عرض مشاركة واحدة
قديم 04-08-2006, 05:50 PM   #[11]
عبد العزيز بركة ساكن
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية عبد العزيز بركة ساكن
 
افتراضي

علمنا هذا المكان




علمنا هذا المكان قيمة العمل، قالت لي بالتجرنة،المرأة النحيفة المتوسطة الطول وهي تعبث بقدر عليه ماء علي منقد صغير،ثم أضافت بعربي الحدود،
- راجلي ضعيف زيك كدا.
رفعت عينها إلي كأنها تريد أن تتأكد من موقعي في القطية..
- بالله عندك راجل؟
كان استنكاري بشعا ..أحسست بمرارته في حركة سريعة قامت بها .
حركة غير مخطط لها،عندما أتي صوت جميل يغني من الخارج،قالت منادية،
- ود أمونه ... يا ود أمونه..عليك الله تعال دقيقة.
أستأذن شاب وسيم ناعم له شارب كبير أنيق،يلبس بصورة لا توجد في الشارع ربما إلا في بعض مكاتب الحكومة أو موظفي شركة الاتصالات الذين التقينا بهم في السوق،قالت له :
- ما جبت سجاير للضيف
قلت له إنني لا أستخدم السجائر لكنني أفضل الشيشة وأحتاج الآن "لحجر معسل " عادي .
ابتسم ود أمونه وخرج بسرعة دون أن يقول شيئا لكن رأيت في وجهه رضاء تاما وقبولا للتكليف فريد.
قالت من تلقاء نفسها
_ دا ود أمونه .. تعرفو ؟!
_ أنا ما جيت هنا قبل كدا ..
_ معليش .. ود أمونه دا أشهر زول هنا ..قاعد يعمل في بيت أديَّ .. ولد ممتاز
دخل في هدوء كالنسيم،وضع الشيشة أمامي في أدب جم، خرج دون أن يقول شيئا،أضافت ماءً نقيا للقدر الكبير،هدأ فورانه،أخذت تجمع حاجيات القهوة من خارج القطية نلم أعتد علي لباس الملاءة نلونها أبيض مما أظهرني كحاج تعب أرهقه الطواف،أعرف أن "صاحبي " قد يفعل في ساعة ماسيقوم بفعله شخص مثلي في يوم كامل أعرف أنه مامن غامض يقف أمامه،انه يفض كل شئ :غموض،امرأة،حجرة ..أي شئ،لم أشغل نفسي كثيرا به،"الزقني الذي أحبه بالشطة "الدليخ"أكلته "بالقيح بربري" لذيذا وطعما عبق حرق البن الحبشي كان،أثار فيَّ ذكري امرأة كلما التقيتها أكرمت قدومي بالقهوة..
كنت تعبا مرهقا كحمار عجوز والسفر إلى الحلة بالمواصلات العامة وخاصة علي ظهر البربارا يعتبره البعض نوعا من الانتحار ..
- الناس البعرفوا البلد دي .. بركبوا البص ..البص أضمن وأسرع .. البربارا موت أحمر عديل ...
كانت تدلك ظهري بخليط من الحنظل،أبى فاس،زيت الزيتون وعجين القمح،تتحدث بصورة مستمرة عن المكان الزمان أديَّ،ود أمونة،البنك الذي سيفتتح فرعاً له في الحلة،شركة الاتصالات التي سوف تجعل الحلة قريبة جداً من العاصمة الخرطوم بل يمكن الاتصال بأسمرا أو أديس أبابا أو أمريكا ذاتها فكانت تقول عن ود أمونة أنه الرجل الوحيد والذراع الأيمن للنساء هنا بالبيت،وفي ما يشبه تقريرا قصيرا مقتضبا أفضت ليس بأسرار المكان كلها،كانت ما فوق الثلاثين بقليل تبدو عارفة بالحياة خبيرة بكل شئ،تحيط بها هالة من القداسة،أو كما يبدو لي،مثلها مثل كل النساء كانت جميلة وغامضة ولديها ما تقدمه،وجهها يخبئ فرحةً أو حزنا أو أنه يفصح عن الاثنين في آنٍ واحد،بحرفية بارعة سحبت رجلي اليسرى عكس دوران الساعة ثم جذبتها للأعلى في ذات اللحظة التي تناولت فيها يدي اليمني وجذبتها إليها بقوة مما جعل جسدي يصدر صوتا بائسا مثل كسر فرع لوسيانا بواسطة ريح شمالية قاسية... ولو أن الأمر لم يتعد ثواني معدودات لصرخت أو بكيت ..عندما تركتني كنت أنعم براحة جسدية لا توصف وخدر لذيذ.. قالت لي :
_أنا ماشة البيت
قلت
_ البيت
_أيوا ..أنا بشتغل هنا مع أديَّ ولكن أنوم في بيتي .. عندي أولاد وراجل هناك.. ثم أضافت بحرفية
_ عايزة واحدة تنوم معاك ..؟!
في الحقيقة لم أكن متأكدا من هذه الرغبة،حيث أنني والحق يقال لست نسوانيا أوميالا للممارسة الجنسية وربما لم افعل هذا الشيء كاملا في حياتي،كنت خجولا في هذا الجانب من حياتي ..،ولكن وجدت نفسي أقول لها
_عايز
قالت لي وكأنها تعد إجابتها من قبل..
"ألم قشي ".."ألم قشي " حتجي تنوم معاك الليلة .. الليلة يومها ..بت ظريفة وحلوة وحتعجبك ..
ربما أرادت أن تقول شيئا آخر لكن جاء صوت الأم أدىَّ مقتحما هدوء المكان،كان لها صوتا متميزا حاداً ولكن به رقة طاغية وربما سببها الطريقة التي تختتم بها الجمل القصيرة التي تلقي بها هنا وهنالك،استأذنت الدخول وتحدثت إليَّ مباشرة
_ صاحبك دا أغرب زول في الدنيا !!
لم أفاجأ لأنني أعرفه جيدا،فهي لم تكتشف قارة جديدة كما تشير الطريقة التي أعلمتني بها ..قلت لها ببارود كم يعجبها كثيرا وربما أثار دهشتها لبعض الوقت
_ نعم .. هو أغرب زول في الدنيا .. عايزاني أمشي معاك ليهو ..ولا تجيبيه هنا ... حيكون عمل مشكلة .. أنا عارف.!
قالت لي بطريقة استعراضية
_ طردناه ..
