القوة والضعف فى شخصيات الطيب صالح الروائية !!! عايد عبد الحفيظ

هايكو لا للحرب - للشاعر عبدالله جعفر !!! نصار الحاج

مصطلحات عامية سودانية !!! المرحوم فيصل سعد

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > نــــــوافــــــــــــــذ > الســــــرد والحكــايـــــة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 21-08-2010, 03:18 PM   #[1]
علي حاج علي
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية علي حاج علي
 
افتراضي (في القطار - مأساة) مقاربة أدبية وقراءات في التنمية

[align=justify]في قصته (في القطار – مأساة) يقول معاوية نور:
" وكأنما القطار بانتظاره الطويل قد زاد من الم هؤلاء الناس وضاعف أحزانهم وشقوتهم.."
-انتهي الاقتباس –
لقد كان الأديب النافذ معاوية نور يعرف تماما ماذا كان يريد من كتاباته القصصية، تلك التي اسماها (أقاصيص سودانية) خالصة. والتي يقول عنها:
" فان قراءاتها فحسب لا تكفي لفهمها، إنما التفكير فيها بعد القراءة هو الضمان الوحيد لفهمها وتقديرها وفهم المعاني والأشياء التي اعنيها.."
كان في تلك القصص يهدف إلى التنبيه والى الاهتمام بقضية الفرد والمواطن السوداني البسيط، ودعوة الحكومات إلى الاهتمام به ورفع مستوياته التعليمية والصحية والاقتصادية والمعيشية.
انك تلمح تلك الإشارات من خلال كلمات معاوية نور في تلك النصوص. لذلك جاءت قصته (في القطار – مأساة) هي الأكثر إشارات إلى أهمية الاهتمام بالريف والتمنية البشرية المتوازنة.
كان الجو صحوا، والشمس مختفية خلف السحاب المتراكم، والهواء باردا يلسعك ببرودته، كل الوجوه كانت مبتسمة ضاحكة، لم يشغلهم تعطل الباص عند تلك المحطة على طريق (عطبرة – الخرطوم).
كنت وزوجتي من ضمن ركاب تلك الرحلة المتجهة إلى الخرطوم، بدأت الرحلة عند الساعة السابعة والنصف صباحا، على إحدى باصات شركة التوحيد، وعند محطة (العوتيب) بعد مدينة شندي بقليل، تعطلت طلمبة المياه الخاصة بالباص، لا ادري بالضبط وظيفة تلك الطلمبة لكنها عطلت خط سير الرحلة تماما وتوقف الباص.
انتظرنا لأكثر من ساعتين في تلك المحطة، عرفنا من السائق ومساعده بان الشركة سوف ترسل باصا أخر من الخرطوم التي كانت تبعد تقريبا ساعة ونصف من المكان الذي تعطل فيه الباص.
لقد كان، المكان هو المكان، كما وصفه معاوية نور قبل ثمانون عاما عندما كتب قصته القصيرة (في القطار – مأساة) ونشرتها جريدة السياسة الأسبوعية (العدد 243 في يوم 11 نوفمبر 1930).
المكان هو نفسه، الشجر، الحجر، البشر، ... الخ. لم يتغير شيء، يقول معاوية نور في وصفه للمكان:
" والمسافر لا يرى غير السهول الواسعة حينا، والأشجار المتناثرة حينا أخر، وقد يرى بعض الأحيان أرضا خضراء، ولا يرى في غيرها سوى الرمال والحصى.."
للأستاذة الصحفية الأديبة، سوسن الابطح التي كانت تكتب في جريدة الشرق الأوسط، مفردة وصفت بها المرأة بأنها (منحة الخصب الإلهية). تلك المفردة تذكرتها عندما وقفت على تلك الأرض إنها (منحة الخصب الإلهية) لهذا البلد، هل يا ترى سوف تتعطل تلك الخصوبة ثمانون عاما أخرى ويبقى المكان (مكانك سر)، أم سيتحول ذلك المكان إلى مستعمرات للمستثمرين الذين يسعون للربح فقط، دون أي اهتمام بإنسان تلك المناطق.
عندما جلس النساء تحت تلك الأشجار، تذكرت وصف معاوية نور لها يقول:
" غير إن النظر إلى شجرة من هذا الشجر الذي تجده بين حين وأخر واقفا متدلي الأغصان في أسى واكتئاب وصبر ووحشة لا تخالطها بشاشة أو يمازحها فرح، لحري بان يحمل الإنسان إلى الاعتقاد بنضوب هذه البقاع من الحياة"
اقبل علينا ذلك البائع الصغير، حاملا صندوقين من البسكويت المحشي ماركة smaily، يعرضها علينا، مناديا:
-الخمسة بي جنيه، الخمسة بي جنيه بس جنيه واحد ( الجنيه يعادل ألف جنيه بالقديم)
في المرة الأولى صرفه البعض بلطف وتودد وابتسامة، في المرة الثانية صرفوه بلطف، في الثالثة صرفوه عنهم بنظرات غضب.
طوال تجواله بيننا لم يشترى منه احد من الركاب الذين كانوا في الباص المتعطل، إلا تلك العجوز التي بالتأكيد حنة لحاله وأشفقت عليه. وكما قال معاوية نور في وصف تلك اللحظة:
" مسافرا واحدا اشترى من احدهم بيضا بقرش صاغ، ولشد ما كانت ترمقه عيون آخرين حاسدة حاقدة!"
تلك النظرات شعرت بها و أنا انظر في أعين أصحابه الذين التفوا حوله، تماما كانت كما وصفها معاوية نور، كانت عيون حاسدة حاقدة.
كما استطاع معاوية نور أن يصف حالة ذلك البائع الصغير بدقة وتصوير شديدين، هذا ما لاحظته من خلال حركات ذلك البائع الصغير ومن معه من أصدقائه، كنت تشعر بالهم يضربهم والحزن يضمهم والشقاء يحيط بهم.
لان طول الانتظار لم يكن مقابله فائدة ترجى بالنسبة إليهم، ولم يأتي إليهم توقف الباص الطويل إلا بالهم والحزن والشقاء، لان بضاعتهم ما زالت كما هي والعائد بالنسبة إليهم لم يكن مجزيا كلما قاسوه مقارنة بالفترة الزمنية الطويلة التي توقفها الباص.
كنت انظر إلى ذلك البائع الصغير وأتذكر ذلك الفتى الذي وصفه معاوية نور قبل ثمانون عاما يقول:
" .. ولقد كان يلبس هذا الفتى الصغير جلبابا ابيض قد استحال لونه من كثرة الاتساخ، وتراكم عليه التراب قاتما اسود يمشى حافي القدمين، عاري الرأس، لم يتجاوز عمره إحدى عشر عاما، براق العينين، دقيق الشفاه في أسى واكتئاب تطل عليك من نظرته لوعة وشجو دفين.."
