عرض مشاركة واحدة
قديم 23-11-2008, 12:39 PM   #[56]
عبد العزيز بركة ساكن
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية عبد العزيز بركة ساكن
 
افتراضي ثَوَرَةُ ألمْ قِشِي


ثَوَرَةُ ألمْ قِشِي.

أرسل ليّ ود أمونة مع أحد الجنقو رسالة شفاهية، فهمت منها، أن ألم قشي مريضة، و علي أن أحضر بأسرع ما يمكن، فرتبت أمر التاية مع مختار علي، و ركبت لواري همدائيت الصباحية، إلي الحِلة.
وجدته وود أمونة في المنزل، كانا يتناولان القهوة،بدت ليّ شاحبة بعض الشيء، ولكنها كعادتها دائما جميلة و مبتسمة، ولكني أيضا لاحظت خيبة أمل ما في وجهها، وكأنها ما كانت تتوقع حضوري، ذهب ود امونة لغرض ما أو ليتركنا منفردين، أخبرتني بأنها ما كانت ترغب في أن تخبرني بأنها مريضة، و أن ود أمونة قد تصرف بدون استشارتها، ثم أخذت تتحدث بصورة عدوانية لم أعهدها فيها، ثم فاجأتني قائلة
- أنا أجهضت، قبل يومين..عمر خمسة شهور.
في الحقيقة صُدِمتُ تمامً،وهذا هو الشيء الوحيد الذي لم يطرق على بالي إطلاقاً، و أحسست بألم بالغ في معدتي، و شعرت بالفشل، بفشلٍ مرٍ وبليد، لم استطع أن أقول شيئا سوى أن أبحلق في بَطِنها، و كأنها ليست سوى خدعة حبشية خشنة،وكأنما الطفل ما يزال هنالك، كان العالم يموت تدريجيا في ناظرى، كلما مرت الثوان ولم تتراجع ألم قشي من خدعتها، كنت انتظرها أن تتراجع.
أضافت في حِدةٍ: لقد إنتهى كل شيء بيناتنا.
تمنيت لو كنت في حلم، و أن مايجري الآن ليس سوى كابوس لئيم، ألم قشي التي أمامي هي ليست ألم قشي زوجتي و حبيبتي، قالت لي مرة أخرى، بذات اللغة
- كل واحد مننا حيمشي في سكته.
سألتها ماذا تعني بذلك، أكدت لي أنها لا ترغب فيّ بعد اليوم، مما تأكد ليّ أن ألم قشي قد أُصيبت بمس من الجنون،قلت لها أنني أحبها و سوف لن أتركها، أبداً، و أنني زوجها الشرعي و حبيبها أيضاً، و إنها سوف تنجب مني طفلاً آخر، وإذا كان يؤلمها الإجهاض فإنه يؤلمني أكثر، و أحتضنتها،ولكنها كانت جامدة كالصخر، تكرر، في آلية مؤلمة.
- إنتهى.....إنتهى كل شيء.
قلت لنفسي لأتركنها الآن، تتخطى الصدمة،يوم يومين و تعود المياه ألى مجاريها كما يقولون، ولكني كنت قلقاً و متردداً وتائهاً، فلم أستطع أن أصبر على رأي، فبحثت عن ود أمونة، ووجدته سريعاً كما هي العادة، حيث يُقال أن ود أمونة يُوجد حيث تَريد،تناقشنا في شأن ألم قشي، وقال لي أن هذه هي أفكارها منذ ان أجهضت، وقال لي أن الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يجعلها تتراجع هي أديّ، فعليّ بها، و حكينا أنا وود أمونة كل شيء لأديّ، تعاطفت أدي معي أو معنا، و كانت قد ساعدتها و هي تعاني آلام الإجهاض من قبل، وهي أيضا تعرف الكثير عن ألم قشي، شعابها و تقلباتها، و طلبت منا أنا وود أمونة أن نذهب نتمشى أينما شئنا و أن نأتي يعد ساعة من الزمان، تريد أن تتحدث مع ألم قشي في إنفراد.