قلت منزعجا .. حيث أنني لم أتوقع ذلك
_ طردتوه .. ليه .. وين هو هسع ؟!
بينما كنت أجمع حاجياتي وأتحرر من الملاءة البيضاء تأهبا للخروج كانت الأم تحكي لي قصة لم أسمعها جيدا ولكنني فهمت منها أن ذلك حدث قبل ساعتين كاملتين من الزمان وأنني لا يمكنني معرفة مكانه غلا إذا ذهبت معي هي ...
_ ليه،ما قلت لي في وقت مبكر ..
قالت بثبات
_ كنا نحاول معالجة الموضوع ..
قلت منزعجا وقد تحررت من الملاءة تماما
_وين هو ؟!
قالت
-ما بتعرف مكانو .أرح وراي ,,
انتعلت حذائي،لبست بصورة كاملة ..،لم أكن قلقا ولو أنها ألمحت إلي بأنهم قد يقتلونه .لأنني أعرف أن لا أحد علي الأقل "بالحلة "يستطيع أن يقتله وهو من الذين لا يخطر علي قلب أحد انهم قد يموتون الآن،بل دائما ما يعطونك إحساسا أنهم سوف يسيرون في جنازتك،يحفرون قبرك ويشيلون الفاتحة علي روحك متنطقين بابتسامة حزينة طوال أيام الحداد ....
مررنا أولا أمام راكوبة صغيرة مضاءة بضوء خافت يجلس وسطها ود أمونة وهو يدلك قدميه بحجر خشن يستخدم لإزالة الجلد الميت من علي القدمين،تقف خلفه امرأة في عمر أدى تقريبا تلتقط الشعر من علي ظهره بالحلوى وهما يتحدثان بصوت خفيض تتوقفا عن الكلام عندما مررنا بهما أنا وأديَّ .. خاطبتهما أديَّّ مداعبة
_ الولد دا وادينو الدلالة ؟1
قال ضاحكا
_ النظافة من الإيمان يا أدي ..
بيني وبين نفسي قدرت أن ود أمونة "ولد غير نافع ط
"زول يشيل جسمو بالحلاوة ويكرش جلدو بالحجر .. وما معروف تاني يعمل شنو !!
عندما ابتعدنا قليلا عنهما قالت لي أدى:إنها قرأت ما يدور في ذهني
_ ود امونة دا أرجل واحد في" الحلة"
هززت رأسي إيجابا ومضينا عبر طريق ضيق يمر خلف قطاطيها الكثيرة الكبيرة،كانت الأم تسير أمامي سمينة قصيرة تتبعها رائحة الصندلية ماركة التاج الأصلية،يسمع لمشيها طقطقة يعطيها الليل سحراً خاصاً،كانت التحايا تصلنا من هنا وهنالك متسللة عبر سياج القطاطي وأبواب الرواكيب وسقوف القش ز
مساء الخير أدي ..
مساء الخير أدى
-أمي مساء الخير..
تأتيها التحايا مخلوطة بوحوحة العاشقين وثقاء السكارى بفحيح الفعل الليلي ونداء الأجساد الحية النشطة تستجدي ملائكة المتعة أو شياطينها الأمر سيان
قالت لي وهي تتحدث باستمتاع خاص
_ الدنيا لعبة وأخرتها كوم تراب ..
هززت رأسي موافقا.. بالأحرى بما يعني: فهمت
مررنا بصوت سيدة كانت تستنجد علناً وبصوت عالٍ وبائس بأن يأتي من ينقذها .. وأنها سوف تموت إذا لم ..،تسترحمه وتستجديه أن يتركها .. لأنها تختنق الآن .. النجدة
اندفعت نحو القطية إلا أن الأم مسكتني من يدي بقوة قد لا تصدر من امرأة قائلة وبصوتها بحة خفيفة
_ ما تصدق النسوان ..
ثم انتهرتها بصوت حازم ..
_ يا بت !! .. أخجلي !!
فصمت الصوت،عبرنا نحو شارع مظلم خارج مجمع أدي السكن،كان السكارى والعابرون يلقون علينا التحايا في كلمة واحدة
_ أدي ..
فتجيب أدي بصورة ميكانيكية ولكنها حنينه
_ أهلا ولدي
_ أهلا بتي
أهلا أخوي .
_- أهلا أمي .. أهلا أبوي ..
كانت تعرف وجوههم السوداء المظلمة وجهاً وجهاً،وتعلم أصواتهم المخمورة المبحوحة وتراً وتراً،أشباحهم،هيئاتهم،إيقاع مشيهم،رائحتهم، أنفاسهم،قالت لي فجاءة
_ صاحبك دا أول زول ينطرد من بيتي !...
في أكثر من ثلاثين سنة ... قبالو كان واحد بس ... هو منقستو هايلو ماريام.. قبل ما يبقي رئيس دولة .. كان "فالول " هنا في خور الحمرة .. كان زول صعب .. الله يرحمو .
قلت ..
_ وين الزول دا ..
قالت
_ الله يرحمو .. مات زمان ..
لم أقل لها أنني أقصد صديقي،هززت رأسي إيجاباً يمكن سماع طقطقطة حذائها في ظني،في كل البيوت المجاورة،مررنا بالمرأة التي سوف يكون لها شأن كبير في هذه الرواية وهي الصافية،امرأة نحيفة سوداء كالعادة،حيث أن الظلام يصبغ الجميع ببهائه،تحمل شيئاً في يديها ويتبعها رجلان، تبادلتا التحايا بينما سكت أنا وصمت الرجلان،عبق العرق البلدي مختلطاً بضان نفاذ وعرق كادح .... عندما ابتعدوا قالت لي ..
_ الليلة الجنقو نزلوا ما شايفهم شايلين القوقو كيف ؟!
_ المرة برضو جنقاوية ؟!
قالت ضاحكة
_ دي أكبر جنقاوية في الشرق كله .. من هنا للحمرة .. مافي زول ما بيعرفها وجدودها والشياطين هم الفتحوا البلد دي ..
قلت مندهشاً
_ الشياطين !!..
قالت بثقة
_ أيوا .. الجن .. البلد دي مسكونة بالجن .. والكلام دا مذكور في الكتاب
_ ياتو كتاب ..
قالت بسرعة
_ كتاب الدين .. قال لينا الفكي علي ود الزغراد الكلام دا .. في زول عالم أكتر من الفكي علي ود الزغراد ؟!
