عرض مشاركة واحدة
قديم 22-11-2008, 09:33 AM   #[51]
عبد العزيز بركة ساكن
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية عبد العزيز بركة ساكن
 
افتراضي الشَيَطَانُ، البَنَكُ...........



الشَيَطَانُ، البَنَكُ...........،
سَجَمِيْ.

أُفْتِتَحَ البَنكُ في وقت حُسِبَ بدقةٍ ليواكب المُوسم الزراعي لهذا العام.. وجاء الموظفون ونزلوا في ضيافة شركة الاتصالات، إلى أن تكتمل اللمسات الأخيرة لميس خاص بهم، تَم بناؤه من المواد الثابتة وشبه الثابتة ليوائم المُناخ وطبيعة المكان، كان يدور حوله صريف من القصب والشُوك كغيره من بيوت السُكان، ولكن القطاطي فيه مَبَنِي الجزء الأسفل منها بالطوب الأحمر والحجر، الجزء الأعلى من القَشْ النال والقنا، كما تبتني القطاطي عادة في الحلة.. أول من تعرف عليه موظفو البنك كانت ألم قِشي.. حيث أنها تعمل في ميس شركة الإتصالات، وعندما سألوا عن شخص يعمل معهم كمراسل.. اقترحت عليهم ود أمونة بدون تردد.. كان الشخص الوحيد الذي بدا لها مفيداً، في هذه المِهنة، ولربما لمعرفتها التي اكتسبتها من معاشرة أولاد المُدن في ميس الشركة، ولمعرفتها لود أمونة، حيث أنه طيع وطائع وسهل التعامل، ويمكن إرساله لأي غرض مهما صغر، كإشعال سيجارة مثلاً، ومهما كَبُرَ كخطبة امرأة.. فلا يشكو أو يتبرم.. دائماً ما يُرى نظيفاً طلق الوجه، لا يسكر إطلاقاً بالنهار مهما كان الندامى، أما عند الليل ليس بعد أن يتأكد أن لا أحد يحتاج إلى خدماته.. شخصٌ مثله نادراً ما يُوجَدْ، حيث السِمة العامة للرجال هنا هي الفظاظة والرعونة والرائحة النتنة: ود أمونة.. ود أمونة.. ما في غيره.. ظريف وسيم مؤدب طيع ومسكين ويترسل.
حدثتهم.. إنه يعمل الآن في بيت الأم بأجر زهيد، وشرحتْ لهم الصفات التي إعتبرها بعضهم نعمة. لم يرفض، شَكَرَهَا، اشترى بنطلون وقميص وصتني وصيتا جديدين، وذهب للعمل.
في الحقيقة الأم هي التي أعطته المال ليبدو بمظهر يليق بمراسلة كان يعمل عندها منذ زمن طويل، ومثل أم رؤوم دعت له بالتوفيق والنجاح في مهنته المقبلة، وطلبت منه أن يبتعد من خِصْلةٍ وحيدة سيئة، رافقته منذ الصغر.
- أوعك من: القُوالة والسُواطة.
وتقصد الأم: نقل الكلام من زول لزول.
أرسلت له أمه أمونة من القضارف عندما عرفت بوظيفته الجديدة، حذاءً جديداً من الجلد الأصلي، دعت له بالخير والبركة وحذرته من خِصَلةٍ وحيدةٍ سيئةٍ فِيه، رافقته منذ أن أخذ يعمل عند الأم.
- أوعك من فَشْ أسرار الناس.
وتقصد أمونة: علاقات الناس العاطفية وعاداتهم التي يريدون أن تبقى سرية.
أهدته أداليا دانيال ساعة سيكو جميلة لها خلفية ذهبية كانت قد اشترتها من أحد الجنقو قبل موسم مضى، وحذرته من خِصْلةً واحدة سيئة فيه اتصف بها منذ أن عرفته.
-أوعك من التعرصة !!
وتقصد أداليا دانيال، عدم المقدرة على مقاومة الرغبة الجامحة نحو جعل كل فتاة جميلة أو غير جميلة أيضاً، تنام مع رجل ما ويكون الفضل له في ذلك وحده، وعندما يتم مثل هذا اللقاء، يشعر ود أمونة برضى في نفسه ولذه لا تشبهها لذة أبداً.
أرسل إليه فكي عليْ طالباً أن يبارك وظيفته الجديدة، أعطاه حِجاباً يقيه من الحسد والغيرة وأولاد الحرام وبنات الحرام، وحذره من خِصْلة واحدة سيئة فيه، عرفها عنه الفكي منذ عامين ونيف.
- أوعك من النسنسة والدسدسة والخسخسة.
ويقصد الفكي عليْ، فِعلة كان هو طرف فيها، والطرف الآخر الشرطة، ولُقِّنَ فيها الفكي درساً لن ينساه.
