نعي أليم - فيصل سعد في ذمة الله !!! عكــود

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > منتـــــــــدى الحـــــوار

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 17-12-2020, 10:22 PM   #[1]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي رحلة في طيات الكتاب - لوطني وللتاريخ - مذكرات الشهيد الشريف حسين الهندي

اقتباس:

جريدة المجهر - الجمعة 2 نوفمبر 2012م - الموافق 17 ذوالحجة 1433هـ - العدد 193
رحلة في طيات الكتاب - لوطني وللتاريخ - مذكرات الشهيد الشريف حسين الهندي
’’نميري‘‘ يتحرك في (كواليس الجيش) لتنفيذ الانقلاب .. ورسائل ’’الشريف‘‘ التحذيرية تضيع في الهواء ..!!
الحلقة الاولي

إعداد خادم التراث / محمد الامين الشريف عمر الهندي
هو الشريف الحسين بن الشريف يوسف (الهندي) بن الشريف محمد الامين ، بن الشريف يوسف بن الشريف احمد بن الشريف زين العابدين بن الشريف حمد بن الشريف آدم بن الشريف محمد الشهير بالهندي ، الذي علق به لقب الهندي لأن مرضعته في مكة كانت هندية الاصل .
ولد الشريف حسين في عام 1924م ، ونشأ وترعرع بضاحية بري الشريف شرق الخرطوم ، وقد الحقه والدهـ بالخلوة لحفظ القرآن الكريم ، فأتم حفظه في سن باكرة .. ثم حضر خاله الاستاذ احمد خير وأخذهـ معه ليتم دراسته بمدينة ود مدني والحقه بالصف الرابع بالمدرسة الاولية .. وفي منتصف الصف الرابع ذهب الشريف الحسين لتلقي دراستهم الثانوية بكلية فكتوريا بالاسكندرية بمصر .
وإنضم معظم زملاء الشريف الي الاحزاب الاتحادية التي اندمجت في الحزب الوطني الاتحادي عام 1953م ، وكان عدم إنضمام الشريف لهذه الاحزاب مثار تساؤل ، غير أن بعض المقربين كانوا يعرفون ان من رأي الشريف أن الطائفية ينبغي ان تبتعد عن العمل السياسي الحزبي ، وبعد إعلان دمج (الحزب الوطني) في (الوطني الاتحادي) سجل الزعيم اسماعيل الازهري رئيس الوزراء ورئيس (الحزب الوطتي الاتحادي) علي رأس وفد من الحزب والحكومة ، زيارة الي قرية (العقدة) والتقي بآل الهندي في معقلهم .. وبعد تلك الزيارة ، أعلن الشريف حسين إنضمامه رسميا الي (الحزب الوطني الاتحادي) .
وفي عام 1958م ترشح الشريف في دائرة الحوش عن (الحزب الوطني الاتحادي) وكان في الوقت نفسه مشرفا علي الانتخابات في دارفور ، وقد فاز في دائرته فوزا كاسحا .
وكان الشريف علي صلة وطيدة بكثير من حركات التحرر الوطني ويساعد بعضها في الحصول علي السلاح ، وكان يشرف علي معسكرات المقاتلين السودانيين المقامة بليبيا واثيوبيا ضد نظام نميري العسكري ، وكان من المناصرين بشدة لحركات المقاومة من اجل التحرر في العالم عموما وفي افريقيا ، وقد كلفه عبدالناصر القيام بمحاولة لخطف الرئيس الكنغولي ’’باتريس لوممبا‘‘ وكادت محاولته ان تصل الي غايتها لولا ان خصوم ’’لوممبا‘‘ أقتادوهـ قبل وصول ’’الشريف‘‘ الي مكان مجهول وقتلوهـ .
ولخروج الشريف من السودان قصة طويلة معروفة في تاريخ السودان - تخللتها وحدثت بعدها احداث جسام في رحلة حياة عامرة بالمواقف .
وقد قضي الشريف اخريات ايام حياته في العبادة وتلاوة القرآن .. وتوفي في اثينا في يوم 9 يناير 1982م .. وكان قد تزوج في أخريات العهد الحزبي الثاني من كريمة الخليفة احمد عبدالوهاب .. ولم يخلف أبناء ، ولكنه خلف في الدنيا صوتا داويا
.

الفصل الاول
الهارب
* لم يكن صباح الرابع والعشرين من مايو مختلفا عن غيرهـ ، كان البيت مكتظا بالنائمين وبالداخلين إليه قبل هاتف الفجر ، ودوي آذان الصلاة فيه وسوي الناس صفوفهم ، ولست مبالغا إذا قلت إن المصلين فيه كانوا اكثر عددا من المصلين في الجامع الكبير ، وتحاملت علي نفسي لأنهض فلم اكن قد حضرت إلا قبل ساعتين ولم اجد إلا سريرا بلا مرتبة ، كومت نفسي عليه . وعلي أي حال .. فقد كنت اسعد حالا من الذين افترشوا البلاط والنجيلة والكراسي ، وكنت قد تعودت علي هذا المنظر ، فلم يعد يزعجني في شئ ، وحتي الشرطة عجزت عن حراسة منزلي فتركته مفتوحا يلجه كل من لم يجد له مأوي في الهزيع الاخير من الليل ، ولا غرابة فقد كنت وزيرا متخلفا في بلد متخلف ، يعتقد اهله ان وزيرهم لا ينام ولا يأكل الطعام ، وان من حقهم عليه ان يحولوا بينه وبين كل ذلك . وان يقابلوهـ فرادي ومئات . آني شاءوا ، والويل له إذا عبس وتولي ، أو تواري واعتذر .
وبنفس ملابسي التي امضيت بها النهار ، وتكومت بها علي سرير الحديد .. نهضت ورأسي يدور إجهادا . وجسدي لايكاد يحملني ، ولن يصدقني احد طبعا إذا قلت إنني لم أتناول غدائي ولاطعام عشائي ، وبقيت في مكتبي بوزارة المالية حتي الثالثة صباحا ، وليس هناك إفطار في منزلي لأتناوله ، وإن كنت علي موعد في الحقل في شمال الجزيرة ، ولو تأخرت دقائق لكان خروجي من منزلي في مرتبة المستحيلات ، ولبقيت كالعادة كل يوم الي ان اقابل مائتي شخص او يزيدون ، واسمع واتجاوب واستجيب مع مجموعاتهم كلها .
وإنطلق السائق وهو ينظر الي في إشفاق ورثاء ، يمزجهما أسي وحزن وحسرة ، فبقدر ما عمل مع العديد من الوزراء لم ير وزيرا مكدودا مطاردا مثلي ، ولم ير (نزلا) مثل منزلي ، وكان يردد ذلك دائما ، وهو يمط شفتيه ويصفق بيد علي الاخري في عجب وضيق .
وردت لي نسائم الفجر بعضا من فكري ، فسرحت افكر في احداث اليوم السابق والعربة تسرع صوب الجزيرة الخضراء ، تذكرت اجتماع الهيئة البرلمانية للحزب وهي تبحث عن مستقبل الحكم ، واسترجعت كلامي لهم - كلاميي الذي ازعج احلام البعض ، وإعتبرهـ الاخرون حديثا إنصرافيا - وقصدت به إخافتهم وإيقاظهم من احلام اليقظة في لذة الانفراد بالحكم : (إنكم تتكلمون عن الإنفراد بالحكم ، وأنا أحذركم من ضياع الديمقراطية .. فإنني أعلم ..) وسردت ما كان لدي من معلومات تفصيلية ، ورد علي زميلي الموكل بالحفاظ علي أمن الديمقراطية وحكمها في ثقة يشوبها الإستعلاء والغرور : (فليطمئن السيد وزير المالية ، فنحن نعلم ونراقب) . وسمعت لحظتها همسة أراد صاحبها ان تسمع : (إنه يريد أن يخيفنا) .
وجلست وقد بلغت ، وكنت في نفس النهار قد ذهبت الي السيد رئيس الوزراء ووزير الدفاع واخبرته : إن المناورات بالذخيرة الحية في (خور عمر) بالدبابات ، أمر ممنوع منذ محاولة إنقلاب ’’كبيدة‘‘ في عهد عبدالله خليل ، وان زيارة (بلك) المظلات بأسلحتهم للمناورة بالدبابات ، بدعوي إنهم مدعوون لليلة سمر هناك ، ماهي إلا لتكملة الانقلاب بإضافة المظليين من المشاة للدبابات . وذكرت له مصدر اخباري - وهو احد سفراء السودان الان - وكان عضوا في جماعة (الضباط الاحرار) وعن إجتماعهم الذي رفضوا فيه الإنقلاب بأغلبية ساحقة ، وعن إصرار قلة منهم عليه ، وان هذهـ القلة هي التي خرجت بالدبابات للمناورة وبالمظلات .. بأسلحتها للزيادة .
وبنفس الثقة التي يصرف بها رئيس الوزراء كثيرا من الامور ، صرف مخاوفي علي إنها هواجس ، ثم رجعت إليه بعد ساعات معي العميد ’’حسن فحل‘‘ وكنا قد إلتقينا ووثقنا ان معلوماتنا متطابقة ، فهرعنا إليه . هذهـ المرة جاملنا رئيس الوزراء فإتصل بآخر من يعلم قائدهـ العام ، فإستمهله ثم رد عليه بأن ما تقوله أضغاث أحلام) .. وأشار السيد رئيس الوزراء الي حذائه قائلا لنا : (إنهم لايستطيعون قلب حذائي هذا) . وحدقنا فيه .. ثم في الحذاء وانصرفنا .
وبعد شهور علمنا ان الذي سأله القائد العام ، قبل ان يرد علي رئيس الوزراء كان الرائد ’’مأمون عوض ابوزيد‘‘ المسؤول الرابع في الاستخبارات العسكرية ، وكان كل المسؤولين قبله في إجازة ، وكان هو أكبر الرؤوس التي خططت للإنقلاب والمسؤول الوحيد الباقي في الاستخبارات العسكرية بعد سفر كل رؤسائه في إجازاتهم .
وفكرت في أن اطلب من السائق الرجوع ، ولكن ماالذي سأفعله ، خصوصا وقد رجعت نفس المساء لمنزل السيد رئيس الوزراء ، وأخبرته بما وصلني (إن العقيد جعفر نميري بالخرطوم منذ ايام ، وانه في إجازة محلية ترك بعدها عمله في ’’جبيت‘‘ وامضي ياما في ’’القضارف‘‘ برئاسة القيادة الشرقية ، ثم أيام بـ’’شندي‘‘ برئاسة القيادة الشمالية .. وانه منذ حضورهـ الي الخرطوم دائم التردد علي القيادات العسكرية ، كحامية الخرطوم ، وسلاح المدرعات ، وسلاح المهندسين وغيرها ، وان هناك إجتماعات تعقد في منزله ، يحضرها فاروق حمدالله الرائد بالمعاش ، وصديقه كمال رمضان المحامي المعروف الاتجاهـ) .
وسردت كثيرا من التفاصيل فترك حديثي الممل ومال الي داؤود عبداللطيف وحديثه الشيق المليء بالنكات ، المنغم بعالي الضحكات ، فإنصرفت للمرة الثالثة ذلك اليوم ، وسردت معلوماتي للهيئة البرلمانية واللجنة التنفيذية وسط مائتين من الاعضاء فلم يكن حظي مع وزير الامن ، بأكثر من حظي مع رئيس الوزراء ووزير الدفاع . وكانت مخاوفي قد زادت عندما طلبت الخارجية سفر حوالي ثلاثين ضابطا في إحدي مراحل مفاوضاتنا لصفقة الاسلحة الروسية ، وكان العدد مريبا وكبيرا ، فرفضت بحجة شح الموارد المالية ، ولم ينقض يوم حتي اخطرتنا الخارجية بأن كل العدد سيسافر ويستضاف علي حساب وزارة الدفاع السوفيتية ، وكان فيهم أكثر من عشرة قادة اسلحة ، وكان الذين بدأوا المفاوضات وأكملوها ، موظف من المالية مع ضابط واحد فقط من الدفاع ، وسافر كل هؤلاء بموافقة وزارة الدفاع والخارجية قبل يوم واحد من الانقلاب ، أو علي وجه التحديد عشية يوم الانقلاب وقبله بثلاث ساعات فقط .
إذا اضيف لذلك الجو السياسي السائد وقتها ، إتفاق جناحي حزب الامة - الاتفاق ان يكون السيد الصادق المهدي رئيسا للوزراء .. والي الابد ، واستقالة رئيس الوزراء ، ومحاولة الحزب الاتحادي الديمقراطي الانفراد بالحكم وسفر السيد الامام الهادي المهدي الي الجزيرة ابا ، ورفضنا قرار مجلس الامن رقم (242) وزيارة حسن صبري الخولي لإقناعنا بالعدول عن رفضنا .. وإصرارنا علي الرفض ، كان علي اساس عدم المساس بالقضية الفلسطينية وتمسكنا بقرارات مؤتمر القمة العربية بالخرطوم ، والعلاقات المقطوعة مع امريكا والمانيا ، وقبلها مع بريطانيا والقضية الدستورية في حل الجمعية التأسيسية وتدخل بعض الضباط في ذلك ، وقضية حل الحزب الشيوعي ، وموقف بعض القضاة منها ، وتطلع الجميع للحكم المقبل ومعركة رئاسة الجمهورية ، إهمال الاغلبية للحكم الحالي وأمنه وأدائه ، ومرض رئيس الوزراء الخطير ، ونصيحة الاطباء له وأشفاقنا عليه ، رغم شجاعته ومحاولته الاستمرار ، ومقالات احمد سليمان عن وجوب تدخل الجيش في السياسة والسكوت ، بل الرضا عليها من البعض ، والتسيب وعدم المبالاة في اغلبية الوزارات ، والقاء العبء كله علي قلة تقل عن اصابع اليد الواحدة ، كل هذا إرهاصات ونذر ، إذا اضيف إليها النشاط الظاهر والمستتر ، في عدد من السفارات المعروفة ، كان الجو كله ينذر ببداية احداث كبيرة ، وكانت هناك قوي في الداخل والخارج تخطط لها ، وكان هناك نشاط ملحوظ في بعض الدوائر العسكرية ، وكانت الصحافة - بتوجيه من البعض - تستعمل كل حرياتها لزيادة التوتر ، واستفحال الانفجار ، مع هذا لم ارجع ، وقد يكون لرجوعي إذا فعلت اثر علي الاحداث ، رغم إني كنت وحدي إهتم واتابع واعمل ، وفعلت في ظروف الاعياء المتواصل وتداعي الموقف السياسي والانفعالات النفسية فعلها .. ماذا لو تم إنقلاب قام به ضباط وطنيون بقيادة وطنية ؟ قد يكون قادرا علي التغيير الذي كنا نسعي إليه ، ونطلبه ولانستطيعه .. أليس هو قطاعا من قطاعات الشعب السوداني ؟ وماذا لو ادي دورهـ ؟ وانا شخصيا .. ألم اصل حالة الانهيار ؟ واسقط مغشيا علي ثلاث مرات .. وظللت أعمل اثنين وعشرين ساعة ؟ مع هذا فلم استطع إلا تغييرا ضئيلا ؟ وماهي مقدرتي علي الاستمرار في التصفيق بيد واحدة ، أو الاذان في مالطة ؟
وقبل اسابيع استدعيت للقصر وقابلت الدكتور وصفي ، وكان الرئيس متعبا في قلبه ، وقال لي د.وصفي إنه قال - قبل ان تعتورهـ إغماءة بسيطة : ’’استدع الشريف وحدهـ وأخبرهـ‘‘ .
وجلست بجانبه وقلبي تعصرهـ مخالب من حديد ، والدنيا كلها قد اسودت في قلبي وناظري ، وتذكرت قوله لإثنين من زملائي امامي عاتبا : ’’لاتستغربوا إذا سطقت بينكم‘‘.


