نعي أليم - فيصل سعد في ذمة الله !!! عكــود

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > نــــــوافــــــــــــــذ

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 02-07-2019, 02:38 AM   #[1]
imported_عادل عسوم
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية imported_عادل عسوم
 
افتراضي زاهية.

زاهية
عادل عسوم
(أحداث هذه القصة حقيقية في الكثير من تفاصيلها، لكنني قمت بالتحوير في أسماء شخوصها، ونُذُرٍ من تفاصيلها، حرصا على السِتر، واتساقا مع سياق القصة).
...
وقَفَتْ أمام المرآة تتأمل قوامها الفارع الممشوق، وجسدها الذي قالت عنه زوجة خالها الأمريكية بأنه Slim، وتعهدت ضفيرتي شعرها الأسود الطويل، وأنحنت مقتربة أكثر وهي تحدق بإعجاب في عينيها الدعجاوين، وبياض إهابٍ ورثته عن أبيها صاحب الجذور التركية من خلال أمه، ثم شرعت تدندن راقصة:
ياالزاهي في زيّك في وسامتك ياااااا...
مانحنا عايشين علي ابتسامتك ي..
وفجأة؛
تقتحم عليها أمها الغرفة غاضبة:
-يابت أنا ستين مرة ما (قايلالك) تسيبي العِرْجين القدام المراية دا؟
وهوت بيدها على ظهرها، إنتي بس الله يطيرك يمرقك منّي، والله مافي واحدة من اخواتك فقعت مرارتي زيّك، يلا أمشي على العدّة ديك غسليها.
هرولت (زهرة) إلى المطبخ، وجلست تغسل المواعين وهي تلعن حظها العاثر.
لقد جاءت الى الدنيا بُعيد زوال نعمة كانت الأسرة تتمتع بها إلى عهد قريب، والدها كان تاجرا كبيرا مشهود له بالغنى، وكذلك بالطيبة والكرم، لكن دارت عليه الدنيا من حيث يدري ولايدري، فافتقر وأصيب بجلطة ألزمته الفراش، واصبح لايقوَ على الخروج من الدار إلا قليلا، واعتادت زهرة القول لصويحباتها في الحي:
-الواحد في الدنيا دي أصلو مايكون طيب مع الناس، أبوي كان أغنى زول في الحِلَّة، لكنو ضيع قروشو كلها في الناس المابتستاهل دي، ويومو الإحتاج للناس؛ زول جاب خبرو مافي!.
كم نصحتها صديقتها وجارتها وزميلتها في المرحلة الثانوية (حنان) بأن لا تَدَع هذه المشاعر السالبة تسيطر عليها، فيكون رد زهرة:
-أسكتي أنتي بس، انتي شِنْ عرّفك بالدنيا كمان.
كم كانت تَغْتَمّ عندما تسوقها قدماها الى دُورٍ أفاء الله على أهلها بالنعمة، فتقول لصديقتها حنان:
مايستاهلوها والله!.
فترد حنان:
-استغفري يازهرة وخافي ربك، والله الحسد دا ألاّ يودرك.
فترد عليها:
-أسكتي بس، وبعدين ستين مرة أنا قايلالِك أوعِك تناديني بي (قشرة) دي؟، أنا إسمي زاهية، زاااااهية!
كم كانت تطربها نظرات الإعجاب والأستملاح من الآخرين، وكم سعت إلى تصيد فتيان الحي، الأكثر وسامة والأيسر حالا منهم، فتوحي لكلٍّ منهم بأنه الأوحد الأثير لديها!، وهي بذلك يكتنفها احساس برضى (كاذب) لاتعلم كنهه!
أبوها الذي أضحى حرضا، ظل ملاذها كلما قسى عليها أخوها الذي يكبرها، وقد اعتاد ترصد خطواتها وتعنيفها، بل وضربها استنكارا لطريقة مشيها وأسلوب حديثها مع الشباب بالذات.