هززت رأسي بالنفي،حيث أنني لا اعرف من هو الفكي علي ود الزغراد هذا بالإضافة إلى أنني لا أرغب في الحوار .. كنت مشغولاً بمصير صديقي فلقد مشيت خلف "أدي "
مسافة تقدر بالميل ربما عبرنا صفين آخرين من بيوت القصب والقش القطاطي الكبيرة، وتهيأ لي أننا نسير في زاوية منفرجة، حينما بلغنا ما أعتقد أنه قاعدة المثلث،سمعت صوته،عالياً،بل يصرخ صراخاً وهذه أيضاً إحدى عاداته السيئة،وهي ليست علامة غضب،ولكن دليل علي أن الأمور تسير في صالحه بصورة جيدة،كان يهتف قائلاً
_ أنا قلت ليكم ما بدفع ولا تعريفة واحدة ودا مبدأ !
كانوا في حوش كبير من القصب والشوك في وسطه قطية كبيرة وراكوبة ترسل ضوءاً شحيحاً من عمقها،كانوا تحت ظل الضوء الشحيح، تبدو أشباح الرجال الخمسة جلية وواضحة .. قلت لهم
_ خلوه .. سيبوه ..
قالت لهم الأم "أدي" وتتحرك في وجهها عينان قلقتان كبيرتان
_ خاوه صحبو دا ممكن يحل معاهو المشكلة
قال مخاطباً إياي
_ أنا عايز أفهم الناس ديل الفرق مابين الرذيلة والفضيلة .. الفرق القروش العايزني أدفعها دي ... القروش البتحول اللقاء الحار الإنساني البديع الخير المبارك البيني وبين الزولة دي "مشيراً إلي عمق ظلام القطية " إلى نوع من الدعارة ..
فجأة أتي صوتها من عمق سحيق قائلة ً في بجاحة
_ أنا عايزة حقي يازول .. داشغل أنا ما بتنفع معاي فصاحة الشوعيين الكفار دي .. عايزة حقي .. عايزة حقي .. دورين زي السم !! وتقول دي دعارة .! .. دورين ودلكة وعصير رجلين وطقطيق أصابع ومص وعض .. دا كلو مِلِحْ !!
يبدو أن الحوار كان يدور بهذه الشاكلة أكثر من ساعتين،حوار الطرشان،في تجمعات صغيرة بين هنا وهنالك يري الندماء،قرب راكوبة باهتة تحت فيها كان ظلاً عصرياً ثم أبتلعه الظلام وتركهم،رائحة سمسم يشوى،قرقرة شيشة قريبة جداً،سيدتان تضحكان بتحفظ،قال لي ..
_ المرة دي جابتك ؟!
قالت أََدْيَّ منفعلةً
_ أنا "أدي " مش المرة دي !! .. سامع ؟!
انتهره أحدهم
_ آتكم مع أدي بأدب ؟!
قلت لأدي متجاهلاً كل شئ ..
_ أنا عايز أرجع ..
قالت لي مندهشة
_ ترجع وين ؟!
قلت لها
_ القطية ..
قالت
_ عايز ترجع قروشك ؟!
حيث أنها كانت رأتني وأنا أعطي المرأة نقوداً كثيرة ..
قال لي محتجاً
_ إنت دفعت قروش !! .. إذاً إنت إنسان فاسق داعر ..
لم أرد عليه ..،قلت "لأدي" متجاهلاً كل شئ
_ عايز أرجع القطية ..
قالت لي بانشراح بالغ
_ إنت إنسان مختلف، مازي صحبك ..
قال لي بصوت مرح
_ نتقابل بكرة يا أبو الشباب .. يا فالح هززت رأسي إيجاباً،وأعرف أنه قد لا يري ذلك ولكنه يفهمني جيداً...
عبر زقاقين قصيرين وجدت نفسي عند مجمع أدي السكني أو" بيت الأم"كما يسمونه ..
حيث التقيت لأول مرة "بألم قشي"..
***

قابلناها في سوق




قابلناها في سوق" القنذي" ، وهو سوق الملابس المستعملة الرخيصة يقام علي هامش السوق في مكان خجولٍ منزو حتى يضمن خصوصية الرواد وخصوصية البائع والبضاعة ،يرتاده الجنقو بين حين وآخر أما لبيع ملابسهم القديمة أو استبدالها أو لشراء أخري جديدة أو حتى لمعرفة ماذا بالسوق قد يشترونه عندما تكون في حوزتهم النقود أي عندما ينزلون الخلاء ..
رأينها من بعيد تقف مع أمام البائع تتفاوض في شراء جلباب قال فيما يشبه الهمس ..
_ الصافية .. الصافية الرعيبة .. أنا عايزها .. عايز أتكلم معاها ..المخلوقات البسيطة المهملة دي فيها أسرار ولديها تجارب مدهشة ..أنا عايز أعرف كل حاجة عنها ...
قلت له بالطريقة التي يتحدث بها ..
_ عايزها مشروع حياة ..
_ بالضبط .. حتكون إضافة حقيقية لحياتي ... تصور لو عرفتها تجاربها في الحياة .. الغريبة .. المرة دى تحكي عنها أشياء أقرب للأساطير.... كلمني عنها مختار علي ..
_ منو مختار علي دا ..
_ واحد مريض تعرفت عليهو أمبارح بالليل ... رجل طيب .. بت معه في البيت ..
وبأسلوبه المباشر المعروف ..طلب منها أن تسمح له بدفع ثمن الجلباب ، مانعت قليلاً ولكنها قبلت وشكرتنا الاثنين معاً ..ثم تبعناها إلي سوق الكجيك "السمك الجاف " ودفع لها ثمن رطل رطلين من "الكجيك ط وكومين من "الفرندو وربع اللوبة لبيضاء وبعض "الشرموط " "والمصران " ..قالت ممتنة
_ كدا تكونوا وفرتوا لي قروش للمريسة ... وأطعمتوا خمسة رجال مساكين ..لأنو دا "الميز " بتاعهم .. بعد يومين حنرجع الخلا
قال لي وكأنه يهمس
_ ليه ما نمشي معاهم الخلا ..أنا عايز أشوف الجنقو في مواقع عملهم .. أنا عايز أدرس حياتهم دراسة من شاف وعايش وعاش ..