نقلا عن المجهر السياسي

...

* ملحوظة :
هذهـ مجموعة من 71 حلقة تم نشرها في المجهر السياسي ، ملخصا لكتاب الشهيد الشريف حسين الهندي ، لوطني وللتأريخ .. سوف نرفق الكتاب في أخر الحلقات ، مع اضافة بعض المداخلات والقراءات الاخري .. ليكون التوثيق شاملا ، مع إضافة بعض حلقات فيديوا ’’اليوتيوب‘‘ .. إلخ .

ترقبوا كل اسبوع مداخلة جديدة ، بإذن الله ..

من الخميس 17 ديسمبر ، وكل يوم خميس بإذن الله ..



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 25-12-2020, 06:51 PM   #[2]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

اقتباس:

جريدة المجهر
السبت 3 نوفمبر 2012م الموافق 18 ذوالحجة 1433هـ
العدد 194

رحلة في طيات الكتاب - لوطني وللتاريخ .. مذكرات الشهيد الشريف حسين الهندي
طرقات مضطربة علي الباب في منتصف الليل .. وعربات الجيش تجوب شوارع الخرطوم !!
الحلقة الثانية

إعداد خادم التراث / محمد الامين الشريف عمر الهندي
هو الشريف الحسين بن الشريف يوسف (الهندي) بن الشريف محمد الامين ، بن الشريف يوسف بن الشريف احمد بن الشريف زين العابدين بن الشريف حمد بن الشريف آدم بن الشريف محمد الشهير بالهندي ، الذي علق به لقب الهندي لأن مرضعته في مكة كانت هندية الاصل .
ولد الشريف حسين في عام 1924م ، ونشأ وترعرع بضاحية بري الشريف شرق الخرطوم ، وقد الحقه والدهـ بالخلوة لحفظ القرآن الكريم ، فأتم حفظه في سن باكرة .. ثم حضر خاله الاستاذ احمد خير وأخذهـ معه ليتم دراسته بمدينة ود مدني والحقه بالصف الرابع بالمدرسة الاولية .. وفي منتصف الصف الرابع ذهب الشريف الحسين لتلقي دراستهم الثانوية بكلية فكتوريا بالاسكندرية بمصر .
وإنضم معظم زملاء الشريف الي الاحزاب الاتحادية التي اندمجت في الحزب الوطني الاتحادي عام 1953م ، وكان عدم إنضمام الشريف لهذه الاحزاب مثار تساؤل ، غير أن بعض المقربين كانوا يعرفون ان من رأي الشريف أن الطائفية ينبغي ان تبتعد عن العمل السياسي الحزبي ، وبعد إعلان دمج (الحزب الوطني) في (الوطني الاتحادي) سجل الزعيم اسماعيل الازهري رئيس الوزراء ورئيس (الحزب الوطتي الاتحادي) علي رأس وفد من الحزب والحكومة ، زيارة الي قرية (العقدة) والتقي بآل الهندي في معقلهم .. وبعد تلك الزيارة ، أعلن الشريف حسين إنضمامه رسميا الي (الحزب الوطني الاتحادي) .
وفي عام 1958م ترشح الشريف في دائرة الحوش عن (الحزب الوطني الاتحادي) وكان في الوقت نفسه مشرفا علي الانتخابات في دارفور ، وقد فاز في دائرته فوزا كاسحا .
وكان الشريف علي صلة وطيدة بكثير من حركات التحرر الوطني ويساعد بعضها في الحصول علي السلاح ، وكان يشرف علي معسكرات المقاتلين السودانيين المقامة بليبيا واثيوبيا ضد نظام نميري العسكري ، وكان من المناصرين بشدة لحركات المقاومة من اجل التحرر في العالم عموما وفي افريقيا ، وقد كلفه عبدالناصر القيام بمحاولة لخطف الرئيس الكنغولي ’’باتريس لوممبا‘‘ وكادت محاولته ان تصل الي غايتها لولا ان خصوم ’’لوممبا‘‘ أقتادوهـ قبل وصول ’’الشريف‘‘ الي مكان مجهول وقتلوهـ .
ولخروج الشريف من السودان قصة طويلة معروفة في تاريخ السودان - تخللتها وحدثت بعدها احداث جسام في رحلة حياة عامرة بالمواقف .
وقد قضي الشريف اخريات ايام حياته في العبادة وتلاوة القرآن .. وتوفي في اثينا في يوم 9 يناير 1982م .. وكان قد تزوج في أخريات العهد الحزبي الثاني من كريمة الخليفة احمد عبدالوهاب .. ولم يخلف أبناء ، ولكنه خلف في الدنيا صوتا داويا .

****
من يومها حاولت ان اضم الزحف الكبير الذي يتجه الي الازهري كل صباح ، الي الزحف الذي يتجه نحوي ، وكلا الزحفين يبتدئان من الغفير والجنايني والزيات الي استاذ الجامعة ، وحسب الطريقة السودانية ، وحسب التقاليد السائدة فعليك ان تستقبل الكل بكل الاحترام مهما طال الوقت وبكل الانتباهـ ، ثم تجاوب وتستجيب ، وعليك بعد ذلك ان تعمل للدولة وعلي حساب يومك وأكلك ، وكل ما يتبع ذلك ، ولاعذر ، فلقد كنت ارتدي ملابس الخروج كل يوم في الحمام ، ومع هذا يمتلئ حتي الحمام بالناس .
الي متي سيستمر ذلك ؟ وماذا لو جاء الي السلطة قطاع من الجيش نظيف ووطني ومتجانس ؟ ألن يكون ذلك قادرا علي أداء التغيير وإحداثه ؟ إذن لماذا الرجوع ؟
واعترف إني ضعفت علي الاقل إذا حدث فاستطيع أن اكل ، وانا الان يتفضل علي بعض الاصدقاء بالاكل ، واستطيع ان انام ، وانا الان لا اطمع فيه واستطيع ان ارتاح ، وقد تراكمت علي السنين وانا اجري بلا نهاية ، ما الذي سأفقدهـ لقد دخلت هذا الحكم غنيا ، فإفتقرت ، وصحيحا فمرضت ، وقارئا فإنقطعت عن القراءة ، وصرفت نفسي بصعوبة عن هذا التفكير الشخصي الاناني .

كلمات محجوب في إحتفال وحدة حزب الامة ظلت تدوي في أذني - خير لكم ان تتفقوا ضدنا من ان تختلفوا علينا ، وتري ما الذي يقصدهـ ؟ أهي مجرد محسنات لفظية ؟ هو مولع بها ومبدع فيها ؟ أم هي تحمل معاني ومحاذير أكثر من ذلك ؟ وقطع علي سبل التفكير توقف العربة ووقوفها امام اول حواشة في اول مكتب من مكاتب شمال غرب الجزيرة وترجلت .
واستمرت عمليات اللقيط طوال اليوم ، الي ان جاوزنا قرية (طابت) وكان عبء الاصلاح الزراعي القي علي عاتقي في يوليو ، وكان المحصول يبشر بنتائج باهرة ، وارضه مليئة بالحشائش ولم يجنه بعضهم .
بعد التاسعة مساء كنت علي موعد مع الاخ سيداحمد عبدالهادي ، ووجدت معه امير الصاوي ، وحسين حمو ، أكبر مسؤولي الامن ، وكانت مواعيد طوافي علي الفرق والثكنات قد فاتت ، ولبثت مرهقا لا استطيع لها سبيلا ، والغيت مواعيد الاخ سيداحمد مع السيد محمد عثمان ليلتها حول مشاكل تأليف الوزارة ، وحوالي الحادية عشرة أستأذنت وقرب منزل السيد الصادق انتابني سنة من النوم مردها الارهاق البدني والفكري والعصبي ، وخرجت العربة من الطريق ، وكادت تقتحم منزل السيد الصادق ، وهنا أستيقظيت وعدلت مسارها ، وادركت انني بحالتي هذهـ لن ادرك منزلي سالما ، فاتجهت الي استراحة الجزيرة علي بعد امتار وكنت اتخذ منها بديلا لمحاولة العمل ، وقابلني عم رجب بوجهه البشوش الشجاع في عينيه عتابه المكبوت لي . وفي فمه نصائحه المتكررة ، بمحاولة الاحتفاظ بما بقي من صحتي ودخلت بكامل ملابسي واستلقيت علي سرير في (الفرندا) وكان هذا لتمضية ساعتان من النوم وسببا لعدم إعتقالي ذلك اليوم .
لم تمض ساعة او بعض الساعة وانا مستغرق في إغفاءة قلقة هي اقرب الي الاغماء منها الي النوم الهادئ العميق حتي استيقطت علي صوت ضربات عالية علي باب الغرفة المغلق ، وكنت متعودا علي طرقات آخر الليل ، وزيارات طارق الليل الذي يتصيد الاوقات ، ليحكي مشاكله في هدوء ، ويحاول ان يجد لها حلولا والاوقات هذهـ معروفة عند الذين يعرفون ساعات الانقضاض ، علي سياسي من المسؤولين امثالي ، عند الفجر أو الظهر - عند الغداء أو القيلولة - أو الهزيع الاخير من الليل . وهنا يخلو لهم الجو بدون الزحمة .
وسألت الطارق في صوت ضعيف منهك ، ’’من هذا؟‘‘ وأجاب في إنفعال يشوبه قلق وتوجس أثار إنتباهي ’’أنا‘‘ وأرجو أن تقابلني لأمر هام ، وأسترسلت وانا احاول مغالبة الوهن والانهاك ، ألا يستطيع هذا الامر ان ينتظر للصباح ؟ قلتها في رجاء وتوسل ، ورد في صراحة واصرار ، لايمكن أن ينتظر دقيقة واحدة ، هو امر خطير لايتعلق بشخصي . وتثاقلت وفتحت الباب ، وكان الطارق شخصا مخلصا وفيا ، قليل التردد عديم المطالب ، ولم ينتظر بل إنفجر ’’هناك حركة غريبة في الشوارع ، الجيش نزل .. كنت في منزل عرس بالمقرن ، وفي طريقي تابعت سيارات من الجيش تملأ الطرقات‘‘ .
ولم اكن محتاجا لكثير من الشرح والتفصيل .. وادركت الامر في لحظة ، فقد كنت اتوقعه واتجهت الي سروالي والقميص ، ولم تمض دقيقة حتي تبعته الي الخارج وانا احمل مفتاح عربتي الصغيرة ، وفي صمت دخلت العربة ، فأوقفني وطلب مني الدخول لعربته ، واتجهنا الي منزل السيد رئيس الوزراء علي بعد دقائق ، ووصلناهـ وجنود المظلات ينزلون من سياراتهم ويفتشون رجل البوليس ، ويقتلونه ، وطلبت من صديقي مواصلة السير الي القيادة العامة ، فوجدت إنها احتلت ، وامامها ثلاث مدرعات ، ثم انطلقنا عبر كوبري النيل الازرق الي الخرطوم بحري صوب سلاح الاشارة واوقفنا في كوبري ، وذهبنا صوب معسكر الشجرة ، ووجدنا ان المدرعات والانقلابيين قد سبقونا ، ولم يبق إلا سلاح المهندسين وكان الجنود قد قاموا بحراسة الكوبري ، وقابلتنا السيارات وهي راجعة . ادركت بعد هذهـ الزيارات السريعة ، ان المرحلة الاولي من الانقلاب قد تمت ، فقررت ان اختفي بعض الوقت ، حتي احدد التحرك المقبل .
كنت اعلم ان الانقلاب اذا تجاوز المرحلة الاولي ، وتمتع بعنصر المباغتة ، فإنه سيبقي ويوطد اقدامه ، وكان هذا هو الذي حدث ، وبقي ان افكر في طريقة مقاومته في وقت آخر لاحق ، وذهبت الي مخبأ مأمون لايخطر علي بال احد لكي استطيع التفكير ، لكن .. إذا كنت قد تمكنت من دخول أية قيادة واستنفرتها ، كان يمكن ان نقاوم الانقلاب وربما نقضي عليه ، ولكن الصديق رغم اهتمامه ، كان قد وصل الي متأخرا ، ليس اكثر من ساعة واحدة فقط ، ولكنها كانت ساعة فاصلة .
حاولت من المخبأ العثور علي سيارة تنقلني الي شندي أو القضارف ، وكانت هذهـ أخر فرصتي لمقاومته ، قبل ان يستجمع انفاسه ، ولكنها الساعة الواحدة ، ولم يبق بعد ذلك إلا مواجهته ، واصبح الصبح .. فإذا الدبابات تحيط بكل الامكنة وخرجت مستترا .
كان الجنود قلة وجددا ، يظهر عليهم الاستهتار ، وكان عددهم ليس كبيرا يجلسون علي الارض بجانب مدرعاتهم وكان من الممكن لآية قوة تملك خمسين مدربا بأسلحتهم ان يقضي عليهم ، وكان من الواضح انهم لايدرون خطورة ما اقدموا عليه . وكان ممكنا ان ينقضوا عليه نفسه ، إذ إنهم كانوا محنطين وكسالي وفاقدي الحماس ، وليس لديهم قناعة بما يضحون من اجله ، وكنت مدركا ان مثل هذهـ الانظمة إذا وطدت اقدامها ، وكلما طال بها الزمن ، صنعت لها ركائز ، وانضم اليها اخرون ، ورسخت اقدامها ، ولم يكن ممكنا جمع خمسين شخصا مسلحين آنذاك ، وكانوا كافين لهزيمتهم ، فبقيت في دار صديقي - كهربائي الطيران - اضرب اخماسا بأسداس ، وساعات تمر كلها مكرسة لحماية الانقلاب ، وتلا نميري بيانه من الاذاعة وتساءلت مع نفسي ، ’’لم لانعطيهم الفرصة ليجربوا ؟ فقد يكونون اقدر علي مواجهة الموقف؟‘‘ .
إن بيانه لم يثر في نفسي شيئا جديدا ، ولم يزد في حماسي لاحباط الانقلاب .. بيان عادي لم اعتقد انه موعز به من جهة ، وانه مستورد ، ربما مجرد شهوة الحكم لكل من يحمل السلاح والناس عزل ، او كل من يسبق بائع اللبن والناس نيام .
نقلا عن المجهر السياسي



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 04-01-2021, 10:42 PM   #[3]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

اقتباس:
[
جريدة المجهر الاحد 4 نوفمبر 2012م الموافق 19 ذوالحجة 1433هـ
العدد 195

رحلة في طيات الكتاب - لوطني وللتاريخ .. مذكرات الشهيد الشريف حسين الهندي
’’الازهري الزعيم‘‘ يعتقل ’’الشريف الهندي‘‘ في القصر الجمهوري لتحسين حالته الصحية !! .