زهرة، آخر العنقود، وهي ثالث ثلاثة من البنات تزوجت الاثنتان وسافرن مع أزواجهن إلى مدن أخرى داخل السودان، وبقيت هي الوحيدة مع أخيها في البيت في معية والديهم...
كانت قد فرغت لتوها من إمتحان الشهادة الثانوية، وأزَفَّ موعد إعلان النتيجة، ونجحت زهرة، لكنها لم تتحصل على النسبة التي تؤهلها لدراسة الطب كما كانت تأمل، يومها بكت طويييلا وهي تلعن حظها العاثر، وقالت لصديقتها حنان:
-أصلو الدنيا دي أنا عارفاها ماحتديني العاوزاهو...
فتقول لها حنان:
-أحمدي الله، ترانا نجحنا الاتنين، شوفي كم واحدة من زميلاتنا سَقَطَن، دي إرادة ربنا، ثم احتنضتها، وبكت زهرة على كتفها طويلا...
لم تجد زهرة سوي تخصص الكيمياء بكلية العلوم في جامعة من جامعات الولاية المجاورة، حيث تم قبولها برفقة صديقتها حنان التي لم تؤهلها نتيجتها إلا لدراسة كلية التمريض العالي، ولكن ما إن أزف موعد السفر، إلا وتُتفاجأ بتخلف صديقتها عنها!، فقد أتصل شقيق حنان الأكبر من العاصمة وأعلن للأسرة رفضه دراستها للتمريض، وأصر عليها على إعادة العام الدراسي والجلوس للإمتحان مرة أخرى، فحزنت زهرة لذلك في بادئ الأمر، لكنها عادت وقالت لنفسها:
-أحسن زاتو، بي كدا أكون أتفكّيت من نصائحها الكتيرة دي...
وسافرت زهرة مع والدتها وشقيقها، ووصلوا إلى مقر الجامعة، وتمت أجراءات تسجيلها، وحظيت بفرصة في داخلية البنات بالجامعة...
وشرعت زهرة في التعرف على أصدقاء وصويحبات جدد، وكانت كذبتها الأولى قولها لزميلاتها انها (شهادة عربية)، وأن أسرتها تقيم في احدى دول الخليج، وأن اسمها (زاهية)...
ولم تنس بأن تُدخِل على لهجتها بعض الكلمات الخليجية:
الله يحيّيكي...
ياهلا...
تكفين...
ما أدري...
ليش...
وماابغي، وسواها من الألفاظ التي ألتقطتها من قريبات لها يَعِشْنَ في تلك البلاد...
زهرة لم تكن تحتاج إلى بذل كبير عناء لتبدو في ثوب بنت الذوات، فهي بجانب جمالها الصارخ، لها حضورٌ يلحظه كل من يتعامل معها، وقدرة فائقة على التأثير فيمن حولها، وهي كذلك بارعة بفطرتها في مظاهر الاتيكيت والبرستيج، يضاف إلى ذلك ذكاءٌ ونباهةٌ وبديهةٌ حاضرة يتبينها كل من يجالسها أو يلتقيها...
ولحسن حظ زهرة لم يكن في القسم الذي تدرس فيه أحدٌ من منسوبي الشهادة العربية، سوى طالبة من أهل تلك المدينة اسمها نازك توفي والدها في دولة الإمارات العربية المتحدة لتعود الأسرة إلى السودان وتلتحق بذات الكلية ولكن مع بداية العام الثاني فاصبحت صديقة لها.
الجامعة كانت تمور بنشاط كبير لأطياف اليسار على عمومها، ولم يكن ذلك مستغربا، إذ غالب الطلبة والطالبات من مدينة مجاورة سبق أن شهدت خلال السبعينات في عهد الرئيس نميري رحمه الله حراكا كبيرا عماده نقابة السكة الحديد.