طلبته بوشي، أهدته شريط أغنيات حبشية، وحذرته من خِصْلةٍ وحيدة فيه، إذا تركها فانه سيمتلك القلوب.. قالته له
-أوعك من الكذب.
وتقْصِد ما شهد به في ندوة بغيضة من قبل أعوام، نُوقِشَتْ فيها حقيقة عذريتها.
أرسلت له العازة هدية من سجنها بالقضارف، وهي عِبارة عن شَالٍ من الصُوف، صنعته بيديها، و أوصته بأن هنالك خصلة واحدة فيه، عليه الحفاظ عليها، وهي: الوفاء.
وتقصد كما هو واضح وجلي، إلتزامه نحوها بدفع ما عليها من دِيّة، حتى يتم إطلاقها من السجن.
وطلبه كثيرون لأجل هدايا ووصايا، إلا أنه اعتذر في أدب جم، في أن الوقت سوف لا يسعفه وعليه الذهاب إلى العمل.
مضى وفي ذهنه وصيةٌ واحدةٌ همستْ بها نفسهُ إليه قائله:
- أوعك تخلي الفرصة تفوتك.. أطلع فوق.. فوق.. فوق.. فوق.
جاء بيت الأم في الصباح الباكر مجموعة من الجنقو ومعهم الصافية، في صحبتهم ثلاث جنقوجورايات أخريات، عشرة في تمام حالهم وكمالهم، قابلتهم في الديوان، وهو حيث يُستقبل الضيوف في بيت الأم، قالوا إنهم يريدون الذهاب إلي البنك طالما كان هذا البنك للفقراء والمساكين من المزارعين كما قيل في خطبة جمعة قبل عام مضى، في الحق لم يحضرها أي أو أية من الحضور، حتى الفكي الزغراد نفسه كانت عنده حَضَرةٌ في ذلك اليوم من جن جاء على عجلٍ من بلاد الفِرِنجة، كما فسر سر غيابه لاحقاً.
أكدوا أنهم يريدون سلفية من المال، تمكنهم من شراء مشروع كبير ينظفونه بأنفسهم ويحرثونه بوابور يشتريه البنك لهم أيضاً، مزوداً بِمِحراث من ماركة جيدة تم تحديدها بدقة فائقة: موديلاً ماركةً صناعةً ولوناً.
إذا صادفت السلفية خريفاً جيداً كريماً معطاءً، سيعيدون أصل الدين في ذات العام.
. وتفضل لينا شُويّة حربَشَات نتقاسمها-
قال أبرهيت وفي فمه ابتسامة كبيرة جعلت شاربه يبدو طويلاً وعريضاً، ثم أضاف
-ونرّجِع للبنك الأرباح السنة البعدها، وبعد داك يكون البابور والدسك والمشروع ملكنا نحنا برانا، ولا كيف يا أخوانا؟
قلت له:
. كلامك في مكانه، ولكن زي ما عارفين، الموضوع دا يحتاج لدراسة جدوى-.
سأل جنقوجوراي صغير الحجم. أنيق، يحمل قلماً ونوتة في جيب قميصه التترون، كان يجلس ما بين أبرهيت وإحدى الجنقوجورايات
شنو دراسة الجدوى دي؟ -
ثم تساءلت الصافية
يمكن نشتريها من سُوق القضارف، مهما كلّف؟-
طلبت منهم أن يمهلوني أياماً قلائل وبإمكاني إعدادها لهم
. - تلاتة أيام بس
كنت أرى أحلامهم بالنجاح والثراء بأم عيني تتطاير حولنا، تملأ المكان إنشاداً، بهجة، ووداداً قبل أن يذهبوا،انتحي بي أبرهيت جانباً و اعتذر لما بدر منه من رعونة، في موضوع صديقي، و أنه ظنه مرسل من قبل الأمن، حدثني عن بعض المصاعب التي مازال يُعاني منها من جهات كثيرة، أمنية و دينية متطرفة، نسبة لدورة المزعوم في ترحيل الفلاشا لإسرائيل، وقَدّم ليّ نِيَابة عن المجموعة، هدية مرتجلة وهي زجاجة كونياك، قالوا لي فيما أنها مفيدة لرجل تزوج حديثاً من حبشية جميلة كانت تعمل في بيت أدّي، احتفلنا أنا و ألم قشي، احتفالاً صباحياً بالهدية، تناقشنا في فكرة الجنقو الخطيرة، سألتني ألم قِشي سؤالاً مباغتاً
-بتظن البنك حيديهم القرضْ؟
قلت لها:
-ما عارف، ولكن نكتب ليهم دراسة الجدوى، بعد داك الله كريم.. يمكن.. ويمكن، مافي شئ عند الله بعيد.أما بيني وبين نفسي، فكنت أعرف النتيجة مسبقاً، واستطعت أن أتخيل تماماً منظر الجنقو وهم يُطْرَدُون من البنك شَر طردة، وأنا معهم أعتذر أو أتوعد، الأمر سيّان، ولكن عندما ردت ألم قِشي معلنة:
. الناس ديل وراهم الفكي علي الزغراد نفسه-
وفكي علي كما هو معلوم لا يعمل بالقرآن وحده، ولا بالكجور وحدها ولا بالشجر أو السحر الأسود، ولكنه يعمل بالكتب والقرآن، السحر، التنجيم وعلم الحرف، ولديه خُدام،وبإمكانه أن بفعل ما ينوي فعله، قالت:
. فكي علي يَدهُ لاحقة... فكي علي يرَوّب المُوية عديل كدا-
أنا أحد أصدقاء فكي علي، تعجبني حياته البسيطة، ثقته العالية في نفسه وعلمه وفعل يده، رائحة أثوابه وجسده الخليط من الصمغ والوبر وشئ من الجلد المدبوغ، تعطيه مسحة غموض وتؤكد فيما تؤكد تفرده في كل شئ حتى شميم الثوب، لديه فهم للدين، ليس متقدماً أو متخلفاً، ولكنه غريب، وخاصة في مسألة شُرب الخمر والتكليف، حيث يرى أن الناس عند الله ليسو مسلمين وغير مسلمين، ولكن نساءً ورجالاً وأطفالاً، فالأطفال والنساء غير مكلفين بالعبادة لأن لا مكان لهم في موضوع الثواب بالجنة، فالجنة للرجال وحدهم بالتالي عليهم دفع تكلفة ما سيجدونه في الجنة هنا في الدنيا، ويقول في الخمر إنها محرمة على السُفهاء والصعاليك فقط لأنهم يتخذونها لهواً، أما الخيرة والصفوة والمتأدبين من الناس بمن فيهم الحكام والفقهاء و القضاء، فإنها خير جليس لهم. وقال:
-أفكاري دي كلها كلمني بيها ابليس ذاته، ابليس دا كان واحد من الملائكة وأكثرهم
علماً وقرباً من الله، الناس ما تستهين بيهُ.
الكونياك الحبشي ألذ طعماً وليست له آثار اليوم التالي للشُرب من صُداع نصفي مؤلم، حرقان في الحلق أو غثيان، كل ما يفعله بك أنه يجعلك تتبول كثيراً وتتشهى ممارسة الجنس، إذا كنت امرأة أو رجلاً سواء، الأحباش يستوردونه، و يصنعونه أيضاً، أما الإريتريون فإنهم يصنعونه بإمكانيات محلية لا بأس بها في الغالب، أنا أفضل الحبشي.احتفينا عند منتصف النهار، وعند المساء في الحلم جاء إلينا الجنقو، على ظهور حُمر الوحش، تتبعهم أشجار السِمْسِمْ وعيدان قصب الذرة وعلى رؤوسهم تبيض السمبريات والعشُوشَايَاتْ، أخذوا دراسة الجدوى وتركوا لي حميرهم الوحشية، في معية خريف مطير طيني، و شمس حارقة كالنار.
أرجو ملاحظة أنني تجنبت تماماً كل التفاصيل التي ذكرها (هو) لي شخصياً عما وقع بينه والصافية؛ ما عدا تلك التي وافقت ما تحدث به الآخرون، ولكن اعتمادي الأكبر كان على المعلومات التي تدفقت في بيت أداليا دانيال يوم مريستها في سبت مضى عندما أقمت ما يشبه سمناراً أكاديمياً حول ما اُصطُلح على تسميته في تلك النواحي بـحكاية الصافية، وسيُلاحَظ تأثري بالوقائع التي اعتبرها الفكي علي حقائق ثابتة: أولها وأهمها أن الصافية تمتلك عضوين تناسليين، واحد يخص الرجال والآخر يخص النساء، والذي يخص الرجال مكتمل وكبير الحجم ويختفي تحت شعر عانة كثيف وشائك، أما الحقيقة الثانية التي لا يتسامح في شأنها فكي علي هي؛ أن الصافية فعلت بالرجلين فعل الذكر بالأنثى، وأن ذلك مؤكد ولديه دليلان سوف لا يُذكران هنا.
