نعي أليم - فيصل سعد في ذمة الله !!! عكــود

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > مكتبات > مكتبة أسامة معاوية الطيب

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-09-2010, 12:48 PM   #[1]
أسامة معاوية الطيب
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية أسامة معاوية الطيب
 
افتراضي المبدعون السودانيون ... والرحيل في الليل

المبدعون السودانيون والرحيل في الليل (1-6)



كتب الأديب رشيق القلم أنيق العبارة د 0 منصور خالد مقالاً رائعاً في صحيفة الشرق الأوسط تحت عنوان ( الزين يغيب عن عرسه ) لا يقل بحالٍ من الأحوال عن قامته الأدبية - الرجل بحرٌ تقف عند ضفتيه المعاني تنشد القبول – وأعتقد أن الحالة التي تكتب عنها أو فيها جزءً مهماً من الكتابة نفسها ، لأن المقال وعنوانه الأنيق عن الأديب العالمي الطيب صالح – الذي وبمثل ما يحفل هو بالمتنبي ملأ الدنيا وشغل الناس – وحالة الذهن تنصرف عندها إلى موسم الهجرة إلى الشمال في زمان الهجرة المفتوحة المواسم والاتجاهات وإلى عرس الزين ، هذا الذي يخطر بجبهته العريضة وأسنانه البارزة وفحولته المتدفقة وضحكته البلهاء وعبثه الدائم وخوفه العميق من الحنين ونعمة ، يتجوّل بين قرى الشمال السوداني كلها وكأنك تلمحه يقفز من بين طيّات الكتاب ودفتيه ليدخل جلباب ( عبد الواحد ) المزارع الساذج الذي يتحلّق الصبية حوله يتندرون به ، وتستخف به عقول الكبار ولكن الأرض تمنحه كل قلبها فتخضّر عشباً وقمحا وتهابه طائشات الدواب حتى لا يمسك بقرنيها ويرديها ميتة، وتتقاطع حبات عرقه المستمر مع تسبيحات الطير والأرض فتغسل العالم بفائق النقاء وعظيم السهولة وعميق الطيبة ، ويكاد الزين يترجّل عن حبه الخفي وخوفه الظاهر لنعمة بنت عمه ويشتعل موتاً في حوش جديد من حيشان أي قرية من قرى شمال السودان التي تنضح بالحسان بعيدات مهوى القرط والمنال ، ويكاد يحادث أهلك واحداً واحد وهم يبتدعون معنىً جديد للدهشة عندما تمر عبر طرقاتهم معتادة الدواب وسيارات النقل العتيقة ، ذات التراب الناعمة والحصى الأبيض معتدلة القوام إلاّ من حفرة يحفرها الصبية على مسار إطارات السيارات لاهين عن وهدتها وانزعاج الراكبين ، وربما انتبه السائق وحاد عن إرضاء أخيلة الصبية بالسير بمحاذاتها ، تكاد تجّن عقولهم حينما تعبرهم مواكب الحكومة فارهة السيارات ، أنيقة الحرّاس ، وتبهرهم أجهزة التحدث والإنصات التي تعبر بهم أوقات صياحهم المتكرر عبر تيّار النيل لمزارعي الجزر المترامية ، كل قرية تمنح العالم ( زيناً ) جديداً ، بتعقيداته السهلة وسهولته المعقدة ، وتقف المساجد وبيوت الليل ومختلف المجتمعات ، تحي ميت الذكر والذكرى ، وتكتب أحرف فرحٍ مختلفٍ تنقّطها بألوان استعدادها الاستثنائي للمناسبة ، وتتناسى حراسة أشجار الفاكهة التي يتصيدها الصبية ، وهذا باب فرحهم بعرس الزين الجديد ، والطيب صالح صاحب الهجرة التي أصبحت موسماً واحداً مرهق الطول والبعد ، لا نسمّيه - (مع د0 منصور) - مهاجراً ولا لاجئاً ولا منفياً لأن الأوطان ليست ظواهر جغرافية ، فالأوطان ترتحل في قلوب أصحابها - وصاحب العرس الفريد الذي أحدث موازناته الحتمية وصاحب الدومة التي أصبحت رمزاً للتحدي والرفض ، وتنازل عنها لقريته – في الذاكرة – ود حامد وأصبحت تظلّ القريب والبعيد مغالطةً مَثَل أهله في الشمال أن ظل الدومة دائماً يمنح ظله للبعيد فقط ، ينقطع اليوم في صومعته – كما يقول د0 منصور خالد – لأن القراءة عنده أهم من الكتابة ، وكانت القرية سابقاً تؤمن بأن القراءة والكتابة فرض كفاية ، إذا قام بها البعض سقط الباقون عنها ، يكلفونهم بأعبائها ويدلفون إلى باقي أعمارهم يكتبون حياتهم بحروف ونقاط ومعاني جديدة لم تفك طلاسمها الأيام بعد ومازال الطيب صالح يحاول ، تُجهد أن تقرأ كل حياتهم وما شعروا بأي جهدٍ وهم يكتبونها على صفحات السنين موقفاً موقف ، وفكرةً فكرة ، وحادثةً حادثة ، ولأن الطيب صالح لو لم يقرأ الزين وبنت مجذوب وود الريّس ومحيميد ومصطفى سعيد – أبطال رواياته – لما جاء بهم أحياء يمشون على رمل ذاكرتنا – يجب أن يستند أبطال الرواية على واقعٍ كائن وتاريخٍ ثقافي عميق يبرّر أفعالهم ويدعم ردودها ويخلق وعيهم وينفخ فيهم روح الوجود – ولو لم يقرأ رقيق الخيوط بين السذاجة والوعي، والهشاشة وعميق الانتماء لما خرج الزين عن دفتي كتابه وهام في القرى يكتب نفسه قارئاً قارئ ، ولما أخذ البحر مصطفى سعيد مع من أخذ حتى تسكن ضجة الصراع وتحتدم ، ويطل قلق الوجود المستمر، ولما أغلق غرفته المربكة وظل يفتحها للراوي فقط الذي كان يندسّ أحياناً بين سطوره ، ويواربها ثانيةً لتشرع في مخيلتنا مئات النوافذ القلقة ، لا زلنا إلى اليوم نفتحها آلاف المرات لنقرأ فيها عالما جديد ، وسطورا بين السطور تزيدها الأيام جِدّة ودهشة ، ولو لم يقرأ الطيب صالح لما كتب عنه د0 منصور خالد مع من كتب ولا اختيرت روايته ( موسم الهجرة إلى الشمال ) بين مائة أثر في حياتنا طويلة الانتظار والرغبة والغموض ، ويوم يعود لن ينتظر أن يتذكره كلب وممرضة أودو ديسوس فقط حين عودته بعد حرب طروادة ولكن – يا منصور خالد – سيجد أن لا أحد هنا يعرف النسيان ، ومثله لا تطاله هذه المفردة القاسية ، فقط الذين (لا تعرفون ولا أعرف من أين جاءوا).
كان مجدي بطل معاوية محمد نور خيطاً آخر من خيوط ذاكرتنا الأخطبوطية ، يدخل للسوق في مدينته الجديدة فترتسم عنده صورة دكان خاله – خال مجدي لا معاوية نور – ذات الشبابيك الخضر والباب مائل الحلق يستند عند حافته قضيب الصلب ينتظر لحظة الإغلاق ليتعارض أمام أحلام الداخلين بين مصراعي المدخل ، ويبدأ ينظر إلى الشرخ الذي يقاطع الجدار المتهالك حتى ليتسرب عبره الضوء إلى الداخل ويسمح لاتقاد الظلمة بواهن خيوطه التي تتسلل إلى المنضدة متآكلة الخشب واللون تلتف حولها حبيبات الغبار وتسكن في الأنفاس والهواء ، ولا يذكر أن هذه التفاصيل كانت تشدّه حين يدخل متجر خاله ذلك ، ما قرأه من كتاب الزمن يظل أثراً نفسياً نافذاً يلّح على المجيء في أوقات تصفّحه أوراق ذاته ، وحينها تستحضره كتب كولن ولسن (اللامنتمي وما بعد اللامنتمي) وكل كتابات سارتر واجتماعيات كافكا ولكن أيضاً تحاصره همهمات جدته عند النوم وبعده ، وطقوس القهوة والعصفور الذي اعتاد أن يحط على فرع شجرة النيم التي تتجاذب النسوة عندها أطراف الماضي وهنّ يمارسن الارتخاء على أوتار القيلولة ، تبدأ عندهن القهوة بصندوق الورق المقوى الذي يشمل على أدواتها وتنتهي بأحاديث مترعة بمشاهد الليل وقصص الصباح حيث تستأثر الظهيرة بالثرثرة وبعض الكسل اللذيذ ، وتحاصره شوارع أمدرمان القديمة عتيقة البناء والتاريخ ، وكذلك موجات النيل الأزرق ، يجلس قبالتها فتشجيه ذاكرته بمواسم حضور البواخر النيلية ذات البوق مميّز الصوت حِدّةً وغلظة ، يتقاطع في أذنيه مع أي صوتٍ قادم ، وملامح جزيرة توتي التي تتأرجح على مواويل ومعارك الفيضانات ، وتعود لثباتها طيلة أشهر الصيف ، السماء تنكفئ على زرقة ماء النيل حتى لا يدري أهو نيل يتصاعد للفضاء الواسع أم هي سماء تمتد بين أرجلنا بساطاً من الزرقة الوسيمة ، وحيدر حيدر حين كتابته لوليمته الجميلة استدعى تواريخ نضاله وذكريات مدنه الجميلة وبيوته الحبيبة لتماسك ( وليمة لأعشاب البحر ) حينها استطاع سبكها على نار إبداعه الهادئة ، تمشي بين أحراشها تسبقك دقات قلبك ، وتذوب صمتاً قرب نوافذ مدائنها حين تتسمع أصوات العسكر بالخارج ، وتفتح أعينك وأذرع أشواقك لسمائها المغسول بأسراب الطيور البيضاء ، وماركيز لم يزد في روايته ( مائة عام من العزلة ) على أن غلّف قريته حتى وكأنك تمشي في غاباتها تخشى الشوك على رجليك ، ومدنها بحدائق موزها وشركاته ومشاكلها ، بين دفتي كتابه وجلس يحشد فيها أفكاره ، والأدب أن تأتي للحياة بحياتها ذاتها وتكتب أسئلتك للوجود ، لا أن تحاول خلق حياة لتسألها ، لأنها ببساطة ستولد ميتة ، إن قدّر لك الخلق.
الطيب فعل هذا ، لذا فموسم الهجرة يستمر خلال فصول السنة وعقود الثقافة القادمات موعداً للخصب وجيد الأدب ، ولينقطع هو في صومعته يقرأ لأن الأديب يحاكم على رداءة أدبه لا على قلتة – يقول منصور خالد – ولكن السؤال الذي يلّح على الحضور ، لماذا ينغلق المبدعون السودانيون على ذواتهم ، إما بموتٍ وسط أكوام الكتب وسحابات الغبار الداكنة التي تجلب السلّ للتجاني يوسف بشير وهو بعد يغني ، لما لا يغذينا الهوى بلبانه أنا في الشباب وأنت في ريعانه ، وأغلب الظن أن لرواية موته بداء الصدر – التي أغرقتنا فيها مناهج التعليم في السودان – مآرب أخرى تكاد تخفي جريمة اغتياله السياسي التي سنطرقها لا حقاً ، أو أن يموت وهو يزوي ويتضاءل تحت وقع السياط على ظهره بداعي الشفاء من الجنون مثلما مات معاوية نور طالب الطب الذي آثر دراسة الآداب في الجامعة الأمريكية ببيروت وأعادوه قسراً للسودان – أيضاً يطل قلم المخابرات وإدوارد عطية في تفاصيلها - وهو الذي كان يناظر حول كافكا وشكسبير وإس.تي. إليوت ويقرأ تشيخوف والأدب الروسي إجمالاً ويكتب في الهلال وكبريات المجلات الأدبية عن تاريخ القصة وقصص التحليل النفسي حين كان فرويد يغالط حولها ولم يكن كولن ولسن قد أنضج أفكار كتبه بعد ، أعادوه ليموت تحت سوط شيخ أدعى أنه مسكونٌ بالجن ، في ثلاثينيات عمره وجاءه العقاد كي يبكي فقد الأدب ، وينعي زمناً كادت شموسه أن تبهر العالم بضوئها ، ويضع الزهر على قبره قائلاً : ( لو عاش معاوية لكان علماً مفردا في عالم الأدب ) ، أو من يصاب بالذهول ويكتب وهو على أسرّة المستشفى البيضاء – قبل أن تطالها موجة الاتساخ المقيتة – أنت السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنّا ، مثل إدريس جماع ، أو من ظل ينزف إلى آخر قطرة من أغنياته وهو يؤسس لغناءٍ جديد المعنى والفكرة والفهم ، ويمضي وهو يغني ، أيها الراحل في الليل وحيداً انتظرني مثل مصطفى سيد أحمد الذي يخاطب الشاعر الرقيق المسكون بالإبداع – أصغر مدير تحرير لأكبر أثر ثقافي سوداني – مجلة الثقافة السودانية ، عبد الرحيم أبو ذكرى الراحل وحيداً في ليل موسكو قارس البرد والغربة وحمى الأدب الروسي الذي نال فيه الدكتوراه من جامعات الاتحاد السوفييتي حين تشتد عليه كلها وتهوي به من الطابق الحادي عشر لمبني أكاديمية الفنون بموسكو ، وكثيرون هم من يجب علينا أن نلتفت إليهم برؤوسنا ورؤوس أقلامنا وأحلامنا ومستقبل آدابنا. وهذه سلسلة مقالات تبحث عن خيطٍ رفيع يجمع بين موت التجاني المفاجئ وتهاوي معاوية تحت السياط وذهول إدريس جمّاع ورحيل عبد العزيز العميري عن أغنياته وقصائده وجميل لوحاته وبديع تمثيلياتٍ لا تزال تشهق فُجاءة الرحيل ، وبين انقطاع الطيب صالح للقراءة وبين صمت الأقلام في زمنٍ أدعى للمداد أن يسيل على حواف الورق ويشتعل أسئلةً لمستقبل الثقافة .



