عيد فيروز .. بقلم سوداني
[size=4]مقال عبد العزيز الصاوي عن فيروز في صحيفة النهار البيروتية اليوم 30 نوفمبر
2007[/size[size=6]
]فيروز في عيدها: رؤية من السودان [
/size]في تشرين الثاني 2006، تنادى عدد من المثقفين العرب لتثبيت تاريخ ميلاد الفنانة اللبنانية فيروز الذي يصادف في الحادي والعشرين من هذا الشهر عيدا قوميا وذلك لمناسبة بلوغها الحادية والسبعين. الى هذا الحد بلغ الاجماع على خصوصية مكانتها في المشهد الغنائي العربي. والحق ان فيروز ضمن الظاهرة الرحبانية الموسيقية والشعرية، تستحق مثل هذا التقدير فهي تجسيد حي للفن الرفيع. وفي وقت ينصرف فيه قطاع كبير من الشباب السوداني والعربي الى فن غنائي استهلاكي محمولا على موجة الفيديو كليب العارمة ويهيم قطاع اخر في عالم المحرمات والفتاوى محمولا على موجة تزييف المديح بترخيصه فنيا وتحويله الى سلعة، تشتد حاجتنا الى الفن الراقي الذي يهذب الوجدان ويسمو بعواطف البشر ومشاعرهم بقدر حاجتنا الى الفكر السديد والسياسة التي تحترم العقول والافهام. ومما لاشك فيه ان بؤر الاستنارة والوعي الديموقراطي التي بدأت تتفتح في الحياة السياسية سودانيا وعربيا بعد طول مكابدة وعناء تحتاج اكثر من غيرها الى المناخات التي يشيعها نوع الفن الفيروزي- الرحباني لانه يساعد في خلق الانسان المتفتح عقلا ووجدانا فهو عدتها الرئيسة في انجاز مهمتها الصعبة استثناء في المرحلة الراهنة.
حتى وقت قريب كانت حدود المعرفة السودانية بالعطاء الفني الفيروزي لا تتعدى غالبا قصيدة جبران خليل
جبران "اعطني الناي وغنِّ" واغنية "زهرة المدائن" مع ان حصيلتها تبلغ تقريباً الف اغنية واربع عشرة مسرحية غنائية. الان يبدو ان النزوح السوداني الدراسي والمعيشي والعلاجي الى سوريا ولبنان والاردن، اضافة الى اتساع رقعة تأثير دراسة الموسيقى محليا، وسع دائرة متذوقي فن فيروز - الرحباني، بل ان فنانتنا العظيمة امال النور أدت احدى اجمل اغنيات فيروز وارقاها "حبيتك بالصيف" بشكل مثير للاعجاب، وذلك مع الفاتح حسين، احد ابرز رواد التحديث الموسيقي لدينا.
يدعو هذا المقال هؤلاء جميعا للاحتفال بعيد ميلاد فيروز هذه الايام كل بطريقته الخاصة او في مجموعات قد تولد منها في مقبل الايام "جمعية اصدقاء - محبي فيروز - الرحبانية" لتساهم بطريقة منهجية في افساح مجال اكبر في الذائقة والثقافة الموسيقية والغنائية السودانية لهذا النمط من السلم السباعي، الى جانب المصري والخليجي.
الانتاج الفني الرئيسي لفريق فيروز (اسمها الحقيقي نهاد حداد) والاخوين عاصي ومنصور الرحباني (بدآ كشرطيين محليين) الذي تشكل اواخر الاربعينات هو الدراما الغنائية، وهو تطوير لفن المسرحية الغنائية تتكامل فيه عناصر الغناء والموسيقى وخطوط الصراع الاجتماعية والسياسيه الفردية والجماعية. صوت فيروز النادر المثال الذي يَرِقّ في الطبقات المنخفضة حتي يكاد يصبح اثيريا شفافا ويحتفظ بقوته في الطبقات العليا عذوبة صافية، يتحول في هذه الاعمال الدرامية الى الة موسيقية متناغمة في اوركسترا كما تبرز فيروز الممثلة غناء وحوارا ولغة جسد. هذا هو التطور الحاسم والهام الذي ادخله فريق الرحابنة - فيروز على فن المسرح الغنائي العربي الذي ظهر في مصر اولا ولكنه لم يتسنم الذرى التي وصلها مع هذا الفريق.
استمد الاخوان رحباني مادتهما من البيئة اللبنانية والشامية اجتماعا وسياسة وفولكلورا وتاريخا واساطير وصاغا نسيجا دراميا ينبض بقيم الجمال والخير والحرية الانسانية في اعمال متنوعة بعمق متفاوت، بعضها معقد التركيب مثل "ايام فخر الدين" واخرى بسيطة التركيب مثل "صح النوم" تدخل فيها الموسيقى كعنصر تعبير مباشر عن تطور الاحداث او تعميق للاحساس بها لدى المستمع او المشاهد، وتحتل فيروز مركز القلب فيها اداء غنائيا وتمثيليا دون ان يخل ذلك في غالب الحالات بالتوازن بين عناصر العمل المختلفة.
