عرض مشاركة واحدة
قديم 11-07-2007, 09:39 AM   #[3]
Garcia
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية Garcia
 
افتراضي


كانت تحكى لنا عن أساطير وقِصص دارت أحداثها في منطقة أرض النوبة وتحديداً منطقة دنقلا، ومن تلك القصص مثلاً ساتى بشير أب علس الذي تلقى العلم الديني دفعةً واحدةً من شيخه وذلك بعد أن باركه شيخه بوضع يده على رأسه وقوله لبعضٍ من الكلمات ( وأنا مليتك بالعلم ) ،وكان ذلك جزاءً لتفانى الحُوار في خِدمة شيخه. كذلك قصّت علينا أسطورة ( جد العشرة أبو المية ) تقول ألإسطوره بأن أباً كان لديه عشرة أبناء ، وكان أصغرهم يبدى أحيانا عدم احترامه لأبيه واخوته الكبار وذلك بأن يستلقي ويخلف رجليه وهو حاضر لمجلسهم. فكان الإخوه الكبار يزجرونه ويوبخونه على فعلته تلك، فكان يرد عليهم بقوله ( أنا ما صغيّر أنا أكبر من أبوكم ده، أنا ولدت أبوكم ده ). فكانوا يضحكون في كل مره يتم فيها ترديد هذا القول، إلا أن سأله أبيه ذات مره فقال له ( كيف أنت أكبر سناً منى يا ولدى؟ ) فقال الابن الأصغر مسترسلاً ( ذات مرةٍ يا أبى كنت قد فقدت طريق القافلة لعدة أيام ، مع ذكره للتواريخ بالتحديد. فإذا في اليوم الثالث برجلٍ مارٍ قد أعطاك ماءً وطعام وقادك إلى طريق القافلة حيث تم إنقاذ حياتك، أتذكر ذلك يا أبى ؟ ) قال الأب وهو مستحضراً تلك الأحداث ( نعم أذكر ذلك تماماً ولكن كيف عرفت ذلك ؟ ) فقال الابن الأصغر ( لقد كنت أنا عابر السبيل ذاك، فأنا هو من أنقذك ). عندها دهش الجميع وقاموا بمباركة يد الابن الأب وهم في ذهولهم غارقون. هذه ألإسطوره قد تكون حفظاً وترديداً ألإسطورة قديمة ، تتحدث عن الإله الابن الأب في نفس الوقت. قد تكون تلك ألإسطوره استعاده لأسطورة حورس الابن الإله الذي يصبح محل والده أوزيرس، أي إن حورس هو الأب وأوزيرس هو الابن.


أيضاً هنالك قصة خلاف حمد الملك مع أخواته لأنه أنكر الاعتراف ب(المهدى)، ذلك الذي كان حاضراً للحضرة النبو ية وأخذه البيعة من ( الرسول محمد مباشرة ) الأمر الذي أدى لوضع( المهدى) في موقع حسده عليه العديد من الناس هكذا كانت تقول ألإسطورة وهى ترويها لنا. كانت تحكى عن مشايخ دنقلا ورجالاتها الصالحين، أذكر إنها كانت تصفهم ( بالتيران ألما هم حيران ) دلالةً على مكانتهم ووزنهم الديني والعلمي . وهنالك اسطورة تقول بأن التماسيح هم جدود الد ناقلة وهذه النقطة قد تكون دليلاً على اعتقاد قديم وهو يرجع للمعتقدات الطوطمية الضاربة في القِدم والسابقة للتواريخ المدونة بآلاف السنين . ومثل تلك المعتقدات نجدها محفوظة للآن عند القبائل الأسترالية وقبائل الهنود الحمر في ( أمريكا ). المعتقد معقد جداً ولكن اعرفه بأن لكل قبيلة طوطمها الخاص قد يكون حيواناً في أغلب الأحيان، وبالطبع يكون ذلك الحيوان مقدساً عند تلك القبيلة فهو الذي يبارك القبيلة ويحميها، وكل فرد في القبيلة يعرف بذلك الطوطم الذي يخص قبيلته.


كانت تحكى لنا أيضاً عن (البعاتى) و (الدودو) تلك المخلوقات الإسطورية التي كنّا نرتعب عند سماعنا لقصصها ، والى الآن نتذكر حالات الخوف التي مررنا بها، كان خوفنا يزداد كلما أرخى الليل حجابه ممهداً لعالم الأشباح والأطياف والجن بأن تتحرك في مسرحها المترامي الأطراف، بينما نحن صغاراً كُنّا نبحث عن ملا ذات آمنةٍ بالقرب من الوالدين والحبوبة.