ضحكت من كل أعماقي ، أنا أعرف أنه لا يستطيع فعل وأعرف أنه لا ينفك من كونه بورجوازي صغير متخم بالمتناقضات والادعاء والأحلام الكبيرة ،يحاول أن يقضي عطالته "صالحه العام " في مكان يقدم له الدهشة الانفعال ،الإثارة والمتعة ..."متعة المشاهدة"
أما أن يعمل في قطع السمسم فهذا من المستحيل العلاقة التي بيني بينه قائمة علي الصراحة والوضوح ،،بالإضافة لأننا كنا نعمل بمصلحة واحدة وطردنا للصالح العام معاً ،إلا إننا عشنا طفولة واحدة في قشلاق السجون بمدينة القضارف ولو أنه كان يسكن في قشلاق الضباط حيث
أن والده كان ضابطاً كبيراً يعمل مديراً للسجن ووالدي جندي بالسجون ، نمت علاقتنا من المدرسة إلي الحي إلي البيت ثم لم ننفصل عن بعضنا البعض أكثر من ثلاثين عاماً .. كلانا كان كتاباً مفتوحاً مفضوحاً أمام الآخر حيث أننا كوِّنا نفسياً ومعرفياً بصورة تكاد تكون متطابقة ، قرأنا في مدرسة واحدة ،نشأنا في بيتين ولو أنهما مختلفان بعض الشيء اجتماعيا ألا نشأنا في البيتين معاً ،بيتنا وبيتهم ، قرأنا معاً ذات الكتب اندهشا باكتشاف جبران خليل جبران والفيلسوف نيتشة والنساء ودقات ريشة فان جوخ وحفظنا أشعار أمل دنقل وناظم حكمت ومحمد محي الدين والمومس العمياء لبدر شاكر السياب معاً قرب ماسورة الماء المكسورة وسط الحي حيث كنا نجلس علي بعض أحجار الجرانيت الكبيرة بقايا منشأة تهالكت ..
وعشقنا البنات معاً ولقد أحب أختي وأحببت أخته كأول مغامرات غرامية لكلانا ، في مراهقتنا الأولى ولو أنني ما كنت أدرى ماذا كان يفعل وأختي بالضبط حيث أنهما كانا يحرصان علي إخفاء نشاطاتهما عني ،إلا أنني ،ولأن أخته كانت تكبرني قليلاً بعامين أو أكثر كنا نعمل علي اكتشاف جسدينا بصورة محمومة وممتعة ، أختي كانت تصغره بعامين مما جعلني أفترض أنا شأنهما قد يختلف ،لأن البنات الأكبر سناً هن دائماً يبتدرن ما يخص الجسد ، وأنا لا أعتقد أن لأختي تلك المهارات وإلا لأوقفته عند حده ،وحدث أن تشاجرنا في شأن تافه وسبني ،اغتظت فحدثته عن أخته الصعلوك وماذا تفعل معي ،فحكي عن أختي وقال لي بصريح العبارة
_ زي اللبوة .
فقلت له
_ أختك زي الكلبة ..
اشتبكنا في معركة قصيرة بالأيدي فضها والده بأن هددنا الاثنين بالضرب معاً إذا رأي منا ما رأي مرةً أخري ورغم ذلك لم تمس صداقتنا بسوء ،كلما حدث أنه هجر أختي وأنا هجرت أخته وبقينا صديقين دائمين لعبنا معاً،اختلفنا تشاجرنا ،افتعلنا معارك صغيرة في البنات ،قرأنا جامعة واحدة ،وكلية واحدة وتخصص واحد وأول امرأة أجرينا معها فعلاً جنسياً كاملاً هي ذات المرأة .. كانت محاضرة بالجامعة ،وكنا طالبين مشاغبين وكما :أحبت معنا .
أقول أنا أعرفه وهو بعرفني ..
قلت له
أنا ما حأمشي معاك الخلا .. حأنتظرك هنا
قال لي ضاحكاً
_ مع ألم قشي ..؟
قلت
_ بالتأكيد..
قالت الصافية فجأة ..
_ إنتو الليلة معزومين معاي .. في بيت "أدي" ..
قال فزعاً
_ تاني بيت أدي .. أمبارح قلعوا ساعتي الجوفيال الأصلية .. وشالوا كل القروش الفي جيبي .. والله لوما ستر كان كتلوني ..
قالت الصافية بثقة..
_ إنت حتكون في ضيافة الصافية .
قالت الكلمة الأخيرة وهي تندفع أمامنا فتثور موجة من الضان المختلط بعرق المريسة ..
أضافت
_ أنا لازم أكرمكم ..
أضافت وهي تنظر أليَّ
بتشربوا ؟!
قلنا معاً في آنٍ واحد
_ بنشرب ....
أضاف في إغواء
_ وعلينا نحن المستورد
قالت ضاحكة
_ علي أنا ابو حمار..
ضحكنا ونحن نتوغل في الحي عبر شوارعه الضيقة تحيط بنا القطاطي "وأصرفة" الشوك والقصب من كل جانب يمر بنا السكارى والعشاق والأطفال يحيون الصافية بكلمة واحدة
_ الصافية .
فترد بكلمتين حنينتين تتسعا للجميع
_ مرحباً "أبوي "
_ مرحباً "أمي"
فاجأتني الصافية قائلة
_ قالوا أمبارح إنت سبت صحبك للمجرمين ديل ومشيت لألم قشي .. كيف لو كتلوه ؟
قلت لها مندهشاً
_ منو القال ليك ..
قالت ببرود
كل الناس بيعرفوا الموضوع دا ..
قلت لها
_ أنا عارف مافي زول يقدر يقتلو ..
قال ضاحكاً
_ علي الأقل قبل عشرين سنة عندي مشروع مابيخلص إلا بعد عشرين سنة بعد أكون مستعد للموت
قالت الصافية سائلة
_ مشروع في الفشقة ؟!
حاول أن يشرح لها معني مشروعه العشريني ولكن فشل ،ولكن شرحت لها ،فهمت ،قالت
_ ولكن الموت من الله .. مابيد زول ..
قال
_ نعم ولكن الحياة بيد الإنسان ..
قالت بيقين عميق
_ والحياة برضو بيد الله
قال
_ كويس لو الحياة والموت والحياة بيد الله الإنسان بيده شنو
قالت بيقين
_ ولاشيء ..
أعرف أنه أغتاظ قليلاً لفشله في كسب الحوار وأعرف أنه لا يتنازل بسهولة ولكنه الآن يوفر نفسه لمعركة أخري في ميدان آخر ظهرت طلائعها عندما همس في أذني
_ الصافية دي فيها أنوثة غريبة ،أنوثة وحشية شيطانية ...أكاد أشوفها بعيني ..شوف عديل كدا ..
