اقتباس:
جريدة المجهر الثلاثاء 13 نوفمبر 2012م الموافق 28 ذوالحجة 1433هـ العدد 204
رحلة في طيات الكتاب - لوطني وللتاريخ .. مذكرات الشهيد الشريف حسين الهندي
السودان يداوي الجراح
ويقنع ’’عبدالناصر‘‘ والملك ’’فيصل‘‘
بحضور مؤتمر القمة في الخرطوم !!
الحلقة الحادية عشر
إعداد خادم التراث / محمد الامين الشريف عمر الهندي
هو الشريف الحسين بن الشريف يوسف (الهندي) بن الشريف محمد الامين ، بن الشريف يوسف بن الشريف احمد بن الشريف زين العابدين بن الشريف حمد بن الشريف آدم بن الشريف محمد الشهير بالهندي ، الذي علق به لقب الهندي لأن مرضعته في مكة كانت هندية الاصل .
ولد الشريف حسين في عام 1924م ، ونشأ وترعرع بضاحية بري الشريف شرق الخرطوم ، وقد الحقه والدهـ بالخلوة لحفظ القرآن الكريم ، فأتم حفظه في سن باكرة .. ثم حضر خاله الاستاذ احمد خير وأخذهـ معه ليتم دراسته بمدينة ود مدني والحقه بالصف الرابع بالمدرسة الاولية .. وفي منتصف الصف الرابع ذهب الشريف الحسين لتلقي دراستهم الثانوية بكلية فكتوريا بالاسكندرية بمصر .
وإنضم معظم زملاء الشريف الي الاحزاب الاتحادية التي اندمجت في الحزب الوطني الاتحادي عام 1953م ، وكان عدم إنضمام الشريف لهذه الاحزاب مثار تساؤل ، غير أن بعض المقربين كانوا يعرفون ان من رأي الشريف أن الطائفية ينبغي ان تبتعد عن العمل السياسي الحزبي ، وبعد إعلان دمج (الحزب الوطني) في (الوطني الاتحادي) سجل الزعيم اسماعيل الازهري رئيس الوزراء ورئيس (الحزب الوطتي الاتحادي) علي رأس وفد من الحزب والحكومة ، زيارة الي قرية (العقدة) والتقي بآل الهندي في معقلهم .. وبعد تلك الزيارة ، أعلن الشريف حسين إنضمامه رسميا الي (الحزب الوطني الاتحادي) .
وفي عام 1958م ترشح الشريف في دائرة الحوش عن (الحزب الوطني الاتحادي) وكان في الوقت نفسه مشرفا علي الانتخابات في دارفور ، وقد فاز في دائرته فوزا كاسحا .
وكان الشريف علي صلة وطيدة بكثير من حركات التحرر الوطني ويساعد بعضها في الحصول علي السلاح ، وكان يشرف علي معسكرات المقاتلين السودانيين المقامة بليبيا واثيوبيا ضد نظام نميري العسكري ، وكان من المناصرين بشدة لحركات المقاومة من اجل التحرر في العالم عموما وفي افريقيا ، وقد كلفه عبدالناصر القيام بمحاولة لخطف الرئيس الكنغولي ’’باتريس لوممبا‘‘ وكادت محاولته ان تصل الي غايتها لولا ان خصوم ’’لوممبا‘‘ أقتادوهـ قبل وصول ’’الشريف‘‘ الي مكان مجهول وقتلوهـ .
ولخروج الشريف من السودان قصة طويلة معروفة في تاريخ السودان - تخللتها وحدثت بعدها احداث جسام في رحلة حياة عامرة بالمواقف .
وقد قضي الشريف اخريات ايام حياته في العبادة وتلاوة القرآن .. وتوفي في اثينا في يوم 9 يناير 1982م .. وكان قد تزوج في أخريات العهد الحزبي الثاني من كريمة الخليفة احمد عبدالوهاب .. ولم يخلف أبناء ، ولكنه خلف في الدنيا صوتا داويا .
سألنا ’’عبدالناصر‘‘ هل أنتم واثقون من جماهير السودان ؟ إنها أكثر الجماهير وعيا . والتزاما وتأثرا بالقضية القومية ، وهذهـ أول مرة أقابل فيها جماهير عربية ، بعد النكسة .
