عرض مشاركة واحدة
قديم 17-09-2006, 06:31 PM   #[23]
عبد العزيز بركة ساكن
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية عبد العزيز بركة ساكن
 
افتراضي

أكد لي أن


أكد لي أن مشروع الصافية بالنسبة إليه لم ينته بعد، أنه قرر أن يخوض المعركة إلي النهاية ، لم يكن تصريحه هذا غريباً فأنا أعرفه ، ما يزيد عن الثلاثين عاماً من الصحبة والقراءة المشتركة ، السفر ،العمل والعطالة، سيكون تصريحاً غريباً إذا قال: إنه تنازل عن مشروع الصافية أو خاف ...
قال بثقة مفرطة ..
أحلل وضع الصافية كما يلي :
امرأة عندما تثار جنسياً ينمو الصوف في جسدها ...... تطول أظافرها وأذنيها ، تتحول ملامح وجهها إلي ما يشبه الذئب أو الأسد أو قل القرد ... تهاجم العشيق فيهرب .
ماذا لو انتظر أحدهم الأمر إلي نهايته ، دعونا نفكر في هذا الوضع ، دعونا نفكر كيف نتعامل معها ، يجب أن لا نتركها هكذا تعاني وحدها هذه الأزمة الإنسانية الفريدة، قلت له ناصحاً.. أعلم أنه لايُنصح،
_ أتمني إنك ماترمي نفسك في موضوع معقد زي دا.
قال ..
_ تقصد أتطفل ؟!
قلت ضاحكاً
_ تماماً ..
قال،
_ وجودنا أنا وإنت في مجتمع " الحلة " مش تطفل ؟!
عندنا شنو هنا .. غير ناس مطرودين من وزارة الصحة للصالح العام، كلنا متطفلين علي بلد من بلاد الله ... وناس من ناس الله ...
فهمت فيما فهمت أنه يعني أننا طالما تطفلنا علي المكان فنحن أيضاً تطفلنا علي الإنسان ... وعنده الأمر سَيِّان،
كان دائماً ما يقول: إنه يجب أن يترك أثراً واضحاً أينما ذهب، وأن يدهش ... وهذا الأثر .. وهذه الدهشة لا يتأتيان مالم يفعل ما لا يستطيع العامة فعله ...يختصر ذلك قائلاً،
"إركب الصعب "
أينما حللنا ،كان يبحث عن الصعب ، الصعب فقط ، يبحث عن أغربة الناس في المجتمع ، في كل شئ كان يتصيد السؤال، ولايخشي التهلكة بل يرمي بنفسه فيها رمياً ...
قلت له،
_ ألم قشي وافقت .
قال،
_ نسوقها معانا للشركة .
أكلنا طعاما طبخه مختار علي، من اللوبيا البيضاء "والفرندو" "بالشرموط"
اشترينا "إنجيرا " من بيت الأم ، كان مختار علي دائماً يحتفظ بمخزون من الدليخ في قطيته ، حضرت ألم قشي وضعت لنا القهوة بالجنزبيل والهبهان ، ثم ذهبنا الثلاثة إلي مقر الشركة جوار زريبة المحاصيل، حيث وجدنا العمال مجتهدين في إنشاءآت المؤسسة ، لكنا استطعنا لقاء المدير ، كان رجلاً قصيراً نحيفاً مبتسماً قليل الكلام، مرحاباً مضيافاً ، أنيقاً بعينيه حَول بسيط ، شكرنا كثيراً، و اعتبر قدوم ألم قشي إلي الميس في هذا الوقت، عملاً إنسانياً، بل وتنمويا، كبيراً - إننا نحتاج إلي شخص يحمل عنا عبء بطوننا ،
قال،
_ الشغل عزلنا من المجتمع ...
لكني أحسست بمسحة غبشاء من الاحباط تعتري وجهه، وهو يرحب بألم قشي، ويكيل لنا ولها الشكر ، قالت لي ألم قشي فيما بعد،
_ كانوا ينتظرون فتاة صغيرة العمر .. علي الأقل أجمل مني ..... قليلاً ،
أضافت، بالتجرنة،
_ حيقتنعوا إنو أنا أجمل امرأة في الدنيا،
قلت لصديقي ،
_ ربما كانوا يريدون ملكة جمال في هذه البقعة النائية من الأرض ... الفقيرة المهمشة التي نشأت أصلاً من المطاريد .