لم يتغير شيء بين الاثنين؛ فالأول كما الثاني، والثاني كما الأول، فقط تغير النداء:
-الأول قبل ثمانون عما كان ينادي (شااااااآآآي، شاااااااآآآآآي، شااااااااآآآآي)
-الثاني بعد ثمانون عاما ما زال ينادي ولكن تغيرت السلعة (لبان، بسكويت، مناديل – لبان، بسكويت، مناديل – لبان، بسكويت، مناديل او الخمسة بسكويتات بي جنيه، الخمسة بي جنيه،الخمسة بي جنيه)
ثمانون عاما وهؤلاء الصغار حياتهم نداءات وإشارات وركض خلف وسائل النقل من قطار إلى باص إلى شاحنات.
ثمانون عاما من بيع البيض المسلوق والشاي والأواني الخزفية، ثم بعد ذلك بيع اللبان والبسكويت ومناديل الورق وحنة الدامر الممتازة.
ثمانون عاما من المأساة يا معاوية نور، لم يتغير شيء فالمكان هو المكان والزمان بالنسبة للمكان كما الانتظار الطويل الذي عذب أولئك الصغار وأحزنهم.
إن التنمية التي تهمل الهامش لا بد لها أن تولد هامشا جديدا، ذلك لان المدن سوف تزحف بكل جشعها وخبثها وخبثاءها مرة أخرى نحو الريف المهمش (البكر). إن المدن أصبحت لا تسع ساكنيها ولا تلبي احتياجاتهم الاستهلاكية، نسبة لضيق الأرض فيها وحولها، وسوء السياسات التنموية والإستراتيجية، بالتالي وكنتيجة حتمية لذلك فان رأسماليوها وخبثاءها مدعومين بسلطة قانونية، سوف يهرولون نحو الريف ليقوموا هناك بالنهب وسرقة قوة الناس المساكين، ويصبح أولئك الباعة الصغار وأسرهم (الذين كانوا يبيعون البيض المسلوق قبل ثمانون عاما وألان يبيعون اللبان والبسكويت والمناديل) يصبحوا عمالا على أرضهم التي ملكوها عن أجدادهم وآبائهم، يصبحوا عمالا بالسخرة، ويأخذ الخبثاء جهدهم وعرقهم وتعبهم، وأخيرا يلفظوهم ليذهبوا ويؤسسوا هامشا جديدا.
وتبدأ الدائرة الجهنمية ( المركز يولد هامش، ثم بعد فترة يتحول المركز إلى الهامش، فيولد هامش الهامش.... وهكذا)
إنها ثمانون عاما من المأساة، ثمانون عاما وما يزال الحال هو نفسه كما وصفه وشاهده معاوية نور بعين فاحصة نافذة، ثمانون عاما مرت وذلك البائع الصغير الذي كان يبيع الشاي، ورث أبنائه ومن بعده أبنائه ورثوا أبنائهم مهنة الركض خلف وسائل النقل والمواصلات.
لا بد أن ذلك البائع الصغير الذي رايته عام 2010 في شهر يوليو، ومن معه من الباعة الصغار، هم أحفاد، أحفاد ذلك البائع الصغير الذي رآه معاوية نور قبل ثمانون عاما.
- شااااااآآآي، شاااااااآآآآآي، شااااااااآآآآي
- لبان، بسكويت، مناديل – لبان، بسكويت، مناديل – لبان، بسكويت، مناديل او الخمسة بسكويتات بي جنيه، الخمسة بي جنيه،الخمسة بي جنيه
إلى متى يستمر النداء، ثمانون عاما قادمة.....!!!!