حتى يأخذنا النوم إلى حيث فضاءآته الرحبة تارةً ناعمين بأحلام هادئة وتارةٍ أخرى بكوابيس من أبطالها أحد (البعاعيت) إياهم، إلا أن ينبثق الفجر بشفقة ذو اللون الخيالي المحرّك للنفس البشرية جاعلاً إياها تُسائل ذاتها عن اسئلة البداهة الأولى. هجوم الصبح هو نهاية عالم الجن والأشباح وبدايةً لحلول عالمنا عالم الصغار متسلحين بفعل الضوء . وهكذا دارت الأيام أو ولدت الأيام من رحم ذلك الصراع الأبدي بين جمال الظلمة ومحدودية الضوء.


هذا قليل من كم هائل من الحكاوى والاساطير التى كانت تقوم بسردها لنا . كل ذلك الرصيد اللغوى قد خزنته الذاكرة ، كما كنا نعيش تلك الروايات العتيقه بتفاصيلها الدقيقه جداً. تلك المدارات القصصية القتها هى فى لا وعينا مشكلةً رصيداً ثقافياً إنسانياً ثراً نقل إلينا عبر تلك الحبوبة الرائعة وخالقاً لحالات ابداعية ادبية جنينية على مستوى المخيلة وملكة الكتابة . والشاهد على إدعائى هذا هو هذه الكتابة المتواضعة التى امارسها، والتى تفجرت منذ مده ليست بالبعيده . وكل الفضل يرجع لحبوبتى التى عملت على توسيع خارطة الوعي لديّ منذ فتره مبكرة . إذ كانت تنقلنا إلى أماكن قصية وأزمانٍ سحيقة وعرفتنا بشخصياتٍ عديده وفضاءات خصبة ، وكانت أداتها لتوصيل كل هذا الحشد السردي هو الكلمة والحركة المصاحبهة لها أثناء السرد. عبر تلك العملية المعقدة كانت تضفى على القول إمكانية ان تحس الاشياء بذاتها وكثيراً مارافقنا الشخصيات القصصية وتجولنا فى مناطق تحدر الاجداد فى كلٍ من دنقلا وجنوب مصر . لم تكن تسرد قصاً فقط بل كانت تاخذنا اخذاً وتنقلنا نقلاً إلى حيثما تريد . جعلتنا نعرف ان الكلمات ليست اصوات مرسلة فقط بل هي صور تتشكل في المخيله ، وكل مدلولات الكلمات يمكن ان تُحس كأن تسمع صوت جريان مياه النيل وهي تقص شيئاً ما عنه، وان تستنشق رائحة البخور، وتسمع اصوات دقات الطبول، وان ترى القباب والمزارات والحيران وهم يقرأون أو يذكرون . كانت تقص وعبر شيٍ ما، خطوط رقيقة شفافة تتشكل العوالم ومسارح الاحداث إيذاناً ببدء صراع جديد من صراعات الحياة المتدفقة . أيضا كانت تدرك انها تمارس استراتيجية إيصال المعنى أو المغزى الكامن في رحم القص، وكثيراً ماكانت تصلنا رسائلها متضمنةً في حكاويها.


وأذكر مرةً وفي حديث تلفيزيونى وثائقي حول حياة المغنية العظيمه فيروز ، إنها
كانت تتحدث عن فترة طفولتها ومدى تأثير (ستّها) حبوبتها فى تكوين شخصيتها. تحدتث عن تلك الفترة من حياتها بصوره فيها الكثير من الحنين والشوق لتلك الايام الاولى والبسيطه من حياتها بصوره قد تقارب مضمون هذه الكتابه. كما قد غنت أغنيه خاصه (لستّها) تخليداً لذلك الإنسان الرائع والمؤثر . كم اشعر بالزهو والشوق لذلك الفردوس المفقود وانا أكتب عنها . وهاهي الحماسة تدفعني لقول ان من كان له حبوبة مثل حبوبتي فهو بلاشك غنيٌ جداً من حيث العوالم والتواريخ والصور الذهنيهة والمخيِلة والقدرات والتقنيات السردية . فقط علينا إكتشاف مخلفات الحبوبة الكامنة في دواخلنا . بالتأكيد فسنجد الكثير من الدرر المعرفية هنا وهناك فى ركام الذاكرة. كل ذلك كُوِّن من قِبَل شخصٍ حمل قبساً من المعرفة البدئية الصادقة والمتصالحهة وجودياً بل أكثر من ذلك منسجمة إنسجاماً كاملاً مع والوجود الكلّي مشكلةً حالة ابداعية هي قمة الجمال الكوني.