قلت له ساخراً
_ أنا شاميها ..
في حوش طرفي من بيت الأم أخذنا موقعنا ،ود أمونة جهز لنا كل شئ ،البلدي والمستورد معاً وأطلق نكتتين سريعتين ثم همس في أذني إذا كنت أرغب في امرأة ..... ألم قشي عفي سبيل المثال .



ثم واصل مختار


ثم واصل مختار علي حكايته ،يستطيع الآن مختار علي الذهاب لقضاء الحاجة وحده ،بل أن ذهب للدكان القريب ويشتري حجارة لبطاريته ،قال ..
_ لما قلنا بسم الله كدا ودخلنا السمسم ،كَبَّر الجلابي اسماعين ثلاث مرات ،بأعلى صوته ثم أتي بخروفين كبيرين قال إنها كرامة ومن حقنا ذبحها وقتما شئنا ذلك ،اليوم بكرة .... هي كرامة ونحن حرين فيها .
عندما يكون السمسم جيداً فتياً مرصوصاً كالجواهر علي ساق حمراء شامخة يجبر الجنقاوي علي الانحناء لحصاده حينها يصبح الحصاد مهرجاناً من الرقص ، يغني الجنقو لحناً ثرياً ،حلواً علي إيقاع ضربات المنجل ،خشخشة ربو الكليكة ورميها بالخلف ،متعة الإنجاز كليكة وكليكة وكليكة تعمل حلة ...
الحلة ،استطاعوا هذا العام أن يجعلوا سعرها يبلغ السبعة آلاف جنيه وهو أضعاف ثلاثة لسعر الموسم السابق ، كل ضربة منجل هي من جزء من ثروة كبيرة ،كل ربطة كليكة "كراع بوليس " هي بعض من حلم يتحقق...
كل حلة أنجزت هي سبعة آلاف جنيهاً تضاف إليها سبعات أخر وتسلم الأمانة" للخالة" "بالحلة"..
سبعة +سبعة +سبعة+سبعة+سبعة+سبعة+سبعة +سبعة+سبعة+سبعة+سبعة+
سبعة +سبعة+سبعة+سبعة+سبة+ سبعة+سبعة..
+
س،
ب،
ع،
ة،
_
ا،
س،
..
..
..
ة،
وأحس برأسه ثقيلة يديه مشلولتين ... رجليه غير موجودتين ... وأنه ينسحب قليلاً.. قليلاً...قليلاً من حقل السمسم
من حقل الحياة

_ أبكر ما لاحظ إنو أنا أتأخرت ،يمكن إلا لما وقعت في الواطا...
تب
حتين شافني ،أسبوع بأكمله قضاه مختار علي مريضاً في التاية ،وحيداً، حيث يذهب الجميع إلي العمل يتركونه مع الفئران ،الزرازير ،أولاد أبرق وكلب الخفير ..
_ والله تقول جاتني نفسيات ..
قلت لإسماعين الجلابي سيد المشروع ..أنا يمكن أموت هنا في الخلا ساي .. وديني الحلة .. عندي أختاً هنالك متزوجة .. وديني ليها ..
قال لي : كويس.
وشالني جابني هنا ، رماني رمية واحدة ، ،بت عمي سافرت مع زوجها همدائيت ..راجلها أشتغل هناك في التهريب ..أنا تاني .. لم يره ، كأنما رمي بشيء قذر في وادي مهمل مهجور ،كان قد وعده بأنه سيحضر له المساعد الطبي أو يأخذه للمستشفي المحلي .. أو حتى ينادي لي الفكي علي الزغراد هو زول يدو لاحقة .. ولكنه هرب منه هروباً جباناً..
ولكن بارك الله في الأخوان علي رأسهم الصافية غزالة نحيلة سوداء ،قل نحلة لأنها دائمة الحركة ،لها رائحة مثيرة عبارة عن حنان مختلط ببقية الليلة الماضية وعرق كدح دؤوب "..
هذه السيدة الهزيلة البسيطة التي يتبعها لفيف من الجنقو كظلٍ لها ،المسالمة من يحتفي بالأخوان ومجالسهم الطيبة ،هي ذاتها الحيوان الشرس الضاري في المشاريع الزراعية ،الذي عندما يقتحم حقل السمسم يرمي الحلة خلف الحلة خلف الحلة خلف الحلة
وكأنها تعمل بماكينة _ ما شاء الله _ ينجح المزارع الجلابي صاحب المشروع حتماً إذا نجح في أن يضم الصافية إلي فريق عمله ، حكي مختار علي
قالت لي
_ أنا حأأدب ليك إسماعين ود الحايل
نطقت الجملة الأخيرة بمرارة _ أضافت
_ حأخليه يبكي بدموعه ..
جابت لي الممرض ،جابت لي الفكي علي الزغراد بنفسه
جابت لي القضيم
جابت لي العدسية
جابت لي أم جلاجل
وسوت لي مديدة" الفتريتة" الحمراء وعصيدة الدخن قاطعه الشايقي _ وهو جعلي ولكنه ملقب بالشايقي
_ قالوا الصافية دي فيها جنس مَرَة؟!
وعض يده في ألم لذيذ
ضحك الجميع معاً في آنٍ واحد ولو أن بعضهم يخالفه الرأي بل يحتفظ برأي عكس ما طرح تماماً ،ولكنهم ضحكوا .. تململ البعض .. وآثروا الاستماع .
الكلام عن النساء وفيهن مثل أكل "الموليتة" مر ،حارق ولذيذ ودائماً له طعم متجدد لديهم ،ربما لأنه يحرك حنيناً منطوياً في ذواتهم عن أم جميلة فقدت في موطن ٍ ما ، جاءوا منه جميعاً ألي هنا ولكن _أيضاً_ للصافية خصوصيتها ،فهنالك جوانب مظلمة في حياتها وخاصة فيما يتعلق بنشاطها الجسدي ،وكلما يدور في هذا الشأن ليس سوي أسطورات صغيرات تخمرن في أودية وخيران دافئة وتحت سنطات عجفاوات وعلي حوافر الثعالب والأرانب وابندلاف ..
أسطورات حالمات وديعات
قال له مختار علي متحدياً
_ إنت لقيتها وين !!
قال..