(نشرته في منتديات اخرى)

اتبرا
04/08/2010
[/align]



التوقيع: كل ما كنا نغنيه على شاطي النيل تغيب
وانطوى في الموج منسيا
حطاما في المرافي او طعاما للطحالب
في انزلاق الصمت للقاع
وفي صمت المسافات القصية

غناء العزلة - الصادق الرضي
www.alialimo.jeeran.com
ربما لا يعمل الرابط لان جهة ما قامت بتعطيلها
أرجو المساعدة من ذوي الخبرة في إعادتها
علي حاج علي غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 21-08-2010, 03:19 PM   #[2]
علي حاج علي
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية علي حاج علي
 
افتراضي

[align=justify]في القطار
مأساة
الأعمال الكاملة لمعاوية محمد نور – ص359 (نشرت في السياسة الأسبوعية – العدد 243 – 11 نوفمبر1930)

بعد أن قطع القطار صحراء العتمور العاتية وما فيها من جبال ملتفة ورمال بيضاء منبسطة واحجار سوداء متناثرة، في لج ذلك الخضم الذي لا تقف منه العين على شيء من صور الحياة النابضة. وسار ينساب في ارض لا تحوجه الى مثل ذلك الكفاح والنضال القوي، بل راح راكضا في اتساق وسرعة على ضفاف وادي النيل، وكنت من قبل ذلك انظر الى هذه الصحراء وامعن النظر اليها وكلما امعنت النظر وجاشت بي الخواطر والذكر، خيل إلى أن لي تاريخا مع هذه الصحراء لما اشعر به من القرابة والعطف والإيناس لهذه الجارة التي تترامي بالقرب من سير القطار. وربما جنح بي الفكر فخيل إلى إنني قد رأيت كل هذا وعرفته قبل حياتي الراهنة، وإلا فكيف أفسر هذا العطف وهذه الآلفة وهذه القرابة الروحية التي هي اشد من كل عطف وقرابة وإيناس والقطار سائر إلى أن اقترب من مدينة شندي بعد أن مر بمدن عدة، والمسافر لا يرى غير السهول الواسعة حينا، والأشجار المتناثرة الكثيفة حينا أخر. وقد يري بعض الأحيان أرضا خضراء ، ولا يري في غيرها سوى الرمال والحصى. غير إن النظر إلى شجرة من هذا الشجر الذي تجده بين حين وأخر واقفا متدلي الأغصان في أسي واكتئاب وصبر ووحشة لا تخالطها بشاشة أو يمازجها فرح، لحري بان يحمل الإنسان إلى الاعتقاد بنضوب هذه البقاع من الحياة كما عرفها وذاقها بين المدن الصاخبة، وأنفاس الإنسان النابضة ووثبة الحياة الدافقة، كل هذا وبعض أصحابنا المسافرين المترفين في شغل عن الصحراء والسهول والأشجار وحديثها. هذا يدخن سيجارته، وغيره يقرا كتابا، وثالث نائم، وغيره وادع حالم. وما أن يقف القطار عند قرية صغيرة يحسبها الإنسان خلاء وقفرا قبل أن يطلع عليه بعض أهليها من شباب وشيب ومعهم أشياء من الطعام يرغبون في بيعها إلى المسافرين أو أنواع من الخزف والآنية.
ووقف بنا القطار في هدوء طاري في محطة من المحطات بعد أن اجتاز مدينة شندي، وكنت تسمع المسافرين ينادون بعضهم بعضا.. اقفل الشباك . اقفل الباب بين قصف الرياح وأصوات المسافرين ذلك لان الرياح قد ابتدأت تقصف بشدة وتذر التراب في العيون والعاصفة تولول كالشارد المجنون، والشمس تختفي بين حين وأخر لان بالسماء الداكنة غمام يتجمع ويقلع حينا، ثم يتلاشى حينا أخر، فتظهر الشمس سافرة. وكان النيل الذي وقفنا بالقرب منه يرسل اصواتا هائجة من أمواجه الثائرة. وهكذا وقف القطار بين ولولة العاصفة، وهدير الموج الصاخب، ودكنة السماء وحلوكة الجو. وبعد قليل رأينا رهطا من النساء وبعض الصبية يهرولون نحو القطار غير عابئين بالرياح أو حلوكة الأنواء، ولقد كان مع هؤلاء النساء أوان من الخزف المزخرف. وهن في أسمالهن البالية ابعد شيء من الزخرف ودواعيه، وفيهن واحدة قد جاوزت الثمانين آو كادت تعرض وجها قد رسمت عليه الشيخوخة خيوطها الساخرة، وتعجب ما لهذه وعراك الحياة والتكالب على العيش في مثل ذلك اليوم العابس، ولكنك لا تجد جوابا على سؤالك سوى إنها