تركنا ألم قشي هناك ترتب أمر وظيفتها الجديدة وعدنا أدراجنا إلي السوق ، الساعة تشير إلي منتصف النهار ،عمال البنك يعملون بجد ونشاط ، سيدرك البنك الموسم الزراعي القادم ويشاع أن هذا البنك سيغير خارطة الثروة وعلاقات الانتاج في المنطقة، لصالح محدودي الدخل، ضعفاء المزراعين والفقراء أيضاً، سوف يقدم قروضاً وسلفيات غير ربوية لكل منتج ...
يبدو أن الأمر لم يكن إشاعة ، لكن المحاضر الذي أوفده البنك يوم جمعةٍ لاتنسي، قال كل ذلك ، تحدث باستفاضة عن السَلم ،المبايعة و المشاركة وأصَّل لذلك بآيات وأحاديث وشهادات فقهاء وفتاوي ، لم يفهم العامة شيئاً كثيراً مما قال ، لكنهم فهموا المهم، الذي يخصهم من الموضوع وهو : هنالك سلفيات لصغار المزراعين ومشروعات صغيرة لمحدودي الدخل: ودا كلو بدون ربا ... والعياذ بالله من الربا ... الشئ الذي يجب أن يؤكد هنا أن الجنقو غيرهم من المواطنين فهموا أن لهم حق لا يسقط من مال البنك ... إنما جاء هذا البنك تأكيداً علي شرع الله و حتي لا يكون المال دولةً بين الأغنياء، كل هذا تفوه به مندوب البنك ولم يجتهد الناس كثيراً في التاويل.
بذلك قدمت المحلية أرضاً بدون مقابل، لكي ينشا عليها البنك ، تم استخدام وابور المحلية لنقل الحجارة والرمل والسفاية من الشاطئ إلي موقع المنشأة ، لم يتبرم أحد، بل يحس الجميع بالتقصير حيال البنك، الذي هو بمثابة خاتم المُني ومهدي المكان .
شربنا كركدي عند عزيزة أتيم الزغاوية، كان يجلس قربنا إثنان من السماسرة ، يتحدثان عن سعر أردب السمسم المنخفض في هذا الموسم، مع الانتاج الشحيح له ، يتعجبون .. لأنهم يرون أن إنخفاض إنتاجية السمسم تؤدي مباشرة إلي إرتفاع سعره ، الشئ الذي لم يحدث الآن،
_ دا آخر أسبوع لحصاد السمسم، تاني ما تبقي الحتة ،لكن الآخر كان متفائلاً لأن شركة السمسم لم تدخل السوق لشراء متطلباتها السنوية للتصدير....
_ وحيرتفع سعر السمسم أضعاف سعره في السنة الفاتت ...
وهنا تدخل صديقي قائلاً ،
_ السبب إنتاج الفول .. الفول السوداني وبرضو عباد الشمس ....
وطرح من رأسه أرقاماً مدهشة لمنتوج الفول السوداني وعباد الشمس في هذا الموسم ثم تحدث عن سعر رطل الزيت الذي أصبح خمسمائة جنيه، وسوف ينخفض أكثر وربط ذلك بالمستخدم من السمسم في زيت الطعام والحلوي، كيف أن الفول السوداني الرخيص حل محله، وزيت عباد الشمس النقي الصحي منخفض الثمن المفضل لدي المصدرين، أصبح كبيراً ثم أسهب في الحديث عما أسماه ب:
مستقبل إنتاج السمسم في السودان ..و فضيحة السمسم المختلط بالمبيد،
هل سيصبح كمستقبل إنتاج القطن والصمغ العربي ؟!
نظر إليه بإستغراب ،ولكن أحدهم أضاف
_ كلامك دا معقول لحدٍ ما ... ولكن هنا الحقيقة في شركة السمسم ....
_ كيف ..
_ مش حتشتري السمسم إلا لمن السوق يتملي ويصبح التجار محتاجين لقروش العمال وخاصة التجار الصغار نفسياتهم تقع في الواطا والواحد يكون عايز التخارجوا من وأصحاب الدين ، تجي الشركة وتشتري بأقل سعر .