هنالك أيضاً حقيقة يشك الفكي علي قليلاً في صحتها، ولكنه لا ينفيها، ورغم ذلك أنه حلف بجده لأبيه سليمان الزغرات السناري أن يزهق روحه في الحين والآن، أن للصافية بنتاً وولداً من امرأة بازواية تسكن الآن في مشروع دوم، واسمها نِعْمَة مَشَاكِل، وهو يعرفها ويعرف أمها وأباها، وقد رأى البنت والولد بعينيه الكائنتين الآن في رأسه ووجهه، أما فيما يخص تحول الصافية إلى مرفعين إو أسد أو ما شابه ذلك من حيوان فهو جائز، والمسألة عنده تتمحور حول اللبن والمؤكد عنده أن تَيَراب البِنَيّة، يُورث عن طريق لبن الأم المُرضع ثم قاس على ذلك.
إذا نظرنا بدقة إلي حقائق وجوائز وتشككات الفكي علي، ثم قرأناها في إطارها الصحيح، والمقصود بالإطار الصحيح هو قوالات وإفادات ومداخلات وما دار همساً فيما يشبه الندوة في يوم مريسة أداليا دانيال ببيتها، وما تطابق من شهادتي الرجلين اللذين خاضا تجربة واقعية وفعلية مع الصافية مع قوالات وحكايات وحقائق وجوائز وتشككات الناس والفكي علي، وحذفنا من حكايتيهما كل ما شذ عن ذلك مع الإهمال التام والمتعمد لمحكيات الصافية عن نفسها، لأنها سوف لا تقول إلا الجانب المشرف من الحكاية، أي الجانب الذي يجعلها تبدو كضحية لقوى خارقة خارجة عن إرادتها وضحية لبني الإنسان أيضاً. وأنها، كما يُقال اعتمدت على بعض القوالات الدائرة في الحِلة واعتبرتها حقيقة، مما شوش تفكيرها وخلط عليها الواقع بالمتخيل بالحكايات التي صاغها الأهالي سهواً، وأنها.. كما قال الفكي علي الزغراد واصفاً حالها: تشابه عليها البقر.
قبل أن أحكي،حكاية الصافية؛ بالصورة النهائية التي اعتبرها الحقيقة الكاملة فاجأتني أداليا دانيال باعتراف خطير حدث قبل أكثر من ثلاث سنوات، يومها كان الناس في عز الخريف والعمال مشغولون بـكَديب العيش،سوف أحكيه ببعض التصرف عن أداليا: جاء التاجر فلان الفلاني، صاحب أحد المشاريع الكبيرة تخوم زهانة، ولم يكن اليوم يوم مريستي، يوم أحد، طلبت مني الصافية أن أحضر لهما عرقي وعسلية من الحِلة، مشيت لبيت أدّي، وأحضرت لهما كل شئ، وكانا قد أحضرا لحمة من السوق، إلا أنني عتذرت لعدم تمكني من طبخها، لأنني ذاهبة إلي الكنيسة وقد سبقني زوجي وولدي وابنتي إلي هناك، تركتهما يشربان ويطبخان في الراكوبة الكبيرة قُرب اللالوبة، بعد أداء الصلاة في الكنيسة، عدتُ تاركة زوجي بالكنيسة حيث إنه يعمل على خدمة بيت ربُنا إلي ما بعد المغرب أما ابنتي والولد الذي يصغرها بسنتين، هي في الرابع عشر تركتهما والشباب الذين في عمرهما فإنهم غالباً ما يبتكرون برامجاً شيقةً تبقيهم مع بعضهم البعض إلي أن تغيب الشمس، كان بين بيتنا وبين الجيران باباً صغيراً غالباً ما نتركه مفتوحاً ولأن بيت الجيران هو الأقرب للكنيسة، دخلتُ عَبْره، ثم إلى الراكوبة مباشرة حيث وجدت الصافية تعلو جسد الجلابي الأسمر المستكين تحتها المستسلم تماماً، المستلذ، المنكفي على وجهه، صرخت أداليا في دهشة:
-سَجَميْ.
حينها فقط تنبها، وانتزعت الصافية الشئ خاصتها من لحم الجلابي وبدى عليهما خليط من القلق، الحزن، العرم، والخوف الشديد وأخذا في الاعتذار وطلب السُترة.
وعلى الرغم من أن أداليا، حسب إفادتها رفضت المنحة المالية الكبيرة التي دفعها لها الجلابي، إلا أنه أصر وأقسم وحلف بالطلاق وترك لها المال.
قالت أداليا:
- مشوا بيت الأم، الوقت داك ما كانت الصافية عندها بيت محدد، وأنا من اليوم داك عرفت إنو الصافية دا راجل ومرا في نفس الوقت، وعملت حسابي منها.
