عرض مشاركة واحدة
قديم 21-12-2007, 11:44 AM   #[15]
خالد الحاج
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية خالد الحاج
 
افتراضي

كان خالد الكد عليه الرحمة إنسان فذ نادر المثال.. حبوب محبوب..
وكما ذكر أخونا شوقي بدري بقوله (أحسن من يكتب عن خالد الكد هو الدكتور محمد محجوب عثمان)
وأضيف أنا أن رفاق خالد الكد هم أحسن من يحكي عنه..
ستكون مشاركتي بمقالات سطرها رفاق المرحوم خالد الكد .


(1)

لَكَ أَنْ تَرمِيَ النَّرْد!

بقلم/ كمال الجزولى


فجر اليوم سطعت فى ذاكرتي ، مصادفة ، وأثناء بحثي فى بعض مراجع علم النفس لأغراض مهنيَّة بحتة ، حكاية فى غاية الغرابة وقعت لى عام 1977م مع صديقى الراحل خالد الكد عليه رحمة الله ، ولست متيقناً مِمَّا إذا كان من الممكن تفسيرها بـ (الاستبصار Clairvoyance) ، أو (التخاطر Telepathy) ، أو ما إلى ذلك مِمَّا يدخل فى باب (الادراك وراء الحِسِّي Parapsychology) ، أحد أكثر أبواب علم النفس تعقيداً. كنا معتقلين ، هو وأنا ، على أيام النميرى ، بسجن كوبر ، فأصبنا بتسمم حاد اقتضى نقلنا إلى المستشفى العسكرى بأم درمان ، حيث وُضعنا فى غرفتين منفصلتين تحت الحراسة. لكننا ، عدا ساعات القراءة والنوم ، كنا نقضى الوقت كله معاً. وكالعادة كان معين خالد من الحكايات لا ينضب ، بأسلوبه الذى يغلب عليه الحماس والتشويق ، وسط ضحكاته المجلجلة المُعدية. وذات ظهيرة زارنا صديقى الآخر وشقيق خالد المرحوم الأديب طه ليودِّعنا ، كونه سيسافر غداً ، ولمدة أسبوع ، فى مأمورية تفتيشيَّة من بنك السودان إلى نواحى سنار. بعد يومين لاحظت ، أول المساء ، تغيُّراً مفاجئاً على خالد. خَبَتْ ، فجأة ، شهيته للأكل ، وفقد حماسه للحكى ، وانطفأت ضحكاته المجلجلة ، وأصبح كثير الصمت والسهوم. إستفسرته ، فلم يستطع مداراة تردُّده فى الاجابة. قلقت ، فسألته إن كان طه أسرَّ إليه فى تلك الزيارة بأمر مزعج ، فهز رأسه بالنفى.

ـ "وإذن .. فيم المشكلة"؟!

ولأننى كنت متيقناً ، بحكم عُشرة أسريَّة لصيقة ، من عمق المحبة بين الشقيقين ، فقد تعجبت لردِّه بصوت متهدِّج:

ـ "المشكلة طه نفسه"!

سألته ، وأنا أضغط على الحروف متوجساً:

ـ "إن شاء الله خير"؟!

إلتوى وجهه الصبوح بالألم برهة ، ثم انصرف عنى يحدق عبر النافذة ، ثم ما لبث أن فجَّر قنبلته وهو يطرقع أصابع كفيه يخفى ارتباكاً مفضوحاً ، ويتحاشى أن تلتقى نظراتنا:

ـ "طه .. مات"!

لم أستطع ، للوهلة الأولى ، أو ربما لم أرد ، أن استوعب عبارته جيداً! حسبته قال "مريض" أو شيئاً من هذا القبيل.

ـ "وأنت .. من أين لك وحدك بهذا الكلام ، وطه مسافر ، ونحن متلازمان هنا على مدار الساعة"؟!

ـ "قلت لك طه مات .. مات فى القطار"!

