تراتيــل الجزيــرة المتوسطــة
زقـاق الجـن : الجـرف الأخيـر بين طرطـوس و الجزيـرة ...
تتباعد المسافات دوماً كلما ضاقت الدنيا و تصبح الأشياء ثقيلة بلا وزن تضيفه على رونق متخيل ، كذلك تتثاقل خطوتك يا ولد رجاء بت ست الدور وأنت تخطو حثيثاً نحو أبعد مناحي الجرف الذي تنتهي اليه مدينة طرطوس ويبتدئ منه الغول المحبب الى نفسك المسمى بحراً..! في يوم كهذا لن تستطيع ممارسة الحب مع البحر ، لن تستطيع –كعادتك- أن تمنحه أفكارك ولعناتك وشرودك ، فقد جئته بتركة عصيبة ، تركة تتضاءل أمامها تركتك و أنت تحل بهذه البلاد غِرّاً يحمل في حقيبته جماجم وصرخات و يتوق الى تغيير الكون ، الآن تتمنى لو كنت تكره البحر ! فهو اليوم صنو الرحيل المغلف بالخيبة و القهر ، القهر الذي راكمته هذه البلاد في خلاياك فتعلمت ردّاً على ذلك احراق كل شيء! أحرقت رولا يا ولد رجاء بت ست الدور في ذلك اليوم الذي ارتاح فيه الرب ، سكبت على جسدها العاري و المعبق برائحتك مختلطة بعطر الـ(بويزون) خاصتها زيتاً مضيئاً و أشعلتها هكذا ! أشعلتها وجلست تستدفئ للمرة الأخيرة وتشحن عينيك باللعنات التي لن تغادرك ، ستنتقل لعنة جدها السلجوقي الذي غرس ساريته في صرّة الملك اليك ، ولن تنسى أبداً أنك أشعلت سيجارتك من راحتها المحترقة!
كذلك أحرقت كتبك المقدسة ، الكتب التي كانت تدعوها مدام كوهار بالأناجيل وهي تراك غارقاً بين أوراقها ، وحرقت مؤلفيها معها ، نيرودا ، باسترناك ، فراس السواح ، خورخي أمادو ، رونيه ماران ، كمارا لاي ، بورخيس وغيرهم وغيرهم من أناس خطّوا ما لم يلق له الأنبياء بالاً ، أطعمتهم للنار و تضمخت ببركات البخور ولم تفارق الرائحة أنفك حتى صباح اليوم ، رغم مرور أسبوعين على هولوكوست القامشلية والأنبياء ، الصباح الذي رقلت فيه راجلاً بطريق (تل سماريان) متجهاً الى كاتدرائية طرطوس حيث ستلتقي بالمعلم كيفورك الأرمني ، الذي سيهتم باجراءات تهريبك خارج هذه البلاد الملعونة بعيداً عن جثامين الكتب المحترقة وبعيداً عن رولا وسطوة عمّها الحاكم بأمر الخليفة . المعلم كيفورك الأرمني مومياء منحت القدرة على الحركة ، جثة نحيلة و متحللة منع الجلد عظامها من الظهور ، يغلب عليه اللون الأصفر في كل أشيائه ، أسنانه التي أهلكها التبغ ، عينيه التي عُمِّدَت بالرمد الربيعي ، و له شارب ضخم ، كثيف كمكنسة ، لم تستطع ازاء شاربه الكث الا أن ترجع الى بلاد الاخشيد البعيدة ، و تتذكر عباس صمد الساقية ، الذي كان يفاخر القرى يوم السوق بعظمة شاربه ، وكيف أن الخواجة الاغريقي اخبره أنه طاف من البلاد ما لم يطفه السندباد ولم يرى شارباً كشاربه !
كم تمنيت أن آت به الآن من قفاه ليرى هذا الشارب الذي يجعل من شاربه درب نمل في فلاة ، علّه يكف عن أهل القرى غروره ...
التقيت بكيفورك الأرمني على ناصية شارع الكاتدرائية ، يدخن لفائفاً بنية اللون لها رائحة كاحتراق الحديد الا أن أكثر ما أزعجني في لقائه هو صوته ، صوت زجاجي عاري يشعرك أن أذنيك ستبدءان بالنزيف في أي لحظة .
وبعد الاتفاق على المسائل المالية والتواقيت وتجاوزه لغضبه أني لم أحضر مقدم النقود معي أخبرني أن الرحلة ستبدأ من جزيرة (أرواد) التي تبعد عن طرطوس خمسة كيلومترات داخل البحر ، فسألته :
- وكيف بدي أوصل لهاي أرواد؟؟!
- بتوصل لها متل ما بتوصلها ، شو بدنا نطلع من طرطوس قدام الدرك مشان جنابك ما بتعرف شلون تروح ع أرواد؟؟!!