الحلقة الثالثة

إعداد خادم التراث / محمد الامين الشريف عمر الهندي
هو الشريف الحسين بن الشريف يوسف (الهندي) بن الشريف محمد الامين ، بن الشريف يوسف بن الشريف احمد بن الشريف زين العابدين بن الشريف حمد بن الشريف آدم بن الشريف محمد الشهير بالهندي ، الذي علق به لقب الهندي لأن مرضعته في مكة كانت هندية الاصل .
ولد الشريف حسين في عام 1924م ، ونشأ وترعرع بضاحية بري الشريف شرق الخرطوم ، وقد الحقه والدهـ بالخلوة لحفظ القرآن الكريم ، فأتم حفظه في سن باكرة .. ثم حضر خاله الاستاذ احمد خير وأخذهـ معه ليتم دراسته بمدينة ود مدني والحقه بالصف الرابع بالمدرسة الاولية .. وفي منتصف الصف الرابع ذهب الشريف الحسين لتلقي دراستهم الثانوية بكلية فكتوريا بالاسكندرية بمصر .
وإنضم معظم زملاء الشريف الي الاحزاب الاتحادية التي اندمجت في الحزب الوطني الاتحادي عام 1953م ، وكان عدم إنضمام الشريف لهذه الاحزاب مثار تساؤل ، غير أن بعض المقربين كانوا يعرفون ان من رأي الشريف أن الطائفية ينبغي ان تبتعد عن العمل السياسي الحزبي ، وبعد إعلان دمج (الحزب الوطني) في (الوطني الاتحادي) سجل الزعيم اسماعيل الازهري رئيس الوزراء ورئيس (الحزب الوطتي الاتحادي) علي رأس وفد من الحزب والحكومة ، زيارة الي قرية (العقدة) والتقي بآل الهندي في معقلهم .. وبعد تلك الزيارة ، أعلن الشريف حسين إنضمامه رسميا الي (الحزب الوطني الاتحادي) .
وفي عام 1958م ترشح الشريف في دائرة الحوش عن (الحزب الوطني الاتحادي) وكان في الوقت نفسه مشرفا علي الانتخابات في دارفور ، وقد فاز في دائرته فوزا كاسحا .
وكان الشريف علي صلة وطيدة بكثير من حركات التحرر الوطني ويساعد بعضها في الحصول علي السلاح ، وكان يشرف علي معسكرات المقاتلين السودانيين المقامة بليبيا واثيوبيا ضد نظام نميري العسكري ، وكان من المناصرين بشدة لحركات المقاومة من اجل التحرر في العالم عموما وفي افريقيا ، وقد كلفه عبدالناصر القيام بمحاولة لخطف الرئيس الكنغولي ’’باتريس لوممبا‘‘ وكادت محاولته ان تصل الي غايتها لولا ان خصوم ’’لوممبا‘‘ أقتادوهـ قبل وصول ’’الشريف‘‘ الي مكان مجهول وقتلوهـ .
ولخروج الشريف من السودان قصة طويلة معروفة في تاريخ السودان - تخللتها وحدثت بعدها احداث جسام في رحلة حياة عامرة بالمواقف .
وقد قضي الشريف اخريات ايام حياته في العبادة وتلاوة القرآن .. وتوفي في اثينا في يوم 9 يناير 1982م .. وكان قد تزوج في أخريات العهد الحزبي الثاني من كريمة الخليفة احمد عبدالوهاب .. ولم يخلف أبناء ، ولكنه خلف في الدنيا صوتا داويا .


*****


إذا كان ذلك قطاعا وطنيا ، أراد ان يجرب حظه وعضلاته فليكن ، فهذا اصبح عمل الجيوش في العالم الثالث ، تشغل به فراغها المستمر ، فهي لا يمكن ان تحمس نشاطها داخل الثكنات الي ان تقوم الحرب ، ومتي تقوم ، لايمكن لمن درب علي القتال واعطي السلاح ان يحترم مدنيين مثلنا ، لايستطيعون استعمال السكين ، ويظل يحرسهم وهم وزراء وحكام بفضل سلاحه ، منطق معوج ، لماذا يحرس مدنيا مثلي ، وهو الذي يحمل السلاح . فيكون هو حارسا واكون انا حاكما ووزيرا !! .
لقد فطن الامريكان لهذا منذ مدة ، وكانت سياستهم ان الجيوش في البلدان المتخلفة اقوي تنظيما واكثر ضبطا وربطا من المؤسسات السياسية الهشة الحديثة ، زيادة علي انها مشبعة بالايديولوجية الغربية بحكم تدريبها ، إذن فهي اولي بالحكم واقدر علي تنفيذ السياسات والمخططات الغربية ، وإرغام الناس عليها بحد السلاح وان البلدان المتخلفة لاتستحق الديمقراطية . لذا فإن الجيوش يجب ان تخلف الاستعمار ، الذي سارع بالرحيل ، حسب تفكيرهم . سابقا لأوانه . فالديمقراطية لاوربا ، وليس لافريقيا واسيا وامريكا اللاتينية أو السودان - وهكذا ومنذ عهد حسني الزعيم كانوا وراء حمي الانقلابات التي سادت العالم الثالث ، وكانوا هم الكتاب لكل بيان - لهم الديمقراطية والرفاهية ولنا القهر والفقر .
ولقد دخلنا قبل ذلك في الحلقة ، وكنا نعتقد اننا قد اخذنا كفايتنا منها ، وان شعبنا قد برهن أنه لايمكن ان يكون كبقية الدمي التي تحرك من غرفة بعيدة في البنتاجون ، ولكن قد نكون .. قد إنتكسنا او ضعفنا ، أو خرجنا عن الطاعة فحق علينا العقاب ، فليكن ضباط من الجيش الوطني ، قطاع من قطاعات الشعب السوداني - اراد او اريد له ان يجرب ، فشعبنا جبار وحزبنا ليس مثل بقية الاحزاب الليبرالية التي تهاوت في المنطقة العربية والافريقية واللاتينية ، فالديمقراطية في دمائنا ، ولن تزول الي ان نسكب آخر قطرة من هذهـ الدماء .
كان هذا هو شعوري عند تلاوة البيان الاول لنميري ، واقنعت نفسي الا داعي للقلق ، فقد كنت متوقعا ذلك متوجسا منه ، فلم افاجأ كثيرا ولم اهتز ، وجاء البيان الثاني من بابكر عوض الله - رئيس الوزراء وحفظت كلمات كلمة كلمة ، وتمعنت في وزارته من (10) وزراء ، أي ثلاثة ارباع المجلس شيوعيون - اغلبهم اعضاء في اللجنة المركزية - ومنهم متعاطفون ورفقاء درب وواحد او إثنان من الضعفاء الواقفين علي السياج المستطعمين في كل مائدة الراقصين علي اي نغم .
وهنا اختلفت نظرتي لايمكن ان نرضي بهذا ليس هذا هو الجيش السوداني ، حفنة منه ارادت بسلاح الشعب وبقوة الجيش وعنفه ان تحكم اقلية علي كل الناس وان تفرض ايديولوجية بقوة السلاح ، عجزت ان تفرض نفسها بالقبول والرضا والمنطق ، وارادت ان تحتمي وراء قوة الجيش - وتسميها ثورة وبطشه وتسميه عنفا ثوريا ، تحارب كل وجهات النظر وتفرض واحدا منها ، هي اقلية الاقليات وتعتنقها كأيديولوجية ، وترغم الناس - كل الناس - علي إعتناقها بقوة البندقية تحل كل الاحزاب السياسية وتفرض واحدا منها تحت ستار الثورة وبحماية القوات المسلحة .
وتذكرت فقرة في خطاب رئيس الوزراء هي قبول قرار مجلس الامن رقم (242) وتذكرت رفضنا له ، وزيارة حسن صبري الخولي لإقناعنا ورفضنا الإقناع وتمسكنا بعدم المساس بالقضية الفلسطينية ، إذا ليست هذهـ هي القوات المسلحة الوطنية ، وليست هذهـ انتفاضتها .
إن اصابع الخارج واضحة وملموسة ، هو إنقلاب مستورد بحمي نظرية مستوردة ويخدم أغراضا مستوردة ، ويفرض أيديولوجية مستوردة وبحكم اقلية اممية ويتسربل بشعارات مستوردة ، إذن فالذي ذهب ليس هو الحكم أو النظام ولا حتي الديمقراطية ، بل هو الذاتية السودانية ، والكيان والهوية الوطنية ، والاستقلال نفسه ، والذي اتي ليس هو الجيش وإرادة التغيير والحكم المستقر ، بل هو مسخ مستورد مفروض بقوة السلاح ، يحمي الافكار الخارجية وشعارات اجنبية ، ووجودا دخيلا وايديولوجية مفروضة تسندها اسنة الرماح .
لقد اصبح واصبحنا . مستعمرين وكنا احرارا ، وصرنا عبيدا ، وكنا أسيادا طلقاء فارقنا الاستقلال ، وعانقنا استعمارا جديدا ، بوجه حديث هو انكي واقسي من الاستعمار الذي طردناهـ .
وسرت في جسدي قوي غلابة إنحسر معها الوهن والضعف الذي كان يلازمني ، وتلاشت حالة اللامبالاة ، وحلت ملحها قوة جبارة ، ملأت جسدي وروحي وعقلي ، وغمرني إحساس بالتحدي سري كالاعصار في حواسي وملأ كل جوارحي ، تضاءلت بجانبه العواطف الحزبية ، وسمت المشاعر الوطنية والولاء الحزبي هو طريق المواطنة في بلد مستقل ليخدم أهله إجتماعيا واقتصاديا وسياسيا ، وبما انه لم يعد هناك وطن مستقل فلا محل للولاء الحزبي إذ انه إذا كان صادقا ، يترك فراغه لتملأهـ الروح الوطنية ، لتكافح لإعادة الوطن السليب المستعمر حتي تكون ارضه خصبة للعقائد الحزبية .
وقررت وحدي - إذ لم يكن بجانبي زميل او صديق - ان اقاوم هذا الخطر بكل قواي حتي ولو باظافري واسناني ، وان احتفظ بولائي الحزبي نظيفا ، ولكن بعيدا لأكافح - مع من يستطيع - لإستعادة الحرية والاستقلال لوطننا ، وكانت هذهـ هي قناعتي واسبقيتي الاولي ، وكان منطلقها هو ان الولاء الحزبي هو استمرار للولاء الوطني وتعميق وإثراء له ، وإذا تداعي الوطن فهو الاولي والاسبق والاحق بالكفاح من أجله . وعندها قررت أن احتفظ بحريتي كاملة حتي استعمل كل ثانية منها لرد هذا الخطر الداهم ، الذي يهدد كياننا وذاتيتنا .
وكان الحفاظ علي الحرية من اجل الخلاص الوطني ، عملية صعبة إمتلأت بالتحدي والمغامرات والتعب والعرق والدم والدموع ، استمرت وانا داخل السودان ستة اشهر ولاتزال مليئة بالمعارك والخوف والقلق والثبات والصمود ، والسودانيون لايؤمنون بالتمتع بالحرية من أجل الكفاح ، بل يفضلون ان يقدم الانسان نفسه للسجن وطاقاته للحبس ، دليلا علي الشجاعة والفداء ، ورفضت هذا المنطق ، إذ كيف اقدم نفسي كالحمل لكي أسجن مع طاقاتي ، واحرم نفسي وبلدي من مساهمتي في تحريرها واقدم يدي خائفا ومختارا للحبس .
علي المعلوم التقليدي إن هذا هو ارقي مراتب الشجاعة والفداء وتقاليد القبول بالسجن من سلطة غير شرعية وتسليم ، المناضل نفسه لها لكي تسجنه وتشل امكانياته ، كان حتي ذلك الوقت دليل الشجاعة ، وتجسيد الثبات ، وخرقت هذا التقليد وإنتهكته ، واستعملت الاسلوب الحديث عليً وعلي السودان وهو ان احتفاظي بحريتي هو بداية المعركة لإستعادة حرية الاخرين ، وفي ذلك تهون كل التضحيات .
وتحملت النكات والصور الكاريكاتيرية وهمس الناس ولمزهم والاغاني والدوبيت ، وحتي نكاية الصحف والناس ، واصبح لقبي (الشريف الهارب) فما اجمله والذهـ من نداء ، استمرت اللعبة بيني وبين الحكومة بكل قوات جيشها وشرطتها وسجونها وأمنها ، وكل خبرات حلفائها المحليين والعالميين ، وكانت حيث مختلف طبقات الشعب السوداني ومتابعته ، وعجزت الحكومة مع كل هذهـ الامكانات في ان تضع يدها علي رجل واحد لاحول له ولاقوة ، وفي الوهلة الاولي جندت الحكومة كل طاقاتها كأنما تقول إن (الشريف الهارب) إذا لم يقبض عليه فلن يكون للنظام إستقرار ولا راحة ، فلم تنم ولم تتركني انام .
وكان هذا هو الشئ الوحيد الذي صدق فيه حدسها وصح استنتاجها ، ولمدة تسع سنوات فلو كانت قد القت يدها علي لإستراحت في كثير من الذي حدث ، ولعلها تحاول الان ولكن بوسائل اخري ، وكلنا يعرف الاخر ، وكلنا يقظ وفطن ، ويساورني مرات كثيرة الشك فيما اقوله ، فبما غير هزيمة السلطة في معركة حريتي الشخصية فقد كانت الرؤية المستقبلية كلها ركاما من الظلمات بعضها فوق بعض ، ولم يكن هناك وقت لتخطيط واضح ، في كيفية مصارعة النظام واسقاطه ، وفي بعض المرات كنت اسائل نفسي ولماذا ؟؟
وبالنسبة الي شخصيا .. ألم أكن مطاردا مثل هذهـ المطاردة طوال اربع وعشرين ساعة ؟ لقد كنت وزيرا ، فهل كانت لي سلطة الوزير وهيبة الوزير! وراحة الوزير وأكل الوزير ، ومسكن الوزير وملبس الوزير ؟ ألم أكن اكثر الناس إجهادا ! وأقلهم تغذية وأتعسهم نوما ؟ ألم أكن مطاردا بمثل هذا العدد من المواطنين في المنزل والمكتب وحتي الطريق ، حتي اضطررت لمواصلة العمل الوزاري بعد العاشرة مساء وحتي تباشير الفجر ، وكم مرى سقطت ، ويومها فحصني الطبيب ثم فحص بدقة اكثر ، ثم إبتسم وقال : ورنة صوته يغالبها التهكم المكبوت ، إنه سوء تغذية ، إنه جائع ، ولعلي أول وزير في تاريخ الحكم والحكام ، كان مرضه انه جائع ، ويوم (اعتقلني) الرئيس الازهري في القصر الجمهوري وامر بمواصلة تغذيتي ، وكان يرد علي المستفسرين المشفقين بلهجة الواقعية الحانية ’’إن الشريف ليس مريضا .. إنه جائع‘‘ ثم يردف ذلك بضحكته التي تبعث السرور وتشيعه علي الحضور .
وفي مساء يوم ما ، حضر إلي ’’م‘‘ وكان احد ملازمي الامام الهادي المقربين ، موضع السر ومحل الثقة وهمس في أذني : ’’يقول لك الإمام إذا بللت رأسك للحلاقة ، فأحلقه عندي في الجزيرة ابا‘‘ .
كانت صلتي بالامام الهادي قوية وثابتة ، لم يؤثر عليها مرور عشرات السنين ولا عبور العديد من المشاكل ، ولا إختلاف الانتماءات السياسية وكان تقديري لصفاته الخلقية ، ولدينه ووطنيته واستقامته وامانته ووفائه ، وليدة التجربة المستمرة والمعايشة الدائمة ، منذ كنا اطفالا وكان يكبرني ببضع سنوات .. ولم تكن وليدة الاسم ولا اللقب ولا الاسرة بل هي ثمرة التجربة الطويلة المتواصلة والاختبار اليومي في صغار الامور وفي كبارها . خلق بيننا ثقة متبادلة ومحبة متواصلة .
وكنت اعرف انه المتدين ليس بالوراثة ، والامين ليس بالاسرة ، والوفي بغير اللقب ، والشجاع لا بالولادة ، بل بالمعدن والاصل والطبع والخلق . وكنت اعيش مشاكله وآلامه ، وآماله ومثله وقيمه كما لم يعشها ولم يعرفها اقرب الناس اليه من افراد اسرته ، واستطيع ان أؤكد بالامس واليوم وغدا إنه منذ الامام المهدي والي اليوم لم تلتحم جماهير الانصار بشخص ، أيقظ فيها نفس الشحنة الدينية التي صنعت (المهدية) ولم يعاشر الانصار من يقاربه تدينا والتحاما بهم ، واقترابا بمشاعرهـ مثله ، وليس بذلك غرابة ، فقد كان تدينه الفطري واستقامته الغريزية وامتزاجه بالبسطاء الطيبين - رهبان الليل وفرسان النهار - المتهجدين اوان السحر والمتواجدين لدي (راتب الفجر) التاركين متاع الدنيا ، وملذاتها وصغائرها وراءهم ، والمستقبلين رضا الله ، الساهرين في سبيل مرضاته الخبيرين بلقائه والمستبشرين برضاهـ ، والباذلين النفس والنفيس في نصرة دينه ، كان هؤلاء هم احب البشر اليه ، مما جعله مثلا لفرسان عصور الاسلام الزاهرة ، وبقية السلف الصالح الذي انقرض منذ عهود غابرة ، وكنت مستودعا لأدق اسرارهـ وشريكا اصيلا وفيا له في مسارهـ ، فلم استغرب رسالته بل اسرعت لتلبيتها لأقف بجانبه ، وحتي لأموت دونه أو معه وبلادنا تمتحن في دينها وكرامتها واستقلالها ، فانا اعرف مشاعرهـ وتصرفاته ، ومواجهته لمثل هذهـ الامتحانات القومية المصيرية .
وسرحت بعيدا بفكري والسيارة تلتهم الطريق الملئ بالحواجز والحراسات ، سرحت بعيدا سنين طويلة ، ومر امامي شريط التاريخ يطوي السنين القهقري ، تذكرت الامام المهدي وهجرته في (قدير) وتذكرت جدي الشريف محمد الامين الهندي وهو يعلم ابناء المسلمين القرآن في الرهد ، وقد شارفت سنه المائة عام ، وتذكرت وضعه الاجتماعي يومها ، إذ كان والدي يذكرني بذلك كلما رآني مزهوا بردائي الافرنجي ، وانا قادم في العطلة من كلية فيكتوريا بالاسكندرية قائلا : (من انت ؟ ومن الذي تعتقد انك وارثه ؟؟ جاها او مالا ؟ الا تعلم ان جدك كان يغالط من معه ، أهذا قرش او (تعريفة ؟) طوال اليوم ، وهو لايعلم الفرق بينهما ، أتعتقد انك حفيد الاغنياء ؟؟ أو وارث لأهل طريقة صوفية ما انتم إلا حفدة فقراء .. كل مجدهم هو تعليم القرآن .. وإشعال نارهـ في (مرنات) - بجوار شلال السبلوقة الي (نوارة) بالدندر والي الرهد ، وكل ما لديكم .. ولدي الله والناس . هو تعليم القرآن ، ثم يصمت وعلي وجهه الصبوح الاشيب ، يتلون الاسي بالغضب ويردف : ’’كل مخلوق يولد علي الفطرة ، وابواهـ يهودانه أو ينصرانه ، وكنت قبل ان اذهب لكلية فيكتوريا قد حفظت القرآن تلاوة وتجويدا .
SIZE="5"][/SIZE]
نقلا عن المجهر السياسي