أسامة معاوية الطيب غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 01-09-2010, 07:00 PM   #[2]
مبر محمود
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

واصل يا صديقنا فتمة أحاديث كثيرة يجب أن تكتب هنا
ما صغته حتى الأن يعتبر مدخل جيد لقرأة تضاريس خارطة الإبداع السوداني

سنأتيك لا ريب



مبر محمود غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 01-09-2010, 11:41 PM   #[3]
قمر دورين
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية قمر دورين
 
افتراضي

[align=center]قرأت هذا المقال وتوقّفت عند كلماته كثيراً.....
فككت كل الحروف....
ثم حاولت تجميعها كي أُركّب مفردة واحدة تفيهم حقّهم فلم أستطع.....
لم ولن يفنى عطرهم يا أخ أسامة...
فهنا وهناك...لهم أقمار في أقاصي الكلام
ومع كل قراءة لهم أو عنهم تشتعل الصفحات...
وستظل حروفم توقظ الصهيل وترقص معها الأضواء
أمّا حقل محبتهم فهو أخضر اللون... باسم الثغر...طيب الثمر
ينمو مع الأيام تقديراً لهم وكذا تتضاعف سنابله إحتراماً....

واصل....
[/align]



التوقيع: [align=right][fot1]مسرح الغزلان في الحدايق[/fot1][/align]
قمر دورين غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 02-09-2010, 08:25 AM   #[4]
أسامة معاوية الطيب
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية أسامة معاوية الطيب
 
افتراضي

المبدعون السودانيون والرحيل في الليل (2-6)