لم يكن فيك من العزم والقوة ما يمكنك من الرد على كلامه المتعالي الا أنّك لم تستطع تجاوز تلك النقطة بلا اشفاء لروحك المُهانة :
- طب العن دين أهلك !
نظر اليّ بنظرة متفاجئة أعقبتها ضحكة كصهيل خيول مريضة وسعال خفت معه أن تصعد روحه ، وأتبعه :
- ياسيدي بتروح ع الجرف بعد نص الليل بتلاقي الصيادين طالعين بياخدوك ع ارواد و اشلح فيهم 500 ورقة ..
في ذلك الصباح غابت رائحة الشواء الساكنة في خياشيمك يا ولد رجاء بت ست الدور ، غابت مع خطواتك في الطريق المعبد بين تل سماريان والكاتدرائية ، غابت في دخان لفائف كيفورك الأرمني وصهيله ولغته البذيئة .
حثيثاً تجد الخُطى نحو اللا معلوم لديك من شوارع هذه المدينة التي لا تشبه دمشق في شيء ، الأزقة هنا نابضة و لم تتبول كتب التاريخ عليها ، والعطفات لها رائحة قرنفل و نعناع برّي تثيرك كقطة ، انسانها ذاق طعم التهجير في تاريخ جيناته فأرسخ جذوره هنا كيلا يتذوقه مرة أخرى ، ثلاثة آلاف عام من غرس الجذور واقامة مملكة لها يد طولى تستطيع أن تُهجّر غيرها من الممالك الى ما وراء البحار حتى ...!
ثلاثة آلاف عام وتأتي أنت يا ولد رجاء بت ست الدور بصلفك الحزين و حذائك البُنّي لتشق شوارعهم في مسيرك الى الجرف الأخير! فلتحتمل اذا نظرات الغريب ، احتمل تلك الشرارات ذات اللون الأحمر المُذهّب التي تنطلق من أعينهم فتمس أطراف معطفك مُخلّفةً فتحات صغيرة ينفذ منها البرد الى دورتك الدموية .
انهم يعلمون يا ولد رجاء بت ست الدور ، يعلمون أنك ، هارب ، وحيد ولا تجيد التحليق ، يعلمون أنك غريب ، والغريب في هذه البلاد يحمل على خازوق ويساق للحريق ، يعلمون أنك في هذا الزقاق حلزون تشده الجاذبية الى أسفل ولن تستطيع الهرب منهم ، ها هم يتحولون الى حقيقتهم ، ها هي أظفارهم تستطيل ، وجلودهم تتحول الى حراشف ، وتنمو تلك القرون ، و الصغار منهم يركضون على الجدران مطلقين صيحات تنتهي بصوت كفحيح مكتوم ، الكبار منهم يخرجون كريراً من صدورهم يشابه ذلك الذي يخرجه رجال و نساء كمبو (برود راس) في احتفالاتهم ، يكونون دوائر حولك و صوتهم يعلو على صوت الناقوس الخجول ، تسقط يا ولد رجاء بت ست الدور كجوال وتتسمّر بالأرض ، لا شك أن هذه الشياطين الفينيقية توشك على التهامك يا ولد رجاء بت ست الدور ، يا لهفي عليك ، لم تستطع الغيلان والبعاعيت والسحيحيرات في بلادك أن ينالوا منك رغم احاطتهم بكل شيء ، وفي بلاد الظن الوردي هذه يرقص أبناء الجن حولك بغية التهامك في هذه الحارة الفينيقية وقد كدت أن تصل للجرف الأخيـر!
الآن موعد مناسب لتغمض عينك ، وتسرح بين البلدات حتى تصل الى النهر الذي عمّدك انساناً يستوي على جادة التاريخ ، لا بأس دعهم ينهشونك ، فقط استرجع النهر وجدّتك كيلا تشعر بشيء ، ترى أمازالت جدتك بت المنى قوة ضاربة تسوس القرية؟ يا لغباء السؤال ، طبعاً هي مازالت كذلك ، فالأساطير كالآلهة لا تتغير من حال الى حال وتزداد سطوتها كلما طوى الزمان صفحات أكثر ...
أنت معها الآن و هي تخط خطوطاً عجيبة بعكازها على الأرض ، وترسم خاتم سليمان وتدمدم بطلاسمها العجيبة ، وجهها القمري يكتسي بملامح الغضب فجأة وتلتفت اليك ناهرة :
- انت يا جنا الندامة يا درب الفضيحة ، عندك شنو عند النورة بت حمدان؟؟
أتراني أكذب الآن ؟؟ لا فائدة من ذلك فبت المنى تسأل عن الأشياء التي تعرف اجابتها فقط .
- ما عندي عندها شي يمة ، لاقيتا مرتين ، مرة في بيت البتول الداية و مرة في ضروة بيت البابور ..
