جريدة الوطن - الاحد 11 ذو القعدة 1429هـ الموافق 9 نوفمبر 2008م
كلام ساكت - أيــــــام النمـــــيري (2)
لواء «م» محيى الدين محمد علي
إن سنوات العهد المايوي لازالت .. تعيش في خواطر أهل السودان الذين عاصروها .. ما بين سادن من سدنتها .. وما بين معجب بها وما بين ناقم منها وشامت عليها .. والدليل على ذلك ... أن الكثيرين من المعارف والأصدقاء والقراء الذين اطلعوا على المقال الأول من هذا المسلسل المايوي .. (شاغلوني).. بعضهم يتوجس خيفة من انطلاقة قلمي .. وخدشها .. لصورة بديعة في خواطرهم عن مايو .. التي عاشوها .. براعم .. وطلائع وكتائب .. وأعضاءً في الاتحاد الاشتراكي ويتمنون.. الرحيل إلى دار الخلود وفي أنفسهم شيء من مايو!!.. والبعض الآخر قال لي .. عاوز تشكر مايو .. وأنت صاحب ديوان الشعر.. (رسالة من شرطي إلى الصنم)؟!.. وآخرون ذكروني بمقالات كتبتها قبل عدة سنوات ، أحث فيها من تبقى على ولائه المايوي .. لينضم إلى يونيو الإنقاذ باعتبار أن هناك قاسم .. بل قواسم مشتركة تجمع بين .. (مايونيو)!!.. كل (المشاغلات) كانت حبيبة إلى نفسي .. لأنها على الأقل ... طمأنتي بأن الناس تقرأني .. وقد غبت عن ساحة الإعلام حولاً وبعض حول ... وأقول لهم (شيلوا الصبر) لأن المقالات القادمة ستكون عند حسن ظنهم بإذن الله!! أما الأعزاء الذين وضعوا أيديهم على رؤوسهم خوفاً وفرقاً .. ظناً منهم بأني - لا سامح الله - أنوى تقمص روح مكي شبيكة ... وقلم زلفو .. والتجرؤ على كتابة مادة تؤرخ للحقبة المايوية من تاريخ السودان الحديث .. وكشف أسرارها وخباياها ... ورصد نجاحاتها وإنجازاتها.. و(نكش) سلبياتها وسقطاتها .. وفضح بلاويها الأخرى .. التي يعجز القلم عن قولها أو التعبير عنها ... فإني أطمئن القراء الكرام .. بأني ، لم أفكر في ذلك .. ولن أفكر فيه .. مع أن الأمر الآن متاح للجميع ويستطيع من يشاء .. أن يقول ما كان يود قوله زمان .. وأبوعاج أخوي يتقافر في الساحات .. ويزحم براياته الآفاق!!
نعم .. أنا لم أفكر لحظة في كتابة تاريخ مايو أو النميري .. لأني ببساطة لست مؤرخاً.. ولأن المؤرخين على قفا من يشيل.. ثم أني أيدت مايو وناصرتها عهداً.. ثم داهنتها وقتاً. ثم (كجَّنتها) زماناً.. وناصبتها العداء سنينا .. حتى سقطت وأصبحتْ في ذمة التاريخ .. ولو أني . كلفت بكتابة تاريخها (لغطستُ) حجرها .. وما أنصفتها .. فماذا أود أن أقول إذن؟!..
وأهو.. دهـ السؤال!! فأنا أود أن أقول وأحكي للناس.. ما رأيت وشفت عديل كدهـ .. من مواقف وتصرفات.. وضحكات وغضبات وأحاديث و(طبظات) وأقاويل.. وحكايات وشمارات.. وطرائف .. ومقالب وحركات... وهلم جرات.. ترتسم صورها .. أبيض .. وأسود .. في خيالي كفيلم (هندي) مايوي طويل.. ممتع .. لا يمل يتقاسم الأدوار فيه.. بعض رموز النظام المايوي.. وبعض أعدائه.. وبعض من لا هم في العير ولا في النفير.. مع دور البطولة المطلق.. الذي لعبه النميري بتميز وإتقان.. ولعلها يا صديقي الشاعر الأديب اللطيف.. كمال الجزولي.. هي في حكايتنا مايو.. والتي أصبحت مايو في حكاياتنا..!!