الحياة! فقد جاءت تسابق الفتيات هازئة بشيخوختها غير معترفة بكبرها، آو ربما كان الأصح أن تقول إن العيش ودواعيه يضحك ساخرا آو معجبا من هذه المرأة الهرمة، ولبثت تعرض حاجياتها على المسافرين من خلال النوافذ من غير أن تنبس بحرف واحد، وإنما بإشارة خفيفة من الرأس وامتداد من اليد إلى جانب نوافذ القطار، وهي في إيماءاتها ووقفاتها انطق من كل كلام، وأدل من كل صراخ أو نداء، وكانت تمشي في خطاها المتثاقلة من أول القطار إلى أخره ولا من يشتري أو يجيب حتى أرهقها الإعياء. وقد شهدها احد ركاب الدرجة الأولى من الانجليز فقال لها بالانجليزية ما معناه (( خير لك أيتها العجوز أن تذهبي إلى بيتك ألان)) ولكنها ظلت واقفة ناظرة إلى هذا الرجل من غير أن تفهم قصده، ولعلها ظنت انه قد سألها عن الآنية التي تحملها آو قال شيئا يقرب من ذلك. فعادت تعرض آنيتها في مكان ظاهر أمام الرجل وتطيل النظر مرفوعة الرأس في شيء من الاستفهام والطلب.
وكانت هناك امرأة تجلس على بعد ثلاثة أمتار من القطار ناظرة إلى الصبية الذين ينادون بملء أفواههم بما عندهم من طعام وشراب لجماعة المسافرين، وكانت تشير على احد الصبية بين حين وأخر أن يجري هنا وهناك من واجهات القطار مناديا (شاي) (شآ.. آ ... آي) وكان بقية الصبية يحملون بيضا مسلوقا صارخين (بيض مستوي) (بي..ض مستوي) وهم يمدون كسرة الباء مدا طويلا تكاد تخرج معه حناجرهم من شدة الصياح.. كل ذلك الصراخ كان من غير جدوى إذا استثنينا مسافرا واحدا اشترى من احدهم بيضا بقرش صاغ، ولشد ما كانت ترمقه عيون آخرين حاسدة حاقدة! أما ذلك الطفل الصغير فقد ظل في ندائه باجتهاد وصبر من غير أن يلاقي نجاحا وكانت صرخاته تشتد كلما مر الزمن ولك يبيع شيئا من (شايه) الذي يحمله في آنية تعافها النفس، وأكواب يصعب على الإنسان الشرب منها ولقد كان يلبس هذا الفتى الصغير جلبابا ابيض قد استحال لونه من كثرة الاتساخ، وتراكم عليه التراب قاتما اسود يمشي حافي القدمين عاري الرأس، لم يتجاوز عمره إحدى عشر عاما، براق العينين، دقيق الشفاه في أسى واكتئاب تطل عليك من نظرته لوعة وشجو دفين. وقد ارتسمت على جبهته وحول شفتيه غضون جاءت قبل أوانها مبكرة لشدة وقوفه في الشمس، وحياة المتاعب والشظف التي يحيياها، كل هذا وقد ترى في وثبته وحركته شيئا من السهوم الواجم، والخفة المستحبة لا تلبث كثيرا إلا وتنقلب إلى انقباض ولوعة، ولعل خفة الحركة والقفز تتملكه عندما ينسى نفسه وما حواليه، ونظرة الأسى والاكتئاب تعتريه عندما يذكر إخفاقه وبؤسه! وإنني لن أنسى ذلك الصوت الذي ظل يردد لفظة، ((شاي)) والناس عنه في شغل، ولعله هو الأخر في شغل عما يحمل من آنية وشاي، بل كان السهوم في أوجه المسافرين وكأنما تنطلق شفاهه في حركة ميكانيكية بين حين وأخر بلفظة (( شآ...آ...ي)) وهو يمد فتحة ((الشين)) مدا تكاد تحسب إن روح هذا المسكين تكاد تزهق مع ندائه الحار وكلما لم يسمع ردا لصداه ولا مجيبا لندائه ازداد عدوه من أول القطار إلى أخره، ,من أخره إلى أوله، كأنما هو الحيوان الخائف الهارب! ... وابتداء المطر ينزل رذاذا في هذا الوقت والقطار واقف، وصوت الرياح وهدير الأمواج يبعث في الإنسان شيئا من الخوف والجلال والرهبة... وبين جيشان الطبيعة وثورتها كنت تسمع صوت هذا المسكين بين حين وأخر مناديا (( شاآآآآآآآي)).