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 15-01-2021, 06:25 PM   #[4]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

اقتباس:

جريدة المجهر الاثنين 5 نوفمبر 2012م الموافق 20 ذوالحجة 1433هـ

العدد 196

رحلة في طيات الكتاب - لوطني وللتاريخ .. مذكرات الشهيد الشريف حسين الهندي
’’سلاطين‘‘ يحجم عن إعدام الشريف ’’يوسف‘‘ في الحظات الاخيرة خوفا من العواقب !! .
الحلقة الرابعة
إعداد خادم التراث / محمد الامين الشريف عمر الهندي
هو الشريف الحسين بن الشريف يوسف (الهندي) بن الشريف محمد الامين ، بن الشريف يوسف بن الشريف احمد بن الشريف زين العابدين بن الشريف حمد بن الشريف آدم بن الشريف محمد الشهير بالهندي ، الذي علق به لقب الهندي لأن مرضعته في مكة كانت هندية الاصل .
ولد الشريف حسين في عام 1924م ، ونشأ وترعرع بضاحية بري الشريف شرق الخرطوم ، وقد الحقه والدهـ بالخلوة لحفظ القرآن الكريم ، فأتم حفظه في سن باكرة .. ثم حضر خاله الاستاذ احمد خير وأخذهـ معه ليتم دراسته بمدينة ود مدني والحقه بالصف الرابع بالمدرسة الاولية .. وفي منتصف الصف الرابع ذهب الشريف الحسين لتلقي دراستهم الثانوية بكلية فكتوريا بالاسكندرية بمصر .
وإنضم معظم زملاء الشريف الي الاحزاب الاتحادية التي اندمجت في الحزب الوطني الاتحادي عام 1953م ، وكان عدم إنضمام الشريف لهذه الاحزاب مثار تساؤل ، غير أن بعض المقربين كانوا يعرفون ان من رأي الشريف أن الطائفية ينبغي ان تبتعد عن العمل السياسي الحزبي ، وبعد إعلان دمج (الحزب الوطني) في (الوطني الاتحادي) سجل الزعيم اسماعيل الازهري رئيس الوزراء ورئيس (الحزب الوطتي الاتحادي) علي رأس وفد من الحزب والحكومة ، زيارة الي قرية (العقدة) والتقي بآل الهندي في معقلهم .. وبعد تلك الزيارة ، أعلن الشريف حسين إنضمامه رسميا الي (الحزب الوطني الاتحادي) .
وفي عام 1958م ترشح الشريف في دائرة الحوش عن (الحزب الوطني الاتحادي) وكان في الوقت نفسه مشرفا علي الانتخابات في دارفور ، وقد فاز في دائرته فوزا كاسحا .
وكان الشريف علي صلة وطيدة بكثير من حركات التحرر الوطني ويساعد بعضها في الحصول علي السلاح ، وكان يشرف علي معسكرات المقاتلين السودانيين المقامة بليبيا واثيوبيا ضد نظام نميري العسكري ، وكان من المناصرين بشدة لحركات المقاومة من اجل التحرر في العالم عموما وفي افريقيا ، وقد كلفه عبدالناصر القيام بمحاولة لخطف الرئيس الكنغولي ’’باتريس لوممبا‘‘ وكادت محاولته ان تصل الي غايتها لولا ان خصوم ’’لوممبا‘‘ أقتادوهـ قبل وصول ’’الشريف‘‘ الي مكان مجهول وقتلوهـ .
ولخروج الشريف من السودان قصة طويلة معروفة في تاريخ السودان - تخللتها وحدثت بعدها احداث جسام في رحلة حياة عامرة بالمواقف .
وقد قضي الشريف اخريات ايام حياته في العبادة وتلاوة القرآن .. وتوفي في اثينا في يوم 9 يناير 1982م .. وكان قد تزوج في أخريات العهد الحزبي الثاني من كريمة الخليفة احمد عبدالوهاب .. ولم يخلف أبناء ، ولكنه خلف في الدنيا صوتا داويا .

*****

وكان واجبي ان اقعد علي ركبتي وارتله له كل فجرا ، ولم اكن قد تجاوزت التاسعة وقتها ، وكان والدي اتعس الناس عندما ذهبت للتعليم المدني ، ولكنه فعل ذلك مرضاة لخالي الذي كان يعزهـ ، وللإمام عبدالرحمن المهدي ، وهو يقول تأسيا بقول الرسول ’’صل الله عليه وسلم‘‘ (فليفعلوا ما ارادوا فإنهم اهل بدر) .
وذهبت مع ابنه الهادي وتولي (عطر الله ثراهـ ، وجعل قبرهـ روضة من رياض الجنة) رعايتي والانفاق علي تعليمي ، وكنت احد ابنائه ، أحضر إجتماعات الاسرة ، وكان يضع يدهـ علي رأسي .
ويقول ’’الله يبارك لك في ذكائك يا حسين‘‘ .
وكنت صريحا معه علي صغر سني .
فكنت اسأله ’’هل هناك ذكاء مبارك ، وأخر غير مبارك ؟‘‘
وكان يطرق ، ويقول ’’نعم‘‘ .
وهكذا أمضيت طفولتي وصدر شبابي ، قريبا منه ، اكثر من أغلب ابنائه وكاد يزوجني لولا حدوث مشاكل اسرية وشللية من بعض الاقارب ، هي التي اخرت زواجي ثلاثين سنة ، وانا علي قسم . ألا أتزوج مدي الحياة ، وترتب علي ذلك مشاكل عاطفية ، ـ لاتزال آثارها محل المعاناة ، ولا داعي لسرد تفاصيلها ، ولنرجع الي التاريخ القديم .
وحمل جدي جرابه وجسدهـ لايكاد يحمله وبقي مع الامام المهدي شهورا في الهجرة ، وعندما حان وقت الهجوم علي (الابيض) تزود ببضع كسرات من العيش المحروق ، وتقدم مع الامام ، وحاول الامام المهدي ان يثنيه ويرجعه ، ولكنه - ورجلاهـ لا تحملانه - كان يقابل ذلك بالرفض والاصرار عليه ، حتي قال له الامام المهدي ، إنا لا استطيع ان اتركك ، ولكن سرعتنا هذهـ تعطل زحف الجيش ، وقد يستفيد منها الاعداء ، ارجوك ان ترجع واجرك هو اجر المجاهد . وان تسأل لنا الله النصر ، فبيدك اسم الله الاعظم ، وسر السلاح ، وهنا فقط رجع جدي والحسرة والالم يقطعان نياط قلبه ، ولم تمض ايام حتي لبي نداء ربه .
وتذكرت عمي الشريف علي ، مهاجما لسنار حتي فتحت ، وهي آخر قلعة من قلاع الاستعمار ، واستشهد هناك وقبرهـ لايزال في قرية (الشريف) بجوار (الخزان) وجاء دور ابي وكان في الخامسة عشرة ، وقاد جيشا للرباط في (المتمة) علي الحدود الشرقية للسودان - وظل يقاتل سنين حتي استولي (كتشنر) علي ام درمان ثم رجع وهو يقاتل (الشفتة) وقاطعي الطريق ، حتي استقر في شرق النيل وغربه ، قرية (الربوة) ثم استمر في الدعوة وتجميع الناس حتي اعتقل في قرية (ودالعباس) وحمل بالباخرة الي سجن (كوبر) حيث بقي عدة سنوات ، ثم فرضت عليه الاقامة الجبرية ، بعدها في الخرطوم ، ثم في (بري) من ضواحي الخرطوم ، غرب النيل ، وظل فيها متفرغا للدعوة ، ولم يسمح له بالرجوع الي موطنه حتي مات .
وكتبت شلة من علماء ذلك الزمن عريضة وقعوا عليها ، مطالبين بإعدامه علي اساس انه يحضر لإحياء (الفتنة) ، ولم يوقع علي العريضة إلا (الشيخ ود البدوي) من اربعين عالما ، وكان (سلاطين) وقتها مفتشا عاما ونائبا عن (ونجت) الحاكم العام الذي كان غائبا - وجرت بينه وبين والدي المقابلة الطريفة الاتية : عندما احضر والدي له ، وهو مكبل بالاغلال .
(أتريد ان تصير مهديا يا ودالهندي ؟ ولم تكن إلا اميرا صغير السن والمقام ؟‘‘ ورد والدي عليه : إن الله علي كل شئ قدير . يا شويطين . فلقد كنت مؤذنا لنا ، واصبحت الان مفتشا عاما ، وكنت مسلما فكفرت بانعم الله وسيذيقك الله لباس الجوع والخوف‘‘) .
وكان (سلاطين) الذي هرب ودبر حملة استرجاع السودان ورجع معها - علي وشك تنفيذ حكم الاعدام ؟ وجاء (ونجت) فخشي من إثارهـ ، فبدله الي السجن ، وظل والدي وصلاته بالانجليز تحيطها الشكوك ومظاهر العداء ، وقطع اسلاك التلفون - التي كانت تربطه بهم ، وظل يجمع الصافنات من الجياد ، وسيوف المعارك الشهيرة ، ويكتب تاريخ السودان ، ولم يدع إلا مرة واحدة لحفل (التشريفة) الذي كان يقام في المساء وحان - وقتها - ميعاد صلاة المغرب ، فخرج من منضدة الحفل واذن لصلاة المغرب ، وانفرط عقد المدعوين اثناء تلاوة الحاكم العام لخطابه ، وامهم للصلاة ، ومن يومها شطب من كشف المدعوين للتشريفة .
وكنت اقضي ايام العطلة ، وانا اقرأ له الكتب طوال اليوم - في مكتبته (العربية الاسلامية) الضخمة إذ كانت عيناهـ قد ضعفتا ، واكتب له ما يملي علي من التاريخ ، إذ كان اصبعاهـ قد تقرحا ، حتي كان يربطهما الشاش ، وعاش بجسدهـ بيننا ، في سرير خشبي لا كساء له ، وروحه تهيم وتعيش في الدعوة الاسلامية ، وفي دولتها وهو يردد اناشيدها ، ويجمع ادبها وروائع معاركها ، حتي رأي قبسا من نور في دعوة مؤتمر الخريجين ، فأهداهم منزله الذي اصبح ناديا لهم ، وولدت فيه دعوة المؤتمر ويوم السودان ، ويوم التعليم والمذكرة التأريخية التي رفعها المؤتمرون للسكرتير الاداري ، وحزب الاشقاء ، ونادي الخريجين الذي كان ولايزال (شيخ الاندية) .
لابد اني سرحت طويلا ، ولكن للحق وللتاريخ ، فقد كنت سارحا طوال رحلتي للدرجة التي لم اعر فيها إنتباها طويلا لتبادل متعدد لإطلاق النار بين زملائي وبين بعض حراس الحواجز ، لقد شدني التاريخ حتي اصم اذني عن سماع ازيز الرصاص ، وحتي أزال مني مظاهر الخوف من الخطر ، وشعرت ان رحلتي هذهـ فيها تشابه كبير لماضي تاريخ بلادنا ، تمر بنفس الظروف التي كانت تمر بها قبل إندلاع الثورة المهدية ، حكم الاستعمار الثنائي أو المثلث ، ما كنت اتصورهـ واجزم بحدوثه ، من جوع ومن قهر اقتصادي وحكم بوليسي ما كنت اعلمه ، من تدهور اخلاقي لامحالة .

نقلا عن المجهر السياسي



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 15-01-2021, 11:05 PM   #[5]
imported_معتصم الحارث الضوّي
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية imported_معتصم الحارث الضوّي
 
افتراضي

أخي المحسي
شكرا جزيلا على هذا الجهد التوثيقي الذي تبذله، ناثرا وناشرا للمعرفة أينما حللت.
تسجيل حضور ومتابعة، خاصة وأن الفقيد من أطهر الساسة السودانيين وأنقاهم على الإطلاق.

تقديري الفائق



التوقيع: مدونتي الشخصية
http://moutassimelharith.blogspot.com/
قناتي على شبكة اليوتيوب
http://www.youtube.com/user/moutassi...h?feature=mhee

تويتر: @Melharith
imported_معتصم الحارث الضوّي غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 09-02-2021, 12:35 AM   #[6]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة معتصم الحارث الضوّي مشاهدة المشاركة

خاصة وأن الفقيد من أطهر الساسة السودانيين وأنقاهم على الإطلاق.
شكري الجزيل علي الحضور والمتابعة ..
وكما ذكرت فإن الفقيد من قيادات الإستقلال وكان صاحب نضال كبير .. وهذهـ بعض من بضاعته حملناها منه الي الاجيال القادمة ..
والشكر الجزيل لكل الحضور ..