ولم تخبر أداليا أحداً بهذه القصة غير الفكي علي الزغراد وهو بكل سرية وتحفظ حدّث بها الجميع، أكدت لي أداليا أن شيئها لم يكن طويلاً ولكنه قصير وسمين وأسود ومحشور وسط الصوف، أما الفكي علي فقد وصفه مستخدماً كلمة واحدة فقط
- كبير؟
بالرغم من أنني لا أميل إلي نشر ادعاء صديقي الذي تبجح أمامي ومختار على بالقول إنه أجبر الصافية على حلق شعرها أنه وجدها امرأة كاملة بل وعذراء، وأنه أول رجل في حياتها، إلا أن ذكر تلك الحكاية يفتح أمام الجميع نافذة للفهم والولوج إلى عين الحقيقة، وذلك إذا أضفنا جملته القاطعة:
.أنا نجمتها، مُشْ هي النَجَّمتنِي-
ربما أربك مشروع الصافية هذه مشروع دراسة الجدوى، لأن همّ الناس الآن وقضية ساعتهم هي إدراك حقيقة الصافية والبنك ملحوق، فما زلنا في شهر يناير، ولكن هناك دائماً من يشذ عن القاعدة وعلى رأس هؤلاء الصافية ذاتها، جاءت في وفد من ثلاثة رجال تسأل عن دراسة الجدوى، قلت لهم
. معليش أنا آسف، ما قدرت أكملها، كنت مشغول شوية-
قالت الصافية في جرأة
- في موضوع صاحبك؟
قلت مراوغاً
. في هموم كتيرة، ولكن بكرة الصباح بكون خلصتها-
قالت بصورة حادة وجادة أخافتني وهي تحمّلِقْ في أم عيني بمقلتين حمراوين شرستين.
-أحسن تشوف المواضيع الفيها فايدة، وتسيب القُوالات والصُواطات للشراميط واللوايطة والمعرصين.
وقالت الكلمة الأخيرة بطريقة تعني تماماً أنني من هذه الفئات الثلاث والأخيرة بالأخص.

أبرهيت، الصافية، مختار علي، لام دينق زوج أداليا دانيال، الفكي علي ود الزغراد وأنا، حملنا دراسة الجدوى مكتوبة على ورق فلسكاب نظيف، استبدلناه أكثر من ثلاث مرات حتى يليق بمكانة البنك الراقية، ومضينا.
كان البنك مبنى فخماً متعالياً ومنتفخاً مثل فيل مغرور، على كل كلنا كنا نراه جميلاً وغريباً مطلي بالدهان الأخضر الداكن وهو المبنى الوحيد في تلك النواحي مبنى من طابقين كاملين، واخذ الناس يتجادلون في كيفية الصعود للمدير وماهية السلالم أو المصاعد وكيف أنهم سوف يستخدمونها، وحسم التكهنات ود أمونة الذي عمل مراسلة منذ أيام بالبنك وانتهز فرصة أنه خالِ من مرسال ما لدقائق وأخذ يثرثر مع الجنقو خارج البنك، عن البلاط المزايكو والسلالم الإفرنجية ومعطر الهواء والمكيفات التي تعمل بالكهرباء والماء، وحذرهم بأنهم قد ينزلقون فتنكسر أيديهم أو أرجلهم ولا يُسْتَبَعَدْ أن يفقدوا أعناقهم أيضاً، كانوا يبتسمون في حذر ثم دخل إلى البنك، ثم خرج ليطلب منا دخول الاستقبال، كان كل شئ نظيفاً ولامعاً وطيباً في الداخل، ما عدا الجنقو والذين حاولوا المستطاع أن يأتوا في أبهى ما يمكن، هم الآن الأكثر اتساخاً في المكان الذي عمل على نظافته منذ الساعات الأولى من صباح اليوم ود أمونة ومعه امرأتان غريبتان أتى بهما البنك خصيصاً للنظافة من مدينة الخرطوم، ولأن غريزة موظف البنك تعمل بنشاط عندما يحوم خطر على المال، انتهرنا الكاشير:
هي...... في شنو.... ديل عايزين شنو يا ود أمونة؟! أنا مُش قلت ليك ما تدخل الناس سَاي؟-
قلت له وقد تقدمت نحوه قليلا:ً
. نحن عايزين نقابل مدير البنك-
قال بذات اللهجة الجافة:
عايزين مِنّو شنو؟-
قلت له:
. عندنا موضوع معه-
قال في بجاحة:
عندكم مواعيد ولا لا؟-
قلت:
. لا-
قال:
هل ممكن نعرف الموضوع دا شنو؟-
قلت له بصورة قاطعة:
. لأ.. ما عدا مدير البنك-
قال بخبث:
-المدير عنده اجتماع، انتظروه بره في البرندة أو تحت الشجرة لمّا ينتهي من الاجتماع، ود أمونة حيجي يناديكم. ونظر إلينا محملقاً في وجوهنا منتظراً رد فعل ما، وعندما خرجنا، أحسست به ينتفس الصعداء، ونحن لمّا نمض بعيداً عن الباب سمعنا صوته ينتهر ود أمونة في قسوة، ولكن لم يدم انتظارنا طويلاً في البرندة حتى جاء ود أمونة مرة أخرى، سألنا قائلاً
. موضوعكم لو مكتوب في ورقة؛ المدير قال حيقرأه ويرد عليكم-
قال له الفكي علي:
-إذا عايز يقابلنا، أهلاً وسهلاً، وإذا ما عايز يقابلنا برضو أهلاً وسهلاً.. نحن عايزين نأكله؟! نحن عايزنه في شغل، أمشي قول ليهو الكلام دا يا ود أمونة.