ولقيت (زاهية) ترحيبا كبيرا وصداقات من قِبَلِ العديد من كوادر اليسار في الجامعة، لتنخرط شيئا فشيئا في أنشطتهم الثقافية والاجتماعية، وأضحت كل أمسياتها بينهم.
والحق يقال فإنها لم تكن تحب أفكار اليسار، إذ ألفاظٌ ومفاهيمٌ مثل البلوريتاريا، والطبقات المسحوقة، والعمال، كانت توحي لها وتذكرها بحياة الفقر والمعاناة التي تعيشها، تلك الحياة التي تسعى للهروب والانفكاك عن أُسارها بخواطرها حالمة بسوحٍ وفضاءاتٍ للثراء والأضواء!...
لكنها وجدت في عوالم اليسار ما هُيِّئَ لها بأنه حُبٌّ للثقافة والاستنارة، يضاف الى ذلك سَمْتُ التحرر من القيود، ورغبةُ كامنة للتفلّت عن اسار التقاليد والعادات تبين لها في العديد من اليساريات....
أما الدراسة فقد استطاعت التفوق فيها منذ البدئ، وإحاطة نفسها بهالة الطالبة المتفوقة والمميزة.
لكنها ما إن انتصف العام الدراسي الأول، إذا بالمعاناة تترصدها، فالمصاريف -على قلتها- أضحت تتأخر كثيرا في الوصول أليها، فأيقنت بأن حال اسرتها قد ارتكس بأكثر مما كان عليه، وأسقط في يدها وهي تجهد نفسها كثيرا بحثا عن مصدر للصرف على الشخصية التي رسمتها لنفسها، بحثت عن أرقام هواتف لأهلها ممّن يقيمون في العاصمة واتصلت بهم، لكنها لم تجد بغيتها، فالكل حالُه يغني عن سؤاله...
وخلال صباح يوم جديد إنضم إلى الكلية أستاذٌ للّغة الأنجليزية، إنه شابٌ من حَمَلةِ الماجستير أتت به (اللجنة الشعبية) للمدينة، وقد كان مُعيداً في إحدى جامعات العاصمة، والجامعة أضحت في حوجة ماسة لخدماته عندما غادرت محاضِرَتان -فجأة- إلى إحدى دول الخليج، إحداهن مرافقة لزوجها والأخرى لتعاقدها مع إحدى الجامعات هناك،
وعُلِمَ عن القادم الجديد بأن جذوره من المدينة المجاورة، سمعت زهرة بإسمه يتردد كثيرا في ثنايا أحاديث ونقاشات زملاءها من المنتمين إلى اليسار، فالرجل كادر يساري شهير، ووالده كان عضوا نشطا في نقابة السكة الحديد في المدينة المجاورة،
وباشر الأستاذ عمله كمعيد بالكلية لتتبين -منذ الوهلة الأولى- بأنه صيد ثمين، فحواء بطبعها تعرف مغزى نظرة الرجل إليها مهما حاول إخفاء رغباته، وبانتهاء المحاضرة الأولى لحقت به في مكتبه بدعوى الاستفسار عن المحاضرة، مستصحبة النية بأن تريه من نفسها استعدادا للمسايرة، وبانصرام الأسبوع الأول حظيت منه بموبايل حديث!...