(هذا سوق أم درمان مازال كل شئ فيه كما كان قبل أعوام وأعوام ، فبائع " القش " في مكانه القديم ، وكمساري الترام هو هو إنما أقل حيوية ونظافة ، وبائعو الذرة والتمر كلهم في أماكنهم التي كانوا فيها قبل عشرات وعشرات الأعوام من عهد الحكومة المهدية جالسين ينظرون إلى الأفق وليس من بيع أو شراء ، والسعيد السعيد من ظفر بقوت يومه ، رطل من الذرة أو قطعة من اللحم.) وقف معاوية محمد نور – أحد أهم نقاد حقبة الثلاثينات ، كتب في الجهاد والهلال والمقتطف ، له كتابان " دراسات في الأدب والنقد " و " وقصص وخواطر" – يرسم حالة أم درمان الوطن في زمنٍ اتقدت فيه فوانيس المستعمر من دماء أبناء الشعب ، ولكن ... سوق أم درمان اليوم ، لا تشكو قلة الفئران بل تبكي كثرة القطط ... كان الأدب حينها – واليوم – أدب مكابدة الحياة الصعبة ، واجترار الغصة ، توّلد فيه بشكلِ عام نسيج من الوحدة والقلق والخوف ، ولأنه كان مدفوعاً برغبة صادقة في التغيير اصطدم كثيراً بالواقع – يقول معاوية – أغريب بعد ذلك إذا احتقر هذه الدنيا و أصبح يمشي مشية المغلوب على أمره غير طامع في حاضرها أو مستقبلها ، إنه يعيش في هذه الدنيا كما يعيش الحيوان لا يعرف من فرح الحياة شيئاً ولا يرى لوجوده كبير معنى ، إذ أن حصته منها الألم والجوع والمرض. أغريب بعد هذا تدين هذا الشعب وإيمانه العميق بالحياة الآتية ، التي من أجلها يحيا ويتألم ويصلي صلاة الخشوع والعبادة!
نتيجة منطقية لعوامل قاسية
وكان تاريخ الأدب السوداني يصطدم دائماً بهذه النتيجة المنطقية لذات العوامل القاسية ، كان صدر الحاكم – المستعمر والسوداني – يضيق بالمثقف ، الأول كان يخشى من وعي الشعب واستيعابه لخيوط الحل والثاني كان يخشى الأولى ويغار على نجوم كتفه من أي نجمة في رأس ، وغالباً ما كان ينتصر لنجوم كتفه على نجمة الرأس بالزناد والتغريب ، وغربة الأديب السوداني ليست غربة المكان فحسب ولكنها غربة الروح كذلك ، تكمن في جهل الناقد العربي بمرتكزات وقوائم وفلسفة أدبه الجديد ، حين كان حمزة الملك طمبل الشاعر المجدد والناقد الداعي لأحياء أدب السودانية – يجعل للأدب سماته السودانية الخاصة - وهو دليل على قلق واضطراب الأديب السوداني في خلق هويته الفنية عموماً ، كان النقاد العرب يحاكمونه من خلال منظورهم الواحد دون أي إدراك أو محاولة لفهم واقعه الجديد ، يخضعونه فقط لمعايير النقد العربي دون دراسة حالته الجديدة والوقوف منها موقف المؤيد أو المعارض ، وحين كانت شوارع أم درمان تحفل بالترام يتجول فيها ، يتحول لمجتمعٍ شعبي كبير يتآنس فيه الناس وتشغل النسوة عيونها بمشاهدة المارة والثرثرة الطويلة وقطف أوراق ( الخضرة ) لحين عمل وجبة الملوخية خالية العروق من أنفاس الأسمدة ، كان التجاني يوسف بشير يكتب ( انكسرت شمس دنيا القلب وانطفأت من نفسي المصابيح ) وجاء عبد المجيد عابدين – ناقد مصري اهتم بالأدب السوداني – ليقرر أن العلاقة بين الشمس والكسر متهافتة وفات عليه أن هذه استجابة الشعراء لدعوى سودنة الشعر وأن كسر الشمس من المعاني السودانية والدلالات اليومية - مالت للمغيب - وكذلك كسر القبر كانت من مراسم عادات دفن الموتى ومراسم العزاء وأن نوح هو النبي الذي يتعوّذون باسمه من كل شرور لياليهم المظلمة وخلواتهم المقفرة ، فيقرر أن ( عوّذوه بنوح ) جاءت لضرورة القافية فقط ، ولم يكن نوح مجرد نبي أملته القافية على التجاني ولكنه طارد الشر عن عيون وقلوب كل أهله وتميمتهم التي تزدان بها أذرعهم الخضراء ، وكانت هذه دافعاً لقلق الحالة الثقافية إلى أعلى مراحل توترها ، الأدب وتجديده ، وتجديد مفاهيم النقاد ولفت أنظارهم لدعوته الجديدة ، وهم في حالة القلق هذه يغيّبهم الإعلام الذي يغار على الحكام من أصوات المثقفين العالية لأن أصواتهم تعليها البندقية فقط ، فهم أجانب حيثما حلّوا – يقول التشكيلي السوداني المقيم بفرنسا حسن موسى – وغربتهم لن تنقص أو تزيد من هذا الجانب أو من ذاك من جانبي خط الحدود – يقول – ثم لا تطلب تأشيرة دخول ( أبداً لن يمنحونكها )اقتحم البوابات أو تسلل خلسةً في الظلام ، أو أرش خفر الحدود – وهذه ميكافيلية يجب أن يرفضها الأدباء لأن الساسة الآن يدفعوننا فاتورتها – ( فذلك كله ضرب من فنون أهل أفريقيا يجهله اختصاصيوا ( الفنأفريقانية) وهو فن البقاء ، وما أدراك ؟ فقد يتيسر لك يوماً عبور الحدود التي تفصل المستبعدين ، بكسر العين ، ( وعين المستبعدين كسير ) عن المستبعدين بفتح العين.
كانت أم درمان مدينةً تضجّ بالحياة ، تنعم بأدباء يسيلون على أوردتها دماً وحياة ، كانت تحبهم ويحبونها ، يمشون على طرقاتها كالقصائد وتمشي في طرقاتهم كنمل الخمر الكسلى ، هي وطنهم الذي كتبوه وهم وطنها الذي تشتهي ، ولكنها وحين أسلم معاوية نور رؤوس أقلامه وأندّس بين مساماتها دبوّساً يشكّ أصابع الذكرى ، وقمراً تغيّبه سحابات الجهل القاتمة ، تململت في جلستها وانكبت على مراقد الخدر تتناسى ، والخرطوم – مدينة وملهاة الحكام – لاهيةً عنها بنجوم الكتوف اللامعة ، وحين قدّم إبراهيم ناجي – الشاعر المصري صاحب الأطلال – لطبعة ديوان التجاني يوسف بشير ( إشراقة ) – يقول الناقد فاروق الطيب أن كراسة التجاني ومخطوطته التي أزمنت بين أيدي ناجي – قبل طبعها – جاءت لتلقي بظلالها على أطلاله والأخريات – ولكن ناجي مع مثقفي مصر وإعلامهم يعرفون كيف يكتبون ومتى ، وحين كتب عبد المجيد عابدين كتابه ( التجاني شاعر الجمال ) كانت أم درمان تقاطر دمها حتى من أذنيها وهي ترى المعهد العلمي – هالة العلم حينها – يرمي شاعرها وأحد أخلص أبنائه بتهمة الإلحاد وهو يجلس على ركبتيه يبكي ( هو معهدي ولئن حفظت صنيعه فأنا أبن سرحته الذي غنّى به ) ولو أن فوق الموت من متلمّس للمرء لمدّ المعهد بأسبابه للتجاني لأن الغيرة الفنية هي المتحكم في نقد تلك الحقبة وآرائها ، الآن بعد نزفت أم درمان كل دمها جاءها الأديب علي المك يقف بين حي ( الدومة ) و ( ود درو) – من أحياء أم درمان القديمة – يطالع في الفضاء تقاطع ألحان (كرومة) مع كلمات التجاني مع أنغام عبد العزيز محمد داؤود يهتف : ( من الذي يجود بدمه ؟ أهل هذه المدينة – أظنه يقصد الخرطوم – لا يجودون بشيءٍ سوى الكلام ، أسمعهم " الدم فداء الوطن " والساعة يشرف مواطنٌ على الهلاك وأنت لأول مرة … إن الحجرة التي تعيش فيها تضيق بأثاثها القليل ، تريد أن تلفظه ، آه في رأسك مطارق تدقّ ، تحك رأسك تبدأ بالرأس ثم تبلغ القدمين وكل أعضاء جسدك ، فمٌ يصيح لن أشرب الليلة ... لن أشرب .. العزيمة ، أصبح المصباح السابح في سماء الحجرة مهبطاً للذباب يفعل فيه وبه ما يشاء الذباب ، وقد ترك آثاره على الحبل وأنت لا تستطيع فعل شيء ، قم الآن ، انهض ولتقوم على عمل ، عمل مفيد ... تبرع بشيء من هذا الدم الفاسد.. ).
ربما لأن الخرطوم استسلمت للثلاثية التي تستكتب القاهرة وتستطبع بيروت وتستقرئها لم يعرف العالم أن بها أدباً راقياً ، وأن الطيب صالح الذي ملأ الدنيا وشغل الناس هو بعضٌ من دنانها ، وأن العقاد حين كان يستكثر أمارة الشعر على شوقي كان يريدها للتجاني ولكن ... واليوم وبعد أن رحل عبد الرحيم أبو ذكرى وحيداً في ليل موسكو شاهق الطوابق صدر له ديوان الرحيل في الليل ، وما زالت آثاره قعيدة أدراجٍ وأزمانٍ يغدقان حولها النسيان ونخشى أن تخرج غدا في ثوبٍ غير ثوبها وهذه إشكالية الأدب رهين المحبسين ( الأدراج ، والأهواء) إلاّ من بعض اجتهادات للباحث محمد أحمد يحيى يعمد فيها إلى تحقيق آثار أبو ذكرى ، يصطدم بصعوباتٍ عدة .
إن الأدب السوداني عانى كثيراً من قلق الفكرة والفلسفة والهوية، وغيرة الساسة وجهل النقاد وهو ما كرّس لانغلاق المبدعين على ذواتهم إما بالموت أو الذهول أو الانقطاع . ويرضى التجاني بعد كل هالة إشراقة بغرفةٍ - هي واقعه والمخلصين من حوله - منهكة الأثاث تسلم رئتيه لأدواء عدة وذهنه لقلقٍ كثيف مما يحيط به وخارطة الأدب لا تشير إلى معالم واضحة ومحددة ترتكز عليها أقلام وآمال الأدباء وخطوط مسلّماتٍ ينازعها العقل حينا فتجعله يتأرجح بين شكّه ويقينه ( أشكّ فيؤلمني شكّي وأبحث عن برد اليقين فيفنى فيه مجهودي ) ولكن هل انتبه أدباء اليوم لإشكاليات النخبة السابقة التي ظلت تدمن الفشل على أهم أصعدتها – السياسي والفكري ؟
وسوق أم درمان التي وصفها معاوية نور لا تزال تبكي فقد شوارعها لعلي المك وعلي عبد القيوم ولا تزال تسأل سؤالها القلق إلى متى تظلّ الطابية – حواجز حربية بناها المهدي على النيل لمجابهة مدافع المستعمر – مثقلة الرأس بأسئلة الهوية والوجود ؟ وإلى متى تحشد طاقة الإبداع كل جهدها لنقاشٍ على حافة الفكرة يأتي عليها كالنار تجتاح الهشيم وتذروه أدراج رياح الانفلات والتسطّح؟ إن ذاكرة الأدب السوداني لو اجترت اليوم دعوى أهل الأمس لنهضت تكتب نفسها عن وعيٍ وحسٍ جديدين وتقف على أعلى أسئلة وجودها تجاوب العالم.



