نعي أليم - فيصل سعد في ذمة الله !!! عكــود

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > مكتبات > مكتبة أسامة معاوية الطيب

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 02-09-2010, 12:48 PM   #[16]
نبراس السيد الدمرداش
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية نبراس السيد الدمرداش
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أسامة معاوية الطيب مشاهدة المشاركة
هادي رجعة
بكرة قصة هاشم النهر وأعشاب الثورة 2
وبعدو 3
والله في

شكرا اسامة
شكرا لانك هنا
و يا يوم بكره ما تسرع



التوقيع:
اذا جاء نصر الله والحب
ورأيت الورد في الطرقات يمنحك الامان
فاشرع سفينتك العتيقة وامنح الياقوت وجهك
وانتظر فرح الزمان

عصام عبدالسلام
نبراس السيد الدمرداش غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 03-09-2010, 08:41 AM   #[17]
أسامة معاوية الطيب
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية أسامة معاوية الطيب
 
افتراضي

قصة هاشم النهر وأعشاب الثورة (2)
جمعية اللواء الأبيض
كانت مئذنة جامع أمدرمان الكبير تحوِّم حول دكاكين السوق النائمة على جراح الإنجليز وصبر الأهل المغسول بالشظف ، تسمع وترى التجاني يوسف بشير المنهك جسداً وفكراً وصحبة، يهمس في أذن حاضره الضائع ، أشكُّ فيؤلمني شكي وأبحث عن برد اليقين فيفنى فيه مجهودي ، يقف أمام أبواب المعهد العلمي يتلمّس خطا سنين القرن البطيئة وينادي طفولته في غابة شبابه صعبة الصُفرة والغَبرة:
إنها ثورة الشباب
لم أجد كالشباب يبساً مراعيه ولا كالصـــــبا أقرّ لعيني
يفرح الطين في يديَّ فألهو جاهداً أهدم الحياة وأبني
يهدم ويبني فقط في حقول طفولته ، كانت غابات الشباب ، ذلك العهد ، أعنف شوكاً وأقسى دروباً وأكثر آفاتٍ ، من كلِّ غابات أعوام ماركيز المائة لأنها كانت محاطة بآلاف الأعوام من العزلة والموت ، وحين كان التجاني يكافح جاهداً للسفر لمصر ويناجيها في أشعاره : أملي في الحياة مصرا ، فحيا الله مستودع الثقافة مصرا ، نضّر الله وجهها فهي ما تزداد إلا بعداً عليَّ وعسرا ، كانت مصر تكبل أحلام عرفات محمد عبد الله قبل يديه وتتهمه بقتل "السير لي استاك" – سردار الجيش المصري والحاكم العام للسودان وكان قد أطلق عليه مجهولون عدة طلقات نارية بعد ظهر يوم الأربعاء 19 نوفمبر 1924 وتوفي متأثراً بجراحه مساء الخميس 20 نوفمبر 1924م - وتتوعده بموتٍ وشيك ، وقد ذهب إليها يراهن على مسارحها وفنونها فكادت أن تفتك به سجونها وأن تشلّ يديه وقلمه الحالم بعالٍم سعيد، يغالط به أمل دنقل ، ويكتب التاريخ بعد ذلك أنه نجا من الموت بأعجوبة ، ومضى التجاني يؤسس لمجتمعه الشاعر والمسامع تتحسّس حين اغتياله مقاطع يوسف الصائغ :
يا شاعرْ … مت منفرداً
طوبى للقتلى منفردين أمام ضمائرهـم
لم ينتظروا أن يعطوا أوراق بطولتهم
وشهادات الدفن
كان التجاني ومعاوية نور وعرفات محمد عبد الله وخليل فرح جزءا من النسيج الاجتماعي بالغ التعقيد الذي خلق جمعية الاتحاد السوداني ، ومن بعده اللواء الأبيض ، واليوم يرقدون تحت شواهدهم العالية التي نطأها بهزائمنا دائماً ، ينظرون لحالنا الذي كان يرى الشاعر محمد طه القدّال أسباب النضال فيه (عشان عيون أطفالنا ما تضوق الهزيمة ) ويأتي ليبدو ناعم القسمات في كامل هزيمته الوسيمة ، في صالون الحكومة المترف ، البرنامج التلفزيوني ( أيام لها إيقاع ) ينعم برضا السردار ويدبّج القصيدة تلو الأخرى في مشروعه الحضاري الذي كان لزمانٍ سبق – يقول - سيبصق قصائده إن صادفت رضاه ، واليوم تبصقه قصائده ,,, ونتأمل ، لماذا نطير بخيالنا نبحث عن أجنحتنا في سماواتٍ يشغل أرضها الطغاة وحين نجدها ننتفها ريشةً ريشة ونعود إلى عشِّهم لا نبرحه ؟