- الجنا وفعايلو ...! المرة تلدك يا ولادة الذنوب
- آي لكن يمة فوقا الصمغ ، فوقا الصمغ يمة
تجلجل ضحكة بت المنى ، ملحوقة بدعاء عليك بعظائم الأمور وسعلتها الرجولية الشهيرة التي تشبه سقوط الأواني تشق النهر فيخلق دوامة صغيرة استجابة لضحكتها ، ترمقها بنظرة وتضرب بعكازها الأرض فيهدأ النهر وتسطع شمس الغروب الدافئة على وجهها وتملأ مفارق شلوخها وتلتفت الى و على حبالها الصوتية أثر بئر عميق :
- قوم ياجناي ، فتح عويناتك ، وأتنفض، ماتخلي شياطين الحَلَبَة ديل يفزعوك ، قوم عليهم ببركة جدك المقدم .
أفتح عيني بصعوبة ليشق صوت عجوز ثمانينية التجعدات صوت الطبول والناقوس والكرير المتصاعد ، امرأة تربط شعراً فضي اللون بمنديل أحمر موشى يخيوط زرقاء داكنة :
- بكفي .... تركوه لحاله
وتلتفت نحوك وهي تمد لك يداً خططتها العروق لتستند عليها منتصباً ، و مازلت ترتجف وتدرك أنك مازلت في سقطتك تلك ، الغيلان الراقصة تعود الى طبيعتها شيئاً فشيئاً بعد صرخة العجوز ، تختفي الأنياب تدريجياً ، وتتساقط الحراشف ، وينسحب صوت الكرير لصالح صوت الناقوس البعيد ، التفت الى العجوز لشكرها :
- شكراً ستي ، ممنون كتير ...
ابتسامة صافية منحتها لي و استدارت ماشية لتختفي تدريجياً في زقاق فرعي ، وقبل اختفائها سعلت بقوة وابتلعها الدرب...!
الى الجرف الذي أضحى قريباً أكثر من ذي قبل كانت خطواتك ، أو فلتسمها قفزاتك وشيء ما داخل خلايا دماغك الرمادية يقرع جمجمتك بعنف ... لا بأس فالآن تقف على الجرف!
الآن تقف على حافة الجرف الذي تخافه ، الجرف الذي يلامس البحر و روحك ويعني ابتداء رحلتك الى الظلمات محملا بالخيبات ، خيبة الحبيبة التي أحرقتها ، وخيبة الهروب من وجه سلطان عمّها ، وخيبة الدم الذي يجري في عروقك بالكذب المحلّى ، تستبيح نسمات منتصف الليل الباردة وجهك الأسمر كما يستبيح حذاؤك في ذات اللحظة بتلات الزهرات البرية على الارض ، زهرات لا تعرف اسمها ، قبل اسبوعين ما كنت تعرف من أسماء الزهرات الا واحدة ، الزهرة القامشلية ، والآن تتركها خلفك ساقاً تنمو على جدار المنزل .
يتعالى صوت القرع داخل رأسك ممتزجاً بأصوات الصيادين تتعالى بأهازيج جنائزية تشق بكورة الليل ، وقد تكون استحضاراً لبركات أسلافهم الفينيقيين الذين أتوا مثلك منفيين من أراضٍ أخرى ضاقت بها الدنيا ، ويطلقون الشتائم ، ويستعينون بالرب زُلفى صيدٍ وفير ، احمل ما تبقى من البرد يا ولد رجاء بت ست الدور زاد شجاعة واقترب منهم ، اقترب لتضع أولى خطواتك في درب البحر المجهول ، البحر الذي ما عاد –اليوم- حبيبة تمارس معها الحب وغباء الذكريات ...
القارب الكهل يحملك وصيادين آخرين متجهاً الى جزيرة أرواد التي ستبدأ منها رحلتك أو تنتهي ، أنت لا تدري بعد ، فقط لو تستطيع تناسي الصوت الذي يتعالى في رأسك منذ حادثة الزقاق ، صوت يخبر عن شيء مفقود أو شيء فات عليك ، تمدد قدميك أمامك في القارب وتشعل سيجارة طلباً للاسترخاء ، وتستمع الى أهازيج الصيادين التي لا تنتهي ، و جزيرة أرواد تقترب شيئاً فشيئاً وتخرج من رحم ضباب البحر و نعاسك من هي تلك العجوز التي أنجدتك يا ولد رجاء بت ست الدور؟ جميلة تلك العجوز التي أنقذتك من جوقة الشياطين الذين كانوا ليفتكوا بك لولاها ، كما أن لها ملامح و سيمة تدل على فتنة غابرة و رقةٍ في قوة ، طبعاً لم ينغص جمالها و رقتها سوى ذلك السعال الرجولي الذي يشبه سقوط الأواني الذي أطلقته قبل أن يبتلعها الزقاق ولكن لا بأس انك ممتن لها على كل حال فقد أنقذتك من موت محقق ....