وتوالت الأيام، وقويت الصلة بين زاهية وأستاذ حسن، وبدأ الهمس في مجتمع الجامعة (الصغير) يعلو يوما بعد يوم، وأضحى الكل يَلِغُ في حكايتهما، لكنها كانت تدافع عن نفسها وتدّعي دوما بأن الذي يُرَى عليها من ألبسة جديدة وعطور مرده ماترسله لها أسرتها المقيمة في الخليج، ويصل الأمر بها إلى تذوق طعم الخمر لأول مرة في حياتها مع أستاذ حسن خلال إحدى خلواتهما!، وتصبح قصتهما فاكهة لأركان النقاش بين أحزاب اليمين واليسار، وتصبح زاهية شخصية مبجلة لدى أطياف اليسار، بينما تنتاشها ألسنة الإسلاميين، ويتواصل الحديث، ليصل الى أفراد اللجنة الشعبية ومجلس الجامعة، فالمدينة مازالت تحتفظ بروح القرية والحرص على ضوابط السلوك والأخلاق، فيصدر القرار بالاستغناء عن خدمات الأستاذ حسن، وتعود زهرة الى المربع الأول، بل أضحى وضعها أسوأ من ذي قبل وقد اعتادت على حياة الرفاه بما كانت تتلقاه من أموال وهدايا أستاذ حسن، وأعياها التفكير لايجاد حل، حتى كان يوم خروجها مع صديقتها نازك...
نازك دونها جمالا وذكاء وتحصيلا في دراستها، لكنها كانت بنت ذوات بحق، فهي قد ولدت ونشأت في دولة الإمارات العربية المتحدة، ثم درست كل مراحلها التعليمية حتى اكمالها للمرحلة الثانوية هناك،
وازدادت متانة صداقة زاهية ونازك، وطلبت منها نازك أن تمضي معها عطلة نهاية الأسبوع في بيت أسرتها، فلبّت الدعوة، وتحصلت على موافقة من إدارة بيت الطالبات (الداخلية) للمبيت في الخارج، وجاءهم ابن عم نازك وخطيبها (زهير) ليقلهما بعربته إلى منزل أسرة نازك، قالت له نازك مخاطبة:
-زهير أعرفك بصديقتي وزميلتي زاهية، طبعا حاتقضي معاي الليلة وبكرة.
-أهلا بيكي يازاهية، وشرفتينا كتير والله...
-الله يبارك فيك ياأستاذ زهير.
وواصلت زهرة قائلة:
-طبعا الشابة دي كلاما دايما معانا عنّك، اييييك شُكُر شديد وكلام حلو، وختمت حديثها ضاحكة:
ربنا ييسر ليكم ويتمم علي خير يااارب.
فيرد زهير:
-والله فيها الخير، نازك دي بتَّ العم قبل تكون النص الحلو، ثم ابتسم ونظر الى نازك التي بادرته قائلة:
-خلاص يازهير بقّيتني نص من هسى؟... كدي بالله خلينا من مَكَناتَك دي وركز لينا قدامك ماتقوم تعمل بينا حادث كمان، وضحك الجميع.
أحست زهرة بعدم الارتياح من نظرات زهير الذي كان كثير الالتفات لاستراق النظر إليها، بل وصلت به الجرأة إلى تعديل وضع المرآة الأمامية لتطل عليها مباشرة وهي تجلس في المقعد الخلفي من العربة!...
وصلوا الى بيت أسرة نازك لتتلقاهما والدة نازك وأخوتها الصغار، ومنهم شقيقها الأوحد سامي أمام مدخل المنزل،
والتقتها والدة نازك بحنان بالغ، احتضنتها وقبّلتها قائلة:
-ماشاء الله عليك يابتي، النبي حارسك، صدقت نازك...
فتفاجأت زهرة وقالت ضاحكة:
-انتي ياخالة، نازك دي أصلها قالت ليكم شنو عنّي؟
-والله يابتي طواااالي تَشَكّر فيكي...
وصاح سامي إبن الخامسة:
-والله نازك دي كلو يوم تقول لينا معانا، واحدة اسمها زاهية سممممحة شدييييد زي ملكات جمال العالم...
فما كان من زهرة الاّ أن أمسكت به وقبلته ضاحكة وقالت:
- أها بالله مش كضااااابة نازك دي، وطلعتَ أنا شييييينة؟...
فقال سامي:
لا والله ماكضابة ولاحاجة، انتي صحى سمحة شدييييد زي الممثلات في المسلسل...