كانت الظروف تسهم في إفراز شعارات أملتها ضرورات السياسة تمنح السودان للسودانيين على ورق المخيِّلات الشفاف ، تأخذه صاحبة الشمس الواسعة , بريطانيا ، لنفسها كاملاً لا تشاركها مصر حتى في الاسم ، وكان المصريون يرون في اصطحاب أخيهم الأصغر لمزرعة مليكهم المفدى نعمةً ينعمون بها عليه ، ولكن السودانيون ذاتهم كانوا يتمايلون على أنغام الشعارين يؤسسون لحزبية ما زال "أئمتها" يتبارون في فقه الخروج والعودة وضرورات المشاركة والمقاطعة – وكليهما لمصلحة المواطن الميت ، يقولون - ومنصّات الأحاديث الفارغة ويقيمون مؤتمراتٍ جهد نتائجها الخوف والشفقة على رصيف الموت وأغنيات اليأس وزحف الشيب على قلوب أطفالنا.
( ورأى الإنجليز أن قضية السودان يجب فصلها عن مصر . فعملوا على الاتصال بالشباب السوداني المتعلم وسيما ناظر كلية غردون ، ويطلعونهم على ما نشر في الصحف البريطانية من نوايا طيبة تجاه السودان وظهرت عبارة "السودان للسودانيين" ويذكرونهم بما كانت عليه الحالة في العهد التركي – المصري وينشط أولئك الذين يرون في مصر مثلاً للكفاح من أجل نيل حريتهم ويربطون قضيتهم بقضية مصر ويواصلون مقاومتهم السرية للإنجليز ، ونجحت هذه الجمعية السرية (جمعية الاتحاد السوداني) في إيفاد الرعيل الأول من طلبة كلية غردون إلى مصر لمواصلة دراستهم هناك وهما المرحوم بشير عبد الرحمن والأستاذ توفيق أحمد البكري ، وتلاهما الأستاذ الدرديري أحمد إسماعيل وشعارها كما ورد على لسان أحد مؤسسيها وهو الأستاذ سليمان كشة "السودان للسودانيين والمصريون أولى بالمعروف" . ولم يتعد نشاط هذه الجمعية توزيع المنشورات المنادية بمناهضة الحكم البريطاني ).(1)
كان أعضاء جمعية الاتحاد السوداني يشكلون نسيجاً عروبياً ضيقاً ، حتى أن سليمان كشة ، محرر جريدة مرآة السودان ورئيس الجمعية ، كان يخاطب جموع الحاضرين دائماً بـ : أيها الشعب العربي الكريم وكان الملازم أول علي عبد اللطيف يرى أن الشعب السوداني أحقّ بالمخاطبة لأن السودان نسيج يشكل العرب جزء منه فقط. ولو أن صاحب كتاب "ثورة 1924م السودانية" الأستاذ مبارك بابكر الريح نزع عن ذلك وقرر أن جمعية الاتحاد السوداني كانت البذرة لشجرة اللواء الأبيض وهو ما غالط أحداث د. مكي شبيكة الذي يرى أن قيام جمعية اللواء الأبيض جاء كردِّ فعلٍ لاتجاه جمعية الاتحاد السوداني العروبي التي كانت تضم بين أوراق شجرتها الخضراء ناعمة الظل والهجير على السواء ، جموعاً من المثقفين على رأسهم ، عبيد حاج الأمين وتوفيق صالح جبريل وسليمان كشة ومحي الدين جمال أبو سيف والأمين علي مدني … هذا الأديب الذي تلبستّه آفة مبدعي أهل السودان فمات يافعاً ، يقول عنه محمد عشري الصديق في كتابه "آراء وخواطر" : "وأنت إذ تقرأ له الكثير من مقالاته ، ترى أنه يميل إلى الخيال البديع ويسترسل فيه إلى حدٍ بعيد ، فهو آناً بشر يمشي بقدميه على الأرض ، وآونة بلبل يغرد على الأغصان، وآونة أخرى عقاب بين طبقات السحب ، وتارة روح تحلق في الأثير ، وطوراً ملاك يرفرف على قبة السماء " كان نجما آثر الضوء في سنين الظلمة فأرهقته الليالي ومشى على دروب النهارات وحيدا فقضى .