تغيرت ألم قشى للأحسن قليلا، و تراجعت أيضاً قليلا، و قبلت بي كذلك قليلاً، بعد أن انفردت بها أديّ، ولكن ظلت العلاقة بيني وألم قشي في توتر متزايد، لم يكن لأحدنا يد في أن يُجْهَضُ الطفل.. كنا نولي حملها الأولوية في التفكير.. لم تحملني مسؤولية الإجهاض ولم أفعل أنا، لم ألومها.. ولكنها كانت تتصرف بصورة غريبة وعداونية تجاهي.. أنا لا أتحدث عن العض والرفس وتعمد تلويث ملا بسي بالأوساخ، ولكنها كانت تشين بسمعتي بين الناس متهمة إياي باستغلالها وسرقة ذهبها ومالها.. قال لي الفكي على الزغراد : دا مس من الجنون. -
لكن أدي كانت دائماً ما تطلب مني أن أصبر، ولكنها لم تخف قلقها بأنه ربما قد قام بعض الحاسدين بكتابتها، و الناس هنا قد يفعلون ما هو أسوأ. و قلت لنفسي ربما أن ألم قشي تعاني من إحباط حاد، أصابها نتيجة للإجهاض، من يدري؟، و قررت أن آخذها إلى الخرطوم لمستشفي تجاني الماحي بأمدرمان، المهم تشعبت بي طُرق التفكير و الأحزان، و افتقدت صديقي، ربما أسعفني بحل دونكشوطي مجنون.
من جانبي فعلت كلما استطيع فعله دون فائدة وكان خط دفاعي الأخير هو أن تحبل الم قشي مرة بأخرى حِبلاً ناجحاً وأن تنجب أطفالاً، فكنت أحبها حقا وليست لدي الرغبة في أن أتركها تشق دروب أخرى في هذه البلدة الصعبة، هنا النساء أما أن يعملن كجنقوجورايات، صانعات خمور بلدية، أن يدعرن أو يمارسن أكثر من مهنة في وقت واحد، وكلها لا تجدي مع ألم قشي، قبل أن تتزوج كنت أراها تنفع لذلك كله، حتى العهر ولقد مارست معها ذلك، وكانت تعجبني كداعرة، أو بغي تعرف كيف تقدم متعة الشئ للرفيق. وكنت أعرف أنها في وقت ما عملت كصانعة للعرق وعملت كجنقوجوراية في أكثر من موسم، ولكنني الآن أراها بريئة هشة بل خجولة لا تعرف ماذا تريد أن تفعل، أراها طَفَلة لا تنفع في عمل شئ، أماً مسكينة تتقطع بها سُبل الحياة، إذا تركتها يعني ذلك نهايتها تماماً وأحسست أنها تلعب على نقطة الضعف هذه..
أقمت خمسين يوما معها في البيت بالحلة،كنا بين بين، تبدو طبيعية أحاينا و تجن في كثير من الأحايين، ولكن كانت تتملكها رغبة و حَشية في أن تحبل، قضيت شهرًا مجنونا متناقضاً، مؤلماً، ولو أنه لا يخلو تماماً من الإمتاع، ثم أستأذنتها في العودة إلي المشروع، وبقيت مع ود أمونة و أدي.
بعد شهر واحد فقط، أرسل ليّ ود أمونة رسالة شفهية مع أحد الجنقو فهمت منها ما يلي: إن ألم قِشي حُبلى مرة أخري، لأنها لم تحض هذا الشهر، و الشيء الآخر إذا لم أحضر بسرعة فإنها سوف تسافر إلى همدائييت لزوجها السابق، فهي ترغب في العودة إليه. طبعاً أول ما خطر في بالي أن ألم قشي قد جُنت بالفعل في هذه المرة، و الحل الوحيد هو أخذها إلي الخرطوم بأسرع ما يمكن، ورتبت أمري مع مختار عليْ علىَ ذلك، و أن يستعد على خوض معركة بقية الموسم و حده، و تركت له ما يكفيه من طعام و مال و رجالٍ، و ركبت بص همدائييت مرة أخرى إلى الحِلة..
حكي لي ود أمونة الذي قابلني في موقف السيارات بسوق الحِلة، فور وصولي، بكل شيء بالتفصيل الممل، و قال لولا أدي وهو؛ لذهبت ألم قشي إلى همدائيت، و أكد لي أنها ليست بمجنونة،بل هي بكامل وعيها، وعلي أن أتعامل مع الموضوع بحكمة. كانت قد استقرت على رأي واحد؛ وهو أنه سوف تذهب إلي همدائيت، وعليّ أن أطلّقها، لأنها تريد أن تعود إلي والد بنتيها،وقالت ليّ أنها أرسلت له بهذا الشأن وقَبِل الفكرة و إنه الآن في انتظارها، وقالت مؤكدة
-اذا رفضت برضو حامشي ليهو في همدائييت..