وضحك الجميع، ثم أردفت نازك قائلة:
-أها يازاهية سامعة الشُكر دة كللللو؟ أها قصرت معاكي؟
-والله بالغتي عدييييل كدا، ملكة جمال العالم مررررة واحدة.
فقالت والدة نازك:
-غايتو بعد شهادة سامي دي، تاني مافي أيّ كلام يابتّي، سامي دا عاد مابيعجبو العجب ولا الصيام في رجب، وتواصل الضحك، وتواصل الترحيب،
ثم أتت الخادمة الحبشية وحملت حقيبة زهرة الصغيرة وأدخلتها إلى غرفة جانبية، وعادت لتصوب حديثها إلى الوالدة وتعلمها بأن الغداء جاهز، واتجهت زهرة إلى دورة المياه لتغسل يديها ووجهها، وشرعت تتجول ببصرها في أرجاء المنزل، كم راقها جماله وأثاثه الفخم، وكم أعجبتها الألوان ومنظر اللوحات الكبيرة الرائعة التي تزين الجدران، فشرعت تقارن حال أسرتها بحال أسرة نازك، فانتابها شعور غير مريح لم تعلم أهو حسدٌ أم غيرة، فَأَسَت لحالها وهي تنظر الى وجهها في المرآة...
ونادتها نازك:
-زاهية شنو؟! الغدا دا برد يابت؟
-خلاص جاية يانازك...
وجلست الى المائدة بين يدي ترحيب نازك النابع من القلب، وحنان والدتها التي ما فتئت تقرِّب إليها اصناف الطعام، وتحلف عليها بأن لا تنهض الاّ بعد أن تاتي عليه جميعا...
وما ان حلّ المساء، عاد زهير بدعوى أخذهم للطواف على معالم المدينة، ولم يعودوا الاّ بعد انتصاف الليل، حيث تناولوا وجبة العشاء بدعوة منه في أحد مطاعم المدينة...
وأمضت زهرة يومين وليلة لم يفارقهم خلالها زهير الاّ قليلا، حيث كان يذهب الى (دكان الجملة) الذي يخص المرحوم عمه ووالد خطيبته نازك، والأخيرة كانت تتقبل كل تصرفاته بقلب أبيض وطيبة تنم عن سماحة وجدان وسلامة نفس.
وفي صباح السبت، أوصلهما زهير إلى الكلية مع بداية المحاضرة الأولى، وسمح لهما المحاضر بالدخول فلم تجدا سوى مقعدين متباعدين لتجلس كل منهما منفردة، وأدخلت زهرة يدها في حقيبتها لتتفاجأ بظرف به مبلغ من المال وقد كُتِبَ على الظرف:
مع تحياتي لك زاهية.
زهير.
وفي المساء رن هاتفها، فإذا بالمتصل زهير، فبادرته قائلة:
-انت الأداك رقمي دا منو؟
-كدي خلينا من رقم تلفونك وطمنيني عليك.
-طيب نازك عارفة حكاية القروش الختيتا لي دي؟!
-يازاهية خليكي من بت عمي دي هسّي وجاوبيني.
-يا أخ زهير حرام عليك والله، مش نازك دي خطيبتك؟!
-دا موضوع طويييييل، بحكيهو ليكي يوم ان شاء الله، المهم حبيت أطمئن علي أنك بخير، سلام.
ليلتها سهرت زهرة طويلا، وظلت تتقلب على فراشها متنازعة النفس وسط زخم من المشاعر المتناقضة، ظل أوارها مشتعلا في دواخلها لساعات، فإذا بها تجد نفسها في غابة جميلة تتخللها نوافير مياه عديدة، وتكتسي الغابة بعدد كبير من الأشجار المزهرة، تضج بزقزقة العصافير، ويكتنفها نسيم مشبع برائحة الورود ...