لوى ود أمونة شفتيه في حركة تعني أيضاً أمركم، بالإضافة إلى وأنا مالي، ولكنا فهمنا منها: أنتم ما قدر المكان دا.
وقرأ الفكي ود الزغراد جهراً تعاويذ وأدعية وطواطم بالإضافة إلى سورة قرآنية قصيرة ولم تقف شفتاه ولسانه من التمتمة إلي أن جاء ود أمونة وفي فمه ابتسامة كبيرة جعلت خديه الأملسين يلمعان، وقال:
. اتفضلوا، سيادة المدير عايزكم-
ومضى قدامنا يحرك ردفيه ويديه بصورة بناتية غنجة، ولأننا جميعاً اعتدنا على ذلك لم يثر انتباه أي منا، عندما دخلنا وجدنا شرطيين لم نرهما في المرة السابقة ولا ندري كيف دخلا، وهما معروفان بالنسبة لنا جميعاً، نعرف اسميهما واسمي ابويهما وأميهما واخواتهما وجميع أقربائهما، باختصار الشرطيان من الحِلة، تبادلنا التحايا باقتضاب، وبينما هما مندهشان قليلا،ً صعدنا نحو الأعلى إلي مكتب فسيح تفوح منه رائحة النقود، يتقدمنا ود أمونة مزهواً وهو يدندن بأغنية بنات شائعة.
رحب بنا مدير البنك مدعياً السعادة برؤيتنا معتبراً قدومنا إليه طبيعياً، ولكنا كنا نقرأ ما خلف ذلك بوضوح، كان يريد أن يعرف بسرعة ماذا نريد
. اتفضلوا، مرحباً-
قدمت إليه المجموعة فرداً فرداً، بتمهل، وقفت بعض الشئ عند الفكي علي، مشهود للفكي علي عمايل خير كثيرة، وألمحت إليه تلميحاً أن الفكي علي ود الزغراد بإمكانه أن يضرّ ضرراً بالغاً لمن شاء وقتما شاء وكيفما شاء، تحدثت عن دور البنك كما يفهمه عامة الناس هنا في الحِلة، ثم شرحت له الهدف من الزيارة وأشرت إلى دراسة الجدوى التي أعددتها. ابتسم وهو يسرق النظرات إلى الصافية وهي في ثوبها الجديد ماركة وصتني وصيتا ربما كانت رئتاه تمتلئان الآن بعطرها الرخيص ماركة بت السودان.
قال وهو يحاول ان يكون حاضرا و مركزا
-أدوني دراسة الجدوى، أقراها، وأعرضها على مُدير الاستثمار بعد داك أديكم الرأي، وأنا سعيد بزيارتكم للبنك وأتمنى أنكم تبقوا عملاء لنا دايمين، قالها بطريقة تعني بوضوح والآن اتفضلوا بره.
قالت له الصافية التي يبدو أنها لم تفهم شيئاً مما قال أو أنها الوحيدة التي فهمت
- يعني حتدونا سَلفية تراكتور ودسك ولا لأ؟
قال مبتسماً
. الموضوع يحتاج لدراسة وتحليل مخاطر-
تطوع الفكي الزغراد بشرح ما يرمي إليه مدير البنك للصافية، قائلاً
. يقصد نمشي ونجيهم مرة تانية عشان يدونا رأيهم-
أضاف أبرهيت بعد أن أعلن عن نفسه بتنظيف حنجرته مرتين متتاليتين
. من الأحسن نمشي، الفي القسمة نلقاها-
لم يقُل المدير شيئاً، فقط ابتسم وهو يتسلم مني دراسة الجدوى يقلبها قليلاً بصورة آلية ثم يضعها على صينية الأوراق. ونحن نخرج، همس الفكي علي في أذني
. أنا لو عرفت اسم أمه، حأعمل فيهو عمايل-
ثم أضاف بصوت أكثر وضوحاً
- ود الحايل، يتنهد زي الزول الما كويس.. مرة يقول أعملوا دراسة جدوى، لمّان نعملها يقول أمشوا وتعالوا.
