عرض مشاركة واحدة
قديم 10-04-2009, 01:14 PM   #[6]
النور يوسف محمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية النور يوسف محمد
 
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
الى الأحبة
الفيصل الجميل ( نهجاً وحرف
العزيزة آمال
بعيداً عن السياسة وفكر الشريف والذى سأعود الى توثيقه إن أسعفنى الزمن
أهدى لكم هذه (السلة الممطرة ) من فاكهة الشام غادة السمان فى رثاء الشريف حسين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شهداء المنفي وقراصنة الوطن
غادة السمان

كان القدر هو الذي يقود خطواتي في شوارع أثينا تلك الأمسية الدامعة بالمطر.. وكنت أمضي إلى المسأة بنفسي، وأجهل أن ستارة المشاهد الأليفة ستنفتح فجأة على مشهد يوقظ أحزان القلب الموغلة في الأعماق.. ويخرج عرافات الذكرة من أوكارها في بوح مرير أين منه بوح عرافات(دلفي) كما في الدراما اليونانية.. لم أكن أدري أن أمسية التسكع الهادئة تلك ستتحول إلى طعنة مسددة بإتقان نحو صدر النسيان.. لا أدري ما الذي قاد خطواتي إلى ساحة (الدستور) إلى شارع (الستاديو) سرت طويلاً تحت رذاذ المطر الشفاف كدموع سرية، حتى وصلت إلى ساحة (أمونيا) وكانت المدينة تنزلق إلى الغروب وكنت أنزلق إلى سكينة نفسية لها مذاق الغيبوبة العذبة حتى وقعت نظراتي على لافته معدنية من كلمات ثلاث تقولفندق الملك مينوس) إذن هنا سقط شهيد المنفى الشريف حسين الهندي ذلك الإنسان النبيل الذي لم ألتق به إلا في سطور محبيه وعيون تلامذته... وفكرت بأسى لو كنت على هذا الرصيف قبل شهر لصافحته وخيل إلي أنني أسمع غراب ينعق ويقول "لن يكون ذلك بعد اليوم"... آه لن يكون ذلك أبداً. لماذا قادت المسأة خطواتي إلى هذا المكان.. هذه الأمسية تمزقت الستارة عن جرح شاسع ينبض كفاحاً معذباً جرح اسمه "شهداء المنفى العرب".
بدأت أتأمل هذه الساحة بالذات وهي تجمع شمل الناس الذين عاش الشريف الهندي لأجلهم ومات وسطهم.. إنها ساحة البسطاء، يهرولون وراء لقمة العيش والحُلم، وجوه طيبة، وجوه كادحة، وجوه معذبة، وجوه أدمتها قسوة الواقع وجوه كساها الزمن، أيد خشنة تقبض على خبز الأسرة وتختفى تحت المطر.. ساق مقطوعة، وعكاز قافلة من المتعبين والخاطئين الأبرياء والناشلين الصغار والمساكين والحائرين الذين يجهلون قراءة أعماقهم وربما قراءة الجريدة! من أجل هؤلاء يعمل المناضلون جميعاً ويتشردون.. ولأجلهم نذر الشريف حسين الهندي حياته وكان موته بينهم محاطاً بزحامهم وعزاباتهم وأفراحهم وأحلامهم المتواضعة الصغيرة بحجم طابع البريد.. كان القدر يقود خطواتي تلك الأمسية الأثينية الماطرة.. تحرك في النفس مأساة عامة غير عادية إسمها (شهداء المنفى) مسأة فجرتها في نفسي ذكرى إنسان عملت في منبر يحمل بصماته ولم أعرفه.. ولم ألتق به.. وها أنا ذا أزوره ذات ليلة ماطرة بطريقة رمزية موجعة أتلفت حولي كمن كان يمشي أثناء نومه وأستيقظ فجأة.. إن إستشهاد الشريف حسين الهندي في الغرفة رقم(222) على بعد أمتار مني يذكري بإستشهاد مئات من رفاقه في بقية غرف الوطن والمهجر والمنفى.. من الغرفة رقم (1) إلى الغرفة رقم (لا نهاية) هذا يموت في المعتق بين يدي سجان الوطن.. وذاك يموت في المنفى بين يدي سجان الغربة.. ذلك الشهيد الذي مات وهو يمارس الأهداف التي طالما آمن بها ذكرني أيضاً بالوجه الآخر البشع للغربة.. تذكرت غربة الذين يغادرون أوطانهم لتدميرها من الخارج! إنهم الوجه الآخر لقراصنة الوطن وهم يستترون خلف الشعارات ويتشبهون بالمناضلين الحقيقيين دونما جدوى.. ما كل من غادر وطنه مات شهيداً ثمة فارق بين القتيل والشهيد وثمة فارق بين الذين يهاجرون للكفاح من أجل الحق والذين يهاجرون للهجر والتخريب..إنه الفرق الذي لا ينسى بين شهداء الوطن والمنفى وقراصنة الوطن والمنفى.. إن موت هذا المناضل يفتح جرحاً عربياً عميقاً شاسعاً زاخراً بالتراث النضالي لأمتنا وموته نموذج للموت العربي المعاصر حيث الإستشهاد ممكن في كل مكان في الوطن.. وفي الخندق.. وساحة الحرب.. وفندق المنفى! هذا الرجل الذي ولد في إفريقيا وأحبها وحالف آسيا وحمل همها ومات في أوربا.. يذكرني بعشرات النبلاء أمثاله الذين تساقطوا قبله في الغربة وسيتساقطون بعده في الغربة كي يردوا الوطن إلينا من غربته.. لأجله ولأجلهم جميعاً أُصلي وصوتي الريح وقلبي قصبة مثقوبة.. وأتساءل بحزن غاضب: ترى من الشهيد القادم؟ لإي أي منفى؟ أي قدر؟ أي غربة؟ أي فندق؟ وما رقم الغرفة هذه المرة؟.



النور يوسف محمد غير متصل   رد مع اقتباس