لكنها كلما لمست وردة من الورود، تجد يدها قد تخضبت بالدماء!، فلا تملك الاّ أن تنتزع يدها بسرعة، ويتملكها خوف شديد، فتنتفض بشدة، وتجد نفسها تتوسط فراشها جالسة وقد أصبح الصباح...
لم تستطع زهرة مقاومة إغواء وإغراء زهير، واعتادت الخروج معه كثيرا دون علم نازك، رأت عليه آثار النعمة، وإذا به يبتاع سيارة جديدة مكيفة، وظل يغدق عليها من المال والهدايا الكثير.
علمت زهرة من زملائها وزميلاتها بأن زهير كادرٌ نشط من كوادر الحزب الحاكم، فسألته عن ذلك مرة فقال لها بأنها مصالح، وأن الحزب هو الذي سعى إليه لكون اسرته من أشهر بيوتات المدينة، وسألته أيضا عن طبيعة شعوره تجاه نازك، فقال لها بأنه لا يزيد عن مشاعر إبن عم تجاه بنت عمه!، وعندما سألته عن زواجهما قال بأنه ليس سوى ترتيب من العائلة دون رغبة منه!
لكنها كانت تعلم كذب زهير، فقد أخبرتها نازك بأنه الذي سعى إلى الخطوبة بمجرد عودتهم من الإمارات، (لعله فعل ذلك ليضمن السيطرة على أملاك عمه المرحوم) قالت زهرة ذلك لنفسها، لكنها بقيت تغض الطرف عن كل ذلك، فالذي يعنيها في المقام الأول تأمين متطلباتها من زهير، وتشبثت به أكثر، إذ كان يعجبها حديثه الواثق، وقوة شخصيته، وهيبته بين أهل تلك المدينة، ويغمرها احساس كبير بالأمان كلما خرجت معه، لقد وجدت في زهير الرجل الذي كانت تبحث عنه في خيالها، فهو بجانب صفاته تلك، كان الصيد الثمين الذي يحقق لها الكثير مما تفتقده، لكنها برغم ذلك ظلت أسيرة لمشاعر سالبة تخصم بل وتئد كل شعور بسعادة يضفيها عليها، وتَمَنّت لو أنها التقته قبل أن تتعرف على نازك، فكم يؤلمها أن تجد نفسها في موضع الخائنة لصديقتها، ماذا تقول نازك إن علمت بأن زهير قد عرض عليها الزواج دونها؟!...
وتمر الايام، وتكتشف زهرة كل يوم عيبا جديدا في زهير!
الكذب، الجشع، البخل الاّ تجاهها، نفاقه في علاقته ببنت عمه نازك، سرقته لأموال الحزب الذي ينتمي إليه سياسيا، وغير ذلك كثير!...
وبعد مرور أشهر، يصبح زهير مسئولا ولائيا بدرجة وزير ولائي، وينتقل إلى مكاتب الولاية المجاورة لمباني الجامعة، ويتخذ من سيارات الحكومة مطايا...
أما زهرة فقد ألزمت زهير بتعيينها في وظيفة (صوريّة) في مكاتب الولاية، لكن زهير طلب منها قبيل تعيينها أن تطلب من نازك التوسط لديه ليبدو الأمر طبيعيا، فاستجابت نازك (البريئة) رغبة في خدمة صديقة تعلم مدى حوجتها المادية!
وبدأت الألسن في المحيط الجامعي تتحدث -بصوت خفيت- عن العلاقة الجديدة بين زاهية والمسئول الكبير، ولكن لم يجرؤ أحد بأن يتحدث جهارا عن علاقة سعادة الوزير بإحدى الطالبات في الجامعة!
وبدأت زهرة تتلمس مواطن أقدامها في عوالم جديدة، فتملكها إحساس بأن زهير ليس الشخص الذي يشبع تطلعاتها الكبيرة، دعتها لذلك بعض نظرات الإعجاب من وزير هنا ومسئول كبير هناك...
ووجدته...