قلت لها:
-ولكنك حامل !!
قالت بكل ببرود:
- لمّان أِلدْ حَ أرسل ليك جناك هنا..
طبعا اقتنع الجميع أن الأمر به يد شيطانية، وأن الحاسدين فعلوا فعلهم مع الفُكَيَاِ، وأتهم البعض الفكي على الزغراد نفسه، ولكن على الزغراد حلف بالنبي وبالشيخ محمد الهميم وبالطلاق وبجده الشيخ سليمان الزغراد، أن لا يد له في الأمر، وأكد أن الأمر جنون واذا قبلت فانه سيقوم بعلاجها، ولكنها رفضت مدعية بأنها متعافية وأن الآخرين هم ا لمجانين طلبت منها أن تخبرني بالسبب الذي جعلها تتخذ هذا القرار، قالت السبب هو أنها تريد أب طفلاتها، و تريد ان تعيش مع بناتها، و لا شيء غير ذلك.
قلت لها: وأنا.
قالت إن النساء كثيرات، اختار منهن التي تعجبك، كما إن الأمر ليس من شأنها.
كُوِّن فريق سريع " للجودية " به ناس الحل والربط، رجال ونساء لَهُنّْ و لَهُم كلمتهم في المكان.. تحدثوا عن العلائق الزوجية والإجتماعية، وتحدثوا عن الشيطان واولاد الحرام و بنات الحرام، والحسد وأيضاً تكلموا عن القِسمة، التي من صفاتها أن تنتهي.. قالت
-أنا عايزه أرجع لأبو بناتي..
- لكنك متزوجة ؟..
-عايزه يطلقني..
-أنا مش حأطلقك.. أنت حامل.. ألدي أولاً..
قالت..
-أنا حامل لمّان ألد حارسل ليهو الجنا.. لو ما... وقع زي أخوه..!!
وتجادلنا في حوار يبعد أو يقرب من هذا النسق.. كنت لا أرى فيها غير شخصٍ مجنونٍ لا يعرف ماذا يُريد بالضبط، لا منطق له، بامكاني أن أطلقها إذا كنت قد اقتنعت بأن الطلاق هو رغبتها الحقيقية وليست نتاج مرض نفسي أو جنون.. ولو أن فريق الجودية اندهش لرأيي الأخير إلا أنني أرجعت ذلك لعدم مقدرتهم على فهم وجهة نظري قلت لهم
-أنا حأخليها تمش همدائييت وتبقى مع بناتها..
قالوا:
- أبو بناتها هناك.
قلت:
- هو عارف انها غير مطلقة ومتزوجة والأمر متروك للإثنين هو وهي..
- لكنها في عصمتك.
- دا موضوع تاني.. يحسمه القانون..
واختلف الناس اختلافا كبيراً، فظهر في السطح ما سُمي ب "حكاية ألم قشي ".. وتدخل في الأمر مدير شركة الإتصالات والقاضي المقيم ومدير المحلية ونفر من رجال الخير والبركة وأجبروا ألم قشي على عدم الذهاب إلى همدائييت وأُلزمتُ أنا بعدم العيش معها في المنزل، أن أسكن كما كنت عازبا مع مختار على إلى أن تُحل المُشكلة، وكان هذا شرطها هي.. أنا وافقت.. هي أيضا وافقت على مضض..
تركتها في المنزل الذي أعطتنا إياه أديّ، على أمل أن استفيد من هذه الهُدنة في عِلاجها وقررت أن أبدأ مشوار العلاج من همدائييت.. أن أذهب لزوجها وأطفالها واستشيرهم في الأمر.. وكنت حقيقة آمل أن يساعد زوجها في الحل..