عزَّ علىَّ أن يتبادر إلى ذهنى أن صديقى الحبيب أصيب بلوثة مفاجئة ، أو أن طول الحبس بدأ يؤثر عليه ، وهو المعروف بالجلد والبسالة والصبر على المكاره. وربما لهذا ألفيتنى ألوك كلاماً لا أذكر منه سوى خلوِّه من أى معنى محدَّد. لكنه قاطعنى مستطرداً:

ـ "شوف يا كمال .. وأرجوك صدقنى ، عندنا فى الأسرة حدس لا أجد له تفسيراً ، لكنه ما خاب ولا مرَّة. أبوى حسن ، توأم أبوى حسين ، كان منتدباً بنيجيريا. ذات يوم عاد أبوى حسن من الشغل باكراً ، على غير العادة ، ليستلقى بكامل ملابسه على كرسى القماش فى البرندة ينضح عرقاً وقلقاً وتوتراً. هُرعت إليه أمى منزعجة ، فأخبرها بأن توأمه مريض فى غربته! هل هاتفك؟! قال: لا! هل أبرق؟! قال: لا! هل أخطرتك السفارة؟! قال: لا! إذن قول بسم الله! لكن ، قبل أن تكمل عبارتها ، كانت عربة حكوميَّة تقف أمام البيت ، وينزل منها أبوى حسن ، بادي الشحوب والاعياء ، ومتوكئاً بالكاد على أكتاف بعض زملائه ، بينما انهمك بعضهم الآخر فى إنزال حقائبه من صندوق العربة. أرقدوه على السرير ، الرقدة التى لم يقم منها ، وهو يحاول طمأنة أبوى حسين بصوت واهن: تعَب بسيط .. لم أشأ إزعاجكم بالخبر قبل وصولى"!

وختم خالد تلك الحكاية بقوله "هذه واحدة" ، ثم واصل:

ـ "أمسية تخرجى في الكلية الحربيَّة. كانت الأرض تكاد لا تسعنا فرحاً بالدبورة ، والميدان يغصُّ بالأهل والزغاريد والأضواء ، وفرق الموسيقى العسكريَّة تشق أنغامها عنان السماء. هنأنى والدى الذى حضر المراسم الأولى فى بدلة دمور جديدة ، قبل أن يغادر ليلحق باحتفال خاص أعده أصدقاؤه فى بيت حماد أفندى توفيق. لكن ، لم تكد تمر دقائق معدودات حتى دهَمنى ، بغتة ، وبلا سبب معلوم ، آخر إحساس يناسب ذلك اليوم وذلك المكان .. غثيان وانقباض ودوار رأس وعرق يتفصَّد من كل جسمى. وعلى حين كنت أتداعى ، وزملائى يسندوننى ، ويبحثون عن القائد لنقلى إلى المستشفى ، كان المشهد الفاجع يتراءى لي فى البداية غباشاً ، ثمَّ سرعان ما راح يتحدَّد وينجلى ، حتى إذا بلغ كمال وضوحه ، كان أبي مدهوساً ، أمامي ، تحت عجلات عربة مسرعة ، وبدلة الدمور الأنيقة غارقة فى الدم! لحظات وظهر القائد ليأخذنى من يدى ويدخل بى إلى مكتبه قائلاً إنه يريدنى لأمر مهم. بدأ حديثه بمقدمة ، كان واضحاً أنها ستطول ، عن الموت الحق والحياة الباطلة ، سوى أننى قاطعته ، فجأة ، مبهور الأنفاس ، وبصيغة تراوح بين السؤال والتقرير:

ـ "الوالد .. الشارع أمام الكليَّة .. حادث حركة"؟!

فما كان منه إلا أن نهض رافعاً كفيه المبسوطتين ، يتمتم بتأثر:

ـ "أحسن الله عزاءك ، وجعل البركة فيك وفى أخوانك ، الفاتحة"!

إنتقل خالد ، بعدها ، إلى الواقعة الثالثة فى سلسلة الأمثلة التى طفق يسوقها كي يقنعنى بأخذ ما يقول عن خبر طه على محمل الجد:

ـ "كنت مسئولاً عن تدريب بعض المستجدين ، وكنت أقيم بغرفة فى المعسكر. وذات مساء ، وأنا في الحمَّام بعد نهاية يوم شاق ، إعترتنى نفس الحالة ، الغثيان والانقباض والدوار والعرق والمشهد الذى يبدأ أغبشاً ثمَّ ما يلبث أن يستكمل تمام وضوحه .. أمى مسجاة على فراش الموت! إنطلقت ، كما القذيفة ، لاهثاً إلى حيث التلفون. ردَّت على شقيقتى الصغرى ملكة. سألتها:

ـ "هل أمى بخير"؟!