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 09-02-2021, 12:56 AM   #[7]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

اقتباس:

جريدة المجهر الثلاثاء 6 نوفمبر 2012م الموافق 21 ذوالحجة 1433هـ العدد 197
رحلة في طيات الكتاب - لوطني وللتاريخ .. مذكرات الشهيد الشريف حسين الهندي
’’الجزيرة ابا‘‘ تمور بالجماهير .. والامام ’’الهادي‘‘ يتحدي انقلاب ’’مايو‘‘ !! .
الحلقة الخامسة

إعداد خادم التراث / محمد الامين الشريف عمر الهندي
هو الشريف الحسين بن الشريف يوسف (الهندي) بن الشريف محمد الامين ، بن الشريف يوسف بن الشريف احمد بن الشريف زين العابدين بن الشريف حمد بن الشريف آدم بن الشريف محمد الشهير بالهندي ، الذي علق به لقب الهندي لأن مرضعته في مكة كانت هندية الاصل .
ولد الشريف حسين في عام 1924م ، ونشأ وترعرع بضاحية بري الشريف شرق الخرطوم ، وقد الحقه والدهـ بالخلوة لحفظ القرآن الكريم ، فأتم حفظه في سن باكرة .. ثم حضر خاله الاستاذ احمد خير وأخذهـ معه ليتم دراسته بمدينة ود مدني والحقه بالصف الرابع بالمدرسة الاولية .. وفي منتصف الصف الرابع ذهب الشريف الحسين لتلقي دراستهم الثانوية بكلية فكتوريا بالاسكندرية بمصر .
وإنضم معظم زملاء الشريف الي الاحزاب الاتحادية التي اندمجت في الحزب الوطني الاتحادي عام 1953م ، وكان عدم إنضمام الشريف لهذه الاحزاب مثار تساؤل ، غير أن بعض المقربين كانوا يعرفون ان من رأي الشريف أن الطائفية ينبغي ان تبتعد عن العمل السياسي الحزبي ، وبعد إعلان دمج (الحزب الوطني) في (الوطني الاتحادي) سجل الزعيم اسماعيل الازهري رئيس الوزراء ورئيس (الحزب الوطتي الاتحادي) علي رأس وفد من الحزب والحكومة ، زيارة الي قرية (العقدة) والتقي بآل الهندي في معقلهم .. وبعد تلك الزيارة ، أعلن الشريف حسين إنضمامه رسميا الي (الحزب الوطني الاتحادي) .
وفي عام 1958م ترشح الشريف في دائرة الحوش عن (الحزب الوطني الاتحادي) وكان في الوقت نفسه مشرفا علي الانتخابات في دارفور ، وقد فاز في دائرته فوزا كاسحا .
وكان الشريف علي صلة وطيدة بكثير من حركات التحرر الوطني ويساعد بعضها في الحصول علي السلاح ، وكان يشرف علي معسكرات المقاتلين السودانيين المقامة بليبيا واثيوبيا ضد نظام نميري العسكري ، وكان من المناصرين بشدة لحركات المقاومة من اجل التحرر في العالم عموما وفي افريقيا ، وقد كلفه عبدالناصر القيام بمحاولة لخطف الرئيس الكنغولي ’’باتريس لوممبا‘‘ وكادت محاولته ان تصل الي غايتها لولا ان خصوم ’’لوممبا‘‘ أقتادوهـ قبل وصول ’’الشريف‘‘ الي مكان مجهول وقتلوهـ .
ولخروج الشريف من السودان قصة طويلة معروفة في تاريخ السودان - تخللتها وحدثت بعدها احداث جسام في رحلة حياة عامرة بالمواقف .
وقد قضي الشريف اخريات ايام حياته في العبادة وتلاوة القرآن .. وتوفي في اثينا في يوم 9 يناير 1982م .. وكان قد تزوج في أخريات العهد الحزبي الثاني من كريمة الخليفة احمد عبدالوهاب .. ولم يخلف أبناء ، ولكنه خلف في الدنيا صوتا داويا .

كان لابد من تجمع كل القوي للدفاع عن مقدسات وطننا ، وكياناته وعن حقوق الانسان فيه ، ما اشبه من ان تصبح هكذا علي مر العصور ، إرثا لكل السودانيين وليس عقارا لأسرة ، ولا ضياعا لطائفة ، وما كان اكبرها واعظمها لو ظلت كذلك ، ولو لم يشوهها المعتدون لقيادتها ، فيجعلون منها معسكرات للميليشيات ترجع ثمنا للمساومة ، وتبقي سلاحا للتمديد انتظارا لمساومة قادمة اخري .
ما اعمق الجرح الذي يوغر صدورنا ، والذي لن يندمل ابدأ ، ونحن نري اليوم البيانات الكاذبة توزع مدعية زورا وبهتانا اننا نشتم الانصار ونحقرهم ، نحن الذين نعرف روابط الكفاح ، في التاريخ القديم والحديث ، نحن وقود الثورة الاولي والثانية ، نحن الذين ربط بيننا الامام المهدي ، وهو يقود ثورة قومية ووطنية ضد الاستعمار ، ثم ربط بيننا أخيرا إمام آخر ، هو صورة واصل من الامام الاول ، في دفاعه عن الدين والوطن ، ثم هو أخيرا لا آخرا ، يعرف أقدار الرجال ، ويمنعه دينه وتعصمه وطنيته ، من الارتماء في احضان الاستعمار ، قديما كان أو جديدا ثم هو يجمع ولا يفرق ، ويقرب ولا يبعد ، ويوطد ولا يبدد ، ثم هو واضح وضوح الشمس ماض مضاء السيف يمنعه خلقه ودينه من إتباع اسلوب الهمس في الغرف المغلقة ، والحسابات النقدية للربح والخسارة ، والجري وراء الطموح المجنون للسطة في امور تخص وطنه ، كل وطنه ومواطنيه ، جميع مواطنيه ، ولايقبل لنفسه ولا تاريخه ان يضع شخصه واطماعه وطموحاته في كفة ، وفي الكفة الاخري مستقبل وطنه ، ومقوماته واستقلاله وكرامة مواطنيه .
هل يمكن ان توكل لرجل مثل هذا مقدسات الخلاص الوطني صلحا ام حربا أو تترك له مقدرات شعب ، ومستقبله واجياله الحالية والمقبلة حتي يقيسها علي نفسه مثلما يقيس أي شخص ملابسه واحذيته ، وهل الرجال الذين صنعوا الثورات من اسلافه كانوا بهذا الخلق ؟ وهل كانوا سينجحون في هذهـ الثورات وفي قيادة الرجال ؟ لو كانت منطلقاتهم شخصية وانانية ومصلحية وحسابية ؟
وجذبني احد الزملاء من ورائي ، واسترجعني من غياهب التاريخ ومجاليه ، الزاهية الرائعة ، مرة واحدة قفزا فوق الحقب ، الي واقع الحاضر بكل مجابهاته وتحدياته ، وكنا في مدخل (الجزيرة ابا) واستوقفنا الحاجز الاول ، ليس هناك فرق بين الحواجز ، ولكن الاولي كانت تموج بالرداء العسكري وتفوح منها روائح التسلط والقهر ، وعلي وجوهـ رجالها معالم الاحتقار للناس ونوازع تخويفهم وإذلالهم ، اما هذا الحاجز فوراؤهـ رجال علي وجوههم صرامة الحق وسماحة الدين ورداؤهم مدني .
وتوالت الحواجز وتجاوزناها ، ودخلنا منازل الضيافة ، وكانت تموج بكل مطارد بلا جريرة ، مطلوب بلا جريمة هارب بدينه ووطنيته الي البقعة الوحيدة في السودان التي كان فيها المواطن السوداني يتمتع بحريته ، ويطوف علي الجميع وهو آمن ، يحملون الاكل والشرب والامن والحماية .
لو لم يكن لـ(الجزيرة ابا) دور في التاريخ غير إنها كانت مأوي لكل مواطن شريف لاجريرة له إلا انه ليس من المجرمين ولا من مرتادي السجون ، ومع ذلك فهو لا يحس بالامن إلا إذا دخل (الجزيرة ابا) وقابله اهلها مرحبين ، (ادخلوها بسلام آمنين) ومن دخل (الجزيرة ابا) فهو آمن ، لكفاها هذا الدور في التاريخ الذي ظلت فيه احرار الرجال واعراضهم وعقائدهم واحاطتهم بحماية من دماء ابنائها من الانصار .
ونار الضيافة لاتنطفئ فيها ليل نهار ، ويقوم بالخدمة فيها علي كل من احتمي الاف الرجال والنساء ، ويخرج من منازلها عشرات الالاف من اواني الاكل والشرب ملآي ، وتفرش فيها الاف الاسرة وتجد فيها وحدها - دون كل ارض السودان - بشاشة السودانيين واخلاق السودانيين ، ودينهم وكرمهم وإيثارهم علي انفسهم ، ولو كانت بهم خصاصة .
سوف يسجل التاريخ انه لقرابة عام كامل كانت (الجزيرة ابا) هي السودان كما نعرفه ونحبه ، وننتمي إليه ، وبقي كل السودان غريبا عنا ، الاحرار فيه هم السجناء ، والمجرمون فيه هم الطلقاء ، ليس فيه مكان لأبنائه المخلصين البررة ، واصبح البقاء فيه احتواء جغرافيا ، وليس إنتماء وجدانيا وعاطفيا ، وبقيت (الجزيرة ابا) إمامها البطل ، انصارها المخلصون البواسل نساؤها ، اطفالها ، شيبها ، شبابها هم كل السودان ، وكل ما يمثل اهل السودان ، من نبل وكرم وشهامة وحماية .
بقيت هكذا ولجأ إليها واحتمي بها كل مقهور ، فلم يسئ إليه احد ، ولم يعبس في وجهه احد ، ولم يبت فيها احد علي الطوي ، ولم تمتد إليه يد السلطة الغاشمة المستبدة ، بقيت هكذا حتي تجمعت ضدها كل قوي الشر والعدوان ، ودافع اهلها عنها دفاع الابطال ، واساطير شجاعتها مشاعل للتاريخ ، كافحت العدوان في البحر والجو والبر ، ومن قوي تفوقها عددا اضعافا مضاعفة ، ومن عدة دول لا دولة واحدة .
وسأكتب في مذكراتي عن معركة (الجزيرة ابا) ويومها سيتضح لكل من يعلم انها إحدي ملاحم الصمود والشجاعة التي قل ان يسجل التاريخ مثلها ، والذي اريد ان اسجله هنا انه يوم فتحت (الجزيرة ابا) لم تسقط هي ، بل سقط كل السودان بتاريخه ودينه وخلقه وقيمه ، فلقد ظلت هي السودان مكبرا ومصغرا ، صامدة عاما كاملا في داخلها السودان كله ، المؤمن الوطني المسلم ، وفي خارجها جسم غريب لاينتمي للسودان ولا لأهله ، ولا لكل ما يمثلون من اخلاقيات بشئ .
توقفت في الخارج مدة في الزمن اتأمل في اللاجئين من النظام ، من مختلف الاتجاهات ، واتأمل في الحركة الدائبة لخدمتهم ، وفي هذهـ اللحظة وصل السيد الامام (الهادي) الي الجانب في دار الضيافة ، الذي كنت أجلس فيه ، تقدم الي كعادته يطأ الثري متمهلا ، والبشر والبشاشة ينضحان من وجهه الذي يتألق بنور من الهدي والتقوي ، والابتسامة المخلصة الوضاءة الوقورة تسابق يدهـ الممدودة في مودة لمعانقتي .
كان هادئا وعاديا علي غير ما يقتضي الموقف ، وكنت اتوقع ذلك منه ، فلقد شاهدته وشاركته في مواقف عديدة عصيبة وشائكة ، مثل هذهـ من قبل ، ولكن كان هناك شئ جديد في عينيه فيهما عمق وإصرار أكثر مما كانا يمتلئان به ، في مواقف مشابهة مستعصية ، وادركت لتوي مدي إهتمامه بالموقف وقياسه له ولم ينتظر فكما قيل ، فليست هناك امور تشرح او تحلل ، كنت قد شرحت له الموقف في الخرطوم ، ومحاولاتي لمنع الانقلاب ، كان مهتما ويساعد مجهوداتي لثقته المطلقة فيً ، وكنت قد حددت له هوية الانقلاب قبل ان يحدث ، ولذلك فلم يضع وقتا في الحديث والتفت الي قائلا : ’’إنني لا إعتبر نفسي مسلما ، إذا عشت وارتضيت حكما ملحدا ، وكذلك لن أعيش حكما غير ديمقراطي ، ولن اقبل حكما عسكريا‘‘ .
نقلا عن المجهر السياسي



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 20-02-2021, 10:35 PM   #[8]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

اقتباس:

جريدة المجهر الاربعاء 7 نوفمبر 2012م الموافق 22 ذوالحجة 1433هـ العدد 198
رحلة في طيات الكتاب - لوطني وللتاريخ .. مذكرات الشهيد الشريف حسين الهندي
’’عبدالناصر‘‘ يستعد لضرب إسرائيل والسودان يعرض عليه المشاركة بجنودهـ الشجعان !! .
الحلقة السادسة

إعداد خادم التراث / محمد الامين الشريف عمر الهندي
هو الشريف الحسين بن الشريف يوسف (الهندي) بن الشريف محمد الامين ، بن الشريف يوسف بن الشريف احمد بن الشريف زين العابدين بن الشريف حمد بن الشريف آدم بن الشريف محمد الشهير بالهندي ، الذي علق به لقب الهندي لأن مرضعته في مكة كانت هندية الاصل .
ولد الشريف حسين في عام 1924م ، ونشأ وترعرع بضاحية بري الشريف شرق الخرطوم ، وقد الحقه والدهـ بالخلوة لحفظ القرآن الكريم ، فأتم حفظه في سن باكرة .. ثم حضر خاله الاستاذ احمد خير وأخذهـ معه ليتم دراسته بمدينة ود مدني والحقه بالصف الرابع بالمدرسة الاولية .. وفي منتصف الصف الرابع ذهب الشريف الحسين لتلقي دراستهم الثانوية بكلية فكتوريا بالاسكندرية بمصر .
وإنضم معظم زملاء الشريف الي الاحزاب الاتحادية التي اندمجت في الحزب الوطني الاتحادي عام 1953م ، وكان عدم إنضمام الشريف لهذه الاحزاب مثار تساؤل ، غير أن بعض المقربين كانوا يعرفون ان من رأي الشريف أن الطائفية ينبغي ان تبتعد عن العمل السياسي الحزبي ، وبعد إعلان دمج (الحزب الوطني) في (الوطني الاتحادي) سجل الزعيم اسماعيل الازهري رئيس الوزراء ورئيس (الحزب الوطتي الاتحادي) علي رأس وفد من الحزب والحكومة ، زيارة الي قرية (العقدة) والتقي بآل الهندي في معقلهم .. وبعد تلك الزيارة ، أعلن الشريف حسين إنضمامه رسميا الي (الحزب الوطني الاتحادي) .
وفي عام 1958م ترشح الشريف في دائرة الحوش عن (الحزب الوطني الاتحادي) وكان في الوقت نفسه مشرفا علي الانتخابات في دارفور ، وقد فاز في دائرته فوزا كاسحا .
وكان الشريف علي صلة وطيدة بكثير من حركات التحرر الوطني ويساعد بعضها في الحصول علي السلاح ، وكان يشرف علي معسكرات المقاتلين السودانيين المقامة بليبيا واثيوبيا ضد نظام نميري العسكري ، وكان من المناصرين بشدة لحركات المقاومة من اجل التحرر في العالم عموما وفي افريقيا ، وقد كلفه عبدالناصر القيام بمحاولة لخطف الرئيس الكنغولي ’’باتريس لوممبا‘‘ وكادت محاولته ان تصل الي غايتها لولا ان خصوم ’’لوممبا‘‘ أقتادوهـ قبل وصول ’’الشريف‘‘ الي مكان مجهول وقتلوهـ .
ولخروج الشريف من السودان قصة طويلة معروفة في تاريخ السودان - تخللتها وحدثت بعدها احداث جسام في رحلة حياة عامرة بالمواقف .
وقد قضي الشريف اخريات ايام حياته في العبادة وتلاوة القرآن .. وتوفي في اثينا في يوم 9 يناير 1982م .. وكان قد تزوج في أخريات العهد الحزبي الثاني من كريمة الخليفة احمد عبدالوهاب .. ولم يخلف أبناء ، ولكنه خلف في الدنيا صوتا داويا .