أسامة معاوية الطيب غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 02-09-2010, 08:42 AM   #[5]
علي حاج علي
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية علي حاج علي
 
افتراضي

المحترم معاوية اسامة الطيب
الاماني لك بالاستقرار والسعادة
كل عام وانت بخير
يا اخي اشكرك جدا على هذا المقال (المقالات) الادبية الرائعة ، انها مقاربات لا بد للقاري والمتلقي ان يستفيد منها كثيرا ، فما بين معاوية محمد نور والطيب صالح وادباء بلادي ، مسافات وازمان وامكنة تتقارب وتتباعد ، لابد لنا من ان نقوم بترميمها واعادة قراءتها وترتيبها ، لتعم الفائدة على الجميع ، تلك الازمان والامكنة عندي مثل تلك الحقبة في تاريخ ممالك كوش ومروي التي لم يستطيع الاثاريون معرفتها وفك طلاسمها الى الان.
دمت بخير



التوقيع: كل ما كنا نغنيه على شاطي النيل تغيب
وانطوى في الموج منسيا
حطاما في المرافي او طعاما للطحالب
في انزلاق الصمت للقاع
وفي صمت المسافات القصية

غناء العزلة - الصادق الرضي
www.alialimo.jeeran.com
ربما لا يعمل الرابط لان جهة ما قامت بتعطيلها
أرجو المساعدة من ذوي الخبرة في إعادتها
علي حاج علي غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 02-09-2010, 09:25 AM   #[6]
ناصر يوسف
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية ناصر يوسف
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أسامة معاوية الطيب مشاهدة المشاركة
المبدعون السودانيون والرحيل في الليل (2-6)

إن ذاكرة الأدب السوداني لو اجترت اليوم دعوى أهل الأمس لنهضت تكتب نفسها عن وعيٍ وحسٍ جديدين وتقف على أعلى أسئلة وجودها تجاوب العالم.
وكيف جاز لها أن تنهض حتي ولو إجتَرَت تفاصيلَ كل ما مضي من ماضٍ تليد موغلٌ في الألم ؟؟

لا تبريرَ يا أسامه .... بيد أنه الواقع واقع اليوم الآني لم يقل لنا بأنّ ذلك قد يحدث ...

ولكن ...

رُبما ..

رُبما تجئُ النهضةُ بالوعي قريباً ..



رُبما



التوقيع:
ما بال أمتنا العبوس
قد ضل راعيها الجَلَوس .. الجُلوس
زي الأم ما ظلت تعوس
يدها تفتش عن ملاليم الفلوس
والمال يمشيها الهويني
بين جلباب المجوس من التيوس النجوس
ناصر يوسف غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 02-09-2010, 12:29 PM   #[7]
أسامة معاوية الطيب
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية أسامة معاوية الطيب
 
افتراضي

المبدعون السودانيون والرحيل في الليل (3-6)


قبل أن ندلف إلى حديقة الورد الأخيرة ، تشاهد عند أسوارها صورٌ ومشاهد ومرئيات تمسك بعنان الحضور الكثيف ، والرسومات تصطف لتنهل من ندى اغتسال الأنهار على جدران الورود ، لوحاتٌ تمدّ بأعناقها على أخيلةٍ وشخوص معلقة على فروع الأشجار ، نابضة الأغصان ناعسة الخضرة حد السواد ، ويطلّ الشيخ إسماعيل صاحب الربابة ( يقول محمد عبد الحي ) إن الشيخ إسماعيل صاحب الربابة هو الصورة الأولى للشاعر السوداني الذي أبدعه الخيال الجمعي الشعبي وفي شخصيته يتبلور النموذج الأسطوري أو الشكل الرمزي ، بعد أن انصهرت وامتزجت واتحدت فيه العناصر التي أمنت الخيال الشعبي أو الذاكرة الكبرى التي تموج بأساطير الأمة ورموزها فصارت الصورة الحقّة للشاعر في ثقافتها ، وهو من صوفيّ وشعراء سنار وإنه كان في حالة الوجد يحضر البنات والعرسان للرقص ويضرب الربابة : كل ضربة لها نغمة يفيق فيها المجنون ، وتذهل منها العقول ، وتطرب لها الحيوانات والجمادات وفرسه البكر التي يشدونها له ويلبسونها ( الحرحر) الحرير والجرس ، مزركشة بخيوط الحرير الناعمة ، وتبدو ربابته التي عزفت أوتارها أجمل أغاني الحبّ والحرية قبل مقتله في الطريق بين سنار المحروسة ومملكة تقلي ، ويرفرف السمندل بجناحيه ، يصطفقان فتتموج السماء زرقاء وخضراء وكل ألوان الفكرة والحرف ، وكأنه على أهبةٍ لسفرٍ طويل غارق في ملامح النقوش المتشابكة ، النهر تحفّه الغابات كثيفة الظلال ويتلألأ على صفحة وجهه شعاع القمر المصبوغ بخيوط اللجين والعسجد ورقائق الشمس الغاربة ، تصطف على حواف الأسوار ونقوشها الفريدة ، فارلماس ، سالي فوحمر ، الزرافات الأفريقية المبرقعة وهي ترعى في حقول النعناع البريّ ، الزرافة أرجوانية ، بساط الأرض أخضر سندسي ، والحقل وردي اللون ، وثمة تقف العانس ، تحمل كل أدوات حلمها المستحيل :

المرأة العانس في الأحلام

يوجعها المخاض ثم تلد الأطفال

ترضعهم وتسهر الليل تربيّهم

فرسان ، في أحصنةٍ مطهّمات ، وأميرات

وتصطف عائلة من الشحاذين :

رأيتهم : أماً ، أباً ، أطفالا

على رصيف الزمن المهجور يرتدون
شمس الكلمات الزرق والأسمالا



فواحدٌ في رغبةٍ يسأل عن مغارة

وواحدٌ في غربةٍ يسال عن إشارة

ويسأل الأطفال عن خبزٍ فيطعمون الحجارة

ويتلقانا عند بوابة الحديقة الملاك الأبجدي ( سورة الليل فوق لوحك أفقٌ من كلامٍ قد انطوى في المداد ، فرعتّه كتابةً تتلوّى كلمةً إثر كلمةٍ في عناد ، يفتح الليل في الدواة ويستوطن حرفاً في لهجة الآبادِ ، وملاكٌ مستوحشٌ أبجديٌّ بين ضوء السراجِ والحلمِ غادِ) يقول محمد عبد الحي وهو ينطلق في قراءته المتفردة لشعر التجاني يوسف بشير من فرضية نقدية تقول ( علينا أن ننظر لشعر الشاعر في مجموعه ونقرأه في تكامله نحو نظامٍ لغوي جمالي ، وكأننا نقرأ قصيدةً متصلة ، ليست فروعها إلاّ مراحل في طريق الكشف ، ومهمة الناقد أن يستخلص العناصر التي تتكون منها وحدة الرؤيا) ولعل هذه الفرضية تنطبق أكثر ما تنطبق على شعر محمد عبد الحي ذاته ، فوحدة الرؤيا عبر دواوينه الشعرية تجعلنا نحسّ ونحن نقرأ قصائده وكأننا نقرأ قصيدةً واحدة متصلة الحلقات … صدرت له مجموعات شعرية تتحد كلها لتكوّن رؤيته الواحدة عبر مراحل طرق كشفها المختلفة ،استوى السودان ، كل السودان على سرج جواد شعره الجامح ، السودان المسيحي القديم ، وسودان طبقات ود ضيف الله بكل أولياؤه ، خطوط الزنج العريضة وأسنانهم المكسورة ( تجملاً) وديك الفجر يقتات بالأنجم السكرى فتفضحه صهباؤها تشرق في ريشه الذهبي ، ومدن التاريخ ، تتقافز مدينةً مدينة ، مروي ، سوبا ، دنقلا ولكنها تختبئ كلها خلف سنار التي أراد لها محمد عبد الحي مع مؤسسي مدرسة الغابة والصحراء أن تكون البداية لتاريخ السودان الثقافي مثلما يريد منظري السياسة أن يبدءوا منها تاريخنا السياسي حيث أنها مدينة الثقافة الإسلامية ولأنها – سنار - هي اللحظة الثقافية الحاضرة التي استوعبت اللحظات الثقافية السابقة لها – يعتقدون - اللحظات التي تشكلت والتي ما زالت في التشكل ، لذلك فإن العودة إلى مروي أو دنقلا أو سوبا المسيحية لا تتم إلاّ عبر بوابة العودة إلى سنار أولاً ، وهذا خوض حول قلق الهوية الذي أضر كثيراً بركب الثقافة السودانية وما يمكن أن تحققه ، ونعتقد أنه تكريس جديد لعزل ثقافات لم تكن (سنار) لتبارك ممارستها ، وهل لنا أن نطلب ستر التماثيل المروية المتعرية أمام أعين زوار المتحف القومي بالخرطوم ، ونقرر كذلك أنها حقبة غير جديرة بالتوثيق ، لأن سنار لم تكن مركزها ، صراع الثقافة هو الذي يشعل صراعات السياسة الآن.