كل مهارات الناس في اصطياد الإشاعات وصنع الأخبار وتقصي الحقائق فشلت في الحصول على معلومات عن مدير البنك، حتى ود أمونة لم يستطع معرفة اسم أمه أو برجه، لولا فكرة أبرهيت ليئسوا
. ألم قِشي-
. أيوا... ألم قِشي-
الموظفون الأغراب يتقوقعون في كبسولة واحدة، يتحصنون بأسلوب وطرائق وأفكار وسبل معيشة رتيبة ومكرورة ولكنها تصبح جيباً مجتمعياً معزولاً عن المواطنين والأهالي، فهذا حصن لا بأس بها ضد الإشاعات والقوالات، ولكنه أيضاً سيظل هشاً في مقابل حكمة ومكر وجمال ورقة وإنسانية وألعاب أية فتاة تثق في نفسها، المغربون أضعف البشر، دائماً ما يتملكهم حنين إلي البيت والأسرة والمرأة أو البنت عندهم في رمز لاستمرار الحياة ودفء المكان، القرويات بالحلة لا يعرفن ذلك، ولكنهن يتصرفن وفقاً لذات الرؤية، فإنهن حين يهبن وحين يعطين ويمنحن ويأخذن ويدعين ويتواضعن، يفعلن ذلك بشرف وكرامة وقدر من ادعاء الخصوصية لا يُستهان به، انهن يقدمن أنموذج الأخت والصديقة والزوجة والحبيبة، وليست الداعرة السوقية المستهلكة أو الانتهازية، إنهن بنات بيوت ومشروعات صغيرة وحالمة لربات بيوت، يجدن فن الحب والعلاقات، أميتهن هي ثروتهن الكبرى، والتي لا تقيم بثمن، ذات الأمية هي مشعل وعيهن الاجتماعي الكبير. ألم قِشي، تعرف هؤلاء البُنيات
حسناً، تمطى الفكي علي، أصبحت الكرة الآن في ملعبه هو بالذات.
اسمه بلال حسن التركي، -
امه نفيسة بت عبد الله.
أولاً جَمّعْ الأرقام المقابلة لكل حرف من حروف الابن والأم، الأسماء الأولى فقط، حدد برج المدير، وباستحضاره للصفات الجسمانية من لون وطول ونوع الشعر، استطاع أن يتتبع نقاط ضعفه بين أبواب وأسطر كتاب شمس المعارف الكبرى، ثم زاوج ما بين علم الحرف والفلك والشجر وما يُعرف بالسحر الأسود، ثم غمس قصبته في الدواية وكتب
لم يبدأ ببسم الله الرحن الرحيم، ولكنه بدأ كهذا:
(براءة من الله ورسوله) كتبها سبع وسبعين مرة، لفها حول عرق يُسمى عرق الهدهد ثم، أدخلها في قطاع من ساق الخروع المنظف جيداً، وجاوز الجميع بظفر طائر السِمبِر الذكر، ثم طلب أن يأخذه رجل نَجِسٌ يقوم بحرقه ويذر رماده في الهواء، يوم الجمعة قبل أذان الصُبح، ومن ثم يقوم الرجل النجس برسم خاتم سليمان مرة واحدة على الأرض.
عندما مرّ أسبوعان على موعد الطمث الشهري لألم قِشي، تأكد لها بما لا يدع مجالاً للشك أنها حَبِلتْ، سررنا لذلك وأخذنا نعد العدة لاستقبال الطفل، ولم يكن همي أنا بالذات نوعه ذكراً أو أنثى، ولكني أريد مخلوقاً صغيراً جميلاً يبقى معنا في البيت ويؤصل لعلاقتي وألم قِشي، ولكن هذا لم يمنع من أن نختار اسماً مسبقاً، فقد اتفقنا على أنه محمد، إذا كان ولداً وأنها القنيش إذا كانت بنتاً، ولم نتفق على اسمي التوأم بعد، لأنها كانت تود أن تطلق عليهما اسمين أكسوميين معقدين، وكنت أريد أن أطلق عليهما اسمين عربيين، اختلفنا فأحلنا النقاش في اسمي التوأم إلى حينه، على كلٍ ألم قِشي تفضل المولد بنتاً وهي ذات الرغبة التي تزوجنا من أجلها، وهي ذاتها التي تجعل لتواصلنا الجسدي معنى ومتعة كبيرة، وكنت لا استطيع مقاومة قولها.
. عليك الله حَملني،عايزة أحمل-
هذه الجملة تشحنني بدفق من الحب والجِدية، وتجعلني ضحية بليدة لسلطة البقاء، فأحبها أكثر.... لقد اكتشفت أن الجنس عندي مرتبط بالإنجاب، لا شئ آخر، المتعة تجيئ مصحوبة بالفكرة، دائماً ما يكون في مخيلتي طفل وأنا على صدر ألم قِشي، كان صديقي يعتبر الجنس واجباً إنسانياً، وهو ضروري لكي يكون هناك إنسان كامل، وهو في حالة الصافية مسألة نفسية بحتة بل مسألة إثبات في المقام الأول.