هذه السيدة الدقيقة الحجم المعتصمة بالصمت الاعلامي التام خارج المسرح على حياة شخصية لا تخلو من المآسي (ابن شاب معوّق - وفاة الزوج عاصي وابنة شابة) تملأ المسرح بحضور طاغٍ في ادائها الغنائي- التمثيلي لا سيما في مشاهد وحوارات السخرية والفكاهة، احد تلك العناصر التي يبرع فيها النص الرحباني شعرا ونثرا بامتاع خالص دون تضحية بالضرورة الفنية. فاتته متعة العمر من لم يستمع الى صوت فيروز في مسرحية "صح النوم" محلقا بشعر الرحبانيين وموسيقاهما وهي تحاول اقناع القمر بعدم الظهور.
الفريق الرحباني - الفيروزي قدم اعمالا فنية مباشرة للقضايا العامة في فلسطين ولبنان وسوريا الا ان قيمته الكبيرة الباقية في خدمة حركة التقدم خلال المرحلة الماضية كانت في اعماله غير المباشرة المنطوية على النقد الاجتماعي والسياسي في اطار فني يرتقي بحاسة التذوق الجمالي الشعري والموسيقي للافراد والجماعات. ولا بد من اشارة هنا الى مساهمة الناقد الموسيقي نزار مروه، ربما اول ناقد موسيقي عربي بالمعنى الصحيح للكلمة، في رعاية الظاهرة الرحبانية وتقويمها. نزار المتوفى عام 1992 هو ابن المفكر الماركسي المعروف حسين مروه الذي اغتالته اجواء التطرف الديني وايديه عام 1987، لم يتوان عن وضع معارفة الموسيقية العلمية الثرية في خدمة الانتاج الفني لفيروز والرحبانيه محللا ومؤشرا للعيوب ونقيضها ولعب بذلك دورا مهما في الدرجة الرفيعة التي وصلها.
مع ابنها الاخر زياد الرحباني واصلت فيروز المشوار الرحباني بصوت ظل محتفظا بقوته وصفائه الى حد بعيد مقاوما فعل الزمن وويلات الحرب الاهلية التي زلزلت الكيان اللبناني الوديع منذ منتصف السبعينات ولخمسة عشر عاما. بقيت فيروز مقيمة في لبنان واتخذ نشاطها المتقطع بالضرورة شكل احياء حفلات خارجية قدمت فيها مجموعات من اغانيها وازدادت وتيرة نشاطها مع عودة الهدوء الى البلاد حيث اضيفت الى حصيلتها مجموعة اغنيات من انتاج ابنها زياد.
في تعاونه مع والدته على المستوى الاول القريب من الاصل الموروث عن الوالد والعم تولى الرحباني الصغير اعادة توزيع بعض اغنيات فيروز، ثم مسرحية "صح النوم" اخراجا وتوزيعا والتي قدمت في كانون الأول الماضي بعد اكثر من ثلاثين عاما من عرضها الاول. غير ان التعاون على المستوى الثاني القائم على الانتاج الذي يعكس خصوصية شخصية زياد الفنية هو الذي فتح افقا فيروزيا جديدا حقا، فالرحباني الصغير خلطة مواهب من التأليف الموسيقي والمسرحي والشعر الغنائي والتمثيل والاخراج معجونة بكمية كبيرة من حس المغامرة والابتكار والتجريب. في تفاعل ديناميكي مع المرحلة العربية واللبنانية الجديدة المتميزة بالقلق وتلاشي القديم دون تبلور كامل للبديل. يكتب زياد شعرا غنائيا فيه شقاوة وعبث وبساطة او هكذا يبدو فلا تدري ان كان يسخر من الحب (اغنية كيفك انت) واهل الريف (اغنية البوسطة) واليسار (مسرحية نزل السرور) ام يسخر من تصوراتنا التقليدية لهذه المواضيع. في هاتين الاغنيتين وغيرهما دخل صوت فيروز تجارب جديدة لا تألفها الاذن القديمة ولكنها مثيرة وممتعة بطريقتها. ونبقى موعودين بتجارب جديدة يعتقد كاتب هذا المقال ان اهمها ينبع من ان زياد الرحباني طور مزيج السخرية والفكاهة الموروث من عاصي ومنصور بحيث اضحى رسام صور كاريكاتورية تقول وتوحي بالكثير بالموسيقى كما بالشعر. وهو بعد ايضا كاتب مقال صحافي وممثل ادوار كوميدية صغيرة تطيح بوقار الوقار نفسه ضحكا وعضو في الحزب الشيوعي اللبناني. أي كوكتيل هذا؟
نتمنى للسيدة فيروز في عيد ميلادها الحادي والسبعين طول العمر والمزيد من الابداع وللبنان النماء والاستقرار وهو يحتفل بذكرى استقلاله التي تصادف عيد ميلادها ليعود واحة للتنوير والديموقراطية والثقافة والفن، وشكرا لشعبه وتاريخه الذي انجب هذه الموهبة العظيمة.
عبد العزيز حسين الصاوي – الخرطوم
|