***

وكان واضحا ان اهتمام الامام بالناحية الدينية اكبر ، ولم يكن هذا جديدا علي وليس غريبا عليه ، ولم نتناقش طويلا ، إذ كانت وجهات نظرنا متطابقة ، ونظر الي يسأل سؤال من يعرف الجواب ، وقد حددهـ سلفا ، ’’ليس هذا مثل حكم عبود‘‘ وسنضطر للدخول في مواجهة مسلحة ، قلتها والالم يعصر قلبي . وقال :
’’لقد توقعت هذا الرد ، وليس لي رأي غيرهـ ، ونحن ملزمون شرعا ومضطرون وطنيا ، والتفت الي وقد زاد ذلك البريق في عينيه إشتعالا ‘‘
إن هذا موقف يحتاج لامور لن يستطيع غيرك القيام بها ، وانا لا اقصد طلبا في كلامي هذا ، فأنا واثق إن هذهـ قناعتك .
ثم تكلمنا عن وجوب وجود تنظيم جبهوي لمواجهة الموقف ، واتفقنا علي ذلك واضاف إن هذهـ عادة قد استنها الائمة في ازمات قومية ، ولذلك فانا موافق علي ذلك .
وكان بـ(الجزيرة ابا) وقتها الاخ الكاروري ، ولم اكن قد قابلته ، وفي نفس اليوم وبعد ثلاث ساعات من وصولي لـ(الجزيرة ابا) أعلن ميلاد (الجبهة الوطنية) من احزاب الامة ، الاتحادي ، الاخوان ، ووقعها السيد الامام والاخ الكاروري وشخصي وهؤلاء هم المؤسسون .
ولقد سمعنا أخيرا عن محاولات لحلها من غير المؤسسين ، وكان أول بند في إتفاقها هو إزالة النظام الحاضر بكل السبل والوسائل ، ولم يكن يدور بخلدنا يومها ان احدي هذهـ الوسائل يكون مقاعد الاتحاد الاشتراكي في اللجنة المركزية والمكتب السياسي ، أو التعيين في مجلس الشعب ، أو حتي رئاسة الوزارة أو الاتحاد الاشتراكي أو أية وزارة .
ورفض الامام ان اعود لدار الضيافة بالخارج ، ثم اخلي منزل زوجته الكبري وكان يتوسط منازل زوجتيه الاخريين ، وقال الانصار : إن ضيفا ما ، حتي من اشقائه ، لم ينزل هنا . كنت اسكن داخل منازل العائلة . وكان لايتناول وجبة إلا معي ، وكنت استيقظ مع ترتيل الراتب من الفكي عبدالله ، ثم يؤم هو الناس لصلاة الصبح ، وليس في (الجزيرة ابا) نشاط غير الصلاة وتلاوة القرآن والراتب ودروس (النصيحة) ولم أر بلدا يرتل فيها إسم الله كل ثانية مثلها ، ولم ار رجالا كرسوا انفسهم للعبادة مثل سكانها ، ولم ار مدينة ليس فيها محل للرذيلة غيرها ، والامن فيها مستتب ، وليس فيها اي حادث سرقة ، مع عدم وجود أي مركز شرطة أو حتي أي اثر لخفير فيها .
كان الدين والخلق والقرآن والصلاة هي القانون والحارس ضد الرذيلة والعاصم من السرقة ، ولو عاش ’’إفلاطون‘‘ لرأي بعينيه المجتمع الفاضل الذي عناهـ ، ولم يجد من يؤسسه علي الهدي والتقوي والطهارة ، ويحكمه بلا قانون ولا بوليس ـ بل أخلاقيات القرآن والسنة .
وقال الامام في صلاة الجمعة لمائة الف من انصارهـ حضورها ، لو جئتم كلكم لحمايتي ، فإن الله يرعاني ، اما ضيفي ، اشار للمنزل الذي اقطنه وهو منزل زوجته الاولي ووالدة نجله الاكبر ، وكان الجميع يعلمون إنني أعيش فيه ، فإنني لن أسمح لأحد بحمايته ، بل سأحميه بنفسي ، وأخرج ذراعه ولوح بها ، ولم تكن هذهـ إحدي عاداته وأكرمني ، أكرمه الله .
وكان ينام حول منزلي كل ليلة مائتان من أنصارهـ ، وكان إذا اضطرته الظروف ، وهي نادرة ، ألا يشاركني الطعام ، يصر علي رؤية الطعام قبل ان يقدم الي ، ويضيف اليه اصنافا ويحذف اصنافا اخري ثم يأمر بالا يمسه احد بعد فراغي منه إلا بعد حضورهـ ، فكان يكشفه ويتفقدهـ ثم يناقشني في أكلي ذلك اليوم ، وفي الالوان التي ارغب فيها والتي لا ارغب ، وكان يمضي كل يومه معي ، ويعقد إجتماعاته في منزلي ولايفارقني إلا لدي النوم ، وخصص نصف من يخدمونه لملازمتي وخدمتي بصفة دائمة . ولم أكرم طوال حياتي ، ولمن يهتم احد بتفاصيل حياتي مثلما فعل . وكان يفعل ذلك كله بنفس راضية وإقبال رضي ، وكانت المشكلة الكبري بالنسبة لي هي الدخان (السجائر) فليس هناك في الجزيرة من يدخنه ، وليس هناك من يبيعه ، جمع رهطا من كبار الانصار ، وقال لهم / ليس في الجزيرة من يبيع الدخان أو يستعمله ، إن الشريف يدخن انا موافق علي ذلك .
وكان هذا اول تصريح من نوعه يصدر في الجزيرة منذ ميلادها ، والي ان غادرتها ، ولم يكن له من شغل غير التشاور معي وغير الاهتمام بالضيوف الذين بلغوا عشرات الالاف ، ومنهم اللاجئون من البطش والهاربون من الظلم ، فكان يطوف بنفسه علي محال صنع الطعام ، ويتفقد من يأكل ومن لا يأكل ولم يحدث في تاريخ اللجوء في العالم ، ان عومل لاجئون مثلما عوملوا في (الجزيرة ابا) ولقد اكبر الاخ الكاروري ، عندما استمعت اليه في المذياع ، يقول في الاستجواب للسلطة ، لقد جئنا نحتمي عندهـ من البطش فآوانا ، وكان رجلا عظيما وشجاعا . واكبرت ’’الكاروري‘‘ وكنت اكبرهـ وتحجرت في عيوني دموع كالجبال ، لم ترد ان تجف ، ولم يرد لها ان تنهمر .
ومع هذا فقد كان هناك الخفافيش الذين ظهروا هذهـ الايام ، ومنهم من تجرأ وجاء يحتج علي وجودي في الجزيرة ، فإنتهرهم وطردهم ، وهناك المحامي الصديق المشهور الذي ارسل خطابا لأحد اصدقائه في الجزيرة ، وختمه بقوله : ’’ابلغ سلامي لكل من في الجزيرة ، ما عدا الشريف ، ووقع الخطاب في يد الامام ، فأطلعني عليه وهو ينفجر غضبا ، ثم مزقه إربا ووضع قدمه علي نفاياهـ ‘‘ .
إن معركة (الجزيرة ابا) الحربية وغزوها بكل انواع الاسلحة الحديثة والدول التي تحالفت عليها ، وشهداءها الذين قابلوا الرصاص بالسلاح الابيض وصدورهم مفتوحة للموت والذين دفنوا احياء وهم يحملون القرآن في قلوبهم ، وفي أيديهم وفي السنتهم لها باب خاص في مذكراتي هذهـ ، اما ايامي التي عشتها فيها قبل الغزو فهي ايام خوالد في تاريخي وفي تاريخ الرجولة واخلاق العروبة ليس لها مثيل .

الفصل الثاني

مؤتمر الخرطوم 1967م
الحلقة الاولي : حرب يونيو 1967م
في أواخر مايو وما قبله كان الجو العربي مكفهرا ، ومتدهورا ، وكانت وحدهـ الصف العربي مهترئة وممزقة ، واجهزة الاعلام العربي - المقروءة والمسموعة والمنظورة - تعترك يوميا في ضراوة وشراسة ، والحرب الظاهرة والخفية معلنة ومحاولات الغزو والاغتيال شيمة كل نظام عربي وسياساته نحو أي نظام عربي آخر ، وكان العدو الاسرائيلي ينظر في شماته وفرح ، امنا مستقرا ومطمئنا ، يبني قوته الضاربة في ثقة وجسارة - إعدادا وتدريبا وتسليحا - والجماهير العربية تتدني روحها المعنوية ، ويلفها مناخ من الاسي واليأس والقنوط واللامبالاة والعالم من حولها - عدوا كان ام صديقا - عرضة للشعارات الهوائية التي يطلقها المسؤولون عن (مائة مليون عربي) التي كان اقلها (قذف مليون او مليوني إسرائيلي في عرض البحر) ويقف مع (المساكين المشردين قليلي العدد الذين سيلتهمهم الجبار الظالم كثير العدد) .
وكان هذا محتوي وفلسفة الاعلام العربي غير الموجه واللا علمي والمليئ بالتهديدات الجوفاء ، وشعر عنتر بن شداد الحماسي ، وكانت الجيوش العربية تفتقد التسليح والتدريب والقيادة والوحدة ، كلما بلغ ضابط أو طيار المرتبة التي كانت سيمارسها لنصرة القضية العربية ، ادخل في غياهب السجون ، أو احيل لإدارة شركة تجارية أو اضطر للهرب خوفا من ان يستعمل مهارته القتالية في قصف أي قصر ملكي او جمهوري أو أميري أو في تغيير النظام .
كان الحرص علي بقاء اي نظام اكبر من الحرص علي النصر في قضية العرب المركزية ، ومعركتهم القومية والمصيرية ، وكان القتال هو : معارك الشعارات الجوفاء تطير في الهواء ، وتتقاتل في الاثير ، وتذوب فيه هباءا وزبدا ، وكان المال العربي ينثر علي اجهزة الامن للانظمة ، تركض وراء اجهزة الامن العربية الاخري ، ويبعثر علي شراء المرتزقة ومحترفي الاغتيال .
وكانت الجامعة العربية جسدا بلا روح ، والقيادة العربية الموحدة اسما بغير مسمي ، والوحدة العربية شعارا بلا محتوي ، وكان كل حاكم عربي ينظر الي نظيرهـ ويعامله كخائن ، وعبد للاستعمار الشرقي أو الغربي وعميل لإسرائيل ، كان مجرد الاتصال بينهم مستحيلا ، دعك من التنسيق واللقاء ، كان كل نظام مغلقا ومتغلقا في داخله في توجس ، وكانت كل الانظمة منكفئة علي نفسها تنتظر الضربة توجه لها من الاخ الجار وذي القربي ، والنقاش البيزنطي يملأ الافق . أهي وحدة الصف تأتي أولا ام وحدة الهدف ؟ اهي البيضة ام الدجاجة ، والعدو علي الاسوار ، بل داخلها .
اما الجماهير العربية فقد كانت مقهورة ومسجونة في كل قطر من اقطارها لاتسمع إلا ما يصب في آذانها ، ولاتقرأ إلا ما يكتب لها ، ولاتنظر إلا ما يعرض عليها تقيم في منازلها ، وتلجم السنتها ، وتخاف حتي من اقرب الناس لها حتي الاب والشقيق والام ، قد يكون جاسوسا ، كانت حالات التسيب والتفكك في المجتمع لاتوصف والحذر والخوف والتمييع لحركة الجماهير لانظير له لم يكن الانسان العربي جزءا من معركته ، لماذا نقاتل ، لكي نبقي في هذهـ الحالة .
نحن لم نهزم لأننا أصلا لم نكن شركاء في المعركة ولا مشاركين فيها ، لقد حرمنا من كل صفة ميز الله بها الانسان علي الحيوان ، إن من نعم الله الكبري الفكر والوجدان والحرية وقد حرمنا منها كلها ، لم يبق لنا إلا الفم لكي نطعم به لا لكي نتكلم به ، إلا المعدة وقد تملأها حينا وتظل فارغة في أغلب الاحيان ، ومع هذا لاتشكو ، فالشكوي خيانة والخيانة إعدام .
كنا نحن السودانيين نعلم كل ذلك ونراقبه ، وكنا نحافظ علي علاقة بلادنا بالجميع ، مع فقرنا وتخلف بلادنا ، ومشاكلها المتعددة فبلادنا ليست قطرا ، بل هي قارة ومعه هذا فلم نتردد في قول الحق ، والجهر بالشوري ، والنصح لأي نظام لم نكن منحازين وبقينا وحدنا ، ونحن الاقل منعة والاقل حضارة والاقل ثورة ، جزيرة وسط هذا الخضم المتلاطم من الخلافات والمعارك ، والواحة المنفردة في صحراء العدم واليأس هذهـ .
وكنا نعض علي استقلالنا ورأينا وإنتمائنا وقوميتنا بالنواجذ ونرفع صوتنا امام الجميع بضرورة الوحدة والحرية والاعداد لمواجهة العدو ، وكنا نعرف انها آتية لاريب فيها ، وهزيمتنا فيها واردة لاشك فيها ، إذا استمر الحال علي ما هو عليه ، وكنا نقاوم أية محاولة بالاغراء أو التهديد ، لكي ننحاز أو نصبح بوقا لأحد ، وقد (تجوع الحرة - وكنا نجوع - ولكنها لاتبيع ثديها) .
من خلال هذا الظلام الدامس الداكن ، طارت إشاعات خافتة وسرية ، بأن قطرا عربية من أقطار المواجهة قد يهاجم إسرائيل ، ولم يعرف مصدرها ، هل هي حقيقة أم خدعة من صنع العدو ؟ واخذت الاشاعة أبعادا كثيرة ودخلت في خضم الصراعات والمنافسات والسباقات العربية ، وكان البعض يعتقد - وذلك لإفتقار المعلومات عن العدو وانشغال اجهزة الامن العربية بغير هذهـ المعلومات - ان إسرائيل ضعيفة ، وان اية ضربة توجه لها ستنهي وجودها .
لذلك سرعان ما انتشرت هذهـ الاشاعة حتي اصبح تفكير الكثيرين في المنطقة ان المبادرة بالهجوم يجب ان تكون لهم وان النصر المؤكد ، حسب وجهة نظرهم ، يجب ان يكون لهم وبعد النصر ثمارهـ ، من تفوق وشرف وسعادة ، وتنبهنا لخطورة هذا الاتجاهـ ، وقلنا : إن جر العرب لمعركة لا يحددون زمانها ومكانها - وهم علي مثل هذهـ الحالة من التمزق والتشرذم ، وفقدان الإعداد العسكري والاقتصادي والنفسي - هو كارثة لها آثارها التي قد تكون قاضية ، وانه بعد هدوء طبيعي او مصنوع في ساحات القتال - دام قرابة العشر سنوات استرد فيها العدو انفاسه وزاد قدراته ، ولم يتقبل كل هذا بالمثل فالاجدي ان نجري تقييما لإمكاناتنا ، ومقارنة حقيقية لقدرات العدو ، وتحقق وحدة وتمازج مبادئنا ، خصوصا بعد ان فشلت مؤتمرات القمة قبل 1967م في تنفيذ ذلك .
وقمنا بجولات في مناطق الثقل في المنطقة ، واكدنا ان إشاعات الهجوم من أي نظام عربي قد تكون تغطية أو مقدمة لعمل يريد العدو تبريرهـ ، ولم يمض علي رجوعنا للسودان اسابيع ، حتي اشتعل الموقف في الشرق الاوسط ، إذ أعلن الرئيس جمال عبدالناصر أمرهـ بسحب قوات الطوارئ الدولية ، واسرعت هيئة الامم في عجلة مريبة بالاستجابة لهذا الامر ، ثم أمر القوات الالية بالتقدم عبر سيناء نحو (غزة) وسط الصحراء المكشوفة ، التي تبلغ مئات الاميال وأغلق خليج العقبة .
تدارسنا الموقف . ولم يخالجنا الشك لحظة واحدة إنها الحرب ، وهرعنا الي القاهرة في اليوم الاول من يونيو ، كانت علاقتنا بالرئيس جمال عبدالناصر قوية وإعجابنا بشخصيته وجسارته وعروبته اقوي ، وكان لقاؤنا معه تشاوريا متواصلا ، وكنا نتردد علي القاهرة بإستمرار ، وكانت صراحته معنا وثقته فينا كبيرة ، وكنا نتدارس الموقف العربي كأسرة واحدة لا كدولتين منفصلتين ، وكان الرئيس ناصر هو قطب الرحي في المنطقة العربية ومصر - كما هي الان كشعب - مركز الثقل الحضاري والسكاني والعسكري للعرب ، وذهبنا الي الرئيس عبدالناصر في الاسكندرية ، انتظرنا حتي انهي ندوة كان يقيمها في جامعة الاسكندرية ووافانا فور إنتهاء الندوة وبدأنا إجتماعا دام حتي الساعات الاولي من الفجر .
- قلنا ان سحب قوات الطوارئ وتقدم الاليات والمشاهـ في سيناء بمثل هذهـ الاعداد الكبيرة وقفل خليج العقبة لانتيجة لها إلا الحرب ، فهل نحن مستعدون ؟
- قال : إنه يعتقد ان إسرائيل لن تجرؤ علي القتال ، ومعلوماته ان أستعدادها غير مكتمل ، وحتي إذا اقدمت فسوف تهزم .
- قلنا : إننا مع ثقتنا في معلوماته فنحن واثقون ان إسرائيل ستهاجم وإنها قد وجدت تبريرا عالميا لذلك ، ونحن نعتقد انها قوية ، وان أية معلومات غير ذلك في رأينا غير مكتملة .
- قال : إنه واثق من معلوماته ، كما إنه واثق من قدرة القوات المصرية علي النصر .
تجادلنا في هذا الامر طويلا ، وطويلا جدا ، لكن الرئيس جمال عبدالناصر كان مصرا علي موقفه ، واثقا من معلوماته .
- وأخيرا قلنا : إننا مع تأكدنا من تحليلنا ومن معلوماتنا ، ومع ثقتنا في شجاعة القوات المصرية ، إلا إننا نري الامر خطير ، وإنه يحتاج لمراجعة أعمق ، ولكننا نعتقد أنه بحكم موقعه أعلم ، وما دام يعتقد ذلك فنحن نري هذهـ المعركة قومية وساحتها هي الارض العربية كلها . وإن الامر يقتضي تعاونا وتنسيقا مع كل العرب وتضافر كل الجهود وإستعمال كل القدرات العربية ، العسكرية والاقتصادية ، ذلك فلا بد من لقاء عربي شامل سيكون له وزنه وحتي اثرهـ النفسي علي العدو وعلي العالم .
- قال الرئيس عبدالناصر : إنه موافق علي هذا المنطق ، والتفت الينا مستطردا في آسي انتم تعلمون الموقف العربي .. وماهي الضمانات إذا طرحت اسراري في مثل هذا المناخ ، وماهي قناعاتي إذا أخطر احد منهم القوي التي تقف وراء العدو .. أو حتي العدو نفسه ؟ إن الموقف سيكون أسوأ من الذي يصورونه الان) .
- قلنا له : إنه مهما تكن المنازعات التي تسود العالم العربي الان ، فإنه يستبعد ان يفعل عربي هذا ، إبتسم ناصر إبتسامته العريضة المعروفة واردف : (إنكم أشقاؤنا السودانيون تعتقدون ان كل عربي مثلكم .. مثل نقائكم وطهارتكم والتزامكم القومي ، ومثل سجيتكم قلوبكم .. إنني أتمني ان يكونوا كذلك ولو كنت واثقا من ذلك لجمعتهم الان وانتم حضور ، ولكن لن اقامر بأمر كهذا) واستغرق النقاش وقتا اطول وتمسك بموقفه .
- قلنا : إننا واثقون من شجاعته وتوجهه وإيمانه ، ولكننا نخشي النتائج ، ونري ان تكون المشاركة والمسئولية قومية تحسبا لأي خطأ - مهما كان طفيفا - في المعلومات والتقديرات ، ومع هذا فنحن ايضا مع تمسكنا بتحليلنا واقتراحاتنا ، لانملك إلا ان نترك هذا الامر لإعادة التفكير ، ووعد بذلك .
- واخيرا قلنا : إننا واثقون من نشوب الحرب ونريد ان نشترك وهو يعلم قدراتنا الضئيلة ، ولكننا نعتمد علي شجاعة الجندي السوداني ولانرضي ان يفوتنا شرف الاشتراك الفعلي فلقد امتزجت دماؤنا بدماء اشقائنا في مصر ، عبر مراحل كثيرة في التاريخ ، ووحدت بيننا رابطة الدم المسفوك في سبيل الحرية ، فإن كان هناك قتال فلن يرضي شعبنا ان نكون بعيدين عنه ، وإن كانت الاخري فإن الجنود السودانيين سيكونون في مصر في بلادهم ، وبين إخوانهم وداخل ديارهم ، كل الذي نطلبه هو طائرات لنقل الجنود وسلاحهم لأننا لانملكها .
- فقال وعلي وجهه علامات الرضا والغبطة : إنه لايريد ان يشكرنا علي ذلك فالانسان لايشكر نفسه ، ولكنه في الوقت الحاضر لايري حاجة لنقل جنود او اسلحة ، وإذن - نحن نترك له الامر ، ولن نستطيع الرجوع إلا إذا حدد لنا دورنا في مسألة شرحنا له رأينا فيها .