ـ "بخير والحمد لله"!

ـ "هل هى بالقرب منك؟! دعيها تكلمنى"!

لحظات وانساب صوتها عبر التلفون تبدى دهشتها من انزعاجى بلا سبب. وكانت محقة ، فما كنت تركتها تشكو من شئ عندما ودعتها بعد عطلة نهاية الأسبوع الماضى! ولكى أدارى حرجى قلبت الموضوع إلى تشهِّياتٍ لطعام رجوتها أن تعدَّه بنفسها غداً وترسله مع سائقى!

لكن ، ما من شئ فى تلك المحادثة طمأننى ، فعدت إلى غرفتى بنفس الحالة البغيضة! قلت أذهب إلى نادى الجنود علنى ، بمشاهدة التلفزيون مثلاً ، أبدِّد ذلك الاحساس الثقيل .. وهيهات! فلا المشى فى الظلام ، ولا مشاهدة التلفزيون ، ولا ضجة النادى أجدت فتيلاً. فعدت واضطجعت على سريرى أتقلب فى العرق والأرق والقلق ، حتى أسلمنى الارهاق، قبيل الفجر ، إلى غفوة ما أظنها طالت حين أيقظتنى حركة أقدام خفيفة فى الغرفة. هببت واقفاً لأجد بعض الأهل فى الجلابيب البيضاء والعمائم. سلموا ، بارتباك ، ثمَّ شرعوا فى المقدمة التى سوف تطول عن الموت الحق والحياة الباطلة .. غير أننى قاطعتهم وقلبى فى حلقى:

ـ "الوالدة"!

ـ "البركة فيك يا خالد .. الفاتحة"!

إنسلخ المساء بأكمله وخالد يروى لى حكاياته الغريبة العجيبة. لكن ما كان لأىٍّ منها أن تقنعنى بأن طه الذى ودعناه أول البارحة ، شديداً لضيضاً ، قد مات لمجرَّد أن نفس خالد قد هجست بهذا ، أو لأن لدى الأسرة تاريخاً قديماً مع مثل تلك الخبرات الأليمة! مع ذلك طيَّبت خاطره بكلمتين ، ثمَّ ودَّعته ، وذهبت إلى غرفتى لآوي إلى فراشى ، محاولاً أن أستقطر النعاس بلا طائل ، فقد ظللت ، حتى قبيل الفجر ، أتقلب فى العرق والأرق والقلق، وكلمات خالد تطنُّ فى رأسى طنيناً.

إستيقظت متأخراً فى الصباح. وجدت الحرس قد تبدَّل. أخذت حمَّاماً بارداً ، وغيَّرت ملابسى ، بنيَّة أن أتوجه ، كالعادة ، لشرب الشاى والقهوة معه فى غرفته ، متعزِّياً بأننى سأجده ، حتماً ، وقد نفض عن نفسه الكرب ، وعاد ضحوكاً بشوشاً ، وحكاءً لا يُمل. لكننى ما أن خرجت من الحمَّام حتى فوجئت بعدد من آل الكد فى الجلابيب البيضاء والعمائم يملأون الغرفة! سلموا ، وقبل أن يشرعوا فى مقدمة سوف تطول عن الموت الحق والحياة الباطلة ، وجدتنى أقاطعهم صائحاً ، وقلبى فى حلقى:

ـ "طه! متى وأين وكيف"؟!

ـ "مساء أمس. فى القطار. بالقرب من سنار. أزمة قلبيَّة حادة لم تمهله ريثما ينقلوه إلى أقرب مستشفى. جهاز الأمن منح خالداً إذناً ، هذا الصباح ، لمدة ثلاثة أيام لحضور المأتم تحت الحراسة ، غير أن المساعي جارية لاستصدار قرار بإطلاق سراحه نهائياً قبل رفع الفراش ، وقد طلب أن نجئ لإبلاغك وتعزيتك ، لكن .. كيف عرفت"؟!



التوقيع: [align=center]هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ، معجزةً تطهّرُنا بها،
وبها تُخَلِّصُ أرضَنا من رجْسِها،
حتى تصالحَنا السماءُ، وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟
علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
فنّ النّهوضِ من الجراحْ.

(عالم عباس)
[/align]
خالد الحاج غير متصل   رد مع اقتباس