صحبتُ ود أمونة، لأنه أبدى رغبة كبيرة في أن يذهب معي، و كنت حقيقة إحتاج إليه، هو شخص أصغر مني عُمراً، و لكني إعترف أنه أكثر مني نُضجاً إجتماعياً،وركبنا بص همدائييت، وهو عبارة عن شَاحِنة "لوري" تمت إعادة تصنيعها لتصبح ناقلة للمواطنين.. له مقاعد ضيقة من الحديد الصلب، ونوافذ حديد، مشرعة صيفاً خريفاً وشتاءً.. يحمل المواطنين في بطنه وظهره ويمين وشمال السائق، منطلقاً على الأرض الخراب، قافزا فوق الحفر والخيران مثل ثعلب عجوز يهرب من قَرَدَةٍ، كان زئيره يُسمع من مسافات شاسعة عبر أشجار السافنا الفقيرة، تصتنت له الأرانب والفئران و القردة معاً والمواطنون الذين في التايات البعيدة المنتشرة في عمق المشاريع الزراعية يكدحون.
وينبه من يريد السفر إلى الجيرة، الحفيرة، همدائييت أو الحلال التي تقع على جانب الطريق أن ينتظره في طريقه الوحيد، الذي يتلوى كثعبان عبر غَابة زهانة، بين أشجار الطلح والكِتِرْ، ويعلو دخانه كثيفاً خاصة في هذه الأيام، حيث الأرض لينة وتنتشر البرك الطينية ويكثر الوحل.. كان الجميع يتحدثون عن الخريف والمطر والزراعة المبكرة وغيرها من المواضيع الحيوية ولا أدري لماذا كنت أنا افكر في الصافية ولماذا في الحقيقة في لا وعيي كنت دائماً ما اعقد مقارنة ما بين ألم قِشي والصافية والفرق ليس كبيراً ما بين المرأتين..
ألم قشي تجد نفسها تقوم بأفعال وأقوال لا تعبر عنها في واقع الأمر.. قد تكون حالة مرضية وقد تعني هي ذلك. الصافية وذلك حسب النتائج التي خرج بها ما يشبه المؤتمر في بيت أداليا دانيال الصيف الماضي.. لها شخصيتان، شخصية ظاهرة وهي الشخصية التي نعايشها يومياً، وهي الغالبة وشخصية أخرى تظهر للأعيان إذا أثيرت عاطفياً فقط، لأنها في لحظات الغضب لا يبدو عليها أية تحولات شاذة أو غريبة..
للمرأتين شخصيتان، إذا صَحّ أن نُطلق على الصافية لقب امرأه.. إلا إذا أخذنا بإفادة الرجلين وافادة الصافية نفسها، فان الأمر يختلف قليلاً،حدثني ود أمونة، وهو في الحقيقة نادرا ما يصمت، عن شيء لم يخبر به أحداً من قبل، وهو مشكلته مع صديقي،قال إن صديقي إنفرد به ذات يوم، بعد ما حدث بينه و الصافية، و قال له إنه يريد أن يتحدث معه في موضوع، و لكن بصراحة ووضوح، و يريد أن يسأله بعض الأسئلة، و عندما أبدى له الموافقة، بادره سائلاً
- هل إنت شاذ جنسياً؟
قال ود أمونة، قلت له: لأ.
قال لي محتجاً.
- كويس؛ حدد موقفك، لأنك غير معروف بالنسبة للناس كلهم: إنت مرا و لا راجل.
قال، قلت له محاولاً إغاظته
- أنا لا مرا ولا راجل، بعمل عمل النُسوان و بعمل عمل الرُجال! يعني أنا مرا و راجل!!! ثمّ قلتُ له ما كان يقوله لي أحد أصحابي في القضارف: أنا وكسي مابين وَلَدْ وجكسي.
قال محتارا:ً
- وضح أكثر، شُنُو عمل النُسوان و شُنُو عمل الرجال، شُنُو وكسي و شُنُو جكسي؟
قال ود أمونة، قلت له: إنت جاهز لعمل النسوان أم عمل الرجال؟ عشان أشرح ليك عملياً.
وفجأة صمت ود أمونة عن الحكي، لأن البص توقف فجأة، بصورة دفعت جميع الركاب إلى الأمام، وكنا سنطلق السباب للسائق ونشتم أمه و أباه، لولا أننا شاهدنا الرجال الملثمين الذين أحاطوا بالبص في سرعة البرق.. وهتف صوت جهوري يعرفه الجميع..
-أنزلوا واحدْ واحدْ.. بدون كلام وبالصف.. النسوان يقعدو قَبَلِنْ وبرضو الأطفال.. كل راجل ينزل شنطتو معاو..