نقلا عن المجهر السياسي



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 21-02-2021, 09:15 AM   #[9]
بابكر مخير
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية بابكر مخير
 
افتراضي

حا أواصل في القراية..
لحدي جلسة الجمعية التأسيسية التي خاطبها حسين الهندي متوعدآ بحدوث إنقلاب كي أتبين أن ما ورد هي كل الحقيقة بمرها وسقمها وثرائها وترفها دون تجميل وتبجيل..



التوقيع:
بابكر مخير غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 22-03-2021, 09:02 PM   #[10]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بابكر مخير مشاهدة المشاركة
حا أواصل في القراية..
لحدي جلسة الجمعية التأسيسية التي خاطبها حسين الهندي متوعدآ بحدوث إنقلاب كي أتبين أن ما ورد هي كل الحقيقة بمرها وسقمها وثرائها وترفها دون تجميل وتبجيل
..
حبابك عمنا بابكر مخير ..
ونسأل الله السلامة للوطن وسترة الحال والكرامة للمواطن السوداني أين ما حل وارتحل ..



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 22-03-2021, 09:48 PM   #[11]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

اقتباس:

جريدة المجهر الخميس 8 نوفمبر 2012م الموافق 23 ذوالحجة 1433هـ العدد 199
رحلة في طيات الكتاب - لوطني وللتاريخ .. مذكرات الشهيد الشريف حسين الهندي
الحلقة السابعة
السودان يطرد سفيري (امريكا) و (بريطانيا) لإشتراك دولتيهما في قصف مصر !!

إعداد خادم التراث / محمد الامين الشريف عمر الهندي
هو الشريف الحسين بن الشريف يوسف (الهندي) بن الشريف محمد الامين ، بن الشريف يوسف بن الشريف احمد بن الشريف زين العابدين بن الشريف حمد بن الشريف آدم بن الشريف محمد الشهير بالهندي ، الذي علق به لقب الهندي لأن مرضعته في مكة كانت هندية الاصل .
ولد الشريف حسين في عام 1924م ، ونشأ وترعرع بضاحية بري الشريف شرق الخرطوم ، وقد الحقه والدهـ بالخلوة لحفظ القرآن الكريم ، فأتم حفظه في سن باكرة .. ثم حضر خاله الاستاذ احمد خير وأخذهـ معه ليتم دراسته بمدينة ود مدني والحقه بالصف الرابع بالمدرسة الاولية .. وفي منتصف الصف الرابع ذهب الشريف الحسين لتلقي دراستهم الثانوية بكلية فكتوريا بالاسكندرية بمصر .
وإنضم معظم زملاء الشريف الي الاحزاب الاتحادية التي اندمجت في الحزب الوطني الاتحادي عام 1953م ، وكان عدم إنضمام الشريف لهذه الاحزاب مثار تساؤل ، غير أن بعض المقربين كانوا يعرفون ان من رأي الشريف أن الطائفية ينبغي ان تبتعد عن العمل السياسي الحزبي ، وبعد إعلان دمج (الحزب الوطني) في (الوطني الاتحادي) سجل الزعيم اسماعيل الازهري رئيس الوزراء ورئيس (الحزب الوطتي الاتحادي) علي رأس وفد من الحزب والحكومة ، زيارة الي قرية (العقدة) والتقي بآل الهندي في معقلهم .. وبعد تلك الزيارة ، أعلن الشريف حسين إنضمامه رسميا الي (الحزب الوطني الاتحادي) .
وفي عام 1958م ترشح الشريف في دائرة الحوش عن (الحزب الوطني الاتحادي) وكان في الوقت نفسه مشرفا علي الانتخابات في دارفور ، وقد فاز في دائرته فوزا كاسحا .
وكان الشريف علي صلة وطيدة بكثير من حركات التحرر الوطني ويساعد بعضها في الحصول علي السلاح ، وكان يشرف علي معسكرات المقاتلين السودانيين المقامة بليبيا واثيوبيا ضد نظام نميري العسكري ، وكان من المناصرين بشدة لحركات المقاومة من اجل التحرر في العالم عموما وفي افريقيا ، وقد كلفه عبدالناصر القيام بمحاولة لخطف الرئيس الكنغولي ’’باتريس لوممبا‘‘ وكادت محاولته ان تصل الي غايتها لولا ان خصوم ’’لوممبا‘‘ أقتادوهـ قبل وصول ’’الشريف‘‘ الي مكان مجهول وقتلوهـ .
ولخروج الشريف من السودان قصة طويلة معروفة في تاريخ السودان - تخللتها وحدثت بعدها احداث جسام في رحلة حياة عامرة بالمواقف .
وقد قضي الشريف اخريات ايام حياته في العبادة وتلاوة القرآن .. وتوفي في اثينا في يوم 9 يناير 1982م .. وكان قد تزوج في أخريات العهد الحزبي الثاني من كريمة الخليفة احمد عبدالوهاب .. ولم يخلف أبناء ، ولكنه خلف في الدنيا صوتا داويا .