كانت السماء ذلك الزمان تعرف كيف تقرأ فنجان الشعوب (المقلوب) على أمره ، فكانت تبعث غيماً داكناً على دكاكين سوق أمدرمان الهادئة لكنها تمور وراء أحداق رجالها ، فيصبح السوق هادئاً ويمسي ضاجاً يبحث عن ذاته . وكانت حلفا التي أغرقها الفريق عبّود ومصر التي أوليناها معروفاً ، ولا زالت مئذنة جامعها الكبير تقف على أطراف أصابعها حتى لا يخنق الماء ذاكرتها ، وحتى لا يتهدل الدمع في عيون الرجال الذين هجرتهم الحياة لموتهم الأكبر وهجرهم الموت لحياتهم البائدة . كانت حلفا والنسيم يتجول بين مزارع نخلها وأحواض القمح الأصفر وحدائق المانجو ، والفضاء يغرق في أصوات بواخرها النيلية التي تمشي على بساط نيلها ، يلتقيه الأفق بزرقته الأخاذة لا تدري هل إلى البحر تقبل أم إلى البدر ترتقي والرجال في "صدارة" المزارعين السوداء يضعون على رؤوسهم الطواقي وعلى قلوبهم كل زاويةٍ من زوايا السوق وكل خطوةٍ على شوارع الزراعية الخضراء وكل ونسةٍ أرهقت النيل بالحب ، كانت حلفا زرقاء زمانها ، تضع مولودها الجديد ، فترتفع مآذنها بالصلوات وسحبها بمطرٍ جديد من الوعود ، ولكنها تُغَّص بغرقٍ وشيك حين يأبى السد العالي إلا أن يرويها حد الموت ، عجيب أمر هذه البلاد تُغرق أهلها وتأتي لتقول إن بحيرة النوبة غنيةٌ جداً بالأسماك ، فكل سمكةٍ من أسماك بحيرة النوبة فيها عطرٌ من رجلٍ زوى تحت حقله مخافة فراقه ، ولونٌ من نخلةٍ ضمت شتولها واستبقت الموت لنفسها حتى لا ترى تضرُّج بناتها في اختناق الطفولة ، وكل سمكةٍ فيها دمعةٌ سقطت غصباً عن عين أبٍ لم تحالفه اللغة ليشرح لأبنائه معنى التهجير ومضى بلا قلب ، ونبضٌ أرسله عبّود وأركان حربه لأعماق الماء وباعوه في سوق السمك رخيصاً وكأن الوطن ينسى بسرعةٍ أكبر من تلك التي قرروها ، كيف لا يكثر السمك وذاكرة المدينة كلها تتفتت طُعماً تحت الماء ، كانت تستقبل في ذلك اليوم طفلاً حمل في يديه مفتاح المدن كلها ، نطق في مهده بمعانٍ لم تحتملها الكلمات فحولتها لصرخة البدء الأولى ، وزغردت الأمهات .( ولد علي عبد اللطيف في حلفا سنة 1892م حيث كان والده يعمل جندياً في الجيش المصري وأتم تعليمه الابتدائي والتحق بالمدرسة الحربية في الخرطوم ، تخرّج بعدها ضابطاً في رتبة ملازم ثاني 1914م )(2) شبَّ علي عبد اللطيف بين غابات النخيل ، وكانت عينا حلفا تصادف السيّاب ( عيناك غابتا نخيل ساعة السحر ) وتصادف إلياس فتح الرحمن ( عيناك يا تمكّن الذي خلق .. مقاعد الصحاب حين يستوي الأرق ) كان القمر على شرفاتها يكتب كل قصائد الضياء والأرض أسطره البيضاء من غير سوء ، خضرةً تسيل على أصابع الزمان ، والسوق تغرق في ( رطانتها ) سار في طريق الرمل الصفراء نحو مدارسها وسارت نحوه بيوتها وضفائر الصبايا اللائى جئن بعد ذلك ليقدن الرسن مع خليل فرح ويهتفن فلحيا الوطن ، والجو يشعُّ بمعانٍ جديدة للنضال والمقاومة ، شرب منه دروساً أيقظت بعد ذلك وعداً نائماً في عيون أجداده وسار حتى عيوننا اليوم التي أرمدها لون اللبسات العسكرية على خضرته التي كانت تفتحها لسنينَ خلت مزارعاً من الدهشة والحياة.