إن جذور طبيعة التقدير والإحترام للأسلاف والأجداد الكامنه في دواخلنا، والتي نمارسها بصوره تلقائية هي ليست من قبيل المصادفة أو هي بالشيء العارض . بل إن إصول هذه الإعتقادات والممارسات قد ترجع إلى أكثر من خمسة عشر إلى عشر آلآف سنه من تاريخ الجنس البشري . عندها كان الإنسان القديم يقدس الأسلاف والأجداد وينظر إليهم على أساس إنهم قد إمتلكوا خُلاصة الحكمة ، ولديهم القدرة على الإتصال بعالم الأرواح والماورائيات. فهم يمتازون بقدرات خارقة ويعتقد إنهم يؤثرون في ظواهر الطبيعة المختلفه لذلك يتم اللجوء اليهم بصورة مستديمة وقد يكون ذلك الإستدعاء لارواح الأجداد مصحوباً باداء بعض الطقوس المساعدة والتي تمثل فضاءً يسهل جذب تلك الأرواح. بالرغم من رحيل الأسلاف الى العالم الآخر إلا إن حضورهم كان ملحوظاً وقوياً، وتتم إستشارتهم عن طريق أحد حكماء القبيلة أو الجماعة السكانية ، وفي بعض المناطق يطلق على حكيم القريه لقب ( الشامان ). كانوا يُستَدعَون في كل شئون القبيله طلباً للمشورة والحكمة ، وسنداً روحياً عند مواجهة الصعاب.


هذه المعتقدات كانت تمارس في كل من افريقيا وآسيا واستراليا وكذلك عند الهنود الحمر، بكلمات أخرى مورست هذه المعتقدات عند كل الشعوب القديمة ماعدااوروبا، لذلك نلحظ الإختلاف . إن ما نمارسه من تقدير وإجلال وهالة قداسة واحترام لأسلافنا كامن في ذهننا الجمعي منذ الآف السنين ومتدفق حتى يومنا هذا . ذلك ما لانجده عند الاوروبيين، لاتقدير ولا إحترام للأجداد عندهم بذلك القدر الذي نمارسه نحن . لأن (حضارتهم) تقوم على أساس نفعي مادي فقط وتلك المنفعة ظاهرية ليس إلا . وفي ذلك قُصر نظر وجدب روحي، فهم أغنياء على مستوى إمتلاك الثروات ولكنهم فقراء ومعدمون على مستوى الوجود الانساني ويعيشون خواء روحي فظيع بل يعيشون على هامش الوجود . لأن الغنى ليس بما تمتلكه ولكن بما تكنه انت. أو بمعنى آخر قيمة الإنسان تكمن في داخله وليس في خارجه.


في مناطق كثيرة من العالم القديم، (في وقتنا الحالي) تحتفظ الذاكرة الإنسانية برواسب عبادة الأم الكبرى حتى يومنا هذا . فمثلاً في تركيا ومصر يطلق على الجدّه
( الحبوبة ) لقب ( نينه ) دلاله على مكانتها العالية والعظيمة في الوسط العائلي الموجوده فيه . وما ( نينة ) هذه إلاّ إشارة منسيّة ( لإينانا ) ألإلآهه المتعارف عليها فى بلاد الرافدين القديم . كذلك في غرب افريقيا يطلق إسم ( نانا ) على إلآهة الماء. هذه التسمية أو اللقب الذى يطلق على ( الحبوبة ) ليس من قبيل المصادفة ، بل إمتداد للتقدير والتقديس الذي كان يمارس في الأزمان القديمة . وهذا دليل قاطع على إن الأديان الذكورية الحديثة لم تتمكن من محو الأديان السابقة الراسخة في الأذهان . من ناحيتي انا أعتقد إن تلك الأديان القديمة أرقى وأكثر تصالحاً وتفاعلاً وجودياً إذا ما قارنتها مع الأديان الحالية ( أديان تكريس الخوف ) بدلاً عن الحب الراقي للوجود الكلّي.

لعل أهم ما يدهشني ويميّز حبوبتي هو فلسفتها الوجودية العميقة ، تلك الفلسفة التي تنم عن معرفة قديمة جداً، عمرها عمر التاريخ الإنساني منذ بواكير وعيه لذاته. معرفةً متدفقةً من زمن أقدم الإعتقادات والأديان، منذ عبادة الأم الكبرى وعبادات الخصب القديمة في كلٍ من وادي النيل وبلاد الرافدين والهلال الخصيب . من أهم تلك الملامح الفلسفية هي إطلاقها لمقولاتٍ مكثفة جداً منها على سبيل المثال لا الحصر
( الموت حق والحياة باطلة ) مقولة متدفقة منذ الأذل كمنت في وعيها وتصالحت معا وشكلت وجودها على أساس قناعاتها الفلسفية، وهنالك شيءٍ محير لمسته من خلال معايشتي لها وهو التزامها الصارم بما تقتنع به وبما ما تقوله وبما ما تسلكه من سلوك في حياتها اليومية . لم يكن هنالك تناقض إطلاقاً بين تلك المحاور وهذا قمة الجمال الوجودي في إعتقادي الشخصي . هذا الملمح الذي كان جزءاً هاماً من وجودها تعجز كل البشرية عن ممارسته، أعني إن هنالك دائماً فرق شاسع بين ما يقال وبين ما يمارس، هذا هو مأزق البشرية الحالى.

