبريل كتب السيد الصادق المهدي بخط يده مشروع الميثاق الوطني وقام بتسليمه للسيد أمين مكي مدني فأوصله للآخرين حيث وافقوا عليه وتم توقيعه مساء الجمعة 5 ابريل 1985م من قبل الاحزاب: حزب الامة-الاتحادي الديمقراطي-الحزب الشيوعي-نقابات: الاساتذة-المحامون-الاطباء- المهندسون- البنوك والصيارفه-التأمينات. ثم انفتح الباب على مصراعيه ليوقع عليه اخرون من احزاب ونقابات وفي يوم الجمعة 5 أبريل 1985م اجتمع المصلون لصلاة الجمعة في جامع الهجرة بود نوباوي وهناك خطب السيد الصادق المهدي فقال :
1-لاعذر لأحد في سكوت على مايحدث في السودان اليوم وعينا ان نتحرك جميعا لاسقاط هذا النظام الظالم.
2-التزم الاضراب العام وتسيير المواكب ودعم التظاهرات وتأييد الميثاق الوطني الذي قدمناه للآخرين ومهرناه معهم.
3-على القوات المسلحة والنظامية الاخرى رفع يدها عن النظام المايوي وان تتحرك لاسقاطه مؤيدة الشعب ومنحازة لمواقفه.
وبعد الفراغ من الصلاة تظاهر المصلون في موكب كبير الى قلب مدينة أمدرمان وقامت تظاهرات عديدة من امدرمان والحقيقة ان العاصمة كلها قد سيرت التظاهرات ضد نظام المخلوع.
ولم تكن الحركة عاصمية فقط فقد كان أول اقليم من السودان يحرك مواجهة العام الاخير من لنظام المخلوع هو اقليم دارفور ولعبت كذلك انتفاضة وموكب مدني دورا هاما في محاصرة النظام .
وفي اوساط القوات المسلحة تمت تحركات وسط صغار الضباط لاتخاذ موقف موحد من الاحداث. وكان المرحوم فريق (م) محمد توفيق خليل قائد سلاح المهندسين يومذاك يدير حوارا مع السيد الصادق المهدي نيابة عن زملائه حيث نقل اليه السيد الصادق المهدي بأنهم كقادة قرروا تحديد موقفهم بعد تقييم موكب المعارضة (موكب الاربعاء) وموكب الردع الخاص بالاتحاد الاشتراكي والمقارنة بين الموكبين ومن ثم الانحياز للأغلبية.
وأوضح بأن صغار الضباط يمارسون ضغطا على القادة للأنحياز للشعب بينما القائد العام الفريق سوار الذهب ما يزال مترددا بسبب بيعته لجعفر نميري.
فارسل السيد الصادق المهدي رسولا للفريق سوار الذهب ينصحه بالانحياز الى جانب موقف الشعب السوداني لحق الدماء أو التنحي وأخيرا اختار الفريق الانصياع لرأي الأغلبية.
وفي مساء الجمعة 5 أبريل 1985م قررت القوات المسلحة تأييد الموقف الشعبي بإجماع الرأي فيها وهكذا في صباح السبت 6أبريل 1985م أعلنت قيادة القوات المسلحة إنحيازها لرغبة جماهير الشعب السوداني واستلام السلطة وخلع جعفر نميري والعودة الى الديمقراطية.
الفترة الانتقالية -1985-1986م



محمد حسن العمدة غير متصل   رد مع اقتباس