وقطع الحوار صوت أبواق سيارات ونهيق باربارات ولاندروفرات مختلط بزغاريد نساء وصبايا ، غناء وجلبة ، ثم عم المكان الغبار المختلق من رفس إطارات السيارات علي الأرض .... قالت عزيزة الزغاوية،
_ دا زمن عِرسْ .... لسع الحصاد ما إنتهي !
قال لها أحد السماسر ،
_ العريس إنت قايلاو منو ؟! دا محمد عوض، سواق باربارة البرناوي ، ديل بيعرسوا في أي وقت طالما الخريف إنتهي وأنفتحت الشوارع ..... دي الزوجة الثالثة .....
السيرة مكونة من عشرين باربارا ، خمسة لاندرفورات، بص همدائيت، بص الشواك ، لوري الحفيرة ثم تراكتور بمقطورة تابع لأحد تجار زهانة،
_ أبشروا .. أبشروا ... أبشروا ....
قال أحد السماسرة ...
_ إتزوج من الفلاشا ...
قلت مندهشاً ،
_ الفلاشا ؟!
قال،
_ أيوا ..... فلاشاوية .... وقالوا الفلاشا ديل يهود ... الكلام دا صاح ....
قال جملته الأخيرة منتظراً إجابة مني ....
سألته ...
_ ولكن هنا في فلاشا ..
قال
_ أسرة واحدة هي أسرة أبرهيت ولدو إسحق،
قالت عزيزة الزغاوية،
_ ولكن أبرهيت دا مسلم .... قاعد يمشي صلاة الجمعة ...
قال لها السمسار الآخر ..
_ اليهود فيهم المسلم وفيهم الكافر زيهم زي الجن ... فيهو المسلم وفيهو الكافر ... ثم أضاف ..
وفي مسلمين يهود عديل كدا ... الناس المابيصلوا ولابيصوموا ديل شنو ؟!
همس صاحبي في أذني ، الذي كان يتتبع النقاش في إنتباه كبير،
_ لازم نزور أسرة أبرهيت اليهودي دا .... أنا عايز أعرف عن الفلاشا .... وكنت أتمني أشوف واحد منهم وأناقشه ...
قلت له،
_ أنا ما حامشي معاك ، كفاية العملية العملتها في الكنيسة الأسبوع الماضي مع الأم بخيتة
قال محتجاً،
_ عملتها أنا ولا عملتها الأم بخيتة بنفسها، أنا كنت عايز أقيم معاها حوار موضوعه الأديان، قصدي شريف جداً ، لكن الأم بخيتة ما فهمتني، أعتبرتني مخرب ... هي عايزة تتحاور معاي كمسلم وأنا عايز أتحاور معاها كإنسان يتبني كل التراث الروحي للبشرية .... بما فيه الدين المسيحي نفسه وكما تكلم زرادشت للفيلسوف نيتشة، الأسفار الخمس لبوذا و كتاب الكماسترا و غيرها، قلت له،
_ أنت طريقتك في تناول المواضيع هي المشكلة وليست المشكلة هي المواضيع أو نواياك ...
وخوفاً من أن يقال أني تركته في محنة جديدة وحده ، ذهبت معه ... وأعجبت بالطريقة الذكية التي حسم بها أبرهيت الفلاشاوي الحوار ، في هدوء ورباطة جأش وكأنه كان يعد الإجابة منذ ولد قبل ستين عاماً، و أنه أجري عليها تجارب كثيرة في شتي صنوف البشر للتأكد من صلاحيتها قبل أن يتبناها أخيراً كإجابة نموذجية تصلح رداً شافياً كافياً لكل المتطفلين والمتحشرين والمتسكعين الكسالى الذين لا هم لديهم سوي البحث عن الغوامض، مثيري الأسئلة والمتشككين ضعيفي الإيمان والمتطرفين .... قال بصوت واضح
_ أنا مسلم ... " تفحص وجهينا وأبتسم ابتسامة بُنية قبل أن يواصل ".
وأشهد أن لا إله إلا الله ،وأن محمدا ً رسول الله ،صلي الله عليه وسلم ،وأقيم الصلاة وآتي الزكاة وأصوم رمضان ، أحج البيت إذا أستطعت إليه سبيلاً ...ثم أضاف في برود .
_ يلا .. مع السلامة .
****



عبد العزيز بركة ساكن غير متصل   رد مع اقتباس