ومحمد عبد الحي يعتبر من أكثر الشعراء المحدثين تجديداً واحتفاءً بقديم السودان الأفريقي ضارب السمرة والعربي ضارب اللسان وأبنية القصيدة والفروسية ، يقول في مقدمة ديوانه ( حديقة الورد الأخيرة ) الشعر إن كان مقصوداً لذاته لا يعوّل عليه – يتخلل أبن عربي مساربه ومسارات حديقته – وبقية دواوينه ، يمنحه الطريق لعالمه الفريد ويجيء هو بعد ذلك يستنطق عوالمه على مستوياتها الثلاثة ، الحرَفي ، والمجازي الذي يرمز للتنوع الثقافي والأثني في الذات السودانية ، والإشراقي أو الميتافيزيقي من الوجود فيشير إلى أصل الوجود الإنساني ، وتجد إسماعيل صاحب الربابة يتجدد عبر عصور تاريخه ومستقبله في ذاته ، أرضه وسماؤه ، أسماؤه وأفعاله ، تتحد طفولته بطفولة الكون ، ميلاد الحضارة حيويتها وشخوصها وتجددها.

جاء محمد عبد الحي ليقف في كل أم درمان ( من فتيح للخور ) يحدّر طاقيته ويرخي سدول نظارته ليشرب منها خطوط اكتمال لوحته الشعرية ، وإن عاد لسنار – تاركاً مروي ودنقلا وسوبا المسيحية - واحتفى بغناء سمندله وتوارى خلف حديقة ورده الأخيرة ، فأم درمان نشيدٌ حاضرٌ في ذاته ، وذاتٌ حاضرةٌ في نشيده ، وكلما أمعن في قراءات الأدب الغربي ، دندن بألحان الحقيبة – حقبة من غناء أهل أم درمان – ساهماً دامع الماضي والحاضر والمستقبل ، يرتشف عند قهوة جورج مشرقي ثقافة الوجود وتحتفي عند رؤوس أقلامه ( الزنجية والعربية ) لتخلق السودانية الخالصة ، ويتوّلد شاعر بحجم السودان ينفتح على المطلق ويتحقق حسب المصطلح الصوفيّ ويقول ( خرافةٌ تعود وهلةً وهلةً إلى نطفتها الأشياء ، حيث يرجع النشيد ، لشكله القديم ، قبل أن يسمّى أو يسمو في تجلّي ذاته الفريد ، من قبل أن يكون ، غير ما يكون ، قبل أن تجوّف الحروف شكله الجديد…)

هل نستطيع أن نفي شاعراً فيلسوفاً ، متحقق الذات في الشعر ، بهذه السطور ؟

يقف محمد عبد الحي عند جزع شجرةٍ في سوق الجلود بأم درمان ترفض حاضرها وتبكيه أغصاناً مصوّحة ، يقف عندها عبد الحي :

الليلة يستقبلني أهلي :أرواح جدودي تخرج من فضة أحلام النهر ، ومن ليل الأسماء تتقمّص أجساد الأطفال ، تنفخ في رئة المدّاح وتضرب بالساعد عبر ذراع الطبّال

الليلة يستقبلني أهلي : أهدوني مسبحةً من أسنان الموتى ، إبريقاً جمجمةً ، مصلاةً من جلد الجاموس ، رمزاً يلمع بين النخلة والأبنوس ، لغة تطلع مثل الرمح ، من جسد الأرض وعبر سماء الجرح ، الليلة يستقبلني أهلي.

ويرقد على عشب النيل قرب علب الجسر القديم على النيل وينام

( ونمتُ ، مثلما ينام في الحصى المبلول طفل الماء ، والطير في أعشاشه ، والسمك الصغير في أنهاره ، وفي غصونها الثمار ، والنجوم في مشيمة السماء )

يقول أبن عربي : ( كل حضورٍ لا يتعيّن لك في كل شيء لا يعوّل عليه)



أسامة معاوية الطيب غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 03-09-2010, 12:43 AM   #[8]
الرشيد اسماعيل محمود
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية الرشيد اسماعيل محمود
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أسامة معاوية الطيب مشاهدة المشاركة


يقول أبن عربي : ( كل حضورٍ لا يتعيّن لك في كل شيء لا يعوّل عليه) [/b]
حضور ومتابعة لصيقة..
واصل ياصديقي.



الرشيد اسماعيل محمود غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 03-09-2010, 08:08 AM   #[9]
أسامة معاوية الطيب
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية أسامة معاوية الطيب
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مبر محمود مشاهدة المشاركة
واصل يا صديقنا فتمة أحاديث كثيرة يجب أن تكتب هنا
ما صغته حتى الأن يعتبر مدخل جيد لقرأة تضاريس خارطة الإبداع السوداني

سنأتيك لا ريب
مبر ... صباحك خير
وجمعتك مباركة
سانتظركم بلا ريب ... وبحبور عظيم
للخروج من هذه الشبكة بكسر وفتح الشين
سلام غلاد غلاد مثل ساير سلامك



أسامة معاوية الطيب غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 03-09-2010, 08:10 AM   #[10]
أسامة معاوية الطيب
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية أسامة معاوية الطيب
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة قمر دورين مشاهدة المشاركة
[align=center]قرأت هذا المقال وتوقّفت عند كلماته كثيراً.....
فككت كل الحروف....
ثم حاولت تجميعها كي أُركّب مفردة واحدة تفيهم حقّهم فلم أستطع.....
لم ولن يفنى عطرهم يا أخ أسامة...
فهنا وهناك...لهم أقمار في أقاصي الكلام
ومع كل قراءة لهم أو عنهم تشتعل الصفحات...
وستظل حروفم توقظ الصهيل وترقص معها الأضواء
أمّا حقل محبتهم فهو أخضر اللون... باسم الثغر...طيب الثمر
ينمو مع الأيام تقديراً لهم وكذا تتضاعف سنابله إحتراماً....

واصل....
[/align]
قمر سلامات
جمعة مباركة
الخذلان السياسي العظيم الذي يتغشانا كل يوم أقعد ركب الثقافة وشلّ المثقفين ( إن وجدوا ) ... لكن !!!
الخروج فعل حتمي للداخلين بغير إرادتهم



أسامة معاوية الطيب غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 03-09-2010, 08:12 AM   #[11]
أسامة معاوية الطيب
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية أسامة معاوية الطيب
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ناصر يوسف مشاهدة المشاركة
وكيف جاز لها أن تنهض حتي ولو إجتَرَت تفاصيلَ كل ما مضي من ماضٍ تليد موغلٌ في الألم ؟؟

لا تبريرَ يا أسامه .... بيد أنه الواقع واقع اليوم الآني لم يقل لنا بأنّ ذلك قد يحدث ...

ولكن ...

رُبما ..

رُبما تجئُ النهضةُ بالوعي قريباً ..



رُبما
حبيبنا ناصر ... جمعة مباركة ... وكل سنة وانت طيب
ربما تجيء النهضة بالوعي قريبا ... ربما
قريبا دي عجبتني عجب ... خصوصا وأن حديثك قبلها وبعدها يشي بتشاؤم خطير

ربما سيدي ... بس !!! دعكة شوية ...