نزلنا جميعاً، كانت هنالك شجرة ضخمة وضعت في طريق البص، مع مضب ضيقٍ في الطريق، رغم أنهم ملثمون إلا أننا عرفنا الرجال جميعاً، ولكن هنالك أفراد يحملون بنادق رشاشة يقفون بعيدا،ً يشكلون حماية لأصحابهم لم نتبين من أمرهم شيئاً، وكنا نعرف أنه يجب علينا الإدعاء بعدم معرفة الناهبين، وأن نطيع وأن نعطي وألا نثرثر وأن نخفض رؤوسنا وأن لا تلتقي أعيننا بأعينهم أبداً.
قال رجل نعرفه باسم طه كوكو
- نحنا عايزين من كل راجل نصف القروش المعاو.. وعايزين من سَواق اللوري كل القروش المعاو، والقروش بتاعت التاجر آدم إدريس البلالاوي المرسلنها ليهُ من القضارف.. بسرعة..
ونفذنا الأوامر في سرعة رهيبة، قال ويبدو أنه هو المتحدث باسم المجموعة
- نحنا ما شِفْتا.. نحنا ناس مظلمومون وعايزين حقنا.. تاني ما ح نشتغل عبيد للتجار والـــ... حنقلع حقنا قلع.. كلموا التجار.
تَمّ أخذا المال، ثُمّ سُحِبَت الشجرة، تم اطلاق سراحنا، اختفوا في الغابة بل تلاشوا كانهم ما كانوا..
قال لي ود أمونة بعدما ذهب المسلحون:
- ما قلت ليك، ما تثق في زول ولا تشيل قروش كتيرة معاك. شايف صاحبك الشايقي؟؟؟
هنالك ملحوظة مهمة، وهي أن الجنقو كانوا جميعاً مسلحين برشاشات كلاشنكوف، وأنّ عددهم ما لا يقل عن العشرين شخصاً، وأنّ بعضهم يرتدي ملابساً وأحذيةً عسكريةً تخص جيش الحكومة.. لكن الأهم، أنهم كانوا مطمئنين تماماً ويعملون بترو وليست هنالك أي علامة للإرتباك أو العجلة، وتاكدت صِحة المعلومات التي تداولناها فيما بيننا بالبص، عندما وصلنا همدائييت.. كان الناس جميعاً يتحدثون عن الدورية الحكومية التي اختفت علناً بالأمس وعن تمرد الجنقو الغريب، لم أهتم كثيراً بأمر الجنقو.. سألته عن أبناء ألم قِشي وزوجها السابق، فهو خبير بالأمكنة كلها، بكل يسر وسهولة قادني ود أمونة إلى البيت.. كانوا يقيمون مع جدهم، وهو رجل عجوز ثري كثير الكلام، البنت الكبرى جميلة تشبه والدتها ولو أنها كانت فارعة القوام، الصغيرة أيضاً تشبه والدتها، كانتا جميلتين و رقيقتين، أُستقبلت وود أمونة بحفاوة أكتر؛ عندما علمتا أنني زوج أمهما، وسألوا عنها وعن صحتها وقالوا انهم لم يرونها منذ أكثر من عامين. حضر بعد زمن قليل من حضورنا للمنزل زوج ألم قشي السابق ووالد البنتين، تركنا الجَد.
تناقشنا في شأنها ولكن ما أدهشني حقا و أدهش ود أمونة أكثر، هو أنها انفصلت عن زوجها السابق بذات الطريقة التي تتبعها الآن معي، تحدث زوجها السابق منفعلاً..
- قالت هي كرهتني.. شلت بناتي أديتهم لأمي وأبوي وطلقتها.. مشت عرستك انت.. المرا دي ما مفهومة.. عندها مشكلة في رأسها..
قال له ود امونة، إنه يُقال و يُعْتًقَدُ، بين الناس في الحِلة، أنه هو الذي هجرها و أخذ بُنَيَاته منها.
قال متأثراً: و الله لم يحدث هذا إطلاقاً، و يشهد الناس بزهانة، لقد وسطت لها الدنيا و العالمين، ولكنها رفضتني، تركت لي البنات و هربت، فنصحني الناس حتى لا تكون في عصمتي و تقوم بفاحشة تُحْسَبْ عليّ؛ أن أطلقها، فطلقتها.