_ لو ما لقيتها .. ما بكون سمعت بحكايتها مع ولد فور ؟!
سوف لا نتطرق لهذه الحكاية الآن،لأنها معروفة ومكرورة وقد يتولد لدي البعض انطباع بأننا نعرف كلما يحيط وهذا مجانب للحقيقة فكل شخص يحتفظ برواية خاصة عنهما ، ولقد حكيت لنا من قبل عشرات الأشخاص ،نساء ورجال وأطفال وكل حكاية ما كانت تشبه الأخرى .. وما جاءت به ما يشبه الندوة في بيت أداليا دانيال يوم مريستها ،كان شيئاً آخر.
الجناح الذي خصتنا به الأم من بيتها الكبير المتسع يقع في آخر صف من القطاطي الملحقة برواكيب صغيرة ممتدة في شريط قد يصل طوله مائتين متراً ،وهو موقع شبه مهجور وربما : خاص .
اكتمل المزاج بالشيشة التي برع في إعدادها ود أمونة الذي لم يحتمل بقائنا بدون نساء يحلين طعم المؤانسة ويكسبن بعض المال ولم تعجبه فكرة أننا نحتفي بهذا الوحش في _ في نظره _ الصافية .. وذكر في أذني اسم ألم قشي كلما وجد فرصة لفعل ذلك ولأنه لا يعرف عن زهدي في النساء ، ظل يلاحقني إلي أن لاحظت ذلك الصافية وتحدثت معه بأسلوب غليظ حرمنا من نكاته وملاحظته الجميلة عن الحلة وناسها .
قالت لنا الصافية من بين قرقرات الشيشة ..
_ البلد دي أسستها حبوبتي الصافية ....
أنا سموني عليها .
لمن جات هنا ،البلد ما فيها أي شي غير المرافعين والقرود وابندلاف والجنون ...
البلد كلها غابة كتر ولالوب ونبق ..
وحكت لنا حكايات كثيرة ممتعة عن المكان قبل عشرات السنين ..
عن سجناء يهربون "بالفرو" من سجن الحمرة ،عن جنون يسكنون ويتزاوجون مع البشر وعن بشر يتحولون إلي حيوانات مفترسة وآخرين ،يموتون سبع مرات قبل أن يتحولون "أبو لمبة"وعن وعن ...
إلي أن قاطعها صديقي سائلاً ..
_ قولي لينا .. حكايتك شنو مع ود فور ؟!
أنا، والحق يقال ،خفت ،ولأول مرة في حياتي أخشى ردة فعل لا أستطيع أن أتنبأ بها إطلاقاً
نَهَضَتْ ، مدت" ليّ" الشيشة إلي َّ،ودون أن تنظر إلي أي منا مشت نحو قطية تبعد قليلاً عن مجلسنا ،كانت الأكبر حجماً ،منذ أن غابت الشمس أضاءها ود أمونة _ مع بقية القطاطي الفارغة حتى لا يتخذها الشيطان مسكناً_ اختفت هنالك .. لم نسمع لها حساً لم أستطع أن أتفوه بشيء ،ولو أنني كنت في أشد الحاجة لكي ألومه ،وأن أكرر ملحوظتي عن سلوكه الفظ وطريقته المباشرة الفجة في مخاطبة الناس
_تعلم الكياسة _ تعلم كيف تخاطب الناس ..
لم أتفوه بكلمة واحدة ،وضعت "الليَّ" علي حامله ونهضت ،مشيت نحو الزقاق الذي يقود إلي زقاق يقود إلي زقاق ،يمر عبر الرواكيب والقطاطي ،تحت أشجار النيم خلف زريبة صغيرة للأغنام تفوح منها رائحة "المُشك" ثم يتلوي بي زقاق آخر ليلفظني خارج بيت الأم في طريق رحبة يؤمها السكرانون والعاشقون ولفيف من خلق الله من الجنقو ....
وجدت مختار علي وقد خلد إلي النوم سألني عن صحبي بصوت ناعس مرهق
_ تركته في بيت "أديَّ" مع الصافية ..
قال لي محتجاً
_ لييه !!
قلت له
_ هي رغبته ...
قال لي وقد استيقظ تماماً وجلس .
لكن مع الصافية ..
قلت له
_ نعم .. مع الصافية ..
قال لي ..
ما سمعت بقصتها مع ولد فور ؟!
قلت له
- حصل شنو لود فور ؟!
- قال لي
- أقول ليك شنو ولا شنو ...
- صمت ثم أضاف
- في الحقيقة مافي زول متأكد من الحصل بالضبط لود فور ولكن كل الناس متأكدة إنو حصل ليهو شئ ..كويس .. كعب .. الله يعلم .. المهم ربنا يستر .. المهم ربنا يستر ..
قلت له وقد عاد وأضجع علي السرير في استسلام
_ ما يهمني إنو ما حتقتله .... لأنو ما بيموت بالساهل .. وكل شئ غير الموت هو تجربة مفيدة تنفع الإنسان
ولكي ينهي النقاش سألني مختار علي إذا كنت أرغب في النوم داخل القطية مثل صديقي ،أكدت له أنها رغبتي أيضاً وأنني معتاد علي ذلك منذ الصغر ، طالما لم تكن لدي رغبة في النوم قلت لنفسي :لأجرجرنه في الكلام ولو في الموضوعات التي يفضلها كبار السن مثله
_ ليك كم سنة هنا ...
انقلب إلى جانبه الأيسر ليقابلني وجهاً لوجه
والله لا أتذكر أتذكر أنا جيت هنا متين أول مرة ولكن مما كانت" الحلة " دي بيت واحد كبير مز روب بشوك الكتر والمرافعين والثعالب تحوم والشمس في نص السما ، وكان الجلابة البيزرعوا هنا محسوبين علي أصابع اليد الواحدة والأرض المزروعة نفسها كانت صغيرة وضيقة ، وكنت أنا وكيل مشروع ،أكبر مشروع ، ما بشوف التاجر إلا يوم الحصاد وبس كل البوابير والعمال كانوا تحت إداراتي أنا .. ولكن نحنا ما فينا فايدة .. الواحد بلقي العشرة والعشرين في زمن القرش عندو قيمة .. ولكن الواحد مننا ينكسر في بيوت المريسة دي حلوة دي مرة دي حامضة دي فطيرة .. دي خميرة دي فتاة ودي عز باء لحدي ما يكمل الفي جيبو –وتاني يبدا من جديد .. أكتر من أربعين سنة بالصورة دي .. ويمكن حتى تقوم الساعة .. الواحد فينا قرش ما بيوفرو ....