قلنا ان مقابلتها ستكون مضرب المثل ونحن ادري بشعبنا وهو ذو حس سياسي وطني وقومي ، سيكون حياتك غير الذي تخشاهـ بل سيكون عكسه . وستري بنفسك إنك ربما تلوم القدر الذي يجعل اول جماهير عربية ستقابلها في الخرطوم - ولكننا واثقون أنك ستحمد الله علي ان اول جماهير ستقابلها هي جماهير الخرطوم ، إنها رافضة للهزيمة وسيكون موقفها هو الالتزام بمثل هذا الموقف هذا الذي سيجعلها تخرج جميعا لإستقبالك ، فهي تعرف دورها القيادي ومسؤولياتها في هذهـ المرحلة ، وستقوم به ، وستري ذلك بنفسك .
إذا كنا قد إخترنا أي عاصمة عربية أخري فقد تكون هناك مخاوف ، أما جماهير السودان فإنها تعرف دورها في هذهـ المرحلة وستؤديه بكل الاصرار وكل الحس والوعي السياسي والالتزام والجراءة ، وذلك فستعبر عن رفضها للهزيمة في حرارة إستقبالك وهي تعرف أهمية ذلك في العالم وفي المنطقة ، وعندك شخصيا ، إن حظنا كبير لأن جماهير السودان هي أول جماهير عربية ستقابلها بعد الذي حدث في (5) يونيو - حزيران ، وسيترك استقبالها أثرهـ في العالم وفي المنطقة وعندك شخصيا ، قال : (هل ستعملون علي ذلك؟) .
قلنا : (نحن واثقون منه ، ولن نعمل له إطلاقا ، فنحن علي ثقة منه - ثقتنا بأنفسنا - فأتركنا نجرب أنفسنا (سنعمل كل شئ لإنجاح هذا المؤتمر) . إلا توعية واستنهاض شعبنا في السودان ، فهذا دورهـ وهو سيوفر لنا هذا الجهد ، ويتكفل بالمناخ الذي يمهد للمؤتمر كل سبل النجاح ، ويظهر للعالم أجمع نموذجا من قدرة الامة العربية علي تحمل النكسة بل وتحويلها الي صمود .
وتأكدنا أن (عبدالناصر) سيحضر المؤتمر ، وتحركنا الي جدة ، وفي الطائف التقينا بالملك (فيصل) كان غاضبا ومهتاجا يكبح جماح ثورته بهدوئه الطبيعي ، وطول باله ، ودبلوماسيته ، وعراقة عمله في السياسة الدولية ، التي تمتد الي الوراء عشرات السنين وتحمله للعديد من الازمات والانتكاسات وكانت (القدس) في ذروة غضبه وقمة حزنه ، ومن بينها الهزيمة وآثارها .
شرحنا له ما دار في هيئة الامم ، وفي مؤتمر دول المواجهة ، الذي لم يحضرهـ - بإستفاضة وبكل التفاصيل ، وكان عليما بأكثرها ، واشترك معنا في التحليل واستنباط الحلول ، ولم نأخذ وقتا في إقناعه بوجوب إنعقاد مؤتمر القمة وضرورة حضورهـ له ، كان حاضرا ومحضرا نفسه لا للمؤتمر وحضورهـ ، بل لكل ما يزيل آثار العدوان ، ويبدد إنعكاسات الهزيمة ويدعم مناخ الصمود ، كانت مشاعرهـ العربية أقوي من كل الرواسب ، وكان تأثرهـ بالموقف أكبر من أي شئ آخر ، وبدأ كأنما نسي كل ما كان يدور في المنطقة العربية قبل الخامس من يونيو ليبدأ مستعدا للتعاون والي أبعد الحدود ، كأنما كل شئ قد تغير بعد (5) يونيو وكأنما (5) يونيو هي البداية ، وكل ما قبلها فراغ وخواء .
وساورنا شعور بالاطمئنان والاعجاب ، وفجأة علا صوته في ثورة هادئة (إن الروس يجب ان يدانوا في المؤتمر ، إنهم سبب كل هذا ، وقد أخبرتكم الف مرة ، إن الصهيونية والشيوعية توأمان ترعرعا في بيت واحد ، وينهجان سلوكا واحدا ، ويهدفان لغاية واحدة ، فلابد أن نحدد موقفنا منهما ، وفي وقت واحد وبقدر واحد) .