قلت له محتاراً: ما العمل؟
قال لي بثقة
- طلقها، طلقها بأسرع ما يمكن، دا الحل الوحيد.
قلت له صادقا:ً
-أنا ما عِرِفْتَ مَرَا قبلها ولا بعدها..
قال وكانه لم يسمعني:
- طلقها يا زول.
قلت له:
-هل ح ترجعها انت.. ح تتزوجها تاني..؟
قال بكل صراحة ووضوح:
أيوا ح أعرسها.. هي أم أولادي.. وإذا رفضت تاني وطلبت الطلاق ح أطلقها -
ليك انت تاني.
ما كنت أظنه يعني، أو يعي ما يقول، ولكنه كان يتحدث بجدية مبالغ فيها، كنا أنا وهو وحدنا،ود أمونة كعادته خفيفاً، خرج عندما أحسّ، أن الموضوع يحتاج أن يُناقش بين إثنين، لا أدري إلى أين ذهب و لا متي، خرجت البنتان مع الجد سابقاً.
قال لي مؤكداً: مرة ليك انت ومرة لي أنا.. كله بسنة الله ورسوله.. لو ما عايز كِدا شوف مرا غيرها. ثم أضاف فجأة
- إنت العاجبك فيها شنو، ماسك فيها قوي كِدا.. النسوان يا أخي زي ضَنَبْ الضَبْ: تقطعوا، يقوم غيرهُ تقطعوا، يقوم غيرهُ .. عِشرين مرة.
قلت له: أنا.. ما عارف والله....
قال مقاطعا في إلحاح
- طلقها يا زول.. المرا حتكتلك إذا ما طلقتها..وتفر تدخل الحبشة، تاني شيطان مش حيعرف مكانها. أنا بعرف الحبشيات ديل.. اما قعدوا معاك بإخلاص أو سابوك نهائيا.. ما عندهم نُصْ نُصْ..
-ولكن ألم قشي مريضة..
-أنت المريض.. المره دي عايزة عيالها وعايزة أبو عيالها.. انت مالك باقي ليها عارض.
قلت له:
-هي حامل مني..!!
قال ببساطة وهدوء مسيخ
- عارف كِدا..لمّا تلد وجناك يكبر شوية نديك ليهُ.. أنا لما سابت لي بناتي أديتهم لأمي.. أنت أدي جناك برضو لأمك أو خالتك أو أي واحده من قريباتك تربيه ليك، ولمّا تكرهني ألم قشي.. عرسها تاني انتا.. الموضوع بسيط ما يحتاج لقومة نفس أو زعل.
بالرغم أن منطقه يبدو كمنطق المجانين لا يقوم على ثوابت وأنه يتحدث كمن الذي في حلم أو كابوس، إلا أنه أقنعني، وخرجت منه وقد صممت على طلاق ألم قشي.. على الأقل، قلت لنفسي.
- حتكون في أيد أمينة و تعيش سعيدة مع زوجها وبناتها..
شكرني وطمأنني انه بمجرد أن تكرهه ألم قشي، سيرسلها لي، وفي يدها ورقة طلاقها.

قلت لألم قشي كطلب أخير وهي تمشي نحو البص
- حافظي على الزول الفي بطنك.
قالت مبتسمة ولأول مرة منذ بداية الأزمة:
- حأحافظ عليهُ..
وتحرك البص مع حراسة الجيش و الإحتياطي المركزي، وهو المظهر العام الذي اتتخذه بص همدائييت والجيرة والحفيرة في الآونه الأخيرة..
كانت أجمل ما تكون المرأة، تشع من عينيها سعادة غامرة، ولا يُخفى همس الجنون الذي يحيط بها.. هالة زرقاء مرعبة، ألم قشي هي المرأة الوحيدة في حياتي، ولقد أحببتها بالفعل وعندما أقول المرأة الوحيدة، أعني أني أُكتشفت فيها وأنها أول امرأة تحمل بأطفالي، وهذه قيمة إنسانية لا تضاهي: أن تجعل نفسها تحبل منك..