( .. وتنقّل في الوحدات ، وفي الإدارة كنائب مأمور إلى أن كانت سنة 1921م حيث حلّ بالكتيبة السودانية المرابطة في ود مدني عاصمة الجزيرة ، وهناك أصبح منزله منتدى للتحدث في السياسة ومناقشة المسائل العامة ، واصطدم بنائب المدير الإنجليزي حيث لم يؤد له التحية العسكرية مع بعض زملائه ، وعندما لفت نائب المدير نظره ناقشه مناقشة حادة أدت بعد الاتصال برؤسائه الإنجليز إلى إحالته الاستيداع ، وسافر إلى الخرطوم حيث تفرّغ للشؤون العامة وكتب مقالاً للجريد الوحيدة " حضارة السودان " ولم ير رئيس التحرير نشره لأنه يخشى اعتراض المخابرات عليه والجريدة تحت إشرافها ، ومع ذلك تمكّن مدير المخابرات من سحبه من درج رئيس التحرير بنفسه حيث دلّت عيونه عليه وقدِّم علي عبد اللطيف بمقتضاه للمحاكمة لأنه نشر في الصحف المصرية . حكم عليه بالسجن سنة ، وما كان المقال يحوي إلا مطالبة بتوسيع فرص التعليم ونزع احتكار السكر من يد الحكومة ونقد لمشروع الجزيرة ، وفي هذا دليل واضح على أن الإنجليز ما كانوا يسمحون لأقل نقد لسياستهم ، حتى ولو كانت مثل هذه الأشياء الصغيرة ولكنهم كانوا يتربصون بعلي عبد اللطيف إلى أن أودعوه السجن )(3) وكانت كل البيوت التي تنام على أنغام مؤذني العشاء الذين يميلون كلمات الآذان حد البكاء ، وتستيقظ من قبل حركة الأعشاش على أغصانها كثيفة الخضرة ، كانت وأمدرمان تدفن جراحها في خدر الأمل ، تستطلع حركةً جديدة ، حيث أوقد علي عبد اللطيف مع زمرة من أقرانه شعلتها ومضوا إلى ظلمة السجون والإنجليز بعد أن كوّنوا جمعية اللواء الأبيض التي رأت في انشغال جمعية الاتحاد بعروبتها إهداراً لوطن يسقي نيله غابات الأبنوس قبلاً ثم يقاطع صحاريها بعد ذلك ، وأن القضية هي قضية السودان بشقيه العربي والزنجي ، ومثلما أطلت مدرسة الغابة والصحراء لاحقاً من عيون الأدب كان اللواء الأبيض الذي ترقد في منتصف قماشه الأبيض خريطة وادي النيل من منبعه إلى مصبه ، مدرسة أخرى من غابات السودان وصحراواته ، أودعت الهواجس سجناً كبيراً وأطلقت الوطن من أحداق تقتله إلى أخرى تحيا عبره عالمها ، ومضت تمارس نشاطها رغم مضايقات الإنجليز الذين جدّوا في جمع توقيعات الناس للإنفصال عن مصر وتضع السودان تحت الحماية البريطانية ، ولكن جمعية اللواء الأبيض لعبت دوراً رئيساً في تحطيم تلك الفكرة وأشارت إلى جميع فروعها بجمع العرائض المضادة ، والتي جاءتها سريعاً ممهورة من شخصيات بارزة ونظّار وعمد وموظفين ، مؤيدة لمصر ، وقام الإنجليز باعتقال موفدي الجمعية الملازم زين العابدين عبد التام ومحمد المهدي خليفة في حلفا وأرجعتهما بالقطار للخرطوم تحت الحراسة المشددة ، بعد قرار الجمعية بسفرهما إلى مصر لينقلوا للبرلمان المصري رأي الوطنيين السودانيين في مستقبل بلادهم ، ولكن علي عبد اللطيف وعبيد حاج الأمين كانا في استقبالهما مع جمعٍ غفير من الجمهور والهتاف الحار والهياج كما وصف مستر وست ملاحظ البوليس آنذاك ، وأرسلت الجمعية برقية إلى مجلس النواب المصري بمناسبة منع سفر الوفد ، يعلنون فيها موقفهم حيال الأمة المصرية قاطبة وأمام التاريخ ، ويرون أن سفينة يدير دفتها سعد يستحيل أن تصطدم بصخر مهما كانت الزوابع والظلام – كما جاء في البرقية.