أسامة معاوية الطيب غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 03-09-2010, 08:14 AM   #[12]
أسامة معاوية الطيب
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية أسامة معاوية الطيب
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الرشيد اسماعيل محمود مشاهدة المشاركة
حضور ومتابعة لصيقة..
واصل ياصديقي.
الرشيد الجميل
جمعتك مباركة
المتابعة اللصيقة وحدها لا تكفي ... ايدك معانا عليك الله ... منتظرك ياخي
الرشيد ياخي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ( كما يقول المادح العميق مبر )



أسامة معاوية الطيب غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 03-09-2010, 08:16 AM   #[13]
أسامة معاوية الطيب
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية أسامة معاوية الطيب
 
افتراضي

المبدعون السودانيون والرحيل في الليل (4-6)



كانت داره ، تجهد أن تصعد إلى أسفل المدينة ، والشارع تصعب عليه حالته ، كشارع مكسيم جوركي في روايته ( طفولتي ) يعجُّ بصمتٍ قاتل ويفوح برائحةٍ غريبة ، تسكن جانباً من القلب ، يستحيل معها التنفّس ، يتراءى الاختناق يمشي بين أشباح المارة ، وبعض أغنامٍ اعتادت أن تسرح في تراب الشوارع أقعدها الأسى تجتّر ذكرياتها العميقة حين يشتّط الترام بضجيجه على هدوئها وتغتصب الشمس خيوط الظل من حواف المباني ، كانت الدار التي لبست طيلة سنين مضت أنغام أبو داؤود ووضعت على كتفيها أشعار علي عبد القيوم وعبد الله الطيب وود الرضي وأبو صلاح والمتنبي وإس . تي . إليوت وأرضه الخراب ، شالاً جميلاً ومشت بين الدور ، تزدهي وتحتفي بصاحبها وهو ينسرب للمسامع عبر إذاعة البرنامج الثاني " وكان دكان الفوراوي غاصاً بروّاد الفول المسائي ، القمر تشهّيه رائحة الطعمية ومسحون الفول السوداني الشهي ( الدكوة ) تغبطه حياة الأصدقاء وطعم ذوبانهم فيها ، بعض طيور متأخرة لا زالت تغرد رغم حلول الظلام …) كانت الدار وطناً يحتشد فيه كل الوطن ، يأتيه الحب من بين يديه ومن كل صوب ، العصافير عرفت أن لغنائها المسائي على شجرة النيم العتيقة معنىً آخر ، وكان الزرزور الصغير ينزوي في إحدى طاقات الغرف الطينية ويحكي بصفيرٍ خافت موّاله لعيون الصبية الذين يتحلقون حول الفانوس يتقاسمون شاي المغرب ، والرجال بعد أن يسندون كيف رؤوسهم المائلة بتبغٍ معتّق ، يدندون ( الليلة هوي يا ليلى ) كلهم يغني ليلى وقليلون جدا الذين يصلون في غنائهم لمقطع ( شفناه .. شفناه ) ظلّ الكورس لزمانٍ طويل يرددها دون أن يتحقق من معناها في زمان ما كان الشعر ليتجاسر ويقول ( أمسكي عليك عيونك ديل ) ، وكلما اهتاجت الذاكرة بحفيف ذلكم الجمال أطلت ( يا عازة الفراق بي طال وسال سيل الدمع هطّال ) كانت عازة هي أم درمان لأن أم درمان كانت – وما تزال – هي السودان ،كانت الدار تتلفت وقد غصّ بالجموع فنائها المحضور ، تبحث عنه وقد غاب في جلابيب الرجال وعممهم وثياب النساء البيضاء – تقدم النساء على الحزن بالبياض لأنه لون الصدق – سكتت الأشجار عن غناء عصافيرها ولم يبع الفوراوي من فوله سوى ما يسد الرمق ، والفول لذةٌ عنده تحتفي بجمالية الطقوس وزيت السمسم نافذ الرائحة وصحون ( البوش ) الواسعة ، حي الدومة ألبس شوارعه صمتاً خاصاً ، تقاطعه خشخشة أغصان الدومة فقط وتغرق بقية الأحياء في بحثها عن صوته المتسرّب إليها عبر قهقهات داره الحفية دائماً بالسودان ، وصوته المعطون بأصوات أهل أم درمان ، وأفراحهم ، وشفيف أحزانهم ، وعميق حبهم ، وصادق وعدهم ، الدار تتلفت في العيون التي غيّب الدمع سوادها الأليف ، ولوّنها بطشاشٍ غريب ، كلها كانت تبحث عن علي المك ، اتحدت كلها في البحث عنه وهو يتنفس برئاتهم ويشهق أغنياتهم ، ويحيا على خطوط أرواحهم البيضاء ، يصطفون ، الجامع الكبير ، الكنيسة ، سوق الجلود ، القمائر ، أبو روف ، البكري ، ود درو ، تحتشد بلون التراب التي بنى بها مدن ذاكرته ، الأصدقاء ، عبد الله الطيب ، الطيب صالح ، بشرى الفاضل ، علي عبد القيوم ، صلاح أحمد إبراهيم يتأبط غبار شارع الأربعين ويحتضن مرية وإزميل فدياس وروحه العبقرية ، يمسك بيديه على فكرة البرجوازية الصغيرة – مجموعة قصصية اشترك هو وعلي المك في تأليفها وترجما كذلك كتاب الأرض الآثمة لمؤلفه باتريل فان رنزبيرج - التي تنازع نحوه ، السودان كله اصطفاف لبياض الجلابيب والثياب والدمع وغائر الجراح ، يحلّق فوقهم كما ظلوا يحبّونه ، يردد لهم ما ردده الفيتوري حين سفر عبد الخالق محجوب إلى أقصى مدن الخلود في التاريخ القريب ( لا تحفروا لي قبراً … سأرقد في كل شبرٍ من الأرض … أرقد كالماء في جسد النيل … أرقد كالشمس فوق حقول بلادي … مثلي أنا ليس يسكن قبرا … )

وكانوا مثلك – يا علي المك – يشاهدونك تطل من خيوط الفانوس الخافت أمام دكان الحي صاخب المودة محتدم الحياة ، تتلوّن مثل نقاشٍ تزينه الضحكات من أقصى زوايا السياسة الحارقة ، إلى سور نادي المريخ العظيم وأنت تراهن معهم على فوزه الأكيد في مباراةٍ حسمها ( الأنطون ) – عرّاف يأتيه أهل الكرة لمعرفة حظوظ فرقهم وأحياناً لجلبها من العدم – لصالح الهلال لا تؤمن مثلي بأن النصر والهزيمة صنوان ، يجب أن يكون النصر أكبر أبناء تاريخ الخليقة وإلاّ فما معنى النضال ، الناس في بلادك يا علي المك نواميس الحياة ، يقهرون الموت بالنكتة ، ويطيلون الحياة بالموت ، ما أغرب الناس هنا ، تبدأ معهم الحياة بالموت ، إنهم الفلاسفة الجدد ، يتعجبون من فاره السيارات ويسيرون على ( خ 11 ) كما يسمّون الأقدام ، الناس في بلادك يا علي المك ، سليل القناعة التي تهزم للفقر قوانينه.

من ( الصعود إلى أسفل المدينة ، في قرية ، حمّى الدريس ، البرجوازية الصغيرة )* تدخل إلى حي الركابية ودار الرياضة فائضة الغبار والدافوري ، وألوان ثياب نفيسة وصويحباتها تشمل المكان ألوان الترام وضجيجه وعالمه الواسع ، يجلس كرومة وسرور – فناني أم درمان القديمة – وكل غناء الحقيبة الذي أسست لتقييمه واستدعاؤه في ذاكرة الفن الحديث ، يجلس عبد العزيز محمد داؤود تتقافز الألحان من عوده وتزهر النكات ، يجلس القمر في فناء بيتك يطالع أغنيات الخليل ، بينهم قهوة لم تكن جيدة ، وصحن فول ، ( لا بأس بالفول إن عزّ بوخُ الشواء ) وأنت … (ها أنت تاجٌ على هامة النيل ، لا يحتويك الغياب ولا يحتويك الرحيل ، تحتويك البلاد التي أوغلت في العويل) ، هل ترى الهنود الحمر يصطفون والزنج بحرارة إيقاعاتهم كلها يتدافعون ، أم درمان اليوم سيدة نساء الحزن ، تتشح بسواد الفقد ، ودفء أحيائها القاتل ، تتسرّب إلى صمت الحضور موسيقى فرقة الشرطة من حوشها الكبير ، بآلاتها النحاسية ، فكأنك وأنت تموت تذاكر تاريخ الموت جميعه ، تأتيك آداب المناحة ودق النحاس وطقوس الموت كلها وأحداث الموت الجديد الذي يفاجئ الحياة ، ويسكن في العيون الذاهلة ، كنت وأنت تحقق وتترجم آداب الهنود والزنج تستمتع بغبار دار الرياضة وتقطع شارع العرضة على أفراح انتصار المريخ أو على غلب هزيمته ، وأنت صاعداً من جبل الفوضى إلى همّ الوطن ، هكذا تخرج يا علي المك لندخل نحن عالمك الغاصُّ بالإبداع والضاجُّ بالحضور.