وهنا اشكك بصوره جاده حول مدى جدوى معرفتنا الحالية فهي بلاشك مفاقمة للتوريط والاضمحلال، عكس معرفة حبوبتى وليدة جدل الإنسان مع الوجود الكلّي وهو ما أسميه ( المعرفة المنخرطة وجودياً ) أي معرفة أسست نتيجة إنسجام وحب مع الإنسان ومحيطه المتواجد فيه ( الطبيعة ). معرفة تضيف للوجود وليست معرفة مستنزفة للطبيعة فقط . معرفة حبوبتي هذه تتقاطع مع الفلسفة الوجودية لأعلام الفكر الصوفي مثل الجنيد والحلاج وبن عربي وكذلك الفيلسوف سبينوزا والأنثروبولوجي كلود ليفي شتروس الذى أطلق مقولة تقاطع إعتقاد حبوبتي فلقد قال
بمقولة ( الإنسان العابر ). كلما أقرأ لهؤلاء الأعلام أرى حبوبتي كامنةً فيما يقولونه لكن الفرق إن معرفتها مكتسبه عن طريق التجربة المباشرة مع الطبيعة وليست مكتسبه عن طريق البحث عبر دور العلم , كم هي عظيمة وعميقة .


لعلها قد تأثرت بالصوفى السوداني المعروف ( الشيخ فرح ود تكتوك حلآّل المشبوك ) نعم فلقد كانت تحكي لنا دائما عن كراماته وتعامله مع مختلف المواقف . ذات مرة حكت لنا ان الشيخ ودتكتوك كان جالساً في خلوته يتعبد، فإذا بشخصٍ ما أتي راكضاً فقال للشيخ خبئني، فأشار الشيخ له ان يندس بنفسه في احدى (البروش) المطوية ففعل، وبعدئذٍ أتى نفرٌ من الناس يبحث عن ذلك الهارب. فسألوا الشيخ عن مكانه، فأشار إليهم بانه مختبيء في احدى تلك (البروش)، لكنهم لم يصدقوا الشيخ حديثه، وواصلوا بحثهم في مكانٍ آخر. وبعد أن تواروا عن الأنظار خرج ذاك المختبيء، وقال للشيخ غاضباً كيف تدلّهم على مكاني فقال له الشيخ قولاً ثاقباً ( إذا الصدق ما نجّاك الكذب ما بينجيك ) . هكذا كانت ترسل تعاليمها لنا من خلال القصص وأخيراً اثبت علماء التربية ان هذه أفضل طريقه لثوريث القيم وايصال الافكار المحبذة لتعليم الاطفال . فكم هو مذهل نبعها المعرفي ذاك. حكت عنه أيضاً أنه كان هنالك شخصاً ما يتعبد تحت شجرة (نبق)، فأتى الشيخ ود تكتوك ماراً بجواره، وسأل الرجل عن مايفعله تحت الشجره، فردّ الرجل بأنه يجلس تحت الشجره بغرض العبادة . عندها أخذ الشيخ (قناية) ووضعها على طول بئر كانت في الجوار، وقال للرجل اذا كنت تعبد الله فقم وأعبده وانت تقفز على هذه (القناية)، فرفض الرجل العرض . فقال له الشيخ (انت جايباك شجرة النبق ما جايباك العبادة)

فعرف الرجل زيف إدعائه بأنه متستر بالعباده لأجل أغراض دنيويه. وهذا بلا شك حال اغلبية من يتظاهروا بالعباده والإيمان، بينما هم يسرقون قوت الملايين المسحوقة.
( البيوت بيوت الآخرة ) كانت تلك مقولتها المفضلة وكانت على الدوام ترددها، كانت تقصد من قولتها تلك من يقضون عمرهم جرياً ولهثاً وراء المال والثروة، أو من أعمتهم الثروة عن حقائق الأشياء وأصبحوا يعتقدون إنهم إمتلكوا شيئاً ذا قيمة دائمة.

يتبع ------>



التعديل الأخير تم بواسطة Garcia ; 11-07-2007 الساعة 09:43 AM.
التوقيع: لو انى اكتشفت سر الحياة ... لعلمت حكمة الموت ( رباعيات عمر الخيام )
Garcia غير متصل   رد مع اقتباس