وهنالك صفة لا أظن أن امرأة أخرى تشترك فيها مع ألم قشي؛ وهي أنها أجادت مخاطبتي باللغة التي أفهمها بالذات، وبالكلمات والموسيقى التي تتوافق معي.. ولكني انخدعت في تصوري للمستقبل، وما كنت أظن أنّ النهاية هي ذات النهاية التي أكابد آلامها الآن، وإلى آخر لحظة.. بعد أن تحرك البص، كنت أظن أنها سوف تغير رأيها ولكن عندما لوّحَتْ إليّ بكفها مودعة؛ عبر نافذة البص.. كان الفراق قد تأكد تماماً.. شيعني الناسُ بنظرات إشفاق وجاملني البعض بكلمات ظنوا أنها سوف تخفف عني وأكد لي البعض في سذاجة:
-حترجع ليك ... ما حتلقى أحسن منك..
ولكن أكثر عزاء رحمة قُدم لي كان من قبل الأم وود أمونة، حيث أنهما هيئآ ليّ - لولا حالتي النفسية المتردية- ما كنت سوف أطلق عليه ليلة العُمر..فاجآني بالعجوز في صحبة أُم كيكي وبوشي وهو اسم دلع لبوشاي الشلكاوية المغنية، وهي فتاة في غاية الجمال.. أمها من الحمران وهي إحدى القبائل العربية بالمنطقة وتعرف الأم أنني أحب صحبتها و...
في القطية الكبيرة، بعد أن أخذا عنها جميع المنقولات، تم فرشها بالسباته ثم فُرشت عليها بُسُطٌ من البلاستيك رخيصة ولكنها جميلة وناعمة.. ولها عبق حميم..
الام نفسها هي التي قامت بغسل ظهري في الحمام بالصابون والليف وقامت بدلك بشرتي بعجينة الدلكة العطرة، ثم تركتني للعجوز وبوشي وبنيات ثلاث يغنين لي وسط هالة من دخان الصندل والكَبَرَيت.. قلت لهم
-غنوا لي أغنية: وصتني وصيتا.
سقتني بوشاي الجن الأحمر الحبشي، الذي أفضله وسقيتها وشرب العجوز، سقينا البنيات البيبسي والإستيم، ورقصنا جميعاً، سُكارى وغير سُكارى، على صوت المغني الحبشي تمرات من مسجل الأم.. غنينا بالأمهرا والتجرنه والعربي ولغات أنقسنا قديمة، لا نعرف أن كانت للوطاويط أم البرون أم القُمُزْ .. وغنت بُوشاي أغنية للشُلك اشتهرت بها المغنية الحسناء فيفيانا.
عند العاشرة ليلا همست الأم في أذني: ماهي أمنياتك الليلة، قلت لها: لليلة دي بس ؟
-ايوا الليلة بس.. العشاء ليس من الأمنيات لأنه جاهز.. بعد شوية حيجي..
وأغنية سبعة يوم عوضية بعيد، برضو خارج الأمنيات وما أظنك تحتاج لوصتني وصيتا؛ قلت لها مراوغاً.
- خلي العجوز يتمنى لي.. حتى لو أغنية: وصتني وصيتا.
قال العجوز ضاحكاً
-أتمنى ليك أحلام سعيدة.
قالت الأم
- كويس نشوف بوشاي تتمنى ليك شنو.
قالت بوشاي وهي تبحث عن غطاء رأسها..
- أتمنى ليهو يشرب باقي الجن دا براو.
قالت الأم للصبيان وهي وبوشي تضحكان
- في واحدة عايزة تتمنى ليهو حاجه ؟
ضحكن وأخذن يغنين: سبعه يوم عوضيه بعيد.
قلت وكنت صادقاً أم سكرانَ لستُ أدري.
-أتمنى أن تحكي ليّ الصافية حكاية من حكايات الجنقو..أو يحكي لي ود أمونة عن السجن. قالت الأم وهي تضحك فيهتز صدرها الكبير: الصافية في مشروع الزبيدي ترش السمسم. وود أمونة هرب وقال هو تعبان.
أنا حأحكي ليك قصة حياتي.. والله حتلقاها أجمل من قِصة حياة الصافيه..-
تعشينا جميعاً، عندما سَكرتُ جداً، تركوني وذهبوا: نمت، حلمت بأن الصافية جاءت من مشروع الزبيدي على جمل ضخم أسود اللون قالت لي: صديقك نجمتهُ !! وحأنجمك إنت برضو !!



عبد العزيز بركة ساكن غير متصل   رد مع اقتباس