لا تفوته وهو يكتب من صغار التفاصيل فائتة و لا يقاطع موسيقى شوارعه نشاز ، يرويها بصوته عبر الإذاعة فيخلق أدباً جديداً لم تعتاده آذان المتحلقين حول (الروادي) ، كان صوته عمقاً لتفاصيل الأحداث حتى كأنك مشاركٌ فيها ، أثرى المكتبة السودانية والأفريقية بترجمات رائعة فتقابلت شاعرية سونغور برائحة البوتاس واستانزا سوناتا وحديث الجاز بجبال الأحراش السوداء وتقافزت عبره نمور ( الدندر ) ومحميات كينيا الطبيعية وحفّ جوانبها الحياء الأفريقي المختبئ خلف نقوش الجباه الغارقة في السواد والخصوبة ، وجاءت على آثار تجاربه السمعية تجارب ما زالت تحدث ضروباً من الاحتفاء بالأذن السودانية التي طالما احتفت بمشافهة آثارها ،كأن القلم يفسدها ، وأورقت محاولاته لتحقيق أدب غناء الحقيبة ، حديقةً للتمتع بأزهار أبو داؤود وخليل فرح وسرور ، وهاهي تجارب اليوم تقف – واعية وغير واعية – على أرضية الحقيبة الثابتة تحاور تواريخ ثقافتها وتستلهمها ، جاور في مجلسه بين صخب موسيقى الجاز والرقص المتحرر من عقدة المكان والزمان المحتفي بخصوصية الفرد في الجماعة وبين العزف على (الكبريتة) – علبة أعواد الثقاب الصغيرة - حين أغنيات ليل أم درمان الهادئ ، ويعدّ من أكثر المهتمين بعد ذلك بالتحقيق في التراث والترجمة وكانت منحة مؤسسة فولبرايت الأمريكية جعلته يمضي بجامعة نيو مكسيكو في البوكيركي زمناً طويلاً في ترجمة مختارات من أساطير وآداب الهنود الأمريكيين إلى اللغة العربية ، كان جيّد الذوق لأصناف الإنتاج الأدبي ، يقول الطيب صالح : ( إن عظمة كهذه تعود بالأساس إلى شعب السودان وعاصمته أم درمان التي نسج منها السودانيون الثوب الذي تمثّل في النقاء والتسامح والصدق والوفاء …) وتلّح موسيقى فرقة الشرطة على العبور عبر العيون مختلفة الدمع والشجن ، تقف ، تحلّق حولها الطيور تحتفي بالمساء لأنه يسكن جراح النهار ، والنهار جزء من أزمة الأحياء معطونة الشوارع برائحة الفقر والحاجة والليل جزؤها الآخر، الجسر يئن تحت ثقل أحزان عابريه من الخرطوم تدمي قلوبهم يخطون صوب الدار الذاهلة.

( ويح قلبي الما أنفكّ خافق … فارق أم درمان باكي شاهق … ما هو عارف قدمو المفارق … يا محط آمالي السلام .. )**ولكن يا علي المك أنت تخلد في ذاكرة الزنج والعرب وتخطو نحو دروب تراثهم العميق.

" هل يفتديك دعاء المريدين قد زاحموا بعضهم حول نعشك حين أصبح بهو المطار مصلّى – اعتاد السودان أن يستقبل عقول وأحوال مبدعيه الثقافية هكذا عبر صناديق المستشفيات الباردة ، كأن المطار بداية الحالة الثقافية ونهاية الأجساد – هل يحيط الضريح بما فيك من لهفٍ للحياة الجميلة ، هل تحيط المقابر بالنهر يركض منتعشاً ناشراًَ في فضاء البلاد الجريحة أشرعةً .. ناسجاً فوق كل الضفاف خميلة ، هل يحيط الضريح بما فيك من لهفٍ للحياة الجميلة ؟

هل يضيق الوطن على مبدعيه حد الغربة ثم يتسع لذاكرة أوجاعنا بعد ذلك أمام النعوش ، حين يعودون إليه تميّزهم ابتسامة الموت الغامضة ؟ أسامة معاوية الطيب
الشارقة 4/8/2002



أسامة معاوية الطيب غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 03-09-2010, 04:42 PM   #[14]
احمد عبد الرافع
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

أيها الراحل في الليل وحيداً انتظرني....
في الدهاليز القصيات انتظرني..
في العتامير، وفي البحر انتظرني .
------------------------------
وكأني بك يا أسامة تحاول لفت أنظارنا إلي أن عقد هؤلاء المبدعين يجري كما حبات السبحة دون إعتبار لمن أتي أولاً، أعتبره ذكاء منك بدايتك" بأعظم الراحلين في الليل" إن جاز لي أستاذنا الطيب صالح ،دون إعطاء كبير أهمية لسلسلة التاريخ ، وكأني بك تقول أن الأبداع لا يمكن أعتباره سلعة لتنطبق عليه نظرية (first in first out ) عند دراسته والتفكر في ظروف نشأته،رجوعاً إلى معاوية نور ، ثم البقية.

كما كان لماحاً منك أن تحدثنا عن مبدع بلسان مبدع آخر ممن تناولته في مقالتك هذه ، فكرة الأنتقال من الحديث بلسان الشاعر محمد عبد الحي عن الشاعر المجيد التجاني يوسف بشير إلى الحديث عنه – أي عبد الحي- فكرة سديده وموفقه، وسلسه في آن واحد، لا تشعر القارئ بأنه وضع نقطة لتسلسل أفكاره ليبدأ بعدها مبدع جديد.

لا أدرى إن كانت محض مصادفة أم عن تدبير منك ، إختيارك لأثنين ممن فجعت حركة الثقافة السودانية فيهم مبكراً( معاوية نور ،والتجاني بشير) ، وأثنين ممن قدّر لهم الاستمرار في العطاء إلى أن رحلوا بعد ما تيقنوا أنهم وضعوا بصمتهم كاملة غير منقوصة في خارطة الأبداع والمبدعين السودانيين ، وأعني بالطبع الطيب صالح وعلى المك.

فقط ربما الاشارات التي وردت عن بعض المبدعين الآخرين ( إبو ذكري، صلاح أحمد إبراهيم ..... وغيرهم) أحدثت لي بعض الالتباس حول هل نقلنا أسامة إلي مبدع آخر!!؟ ، أم أن تلك الأشارات أملتها فقط طبيعة الموضوع المتشابك والمتداخل؟. أم أن الكاتب لم يقصد في الأصل التحدث عن ستة مبدعين عند ترقيم مقالته من 1-6؟؟

ودي المعهود يا أسامة...



احمد عبد الرافع غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 22-09-2010, 09:01 AM   #[15]
أسامة معاوية الطيب
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية أسامة معاوية الطيب
 
افتراضي

المبدعون السودانيون والرحيل في الليل (5-6)