قروش المشاريع دي تقول فيها شيطان ثم أضاف ..
_ من العيش للعيش .
استيقظنا مبكراً كالعادة هنا الناس يخلدون إلي النوم متأخرين ويستيقظون مبكرين في الغالب لا ينامون سوي ثلاث ساعات ، أعطيته ما تبقي لي من تمباك وقصدت بيت الأم مباشرة، كانت الشوارع تضج بالمارة القادمين من القرى القريبة في طريقهم إلي سوق الجمعة ، الباربارات مشحونة بالسمسم ، القرويون يقتسمون ظهرها الضيق ، مر أمامي لوري أيضاً وكارو لماء الشرب ،ناداني الطفل الذي كان يقود الكارو باسمي ، عندما ألتفت إليه معيراً إياه كل انتباهي ،قال لي
_ صحبك .. نجمته الصافية !؟
قلت مندهشاً
قلت شنو؟!
قال مكرراً في إستمتاع خاص ولذة قوالاتية بالغة
_ صحبك نجمته الصافية ... الحلة كلها عارفة .. إنت ما عارف ولا شنو . ؟أدبته الصافية أدب المديح
قلت له بسرعة
_ وين ومتين ؟!
قال وهو يطرق علي برميل الماء بعصا قصيرة غليظة مسوقاً مائه ،دون مبالاة ..
_ أمبارح بعد ما مشيت إنت وسبتو في بيت أدي مع الصافية ..
***


سوق العمال في يوم السبت



سوق العمال في يوم السبت ، عند الميدان الكبير الذي يقع جنوب المركز الصحي الذي شيدته منظمة عابرة اسمها "كريستيان أوت ريتش" كمقر لرعاية الأمومة والطفولة وأحتله شركة التأمين الصحي والتجاري مشرداً الأمهات الأمهات والأطفال ، فيعرف الآن – الميدان _ بميدان التأمين الصحي ، تحت شجيرات النيم الخمس يقع سوق " علي الله " يؤمه العتالة والجنقو والبناءون والنجارون والسماسرة كذلك ،كانت لاندرفرات وباربارات ولواري وبكاسي التجار تصطف عند الجانب الجنوبي من السوق قرب موقف الشواك حيث سوق الميكانيكية والحدادين والزيوت والأسيرات ..
التجار الجلابة في جلابيبهم الكبيرة وأوجههم المنعمة يتوسطون حلقات العمال ،يساومون ،يفاضلون ، يخادعون ، يحاورون ، يجادلون ، ويسترضون العمال الجنقو ،ويبدو واضحاً أنهم يواجهون بعض المصاعب اليوم
قالت لي جنقاوية إستفسرناها ، فشرحت لنا ما يحدث في سوق " علله"
_ أول مرة يحصل في البلد يتفق الجنقو كلهم علي سعر واحد ...
كان واضحاً أن ثمة أمر قد تم ترتيبه وأن اتفاقا ما قد وقع بين العاملين ، علي أن يصبح سعر الحلة من السمسم ثمانية ألف جنيه ، ويقول التجار أن السبعة ألف جنيه التي يتقاضاها الجنقو الآن عن "حلة " السمسم لا تحتمل دعك من ثمانية .....
_ ثمانية ألف ،سبعة لأ
_ سبعة ألف ، ثمانية لأ.
ولكن يعلم الجنقو ،ويعلم الجلابة ،وقد أوضح ذلك الجلابي الثري اسحق هرون البرقاوي ..
_ السمسم .... السمسم اللعين هو صاحب الكلمة الأخيرة ...
وفعلاً كلما ارتفعت الشمس في قبة السماء وهبت الريح الشمالية الحارقة وأرقصت المكان ، تسمع أغنيات السمسم الحزينة وتُرقص إيقاعاته المجنونة مما يجعل السنابل السمينة تتفتق ممزقةً أثواباً يريد لها الجلابي أن تبقي إلي حين يصلها منجل الجنقاوي .....
الشمس الآن في برج السمسم بالذات ،والقمر الذي سوف يطلع عندما تغيب الشمس هو الذي سيفتق فساتين السنابل الشحمة فيندلق الذهب منها إلي الأرض ،يلتقطه النمل ليحتفظ به لحين أيام الشدة موسم الأمطار حيث يجبره الطقس علي البقاء في باطن الأرض محتمياً بأعشاشه الحصينة ....
الجنقو متأكدون من أنهم سوف يكسبون الرهان والجلابة الجلابة أيضاً متأكدون أنهم سوف يخسرون ولكن قليلاً من الحوار قد يجدي ، ودخل الوسطاء من سماسرة ووكلاء مشاريع وتجار كلام ..
_ نجيب عمال من الفشقة .. أمهر وأرخص ونخلي ديل ياكلوا التراب .
الذين سمعوا الهمس من الجنقو ردوا لبعضهم البعض
_ الفشقة ... ه ه ... يخلوا سمسم الفشقة لمنو ؟!
_ معسكر اللاجئين ؟!.. هه .... في لاجئ يشتغل في قطع السمسم .. ليه .. إلا لو جنَّة ديل المنظمات تطعمهم بملاعق من ذهب وتقري أولادهم ...
_ بقوا أغني من المواطنين ... يحمدوا ربهم الخالقهم ...
_ أحسن نمشي نشتغل في الحفر بتاع الكوابل مع شركة الاتصالات الجديدة .. عايزين عمال .
_ والله ناس البنك برضو .... عايزين طاب ..
_ أنا لو أشتغل شغل "ود أمونة " ما بقطع الحلة بسبعة .
_ حنجيب عمال من خشم القربة ..
ضحك جنقاوي طويل سمين يتمتع بصوت قوي قال ..
_ خشم القربة .. ديل عايزين مدرسين "وطمبارا" ولا شنو؟!
قالت الصافية للجميع ..
_ أرح يا شباب نمشو .. القوقو قال داير الحلة .. نكمل سكرة أمبارح ..
وعندما تحرك فوج العمال نحو "الحلة" ،وعندما قاصدو البنك تحت التشييد ،تحدث السمسم سراً لقلوب الجلابة ..
_ رضينا بالتمانية .. وإن شاء الله ما تنفعم وتبقي ليكم بالساحق والماحق والبلا المتلاحق ..