كنت أقول له دائماً
. إذا لم تكن هناك فكرة خلق، تصبح المسألة نوعاً من اللذة الميكانيكية-
يقول ساخرا:ً
إذن أنت من أنصار قصة حب وراء كل ممارسة جنس؟ -
، ما فائدة الحب بلا أطفال في الخاطر. طفل.... طفل أيضاً-
قال ضاحكاً محاكياً لغة الأفلام المصرية:
. دا إنت رومانسي أوي-
نشأت بيني وألم قِشي علاقة حب قوية، عرفت ذلك من القوالات والاشاعات وما يشبه الندوات في بيوت الفداديات، وأظن أن ألم قِشي هي الأخرى تلمست ذلك، ولقد قيل لي علانية في بيت خدوم يوم الاثنين الماضي.
. الزولة دي بتحبك، وإنت عارف حُب الحَبش، تموت وتحيا معاك، مبروك ليك-
ولقد قالوا لها هي أيضا، وحدثتني قائلة
قالوا لي إنت سويتي للراجل دا شنو؟ -
بذلك أكون قد وقعت في الحُبْ لأول مرة في حياتي إذا صدق الناس فيما يقولون، أما إذا لم يصدقوا، فتظل العلاقة بيني وبينها تحتاج لتعريف، ولو أنها تمتلك آلية استمرارها، لا يهم المسمى أو التعريف، طالما كانت الطفلة أو الطفل يلوح بأنامله من داخل جسدينا ورغبتنا ولمساتنا من عمق قلبينا، في ذاتنا يقهقه. لقد تنبأ لنا الفكي علي بحياة زوجية طويلة وأطفال كُثر، والفكي علي رجل صالح، من أحفاد رجل من رجال الله اسمه سليمان الزغرات، ظهر لأول مرة ولآخر مرة في كتاب الطبقات لود ضيف الله.أما الفكي علي الزغراد فيعتبر الزغرات الذي ذكر في كتاب ود ضيف الله زغرات مشوه، لأن جده سليمان الطوالي ما كان يعمل بَابَكُولاً للمَرَاسَةِ، ولكنه كان أحد تلامذة الشيخ محمد الهميم جاء إليه من دار قِمر بأقصى غرب السودان، وكان جده فكي قاطع، باستطاعته أن يَرَوِّب الماء، أما إذا زغرت، فما من مُغلق إلا انفتح، ولا مشبوك إلا انحل ولا غائب إلا عاد، ولا بعيد إلا قرب، ولا عصية إلا طاعت، ولا كربة إلا فُرجت.
في هذه البلاد يؤمن الناس بالله ورسله، بملائكته وشياطينه، جنباً إلى جنب مع الفكي الزغراد، لذا كانت تنبؤاته حقائق مستقبلية وكشوفات ربانية، وربما هذا ما أعطى لحياتنا قدراً كبيراً من الاستقرار، خاصة من جانب ألم قِشي لأن إيمانها بالفكي الزغراد غير مشروط. أما أنا، فكنت أفكر في الفكي علي الزغراد كشخص يمتلك مهارات لا تخفى في الإقناع، يعمل في منطقة مكشوفة من وعي مجتمع الحِلة، وله القدرة على التأثير في الآخرين وارجع ذلك لإمكانات دنيوية مادية بحتة، وهنا تكمن عظمة هذا الرجل النظيف النحيف الذكي الذي تفوح منه دائماً رائحة الصمغ العربي، وهو يفهم رأيي فيه ويحترمه وإن كان يرى في نفسه أنه يمتلك قوة روحية، وأن له خدماً من الجن ويحتفي بعلمه ومعرفته بأسرار النبات وعلم الحرف والكف والوجه وفتح الكتاب، ويقول إنه فوق ذلك كله أو لذلك كله أنه من بيت النُبوة وأنه من الأشراف.
سألته ذات مرة
من هم الأشراف؟ -
قال لي
. هم القرشيون عشيرة النبي-
قلت له
ولكن القبائل العربية الهاجرت للسودان كانت من جُهينة؟ -
قال مبتسماً
وعلي رضي الله عنهما. نحن أولاد الحسن و الحُسين أولاد فاطمة-
قلت له
. نعم... نعم-
وكان يدور في رأسي استشهاد الشابين أحدهما بيد يزيد ابن معاوية والآخر بيد معاوية ابن أبي سفيان نفسه، في أزمنة غابرة بالجزيرة العربية والشام، أم أن البقر تشابه عليّ؟



عبد العزيز بركة ساكن غير متصل   رد مع اقتباس