إنه وزير كبير من أحد أحزاب حكومة الحوار الوطني الجديدة،خمسيني تعلق قلبه ببنت عشرين كما يقول كابلي، فتمهر معه صك زواجٍ عُرفي ولكن باشتراط منها بالاحتفاظ بالوثيقة دونه، وذلك عندما رفض الوزير الكبير الزواج الصريح بينهما، وتصبح زاهية مسئولة مكتبه، والآمر الناهي في الوزارة، ولم تنس أن تستميل إليها محاسباً ضليعا، وآخر يلمُّ بكل خفايا مسار الأموال من المركز إلى الولاية، وبعد أشهر قلائل تبتاع بيتا تحيطه حديقة غناء في أحد أرقى أحياء العاصمة لتأتي بأسرتها من الريف وتسكنهم فيه، أما زهير فتستقوي عليه وتزيحه عن حياتها، بل عن المنصب الذي تقلده...
وتكمل زاهية البكالوريوس ثم تشرع في الماجستير، وتحرص على الانتظام في دورات للغة الانجليزية المكثفة لاكمال الهالة والكاريزما المطلوبة للرقي الوظيفي أكثر وأكثر، وعَنَّ لها أن تقرأ في تأريخ وأدبيات حزب الوزير مستصحبة ذكاءها الوقاد وحسن أدراك فُطرت عليه، فتصبح ملأ السمع و البصر لقادة ذاك الحزب، وإذا بمخصصاتها تزداد من الحزب والحكومة المركزية، وعندما استشعر الوزير رضاء قادة حزبه عن زاهية، طلب منها تحويل زواجهما العرفي إلى زواج يعلنه بنفسه على الناس فرفضت ذلك!، وتزداد وتيرة سفرها إلى العاصمة في ثنايا مهام مدفوعة الأجر، بعضها من من مخصصات الحكومة وبعضها من مخصصات الحزب،
وخلال كل ذلك كان أمر قلبها عجيب، لقد أحبت زهير بكل مافيه من سلب!...
لعله أول من خفق له قلبها من الرجال، لكنها كانت تدوس على قلبها كلما ساقها خيالها إلى أيام زهير، وبقيت صورة نازك وضيئة في خيالها، فتنتابها غصة في حلقها وصدرها كلما طافت خيالها بخاطرها...
وفي صباح أحد الأيام تفاجأت برسالة في صندوق بريدها معنونة باسمها، فضَّت المظروف فإذا بالرسالة من نازك:
صديقتي -يوما- زاهية، لا أدري الجرم الذي ارتكبته في حقك، اذ يشهد الله إني أسهر الليالي الطوال وافكر عساني أجد خيطا رفيعا يشفع لك عن الذي بدر منك من سوء تجاهي، لقد أدخلتك بيتنا، وتلمست بنفسك صدق محبتهم لك، ثم توفيت والدتي ولم تكلفي نفسك حتى إتصال عزاء، ثم عرّفتك بخطيبي فكان منك الذي كان، لا أقول لك الاّ سامحك الله يازاهية، أكتب لك الآن وأشهد الله بأن دواخلي لاتحمل لك أي ضغينة، فإني من الموقنين بأن المرء لا يصيبه الاّ الذي يكتبه الله له، فقط أنشدك بالله وبما كان بيننا من مودة أن تستجيبي لطلبي هذا:
لقد بحثت عن زهير كثيرا الى أن وجدته في مدينة (...) وحاله يغني عن سؤاله، زهير أضحى قاب قوسين أو أدني من الجنون يازاهية، كل الذي أرجوه منك أن تشفعي له ليعود إلى عمله السابق، ولك أن تبحثي له عن مكان بعيد يتم تعيينه فيه إن لم ترغبي في رؤيته في ذات الوزارة التي تعملين فيها، وثقي بأنني لم أعد أفكر فيه كخطيب، ولا أرغب في عودة علاقتي السابقة به، فالأمر يازاهية لا يزيد عن عدم رغبتي أن أراه منكسرا وهو ابن عمي.