إنتابنا الفزع وكنا نتوقع ذلك ، وكان ردنا واضحا ومنطقيا ، مهما كان موقف الروس ، فإن هذهـ المعركة ليست معركتهم - إنها معركتنا نحن العرب - ومصيرنا ومصير أجيالنا ، فلا يمكن ان نحمل عبئها تأريخيا (ولا واقعيا) لأحد ، فلن يصدقنا الجميع ، لقد قدم الروس كل ما طلب منهم من أسلحة ومعدات في الماضي ، ولكنهم لن يشتركوا بجيشهم في القتال ، ولايمكن ان يحترمنا العالم ، إذا علقنا نتائج واسباب هزيمتنا علي مشاجبهم ، إن البداية الصحيحة هي ان نتحمل وحدنا كل نتائج الهزيمة ، ونعزز الصمود ، وستكون هذهـ بداية صحيحة وامينة يحترمها الرأي العام العالمي .
ثم إننا نحتاج الان - وبسرعة وبإستمرار - للسلاح فمن الذي سيقدمه لنا ؟ وإن لم يكن لنا سلاح فما هو مصيرنا ؟ قال : (لايمكن ان نعدد وننوع مصادر السلاح ، وسنعمل كل إمكانياتنا للحصول عليه) .
قلنا إن عامل الوقت لايسمح بذلك .. ثم إن الذين يملكون السلاح ، لن يقدموهـ لنا لمجرد الحصول علي المال ، إنهم أحرص علي آمن إسرائيل من الروس ، وهذهـ حقيقة ولابد ان نعترف بها ، وإلا كنا كمن يغطي وجهه وعينيه بيديه لكيلا يري ، ومن يرفض مصدرا مضمونا ، يشحن السلاح الان ، ويفكر بمصادر مجهولة ؟ - علي الاقل إن لم تقل إنها رافضة ومتأمرة ، لن يغفر لنا احد ، إذا اعتمدنا عليها ، ونحن والعالم كله علي علم) .
أطرق ووضع يديه في لحيته - كعادته - عندما يستغرق في التفكير ، وقبل ان يتخذ قرارا خطيرا ، وكنا علي اعصابنا ، فقد كنا نعلم ان هذهـ ساعة نجاح المخطط وإنعقاد المؤتمر ونجاحه أو فشله ، وتراجعنا القهقري الي ما كنا عليه غداة الخامس من يونيو ، وبعد نصف ساعة من الترقب والتوتر وغليان الاعصاب ، التفت الينا قائلا : (إنكم علي حق ، ولكن مرحليا فقط ، وليس أمامنا الآن إلا السكوت ، وقد اضطرنا الزمن والاحداث بقبول ما لاتقتنع به ، وقد يكون قبولك للشر مرحليا أفضل من قبولك لما هو أكثر منه شرا ، إننا لمسنا في موقف انتقاء الخيارات ، وهذهـ إرادة الله - فعلي بركته ، رقصت قلوبنا من الفرح ، وبدأ ذلك واضحا علينا ، ثم تناقشنا في البترول - واحتمالات استعماله كسلاح في المعركة .
فقال : (إنكم تعلمون إننا نعتمد علي البترول في كل شئ ، حتي في أبسط ضروريات الحياة اليومية ، وهو شريان الحياة نفسها بالنسبة لنا ، ولكن ، وأردف باسما قبل سنين كنا نستعمل الجمال ، ونأكل التمر ، فسنفعل هذا) . وتوقفنا ولم نرد ، وتكلمنا قليلا في اليمنيين - الشمالي والجنوبي .
فقال : (إنكم تعلمون موقفنا في اليمن الشمالي بأكمله ، لايهمنا ، إذا أصبحت اليمن جمهورية أو ملكية أو إمامة ، كل الذي يهمنا هو جلاء الجيش المصري ، وليصنع اليمنيون بعد ذلك في بلادهم ما يشاءون) .
تأكدنا بعد ذلك أن المؤتمر سينعقد وان قطبي الرحي سيحضرانه ، وكانت هذهـ هي الركيزة الاساسية والمركزية في أمرهـ ، فإنطلقنا الي زيارات متعددة في مختلف ارجاء الوطن العربي ، والي تحضيرات واجتماعات اساسية في موضوع اليمن ، مثل إجتماعات بيروت الشهيرة ، وفي وقت ما كان مجلس وزراء اليمن كله برئيسه وقائد جيشه ، محدد الاقامة في القاهرة ، فعملنا علي إطلاق سراحهم وإرجاعهم لبلادهم ، اما في اليمن الجنوبي فقد كان الصراع علي أشدهـ بين الجبهة القومية والجبهة الوطنية ، وبين السلاطين الذين شحنهم الانجليز في سفينة واحدة هم وعائلاتهم واتباعهم الي (جدة) حيث كونوا فيها مدينة كاملة .
|
نقلا عن جريدة المجهر السياسي