عرض مشاركة واحدة
قديم 10-07-2007, 07:37 PM   #[1]
Garcia
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية Garcia
 
افتراضي * حبّوبة أُمّاً كبرى .. عمقاً معرفي نطقاً بالحكمة

كنا نتحاور عبر الهاتف وعرج بنا الحديث عن ذكريات ( حبوبة فاطمة ) وأقوالها و أحاديثها وأحاجيها التى كنا نحفظها عن ظهر القلب ... وكلامها الذى يفيض حكم بليغة رغم انها لم تنال حظها من التعليم مثل كثيرين من بنات جيلها فى ذلك الوقت ..كان لها مقدرة بالغة فى السرد والوصف للأحداث كنا نجلس ونستمع لها بالساعات الطوال ونتخيل الأحداث تمر أمامنا كأنها شريط سينمائى ...كنا ننتظر هذه اللحظات البديعة بفارق الصبر , وكما هو معروف ان الجلوس مع الكبار يخرج منه المستمع بحكمة او موقف غريب حدث لهم .. لانهم جيل معتق وعصارة سنين وتجارب طويلة فى الحياة , لذا كلامهم يكون حكم ومعرفة .. وفى نهاية المكالمة إتفقنا ان نكتب عن ( حبوبة فاطمة ) وبعد فترة وجيزة ارسل لى هذا النص عبر الإيميل , وطلبت منه ان أشرككم
الإطلاع عليه وهذا هو النص :

* حبّوبة أُمّاً كبرى .. عمقاً معرفي نطقاً بالحكمة


لِبرهةٍ أغمضتُ عينىّ ، فرحلتُ معها فى رحلةٍ عبر آلآف السنين من الحقب والأزمان العتيقة . رأيتُ معها أمجاد بلاد أرض النوبة القديمة، منذ عشرات آلآف السنين وصولاً بعهد الملك النوبى القديم مينا، ذلك الذى وحّد الدولة الفرعونية القديمة ..
ومن بعده بُناة الإهرامات والمعابد. مروراً بتلك الممالك الإفريقية العظيمة من كرمة وكوش ونبتة ومروى ثم بعد ذلك زُرنا مملكة دنقلا المسيحية بكنائسها وأديرتها . كانت الرحلة مكثفة التركيب من حيث الأمكنة والأزمِنة، كان تداخل الأمكِنة مُربِكاً جداً . على مد البصر ترى رمالاً متحليةً بذلك اللون الذهبىّ كأنه إمتدادٌ لشعاع الشمس السحرى. اشارت الى معبدٍ بدأ لى فى الأفق كأنه معبد البركل العريق، خلفه كانت بعضٌ من أشجار النخيل شامخه من على البعد كشموخ اهل النوبه. وإلى حيث الشمال رفعت يدها فقالت (هنالك كانت بؤر الأمجاد فى طيبه ومنف وتل العمارنة الذى اسسها إخناتون الداعى لديانة التوحيد).


وعلى إمتداد النهر وعلى ضفاف النيل العظيم واهب الحياة، بدأت لنا آثار عمران ضخمة قالت (تلك ابوسمبل ومعابدها وآثارها) كانت التماثيل والمسلات تخترق الفضاء وبمختلف الأشكال والأحجام. اما السواقى التى كانت تُرى على شمال النيل ويمينه فكانت تواصل ايقاعها المستديم من حركة دائريه تتحكم بها تلك الجواميس التى عمّرت الارض جنباً الى جنب برفقة انسان تلك الأرض. عند جانبه الزاهى بالخضره الكثيفه أقصد النيل العظيم قالت لى وهى تشير إليه وعينيها ممتلئه بالحب والإمتنان ( هذا هو رمز الحياة , الآتى من الأعالى ، منه تعلمنا العطاء بلا حدود، ومنه عرفنا معنى كيف ان نحب هذه الأرض التى انجبتنا، إنها أُمّنا الكبرى ) .


ذُهلت من معرفتها الغزيرة بالتواريخ والأمكنة ، وبعد ترددٍ سألتها عن منبع وسر معرفتها وهى التى لم تلتحق بأى مرفق تعليمى طيلة حياتها وإن حدث ذلك فقد يكون ذاك الإلتحاق بخلوةٍ ما (كُتّاب) . فقالت وهى ترسم إبتسامتها المُعتاده ( ياولدى المعرفة ما بالضرورة إنك تعرفها، ولكن تمارسها، والمهم كمان خلّى وجودك إمتداد للمعرفة، عندها ستكون انت نفسك جزء من المعرفة وهذه مرحله إن وصلت إليها فستكون افعالك كلها منسجمه مع الوجود الكلى الذى انت جزء منه بلا إنفصال عنه، ثم ان عمر معرفتى هو عمر المعرفة البشرية التى اُكتسبت من خلال التجربة) أصغيتُ لحديثها بإمعان، وعِوضاً من استبين منه شيئاً زادتنى حيره أكثر.


وحيثما كنّا نسير على تلك الارض الطاهرة أرض ألأساطير القديمة وألآلهة وأرض القداسة والمعابد، هنا وهناك كُنّا نرى صور وتماثيل ورموز ألآلهة ، آتون، آمون، رع، أيزيس، أوزيريس، حورس، سيت، نوت، شود تفنوت وانوبيس وغيرهم. والى صحراء غرب النيل التفتت بوجهها واشارت إلى عمق الصحراء الممتده إمتداد البصر وقالت ( فى الأزمنة السحيقة كانت كلها اخضرار وغابات ومياه عذبة ولكن دوام الحال من المُحال فصارت كما تراه الآن، أما الناس فقد تفرقوا ولكن رغم الفرقة مازالوا يحملون ملامح وحدتهم القديمة أعنى كلامهم ولغتهم رغم ماتبديه من إختلاف فجذور أفعالها واحد وتتشابه هنا وهناك ). كنت كلّى آذانٌ صاغية لحديثها فقلت لها كيف عرفتين كل ذلك قالت ( كما قلت لك كن جزءاً من المعرفة وعندها ستعرف كل شىء ). أردت منها معرفة المزيد فهممتُ بأن أسأل مرةً أُخرى فقاطعتنى وقالت ( عشان أطمئنك أكثر ياولدى، إن الأرض لا تضيع تاريخ أبنائها فهى أمّهم التى أنجبتهم ). كان حديثها مُكثفاً ومليئاً بالرموز المستعصية على فهمى. وعلى ضَفة النيل التى أخذتنى إليها عند مغرب الشمس، وكانت تقف هى بينى وبين قرص الشمس فبدت لى كإلآهه نوبية فى عظمتها . كانت تريد أن ترمز بأنها إلآهه وسيطة بيننا وبين تلك القوة الخافية الكلية الوجود والكامنة فى كل مظاهر الأشياء والمعروفه بآتون لدى النوبة ، فحدّقت فى الفكرة بإمعان وبعدها رفعت رأسى ونظرت إلى وجهها الطفولى المعتاد وكان لونها كلون أرض أهل النوبة تماماً، ذلك اللون الأسمر الممتد من أشعة الشمس الذهبية اللون. من تلك ألأرض أرض النوبة خرجت تلك العملاقة والتى هى بضخامة تاريخ اهلها، تلك المرأة ألأُنثى كانت حبوبتى العظيمة فاطمة بنت عثمان حامد.

يتبع --->



التوقيع: لو انى اكتشفت سر الحياة ... لعلمت حكمة الموت ( رباعيات عمر الخيام )
Garcia غير متصل   رد مع اقتباس