إن الذين كتبوا تاريخ مايو.. لم يوثقوا لهذه المواقف المايوية .. والذين سيكتبون من بعد ذلك.. لن يوثقوها.. لأنهم لن يجدوها (طازة) وقد تصلهم كبينة سماعية.. لا يمكن تصديقها أو الاقتناع بها ويسهل رفضها ودحضها واعتبارها من سقط القول.. والافتراء .. وبما أني .. كنت ضابطاً شرطياً صغيراً في جوبا.. عندما أذاع النميري البيان الأول في 25 / مايو 1969م .. وأعلن ثورة اشتراكية.. وعربية.. وشكل مجلس قيادتها برئاسته .. مزيناً من المدنيين بالسيد بابكر عوض الله رئيس القضاء الأسبق .. أمد الله في عمرهـ ومن الضباط .. المقدم بابكر النور والرائد فاروق حمدنا الله والرائد هاشم العطا والرائد أبو القاسم هاشم والرائد زين العابدين محمد أحمد عبدالقادر .. عليهم الرحمة جميعاً.. ومتّع الأحياء منهم.. الرائد خالد حسن عباس والرائد أبو القاسم محمد إبراهيم والرائد مأمون عوض أبوزيد بالصحة والعافية .. وأناشدهم بحق هذا الوطن أن يكتبوا لنا سِفراً يحوي أسرار هذه الثورة .. التي تركت بصماتها على وجه هذا البلد الجميل!!
لقد عاصرت مايو كما ذكرت من قولة (تيت) وسمعت ببيانها الأول وما تبعه من قرارات في مدينة جوبا .. وعشت حديث المدينة عندما.. وصل إلى هناك.. بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة ... ودخلوا القيادة الاستوائية وسط انبهار وترقب ضباطها وجنودها .. وتلقاهم قائد القيادة .. حافي الرأس .. وبدون كاب حتى لا يؤدي التحية العسكرية .. لضباط كانوا بالأمس .. يوقرونه .. ويؤدون له التحية طاعةً وانضباطاً.. وأن هذا القائد غادر معهم إلى الخرطوم... ليتقاعد.. بالمعاش بطوعه أو رغماً عنه.. لست أدري !! وظللت معاصراً للنظام وأنا اتنقل في شمال البلاد .. وغربها .. وقلبها واختزن في ذاكرتي.. كل ما يسر لي الله من المواقف .. ذات المعاني .. والتي لا يهتم بها عادة المؤرخون.. استمرت هذه المعاصرة كما قلت .. من قولة (تيت) وحتى قولة (طيط) وسقوط النظام تحت جحافل ثورة الجماهير في أبريل 1985م !! والذي حدث بعد عام واحد تقريباً من قيام النميري بنفسه.. تقليدي وآخرين من دفعتي .. نوط الخدمة الطويلة الممتازة .. والذي يمنح عادة بعد عشرين عاماً من العمل الممتاز .. كان نصيب مايو منها ستة عشر عاماً حسوماً .. وهي المعاصرة التي أعنيها والتي تخولني حق الكتابة.. عن مشاهدات رأيتها بعيني رأسي ... لم يرها أحد غيري .. أو رآها ولم يتوقف عندها .. أو يهتم بها .. وكما يقولون ... حبُّ الناس مذاهب !!.
أعلم أن القاريء الكريم .. قد تململ من طول هذا الحديث وبات يتشوق لسماع المشاهدات والمواقف التي أزعمها.. ولكن ما باليد حيلة .. فهذه الحلقة .. لا تحتمل المزيد .. لضيق ذات الورق .. ونعد بالانطلاق في فضائيات المشاهدات في الحلقات القادمة... ولكننا لا نرى بأساً من سرد .. فاتحة شهية .. حدثت قبل انقلاب مايو .. بأيام قلائل عندما احتجزت شرطة مرور الخرطوم .. العقيد جعفر النميري وآخرين من أعضاء مجلسه فيما بعد .. واتهمتهم بمخالفة قانون المرور.. واتخذت معهم كامل الإجراءات.. من كشف طبي واستجواب .. ثم سلمتهم لوحداتهم .. وأختم حديثي هذا بإرسال التحايا لحكمدار المرور وقتها أحمد هارون عبد المجيد .. والمزارع الآن في الدالي والمزموم .. وصاحب (كمبو الحلبي) الشهير .. وأساله عن مصير البلاغ ... وماذا كان سيفعل لو كان يعلم بما سيفعل النميري ؟!
ونواصل ..