العصر ، تتقاسمه سخونة شمس تترك كل نار أشعتها وهي تخطو خطواتها الأولى صوب غروبٍ دامع العين ، وصرامة تزيِّن الوجوه ، وجمعية اللواء الأبيض تنظم أول مظاهرة بأمدرمان يوم 19 يونيو 1924 بعد انتهاء مراسم دفن جنازة المرحوم عبد الخالق أفندي حسن مأمور أمدرمان وسجن على إثرها الشيخ عمر دفع الله - الذي أوكلت إليه مهمة ترتيب الأمر – ستة أشهر ، ولم تكن عطبرة عاصمة الحديد والنار ، ورائحة الفول تزحم أجواء مطاعمها الحميمة ، ودراجات العمال تغسل الشارع بأزيزها الناعم ، يحكون أثناء السير قصص المدينة الهادئة الضاجة ، لم تكن لتقف بعيداً عن الأحداث ، استبقت دراجاتها الكثيرة في مشهدٍ فريد ، تكسو الرجال بدلات السكة حديد رمادية اللون وقسمات تسكن الوجوه تبحث عن وطنٍ تدفنه الحوادث تحت عباءة الإنجليز القاتمة ، وخرجت شندي كلها لتمنح الفضاء لون طواقيها الحمراء ومقاطع الدمور ، تمور على رصيف محطة قطاراتها رائحة الطعمية وجلبة الصبية ، تبعث ببرقيتها الشهيرة إلى البرلمان المصري ونقابة الصحفيين المصريين والمندوب السامي البريطاني اللورد اللنبي يفيض فيها قلب شندي ولاءً لملك وادي النيل ويثق بحكومة سعد ، يطالب مطالبةً حارة بترك المظالم وعدم استعمال السلاح ضد المتظاهرين وزجّهم بأعماق السجون ، وكانت مدني والأبيّض تدفع عجلة مظاهرات الجمعية أيضاً. (في هذا الجو خرجت جمعية اللواء الأبيض للشارع في الخرطوم ومدن السودان الأخرى في مظاهرات مناوئة للإنجليز ومساندة للقضية المصرية التي ارتبطت بقضيتهم ، وقبض على أعضائها وأودعوا السجون في يونيو 1924 وحكم عليهم بمدد مختلفة وصل بعضها إلى العشر سنوات ومات المغفور له عبيد حاج الأمين سكرتير الجمعية في السجن وأستمر علي عبد اللطيف يتنقل في سجون السودان حتى تأثرت صحته الجسمية والعقلية في آخر أيامه وقضى نحبه شهيدا من أجل بلاده ، وفي أغسطس من نفس السنة خرج طلبة المدرسة الحربية في الخرطوم في مظاهرة سياسية مؤيدة لمصر ، وتمكن الجيش الإنجليزي من محاصرتهم واستلام أسلحتهم ثم نقلوا إلى وابور في عرض النهر ومنه للسجن العمومي بكوبر وأوصدت أبواب المدرسة الحربية منذ ذلك الحين )(4) كتب السيد محمد عثمان بخيت وهو أحد أولئك الطلبة المتظاهرين وذلك في مقالٍ له بالعدد الخاص من جريدة الرأي العام بتاريخ 31 مارس 1956 قائلاً " لا أستطيع أن أصف مدى المعاملات القاسية جداً التي لقيناها في السجن ، ويكفي أن أذكر على سبيل المثال أننا قيدنا كل عشرة أشخاص في جنزير واحد بحيث إذا احتاج واحدٌ منا للحركة أو قضاء الحاجة اضطر التسعة الباقون للتحرك معه وكان هذا بعد حوادث السجن المعروفة – كان الطلبة قد تظاهروا داخل السجن احتجاجاً على المعاملة - ونقلنا إلى سجن الجيش الإنجليزي حيث لقينا ضروباً من العنف كالجلد والرش بخراطيش الماء في عنف البرد " يا إلهي يبدو أن الطغاة يقرءون مثل هذه المذكرات فقط ، فالطيب صالح حين قرأ سنوات العقد الأخير من القرن العشرين لم يستطع أن يسأل سؤالاً غير هذا ( من