وأحس الفتى برذاذ المطر يهطل على آنية الشاي وهو لم يبع منها شيئا، فازداد حزنه وكثرت همومه! ولقد كان المسافرون في حاجة إلى الشاي، غير أن ما صدهم عنه رداءة آنيته واتساخ أكوابه، وهيئة حامله التي لا تدل على النظافة أو شيء من ذلك، ولقد كانت تناديه تلك المرأة بين حين وأخر مشيرة عليه بان يسرع خطاه وان يذهب إلى الناحية الأخرى من القطار لعله بائع شيئا لأحد المسافرين، وأخيرا بلغ به التعب واللغوب مبلغها وبح صوته، غير انه واظب على ندائه وكأنما القطار بانتظاره الطويل قد زاد من الم هؤلاء الناس وضاعف أحزانهم وشقوتهم. وقد برد الشاي وصار كالماء البارد وهو لم يزل ينادي! ولما تعب ذهب إلى تلك المرأة وأراد الجلوس إلى جانبها فما كان منها إلا أن دفعته إلى ناحية القطار، ولكنه وقد خارت قواه لم يستطع الصراخ فصار ينادي في شيء من الهمود والإعياء وفقدان الصوت.. ((شآي....شآي...شآي)) حتى كان صوته قد ابتلعته الرياح فيما ابتلعت فلم يعد يسمع له صدى! .. وصفر القطار معلنا سفرته رغم إن رذاذ المطر ما زال يتساقط، والرياح ما زالت تعصف بين كل حين وأخر... فذهب هؤلاء الباعة مبتعدين عن القطار قليلا.. وسمعت هذه المحادثة والقطار يتحرك بين تلك المرأة وذلك ا لفتى:
قالت المرأة: ها قد خسر الشاي من ذا الذي قال لك ضع القرشين في مثل هذا الشاي ومن سيشربه لك ألان؟؟ لتنام الليلة من غير عشاء.. يا قاسي الرأس، الم تر الرياح تهب حينما عملته، أليس لك عينان؟؟.
وظلت توبخه على هذه الوتيرة وهو ساكت، وقد بلغ بها الحمق والغضب غايتهما، فدفعته بشدة ارتج لها جسم الفتى، وأخذت منه أنية الشاي، وبعدها اخذ الطفل يبكي ويتنهد تنهدا حارا، فاقتربت منه في عطف واسى وأخذت رأسه بين يديها وخانتها قواها، فانحدرت دمعة كبيرة من مآقيها، ولما رآها الفتى على هذه الحالة، استرد شيئا من شجاعته...
وقال لها: ولكنك أنت يا أماه التي قلت لي اعمل هذا الشاي علنا نربح منه قرشا، وقد عملته كما أمرتني!!
فأجابته بعد أن نظرت إلى عينيه الدامعتين، شكله المبتئس، قائلة في صوت هادئ تخالطه مرارة دفينة، وهم لأعج: (نعم أنا ... أنا ...أنا السبب اسكت يا ولدي الله في!!)
وبعد هذا المقطع لم اسمع شيئا بل رأيت الأم والابن يتجهان نحو قريتهما في خطى متثاقلة وسكون كئيب، على حين كان المطر يزداد، والأمواج تصخب والريح تولول هامسة، وجسماهما يختفيان في تلك الدكنة كنقطتين سوداوين وسط ذلك الظلام الدامس..
وابتعد القطار رويدا رويدا، وصورة ذلك المشهد لا تفارق نظري، ونغم ذلك الجرس الصارخ المملوء لوعة واسى (( شا... آآ..آي)) ما زال يرن في أذني.
وإذا بصراخ أفندية القطار يقطع علي تفكيري وذكراي فهو ينادي الجرسون (واحد بيرة، بس خلي الثلج يكون كثير شوية، فاهم! ) وقام البعض يلبس ملابسه ويصلح من هندامه استعدادا لطعام العشاء، وقال احدهم وهو يربط رباط الرقبة (يالله .. أيه ... يا ولاه.... آنت ليه ما جبتش الكرافتات الحرير؟ ابق ذكرني علشان ما ناخذ دسته من دفس براين!!) واتي من بعد ذلك خادم (الرستوران) مشيرا الى ان طعام العشاء قد آن، فقام البعض في مشية متثاقلة كلها خيلاء وكبرياء، وراينا هناك نفرا من الموظفين الانجليز وهم جالسون في غرفة الطعام يتكلمون بسرعة ويتبادلون النكات المضحكة ويدخنون. وكنت تسمع الافندية من ركاب الدرجة الاولى والثانية وهم على مائدة الطعام الانيقة ينادون بين حين واخر ( واحد توست) بينما القطار في عدوه لا يلوى على شيء.
-انتهت-
[/align]



التوقيع: كل ما كنا نغنيه على شاطي النيل تغيب
وانطوى في الموج منسيا
حطاما في المرافي او طعاما للطحالب
في انزلاق الصمت للقاع
وفي صمت المسافات القصية

غناء العزلة - الصادق الرضي
www.alialimo.jeeran.com
ربما لا يعمل الرابط لان جهة ما قامت بتعطيلها
أرجو المساعدة من ذوي الخبرة في إعادتها
علي حاج علي غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
في القطار ماساة

تعليقات الفيسبوك

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 02:10 AM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.