جاء ، والقرير – عاصمة أغاني الطنبور بشمال السودان – تعدّ عدتها لمواسم الشعر الخضراء ، عميقة الإلهام والشاعرية ، تنكفئ على النيل حتى تكاد تذوب فيه حدائق وأناشيد ، يتصوّف فيها الشاعر فترقص القصائد ، وتتصوّف القصائد فيرقص الوجود ، ويتصوّف الوجود فتردد الأشجار والأطيار وأمواه السواقي والضفاف وسوق الثلاثاء وعامراب المحطة والقوزين و ( الرتاين ميتة ما رنت طنابير ) و ( هناك بعيد بي غادي في آخر الديار .. راكوبة ضلّها أحرّ من حر النهار ) و ( الرايقة شتيلة قريرا .. الفجر نبحت بوابيرا ) وجبل البركل وآثار الكرو ، تردد جميعها :
في حضرة من أهوى عبثت بي الأشواق
حدقت بلا وجهٍ ورقـــــــــــــصت بلا ساق
وزحمت براياتي وطبولــــــــــــــي الآفاق
عشقي يفني عشقي وفنائــــــي استغراق
مملوكك لكني ............ سلطان العشّاق
جاء ، والسودان ورقةً بيضاء تستفز رؤوس الأقلام والأحلام ، لم تكن قد سمعت عن رؤوس الأموال ، والآن تتسامع بغسيلها ، تصنع من تنوعها الفريد وحدتها، على المستوى الأدنى لم تتنازعها الأهواء بعد ، ومن غماماتها الاستوائية واصفرار أقدام الصحارى الممتدة ، حبراً يكتب الشعر والفكر وجديد الوعود لخرطها جميعاً ، والقرير في ذات الوقت تتكئ على جنبها الأيسر ، تمسك غصناً صغيراً بيدها تخطط به على الأرض السمراء القريرة بضم القاف ، تحلم حيناً وتصخب حيناً آخر ، تماماً مثل السرة بنت عوض الكريم التي حقق سيرتها محمد الحسن سالم حمّيد في قصيدة رائعة ، متسامحة حد الضعف وقوية لدرجة الدمار ، تبتسم وهي تتذكر بوق الباخرة النيلية المميّز ، كان الأهالي يضبطون عليه ساعة الجامع الوحيدة ، تمرّ الباخرة والضفاف مشتولة بالناس ، أحدهم احضر سلال الفاكهة ليتكسب من سائحي النهر ، وآخر أستند على معوله يرصد المناظر في انتظار موقف يطيل به ألسنة السخرية اللاذعة ، وحبيبين آثرا لحظة الدهشة هذه دون كل ساعات الصمت في القرية المزروعة بعيون الفضول والترقب ، الباخرة تتهادى لتمضي غير بعيدة عن الشاطئ على ورقة حضورها بسماع أصوات الجنزير الضخم الذي يبدأ في إنزال ( السقالة ) على جانبها مواجه الضفة ، ويلوح جسدٌ نحيل سلبه الهجر والشعر اللحم وأسلمه لطارق وادي عبقر ، النخيل يبدو على الضفة الأخرى كعروس أنهكها الحياء وأرهقها ليل الغناء الطويل ، يلوح ثم يتسرب بين صياح البحارة – أرفع درجةً من الرواويس* - على الباخرة واستقبال الأهل لهم بكامل الجدة ، كأن الباخرة تزور ضفافهم لأول مرة رغماً عن انتظامها في المجيء ، يلوح وتتقافز أمامه القصائد والمواقف والأفكار ويبدو أثر الدفّيق –البلح الأخضر قبل مرحلة نضجه – على قميصه المتهالك ، يطبعه بلون لم تقرأ عنه أقواس قزح كلها ، يندسّ في غفلة انشغال الجميع بالجميع ، بين غرف الباخرة التي تذكره ببيوت الصعيد المضيئة ، وتتفتق شاعرية علي عبد القيوم وهو يمارس عادته هذه ، أكثر من واحد من أهل القرية يمارسها متوهماً أنه الوحيد الذي اكتشف مجاهل الباخرة القارة ، ولكن واحد فقط من تفتقت شاعريته عنها ، علي عبد القيوم، وكان الشاعر حسن الدابي حينها يرتادها مسافراً وقد بدأ يكمل مشروع قصيدته الكونية التي تنمو مع النخل وتكبر على تواريخ كوش وتسبح عبر تيارها الخاص الذي يحسده النيل وتتدفق على أحواض البرسيم وجنان المانجو والبرتقال.
حمل عبد القيوم هواجسه في صدره وقلمه وكثيف شَعره ، الحلاّق على أيامهم كان أكثر ثرثرةً من مقصاته ، وجاء للخرطوم ، وكمثل قبيلة الشعراء قلب صفحة " بسيماتك " ، تغنّى بها محمد وردي ، لكنه صمت عن إحساسه ولم يقل ما قاله عاطف خيري ( خسارة الزول تغنيلو .. وما يفهم معاني غناك .. خسارة الزول تناديه لا يسمع ولا يعرف شنو الجوّاك .. توسّد ريدك الواطة وما تلقى اليدفنو معاك ) ومضى ليصرخ في مسامات الشوارع البكر
أي المشارق لم نغازل شمسها
... ونميط عن زيف الغموض خمارها
أي المشانق لم نزلزل بالثبات وقارها
أي الأناشيد السماويات
لم نشدد لأعراس الجديد
بشاشةً أوتارها ؟
الشعر أكثر تطرفاً من ألوان الأدب الأخرى لأنه يحول لغة الشارع إلى لغة العقل والجمال بينما تسعي بقية الألوان – معها الشعر أيضاً – للضد ، وعلي عبد القيوم حين يمسك بالصورة التذكارية التي اعتادت المدارس أن توثق بها أعوامها الدراسية يتيمة الاستعداد ، يقارن بين الصبي يلبس – فقط – للمدرسة القميص مباهياً بجيوبه الفارغة ، ينتعل حذاء بلاستيك تدمي الأشواك كعبه ويضع يديه على صدره متزيناً بابتسامةٍ ساهمة للصورة ، وبين الحريق الذي يطال قلم وحلم شبابه الآن لأن الفكر يقود إلى مدارج الأسئلة الصعبة ( في آخر الليل الذي أسرى .. دلف الجنود بجثتين إلى الجبانة الكبرى .. الجثة الأولى .. جسدٌ نحيلٌ خلته جسدي فوجدته بلدي .. لا فرق يا مولاي بين النهر والمجرى .. والجثة الأخرى .. جسدٌ نحيلٌ خلته ولدي .. فوجدته جسدي .. لا فرق يا مولاي بين الموت والميلاد والمسرى ) كانت الصحافة معركة أخرى فمعاوية محمد نور الذي كان يمهر مقالاته الرائعة في النقد باسمه المستعار ( مطالع ) كان يخشى من نظرة المجتمع له ، أعاده خاله من بيروت الآداب ليدرس الطب بكلية غردون التذكارية ، جامعة الخرطوم اليوم ، حتى تفاخر الأسرة بابنها الحكيم ، يحكي العقاد أن محكمة مصرية أبطلت عقد قران لأن المحامي في مرافعته أثبت للمحكمة أن العريس محض صحفي شغله الشاغل التجسس على أخبار الناس بينما ابنة موكليه ذات حسب ونسب أصيلين ، إذن فقد رمى بورقة عدم كفاءة الصحفي الاجتماعية ، كانت المواجد في ذلك العهد بالغة الحريق ، وجاء بعد ذلك على عبد القيوم لينهك عقله في الصحافة ، يعيش تمرد الجيل المثقف وانتكاساته واحباطاته الكبيرة ، يحدث قلمه عن طارقٍ جديد في عام 1985 ولم يكن طارق 1964 قد وجد من يفتح له سوى اللصوص
أيها الطارق باب الدار ليلاً
جئت بالقمر وبالأمطار تهمي والبذار
فسلاماً لك في دارك أعياها البوار
وسلاماً لك تهدي للوطن بارق الوعد وسيف الانتصار
وسلاماً لك ترقى بالوطن من مدارٍ لمدارٍ لمدار
ولكن الوطن أشاح بوجهه وأذنيه عن كل الطرّاق واستسلم لنار قلبه ترعى هشيم الأماني وتلوك تواريخ انتصارات منهزمة ، وأي محنةٍ أعمق من موت نبوءات الشعراء حين يرحلون بليلٍ غائب القمر والحبيب ، كانت خيله** دائماً تصارع الحواجز والوطن غائرٌ في جراحه الغائرة ، يكتب ويكتب وتقرأه الفجائع وحدها ، مات عبد الرحيم أبو ذكرى في ليل موسكو مؤودة الصباح فماتت نبوءة عبد القيوم في غار حرائها المحفوف بالمباحث والطوارئ ، تلفّت فلم يجد قلماً ولا حلماً، تأخذه فجيعته بعيداً يقول في قصيدته لماذا جرى ما جرى ، يرثي أبو ذكرى
تعلم أن طيور الذرى يا صديقي
أضاءت بدمعات حسرتها كهف حزني
وكأني بها قد تمنّت لو أنك أخبرتها
لتهرع إليك ناشرةً تحت ظلِّك
مشهداً من الريش والثلج والأقحوان
وكأني بها قد تمنّت
لو أنك عاتبتها لترفع عنك
عناء الزمان وبؤس المكان
تكوّم في منتصف مقعده غير الوثير يرتجف ، وكان قد قضى حكم الإمام بإعدام المفكّر المهندس محمود محمد طه ، يردد مقولة فولتير( قد أخالفك الرأي ولكني على استعداد لكي أدفع حياتي ثمناً لتقول رأيك ) ولكن كانت نبوءاته تصطدم بميكافيلية ( المستشار ) لماذا يظن الطغاة وتشحب ألوانهم أن موت المناضل موت القضية ‍‍؟
كان علينا قبل أن نختار
أن نقطع البحار سابحين ، معصوبين
دون أن نساوم التيّار
ودون أن ينال من مضائنا السمك الجائع والإعصار
وهكذا نفذنا كالسهام ( يا لروعة الصدام والثبات والمقاومة )
إلى مضارب الشروق حيث الطفلة التي نعشقها معاً ولا تعرفنا
إن الشاعر في زمن الحرب الرديئة ، دنيئة الأسلحة ، يأتي أكثر جراحاً ، يحمل سيفاً وإرثاً صادقاً ويتوكأ على أمله نحو الغد ، مكافئه للإحباط رصيد أوردته وشرايينه المنهكة التي تشتهي عبور الدماء ، كان يتمنّى أن يحضر عام ألفين ليشهد تغيّر العالم ، مات قبله ، وجاء عام ألفين ، لم يتغيّر العالم ، أحرج فقط نظرية (الصفر والواحد) وذهب غير عابئ برصيد أصفاره لأنه بات يراها على كل الأرصدة.
في يومٍ ما … خرجت امرأة ما … تبحث عن رجلٍ ما … قالت للنهر : تخبئه عني ؟ ضحكت أنهار الدنيا : يا هذي الأنثى عودي للنبع … هنالك شاهدناه … وفارقناه.
يا علي عبد القيوم ، لا تعبأ بالموت لأن مثلك يحيا به ولا تنهك ذاكرتك بالنبوءات القديمة ، الوقت الآن وقت كتابة العمر قصيدةً جديدة
فأنهض فديتك مثل النهر في المجرى
وأشبع بلادك من أشعارها شعرا
لا فرق يا مولاي بين العاشقين الكاظمين الوجد والأسرى.
أسامة معاوية الطيب



أسامة معاوية الطيب غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

تعليقات الفيسبوك

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 12:20 AM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.