قبل الجنقو علي شريطة أن يذهبوا غداً للمشاريع وأن يكملوا سكرة الأمس وأن يحتفلوا بنصرهم الكبير الذي علق عليه الفكي الزغراد
_ عملية ما بتتوصف .
في الصباح الباكر غادروا إلي المشاريع ، ما عدا مشروع الجلابي اسماعين ،قالوا إن عليه أن "يتأدب".
مما أعاد الاعتبار إلي مختار علي ، فبكي من الفرح .
بقينا وحدنا "بالحلة" المطاعم بدأت تذبل تدريجياً كلما امتلأت العربة بالجنقو وغادرت إلي المشاريع ، النساء اللائى كن يعملن بالشاي والقهوة في السوق أغلقن أماكنهن وذهبن للبيوت ،تجار الملابس الجاهزة والقنذي والأدوات الكهربائية منحوا أنفسهم إجازة استجمام لخمسة عشر يوماً حيث يعود الجنقو مرة أخري وتعود الحياة إلي للمكان .
سيأتي كل يوم عمال جنقو جدد ولكنهم سيرحلون سريعاً إلي المشاريع .. عربات الجلاب دائماً في الانتظار جلسنا قرب امرأة من "الحماسين" كانت في طريقها إلي جمع حاجياتها والمغادرة إلي منزلها ولكننا طلبنا منها أن تصنع لنا قهوة ،فوافقت ،انضم إلينا عاملون في شركة الاتصالات كانوا يلبسون أفرولات زرقاء وحمراء عليها بقع من الزيت ،إنهم الأم في ربط "الحلة " بالعلم الخارجي ،يحتاج لخدماتهم الجميع ،بالإضافة لموظفي البنك القادمين وضباط الجيش والشرطة وموظفي المحلية ومعلمي المدارس وغيرهم من القادمين من خارج "الحلة" من عمالة فنية نوعية ،فإن الجنقو والجلابة أيضاً يحتاجون إلي التواصل مع الدنيا خارج "الحلة " وهذا أمر واضح......
حدثن بفخر واضح أحد موظفي شركة الاتصالات
_ الآن الاتصالات في السودان تعتبر الأولى في أفريقيا والوطن العربي الكبير ... وهدف الشركة البعيد : تلفون لكل مواطن في أية بقعة من بقاع السودان في امتداد المليون ميل مربع ..
قال له ساخراً
_ تكون إستراتيجية الشركة إذا قالت تلفون ورغين خبز لكل مواطن ... كان حتكون مقنعة بصورة أكبر ..
قلت محاولاً تلطيف الجو ..
_ لكن ما كل السودانيين بياكلو رغيف ... في ناس بتاكل لقمة وفي الشمالية قراصة وفي الوسط كسرة وفي ناس بتتغذي بالمريسة .... وفي ناس ما بيا كلوا خالص بيشربوا بس....
وحكيت لهم قصة جدي الذي عاش ما يقارب المائة سنة ولم يأكل قطعة ،أو لقمة خبز واحدة .. عاش علي الشرب فقط ... شرب المريسة .
وطبعاً اختلقت هذا الجد لتلك اللحظة فقط.





ثم واصل مختار


م واصل مختار علي الحكاية ، البلد ما كان فيها غير المرافعين والحلاليف وأبندلاف والقرود ،الثعالب في كل مكان ، الجنون تسكن " الكرب " وطرف البحر ومرة مرة تلقاها في "الحلة " ،كان فبي بيت واحد كبير مز روب بالشوك والقش والكلاب ، بيت الصافية الحبوبة وديوانها المعروف "بالحلة " . وكان حقيقة "حلة " حيث نزل به كل القادمين الأوائل من مختلف الأجناس ومختلف البلدان المجاورة وبعضهم جاء به الحج من نيجريا والكامرون وتشاد وحتى المغرب وساحل العاج ، أقاموا بالديوان قبل أن يواصلوا سفرهم أو يتخذون بيوتاً خاصتهم من ثم يستصلحون أرضاً زراعية يزرعونها بالسمسم ،منزل واحد كان مركز الدنيا كلها هنا وامرأة واحدة سمعتها تملأ الشرق كله .. في الحق ما كانت الصافية الجدة هي مؤسسة هذا المكان ولكنها كانت الأشهر بين صافيات كثيرات عشن في هذا المكان ، سلالة جد جاء هارباً من سجن الحمرة في سنة موسومة " بسنة النجمة أم ضنب " حيث ظهر في السماء في تلك السنة مذنب ضخم ظل يدور حول الأرض أو الشمس أو أن الأرض والشمس كانتا تدوران حوله لأسبوع كاملٍ ، وكان يُري نهاراً جهراً يجرجر ذيله المرعب مختالاً في السماء الفسيح ألهم الخيال الشعبي أسطورات بقين لسنوات قادمة كثيرة .
كان متهماً بسرقة بيت القشي نفسه ، وسيقتلونه بالتأكيد ،ضرباً أو جوعاً ، كان المسجونون يخرجون في مجموعات يربطون علي حبل واحد من التيل يطوفون بالأحياء والأسواق والمطاعم يأكلون بواقي الطعام القذرة أو يسألون الناس الطعام حيث كانت هي الوسيلة الوحيدة للحفظ علي الحياة وتجنب الموت جوعاً .. لأنه لا يقدم طعام بالسجن مطلقاً ، كان والدها عبد الرازق مع بعض أصدقائه في مطعم بالحمرة قرب موقف همدائيت يتناولون "الانجيرا" "بالزقني " و"الدليخ " عندما رأي توأمه نفسه عبد الرازق مربوطاً من قدميه في حبل التيل مع عشرين مسجون آخرين ، تفوح منه رائحة كريهة ، احتضنا بعضهما البعض إلي أن فرق بينهما السجان ، رطنا بلغة تخص تخص قبيلتيهما ، ثم أعطي توأمه طعاماً ومالاً ووعداً.
يعرف عن توأمه أنه خجول عديم الحيلة لا يسرق شيئاً مهما صغرت أو عظمت قيمته ، ويعرف أيضا ً أن عبد الرازق قد يموت بالسجن إذا لم ينجده وهو لا يعرف أحداً من المسئولين أو وجهاء المدينة،
وليس لديه مالاً كثيراً للرشوة
أمامه بديل واحد فقط ،ومضي نحوه دون تردد.
***



عبد العزيز بركة ساكن غير متصل   رد مع اقتباس