أين جاء هؤلاء ؟) السماء التي بدلت زرقتها بحمرة العيون الباكية على عيونها المفقودة ، والصحارى التي زادت صفرتها صفرةً وهي ترحل تجاه النيل الظامئ ، أرهقه جهد قرونٍ كان يفتديه فيها أهله بعروسٍ كاملة الأنوثة واليوم يحفر الهدم في صدره فيوغره جراحاً وظمأ ، والنخل الذي كان يضمّ جريده على خضرةٍ داكنة فوق جذعه المثقل بالرطب أصبح لاهثاً يجري وراء القماري المهاجرة ، ناشف الشعر تعلوه قشرة الموت وحكة الذكرى المؤلمة ، والأمهات ، يا لحزن الأمهات ، أتبكي الخارجين عن حدود الوطن يختارون منافيهم الإجبارية أو شواهد المقابر الجماعية أم الذين يخرجون من الدم ويدخلون ، يطاردون السفارات، كلها تسأل سؤالك يا طيب يا صالح وقد دفنت السنين الطيبة والصلاح تحت مجنزرات الجسور وفي عتمات بيوت الأشباح.
وجاء الإنجليز إثر المظاهرات التي اجتاحت مدن السودان كلها وبعد اغتيال السردار ، توزّع ضباط وجنود (11 جي أورطة ) بأم درمان على الخرطوم لحراسة مباني السردارية واحتلال ثكنات الجيش المصري واحتلال محطة اللاسلكي بالخرطوم بحري ، وكان الإنجليز يرون أن رحيل الجيش المصري سيتم في يسر وسينقطع بعد رحيله أي أثرٍ للحركة الوطنية في السودان بعد أن أودعوا قادتها السجون ، وأصدروا أمراً برحيل الضباط والجنود المصريين إلى مصر بدون ذخيرة ، وقد رفض الضباط والجنود المصريين الإذعان للأمر وهدد القائمقام أحمد رفعت بالضرب إذا حاولت القوات الإنجليزية الاقتراب منهم ، وأعلن الجناح العسكري في جمعية اللواء الأبيض الانضمام إلى الجيش المصري وكوّنوا في الحال هيئةً تنفيذية أسموها " المجلس الأعلى للتنفيذ " ( وباشرت السلطات الإنجليزية في السودان تنفيذ إجلاء القوات المصرية ورفض قائد الطوبجية أن يبارح جنوده ثكنتاهم إلا بأمر من الملك ، وبعث الملك برسول خاص على طائرة خاصة لإبلاغه الأمر ، وأثناء ذلك وصل إلى مسامع القوات السودانية في الجيش المصري أن الطوبجية يقاومون أمر الجلاء وهبّ بعض الضباط والجنود السودانيون للاتصال بزملائهم في السلاح وخرجوا من ثكنتاهم بأسلحتهم وذخائرهم ولكن القوات الإنجليزية التي كانت تحتل كلية غردون تصدّت لهم ومنعتهم من التقدم لكوبري النيل الأزرق ، والتحم الفريقان في معركة حربية صمد لها السودانيون يومين حتى نفدت ذخيرتهم وبعد أن كبدوا الإنجليز خسائر فادحة ، وأخيراً تمّ إلقاء القبض علي الضباط ونفذ فيهم حكم الإعدام رمياً بالرصاص ما عدا علي البنا وقد أبلى في المعركة بلاءً حسناً المرحوم عبد الفضيل ألماظ حيث مات شهيداً وهو قابض على مدفعه الرشاش.)