نازك
...
ما ان أكملت زهرة قراءة الرسالة حتى انهمر الدمع غزيرا من عينيها، وارتمت على مكتبها بعد أن طلبت من السكرتير اغلاق الباب عليها وأجهشت في بكاء مرير...
وخرجت من مكتبها بعد أن هدأ روعها، واقتادت عربتها نحو العاصمة، وأوقفتها عند مدخل دار الحزب بعد استيثاقها من وجود كباره فيه، وولجت اليهم ثم خرجت وخطاب تعيين زهير في يدها، وقفلت عائدة الى حيث تعمل وتقيم...
-ياعم فتح العليم؟!
-نعم سعادتِك...
-شيل الخطاب دا وأركب عربيتي دي ووديهو الآن للعنوان المكتوب عليهو دا، وسلمو لي للأستاذة الاسمها مكتوب على الظرف بدون ما تاخد وتدي معاها في الكلام...
مفهوم؟
-مفهوم...
-حاضر سعادتِك...
وبعد أيام تصلها رسالة أخرى من نازك:
زاهية
أشكرك جزيلا على استجابتك لطلبي، لكن للأسف لقد سبق قضاء الله إلى زهير، فقد وجد ميتا داخل البيت الذي يقيم فيه، والبعض يقول بأنه انتحر.
لا أدري يازاهية لِمَ يكتنفني شعور قاتل بأنني أنا من تسببت في موته...
لا حول ولاقوة الاّ بالله.
نازك.
أظلمت الدنيا في عيني زهرة،
وأغشي عليها، ولم تدر كم يوما بقيت على حالها ذاك، وعندما استيقظت إذا بنازك بجوارها تمارضها في المستشفى، فما كان منها الاّ أن أغمضت عينيها مرة أخرى واجهشت في بكاء شديد ونازك تحتضنها وتهدئ من روعها، لم تقو زهرة على النظر في عيني نازك، فأشاحت بوجهها إلى الحائط، وازداد نحيبها، لقد بكت كما لم تبك من قبل، وانتفض جسدها كالطائر الذبيح، وضمتها نازك إليها رابتة على شعرها الى أن غشيها النوم...
أفاقت زهرة، لكنها بقيت تبحلق في وجه نازك في ذهول، فتبادرها نازك قائلة:
-زاهية مالك؟ قولي بسم الله!
-انتي منو؟!
-بسم الله الرحمن الرحيم يازاهية، أنا نازك!
فإذا بها تشرع في صياح هستيري، وتمزق ملابسها، فتلفُّ نازك جسدها باللملاءة، ويزيد هياج زهرة، وتبدأ في خربشة وجهها بأظافرها، فتنبثق الدماء غزيرة لتملأ ثياب نازك، وتصيح نازك بالممرضات ليساعدنها في تهدئتها...
وتنقل زهرة الى مشفى للأمراض النفسية والعقلية وظلت فيه أشهرا، ومافتئت نازك تزورها كل شهر، ثم تبدل الحال بزهرة إلى وجوم عجيب، وبقيت على ذلك أشهرا أخرى، وبعد عام أعيدت زهرة إلى مسقط رأسها هنااااك في الشمال،
ومافتئت تعيش هناك وقد أسماها الناس ب(زهرة المجنونة).
انتهت.
adilassoom@gmail.com



التوقيع:
[frame="7 80"].

سُكْنايَ حيثُ يحكي النيلُ عن حضارةٍ عظيمة
يشُقُّ صدرَ أرضنا السمراء في عزيمة
وينحني تأدباً في (البركل) الذي يلي كريمة
عادل عسوم
www.marawinews.com
[/frame]
imported_عادل عسوم غير متصل  
 

تعليقات الفيسبوك

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 07:50 AM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.