(5) أوقدت الشمس كل أجنحتها وأسلمت الصبح لعرقٍ يتقاطر من كل مسام الأرض والناس والسماء ، جاء رفاق عبد الفضيل ألماظ وقد وقف يستقبلهم على مشارف الخلود بعد أن ضمّ مدفعه ونام بمستشفى العيون الذي هدّه الإنجليز بالراجمات ، تلوح من جبينهم نضرة العرس ، يلبسون هلالاً ذهبياً كان يأخذ الجزء العلوي من الناحية اليمنى للعلم الأبيض الذي جعلوه شعاراً للوائهم الأبيض سلماً واتحاد ، الأحمر حين تستبدّ بالإنجليز كبرياء إمبراطوريتهم التي تستكثر من خطوط الطول والعرض حتى لا تغيب عنها الشمس ، جاءوا يخطون نحو مشنقة سجن كوبر - جاء بعدهم قاسم أمين وعلي فضل وعلي الماحي السخي لينالوا شرف الموت فيه ومنه دون مقصلة ، وخرجوا ليحيوا بيننا أدباً وحياة - لم ترتفع جباههم كرامة ورجولة مثلما ارتفعت صبح ذلك اليوم ، كانوا نخلاً يسير في دروب الحقول باردة النسيم وأنهاراً تسيل على كفوف الضفاف الجميلة وشمساً تدمن الضوء على ظلماء الإنجليز ( ..وفي حوالي الساعة السابعة صباحاً تقريباً جيء بالضباط الأربعة – ثابت عبد الرحيم وسليمان محمد وحسن فضل المولى وعلي البنا الذي عدّل الحكم عليه في آخر لحظة للسجن مع الأشغال الشاقة لمدة خمسة عشر سنة – تحرسهم ثلة من الجنود البريطانيين شاهري السلاح بالسونكي وقد قيدت أيديهم بالسلاسل أما أرجلهم فكانت بغير قيود وقد ارتدى كل منهم حلته العسكرية وعلى رؤوسهم قبعاتهم بعلامات الفِرق التي كانوا يعملون بها وعلى أكتافهم الدبابير – النجوم – التي تشير إلى رتبهم العسكرية وكان لبسهم الرسمي عبارة عن " ردى وسترة كاكي " …ثم وضع الصول جلبرت دائرةً من القماش الأسود على قلب كلّ منهم " تحت جيب السترة من الشمال " ليصوّب الجنود الرصاص عليها ..)(6)
وفي ذات الظهيرة ذهب ( لوري ) بالجثث إلى حفرة كبيرة أعدت بالقرب من الديوم القديمة ، ( وتم دفنهم معاً ولم يسمح لأي فرد من أهليهم أو معارفهم أن يقترب من هذا المكان ، ثم سويت المقبرة مع الأرض تماماً ولم يسمح قط بوضع أي معلم عليها حتى لا تزار وعيّن ديدبان حارس يقف لحراستها حتى لا يقترب منها أحد أو تنبش وتحمل الجثث وتدفن في مكان آخر ..)(7) ألهذا ما زلنا نشعر بحركةٍ ما في باطن الأرض أشبه بالبركان ونحن نقاطع حي الديوم صوب قلب الخرطوم ، قبالة منزل الدكتور الشهيد علي فضل؟ ألهذا ترتجف أوصال حديقة القرشي وهي تطالع الرجال النازلين إلى أغور أعماقها ، يطلعون في سمائها العاشرة نجوماً جديدة ؟ ألهذا أستشهد عبد الفضيل ألماظ في مدفعه ومضى رفاقه يعلون باطن الأرض ويوقدون في دواخلنا شموع الذكرى ؟ -( قبل أن يعيد محمد المكي إبراهيم طبعة ديوانه ( أمتي ) ويعدّل في مواقفه )- ألهذا تجتذب بيوت الديوم القديمة كل ضوء وظلمة الخرطوم وكل حرّها ونسيمها وكل حياتها وتظل تلمع لمعةً غريبة تحسدها عليها أحياء الزجاج وحدائق الأسمنت ؟ ألهذا أضاءت أصابع أهلها الورق وهي تنتخب حياتها وتسقط الجبهة وإمامها عام 1986 وتسبّح على مسبحة هواها حرية .. حرية .. حرية وتسلم عينيها لضوء الظهيرة ؟
إذن ، كيف تمضي الظهيرة
دون أن يجلس رجلٌ ما
في مكانٍ ما
يتفقد سمكةً في نهر غربته
وما تبقى من سيئات ؟(8)
أسامة معاوية الطيب
2/2/2003



أسامة معاوية الطيب غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

تعليقات الفيسبوك

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 03:30 AM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.