نظر عبدالناصر بعيدا ثم قال لنا : (إن ثقتي فيكم مطلقة ، وأنا واثق إنكم تتكلمون بقلوبكم ، وانا اقدر المرارة التي تشعرون بها ، إن لم تشاركونا بدمائكم ، وانا احس نفس المرارة ، ولكن السودان عمق استراتيجي وغذائي لهذا المعركة (إن حدثت) وفي الوقت الحاضر انا اريد ان استفيد من العمق الغذائي ، إن الاتفاقية بيننا تحدد السلع الغذائية التي تصدر لمصر واري ان تفتح هذهـ السلع بلا تحديد ، فكلها مطلوبة الان ومطلوبة اكثر إذا إندلعت الحرب) .
قلنا : إعتبر الاتفاقية لاغية ، وان تصدير اية سلعة من السودان مفتوح بلا حدود ومن الان ، فشد علي ايدينا بقوته وحرارته وبشاشته المعهودة وتركناهـ وآذان جامع (المعمورة) يردد (الله اكبر) ويطارد آخر فلول الظلام ، ويستقبل اول تباشير الصباح .
ومع ثقتنا المطلقة فيه ، فلم نكن نريد ان نودعه . أردنا ان نبقي معه وتركناهـ وفي عيوننا دموع كالحجارة لاتنحبس ولاتنهمر ، وفي حلوقنا غصة ، وفي قلوبنا جروح لم تندمل والي الان .
لم نتبادل كلمة ما .. مع بعضنا طوال الساعات التي انطلقت فيها الطائرة تشق افاق الفضاء نحو (الخرطوم) وودعنا (القاهرة) وبودنا ان لو ودعنا صفو الحياة ولم نودعها ، ولم يطل بقاؤنا في (الخرطوم) .
وفي صباح الخامس من يونيو ونحن داخل الجمعية التأسيسية في منتصف معركة مريرة لإختيار عضو مجلس السيادة ، وكنا نؤيد مرشح الامام الهادي المغفور له السيد (داؤود الخليفة عبدالله التعايشي) ضد مرشح (الصادق المهدي) المغفور له السيد (الشنقيطي) وكانت معركة حامية ، إنتصر فيها السيد (داؤود الخليفة) - رحمه الله .
وفي هذهـ اللحظة إتصلت بنا (القاهرة) وعلمنا أن سلاح الجو الاسرائيلي كان يهاجمها منذ الصباح وأذعنا الخبر ، وهرعت جماهير الشعب السوداني الي الجمعية بعشرات الالاف وفي لحظات اختلط هتافها الداوي الدامي بصوت (المحجوب) وهو يعلن إشتراكنا في الحرب .
ولم نكن نعرف تماما حجم الهجوم ولا ابعادهـ واثارهـ ، وكانت سبل الاتصال مختلة وواهية ، وذهبنا لمجلس السيادة لشرح الامر للرئيس الشهيد (اسماعيل الازهري) ثم لرئاسة مجلس الوزراء التي اكتظت بمئات الالاف الهادرة ، التي تطالب بالتطوع والسفر والقتال ، واتصلنا بالقاهرة نطالب بطائرات النقل وطائرات مقاتلة لحمايتها ، وجاءنا الرد ان ليست هناك طائرات وعطلنا كل القطارات في (السودان) وفي الثانية عشرة تماما غادر الجيش السوداني (الخرطوم) في سلسلة من القطارات ، وكنا نريد الطائرات لإختصار الزمن ، وإتقاء هجوم الطائرات الاسرائيلية علي القطارات المكشوفة ، لكن لم يكن باليد حيلة ، وكان مجلس الوزراء في حالة إجتماع مستمر .
وبدراسة موقفنا تبين عجزنا الشديد في السلاح ، لم يكن في (الخرطوم) إلا مدفعان فقط مضادان للطائرات . وضعناهما في المطار ، وكان كل الجنود ومعهم الاسلحة المتوافرة ، وهي قديمة قد سافروا أو في إنتظار السفر في المحطة ، وفي تمام الساعة الواحدة اخطرتنا (القاهرة) ان عددا من الطائرات في طريقها لنا للحفظ واستلمناها في المطار ، ولم ادرك يومها انها الطائرات الوحيدة التي بقيت في سلاح الجو المصري .
وهبط الطيارون في (قاعدة ناصر) وهم بملابس النوم ، وفي مجلس الدفاع قال لواء معروف بإنتمائه المشبوهـ محتجا : (لقد غزا بلادنا الطيران المصري) كانت الشماتة تلوح في وجهه الاغبر ، وكانت اعصابي متفجرة ، فقلت له (أليس فيك ذرة من عروبة ولاقطرة من إسلام ولا حبة من وطنية!) فذهل وصمت وغطي وجهه بيديه .
وعندما كنا مجتمعين أخطرتنا القاهرة ان عدد من قطع سلاح البحرية المصرية في طريقها لـ(بورسودان) ومن ضمنها غواصات ومدمرات ورادارات وزوارق طوربيد . وصرح وزير الصحة آنذاك وهو معروف بملقه وجبنه وإنتمائه المشبوهـ ، صرخ ووجهه مثل الرئة المتدرنة (إنه ميناؤنا الوحيد ، وسيقصفه الاسرائيليين ويقتلون أهله) وصرخت فيه (ليت الاسرائيليون يقصفوننا في هذهـ القاعة ويقتلوننا جميعا ، فباطن الارض خير من ظاهرها) . وامتقع وصمت وهو يهذي وهو لايزال يهذي حتي هذهـ الساعة ، ويحسب كل صيحة عليه ، وهو يريد ان يكذب أهله فيما يسمي بمجلس الشعب يدبج قصائد المديح لسيدهـ ’’النميري‘‘ وطالب رئيسه بعدها بعقد جلسة سرية للجمعية التأسيسية قال فيها عن نكسة العرب ما لم يقله ’’مالك في الخمر‘‘ ولا ’’غولدا مائيير‘‘ في العرب ، وهو الان يتغني ويتاجر ويفاخر بالوقوف ضد (كامب ديفيد) وفي قلبه وكلماته تحقير لايرددهـ عربي عن شعب مصر ، فيا لسخرية القدر ويا لقيم البشر .
وفي الرابعة من اليوم نفسه إتصل بنا هاتفيا (جمال عبدالناصر) وقال إن الطائرات الامريكية والانجليزية تشترك في الهجوم علي المطارات المصرية مع الطائرات الاسرائيلية ، وطلب منا أن نتأكد من ذلك من الملك حسين وبعد محاولات عدة ، عن طريق أجهزة اتصالنا المختلفة ، أتصلنا بالملك حسين ، الذي اخطرنا بأنه حسب المعلومات الواردة له فإن هذا صحيح .
وشرح السيد رئيس الوزراء الموقف للمجلس ، واتفقنا علي ان الموقف الوطني والقومي يقتضي ان نقطع جميع العلاقات مع امريكا وبريطانيا ، والتفت الي السيد رئيس الوزراء قائلا مع إصرارنا علي هذا القرار ، فإن الواجب يقتضي ان اسألك بوصفكم وزيرا للمالية ، ما هو أثر هذا علينا؟) أجبته وعلي الفور من الناحية المالية فإنه اثرهـ كبير ، فنحن بلد متخلف النمو ، ونعتمد علي المساعدات والقروض والمعونات الخارجية ، ولكننا قطعنا العلاقات مع المانيا ، فقطعت عنا معونات بمئات الملايين) ولدينا الان معونات وقروض من امريكا وانجلترا اضعاف هذا ، وقطعا سنتأثر ، ولكن هذا الموقف لاينظر اليه من الزاوية المالية - مع ضخامتها - ولابد ان نواجهه ونقطع العلاقات مهما كانت النتائج) .
واستدعي السيد رئيس الوزراء سفراء امريكا وانجلترا ، وانكروا أي اشتراك لطائراتهم في القتال ، واخطرهم السيد رئيس الوزراء بقطع العلاقات ووجوب رحيلهم في اليوم نفسه ، مع كل موظفي سفاراتهم ورعاياهم وغادروا (الخرطوم) فورا .
وصدر امر اخر بإغلاق المكتبة الامريكية ولعمال بورتسودان بعدم التعامل مع السفن الامريكية والانجليزية ، وقرار آخر بسحب كل ارصدتنا من المصارف الامريكية والانجليزية ، وبإغلاق سفاراتنا في (واشنطن) و (لندن) و‘إستدعاء سفراءنا ، وإتخذنا قراراً بشراء الاسلحة من (روسيا) ولأول مرة ، وإستدعيت السفير الروسي ، وكان معي الاخ (خليفة عباس) (وكيل الخارجية آنذاك) واخطرته وقدمت له قائمة مبدئية ، ووافق علي المبدأ علي ان يأخذ الموافقة النهائية من حكومته ، وكانت هذهـ هي الصفقة التي عاش عليها الجيش السوداني الي الان ، دن إضافة أية قطعة سلاح عليها من (روسيا) او غيرها .
وكان الاخ (عبدالماجد ابوحسبو) وزير الاعلام وقتها متحمسا ومنفعلا ، وظلت إذاعته ساهرة طوال الاربع والعشرين ساعة ، وكان يذيع بنفسه الاخبار والتعليقات ، يذكي الحماس في القلوب ويشعل النار في الافئدة ، وكم كانت تعاسته ومرارته عندما سمع بقرار وقف إطلاق النار ساعة إذاعته ، مع إننا سمعناهـ مباشرة من مجلس الامن ، ومن مندوب مصر نفسه ، لم يكن احد منا يدرك مقدار الهزيمة ولا عمقها وابعادها ، كل الذي إعتقدناهـ ان الاسرائيليين قد استفادوا من عنصر المباغتة والمفاجأة ، وتبين لنا بعد ذلك ان سلاح الجو المصري قد قضي عليه تماما ، وان المطارات العلنية والسرية قد هوجمت كلها والطائرات كلها قد حطمت فجرا .
وكانت معلومات الاسرائيليين دقيقة وتفصيلية حتي (الدمي) من الطائرات كانت تترك ، وتضرب الطائرات الحقيقية ، واتضح أخيرا أن كل مطار وكل طائرة كانت معروفة لديهم .
وفي مساء اليوم الذي سبق الهجوم اتصل السفير الروسي بـ(جمال عبدالناصر) واخطرهـ بـأن الإسرائيليين لن يهاجموا ، وبذلك توقفت الدوريات الجوية التي كانت تحلق في سماء مصر ، والتي كانت تكلف كثيرا ، والغيت حالة الاستعداد ، وحل محلها الاسترخاء للدرجة التي اقام فيها قائد سلاح الطيران حفلا لقران ابنته إشترك فيه كل السلاح ، واستمر حتي لحظة الهجوم الذي قضي علي طائرات لم يكن بجانبها طيارون ، كانوا إما في الحفل ، او مجهدين من السهر الطويل ، لم يبق إلا الطائرات القليلة ، وأغلبها طائرات نقل ، التي اتت الي (الخرطوم) من (اسوان) .
وفي اليوم نفسه وقبل الهجوم أقلع (عبدالحكيم عامر) معه رئيس وزراء العراق آنذاك (طاهر يحي) لتفقد الميدان ، وكان جميع القادة العسكريين في إنتظارهم ، وكانت اماكن قيادتهم شاغرة ولم تستطع طائرة (عبدالحكيم عامر) ان تهبط في مطار ما ، فقد كانت كل المطارات مشتعلة ، ولم يستطيع القائد ان يتصل بقيادته ، فقد هبط اسرائيليون بملابس الجيش المصري ، يتكلمون العربية وافسدوا وسائل الاتصال والمخابرة بدعوي إصلاحها ، وحدثت ربكة في الاوامر لفراغ القادة ، وصدرت أوامر بالاستسلام والتسليم وعدم المقاومة ، وتسلم الاسرائيليون بلا قتال ما يقرب من الف دبابة جديدة ، واصبح المشاة بلا غطاء جوي ولا مؤن ، وتمكن بعضهم من الوصول في حالة يرثي لها ، وتوقف الاسرائيليون انفسهم عن اسر الجنود ، وشق الجنرال (شارون) طريقه للقنال فوصل اليها فيما لايزيد عن (24) ساعة دون ان يواجه بأية مقاومة تذكر ، وعندما سمعت ذلك تذكرت محاضرة الجنرال (مونتجمري) في أكاديمية ناصر لكبار العسكريين وكان قد حضر لإحياء ذكري (معركة العلمين) تذكرت نقاطه الثلاثة التي حددها وهي : -
1 / ان المعركة بينكم وبين الاسرائيليين هي معركة جوية في المقام الاول والاوحد .
2 / ان الطائرات الاسرائيلية لن تهاجمكم عبر الصحراء في سيناء ، بل ستأتي عبر البحر المتوسط .
3 / ان طيرانها لن يكون عاليا ، بل سيكون منخفضا يكاد يوازي سطح البحر ، ونفذ الاسرائيليون محاضرة (مونتجمري) كأن احدا لم يسمعها ، وإن كان سمعها فلم يعيها ولم يهتم بها .
قيل ان المشير (عبدالحكيم عامر) كان يري انه إذا تقدمت الاليات نحو (سيناء) فيجب ان تبادر (مصر) بالهجوم ، وقيل ان الملابسات والمعلومات السياسية لم توافق علي وجهة نظرهـ العسكرية ، وليس هناك جزم أكيد بصحة هذهـ المعلومات ، ولكن عندما هبطت طائرة المشيرة في مطار الماظة العسكري ، كان مهتاجا ، ويبدو انه تبين الموقف ، وانتابته حالة من الغضب والانفعال ، فأسرع الي الاذاعة وكان يريد ان يذيع بيانا للشعب العربي ، وإعترضه الاخ (محمد فائق) وزير الاعلام حينذاك ، وحدثت مشادة واقتيد (عبدالحكيم) الي منزله في (الجيزة) حيث بقي فيه الي ان لقي ربه .
لم تكن المعلومات الحقيقية عما حدث للجيش المصري قد توافرت لا في (مصر) ولافي (السودان) وكان المشاة المصريون لم يصلوا الي المدن ، ونهاية سلاح الطيران المصري لم تعلم ، ولذلك صدر قرار بسفري الي (القاهرة) وهناك وقبل ان اعلم كامل الحقيقة ، إنطلق صوت (عبدالناصر) شجاعا رابط الجأش صادقا ، وأخطر الشعب المصري والامة العربية بكل الذي حدث ، وتحمل في شجاعة تأريخية المسؤولية ، وتنازل عن السلطة ، ورشح (زكريا محي الدين) وقامت القيامة وتدفق كل سكان (القاهرة) الي الشوارع .
وقيل بعدها إن كل هذا ، كان بتخطيط وتنفيذ (علي صبري) واجهزته ، ومراكز القوي التابعة له في الاتحاد الاشتراكي ، ولكن الذي شاهدته في (القاهرة) لم يكن تدبيرا من جهاز ، بل كان انفعالا صادقا وجماعيا من الشعب والكتل البشرية التي سدت المنافذ يومها ، لم يكن احد ما يستطيع تدبيرها وتسييرها ، والمشاعر التي سادت الناس ، لم يكن بوسع احد ان يطلقها ، ولازلت مقتنعا ان الشعب المصري لو انه لم يعلم بكامل الحقيقة وقتها لم يرض بأن يفقد المعركة والقائد ، وكان لسان حاله يقول : (ان المعارك مستمرة ، وقد نخسر واحدة ، ونكسب أخري ، ولكن فقدان المعركة والقائد امر لايقبل) .
كان الدخول الي منزل (عبدالناصر) مستحيلا ، فقد كانت الكتل البشرية تسد الطريق والمنافذ في (القاهرة) ولكن .. وبمعونة الاخ (سامي شرف) أستطعت ان ادخل وجلست بجانبه بعد ان شددت علي يدهـ وشد علي يدي بنفس القوة التي شد بها عليها قبل ايام في الاسكندرية ، وتجلدت عندما رأيت علي وجهه نفس الشجاعة والهدوء والثبات ، وكان عزائي واملي ان الشعب المصري لم يهزم وان (عبدالناصر) لم يهزم ، ولقد شاهدت ذلك بنفسي ، والتفت الي وعلي وجهه نفس الابتسامة الودودة ، وقال : (لقد وصل إخواننا السودانيون ، وهم في مقدمة الصفوف ، آسف لم تكن هنالك طائرات لنقلكم ، لقد صدقت معلوماتكم) .
قلت : (إن الذي صدق هو حسنا ، إن معلوماتنا قاصرة) والتفت الي الاخ (علي صبري) والاخ (سعد زائد) وقال (سنتكلم في هذا الامر كثيرا) وقلت في عصبية وبلا دبلوماسية : (لقد كرهت الكلام ، دعونا نعمل ، فمازال هنالك وقت للعمل) . ورد ناصر : (صحيح) وتداولت مع الرئيس (عبدالناصر) ثم قفلت راجعا الي (الخرطوم) .
نقلا عن المجهر السياسي



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 05-05-2021, 08:58 PM   #[12]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

اقتباس:

جريدة المجهر الجمعة 9 نوفمبر 2012م الموافق 24 ذوالحجة 1433هـ العدد 200
رحلة في طيات الكتاب - لوطني وللتاريخ .. مذكرات الشهيد الشريف حسين الهندي
سفير أمريكا يهدد ’’الشريف الهندي‘‘ أعيدوا علاقتكم مع واشنطن إن أردتم البقاء في الحكم !!
الحلقة السابعة أ

إعداد خادم التراث / محمد الامين الشريف عمر الهندي
هو الشريف الحسين بن الشريف يوسف (الهندي) بن الشريف محمد الامين ، بن الشريف يوسف بن الشريف احمد بن الشريف زين العابدين بن الشريف حمد بن الشريف آدم بن الشريف محمد الشهير بالهندي ، الذي علق به لقب الهندي لأن مرضعته في مكة كانت هندية الاصل .
ولد الشريف حسين في عام 1924م ، ونشأ وترعرع بضاحية بري الشريف شرق الخرطوم ، وقد الحقه والدهـ بالخلوة لحفظ القرآن الكريم ، فأتم حفظه في سن باكرة .. ثم حضر خاله الاستاذ احمد خير وأخذهـ معه ليتم دراسته بمدينة ود مدني والحقه بالصف الرابع بالمدرسة الاولية .. وفي منتصف الصف الرابع ذهب الشريف الحسين لتلقي دراستهم الثانوية بكلية فكتوريا بالاسكندرية بمصر .
وإنضم معظم زملاء الشريف الي الاحزاب الاتحادية التي اندمجت في الحزب الوطني الاتحادي عام 1953م ، وكان عدم إنضمام الشريف لهذه الاحزاب مثار تساؤل ، غير أن بعض المقربين كانوا يعرفون ان من رأي الشريف أن الطائفية ينبغي ان تبتعد عن العمل السياسي الحزبي ، وبعد إعلان دمج (الحزب الوطني) في (الوطني الاتحادي) سجل الزعيم اسماعيل الازهري رئيس الوزراء ورئيس (الحزب الوطتي الاتحادي) علي رأس وفد من الحزب والحكومة ، زيارة الي قرية (العقدة) والتقي بآل الهندي في معقلهم .. وبعد تلك الزيارة ، أعلن الشريف حسين إنضمامه رسميا الي (الحزب الوطني الاتحادي) .
وفي عام 1958م ترشح الشريف في دائرة الحوش عن (الحزب الوطني الاتحادي) وكان في الوقت نفسه مشرفا علي الانتخابات في دارفور ، وقد فاز في دائرته فوزا كاسحا .
وكان الشريف علي صلة وطيدة بكثير من حركات التحرر الوطني ويساعد بعضها في الحصول علي السلاح ، وكان يشرف علي معسكرات المقاتلين السودانيين المقامة بليبيا واثيوبيا ضد نظام نميري العسكري ، وكان من المناصرين بشدة لحركات المقاومة من اجل التحرر في العالم عموما وفي افريقيا ، وقد كلفه عبدالناصر القيام بمحاولة لخطف الرئيس الكنغولي ’’باتريس لوممبا‘‘ وكادت محاولته ان تصل الي غايتها لولا ان خصوم ’’لوممبا‘‘ أقتادوهـ قبل وصول ’’الشريف‘‘ الي مكان مجهول وقتلوهـ .
ولخروج الشريف من السودان قصة طويلة معروفة في تاريخ السودان - تخللتها وحدثت بعدها احداث جسام في رحلة حياة عامرة بالمواقف .
وقد قضي الشريف اخريات ايام حياته في العبادة وتلاوة القرآن .. وتوفي في اثينا في يوم 9 يناير 1982م .. وكان قد تزوج في أخريات العهد الحزبي الثاني من كريمة الخليفة احمد عبدالوهاب .. ولم يخلف أبناء ، ولكنه خلف في الدنيا صوتا داويا .

******
كان (الملك حسين) قد حضر الي القاهرة يقود طائرته بنفسه قبل الخامس من حزيران يونيو بيوم واحد ، وبعد قطيعة وحملات إعلامية دامت زمنا ، وفي ساعات عاد الصفاء ، ورجع (الملك حسين) ومعه الشهيد (عبدالمنعم رياض) وقاتل جيشه وقاتل هو ببسالة نادرة ، ولكن الجيش الاردني أصيب بضربة قاضية ، ولم تستطيع طائرات (الهنترا العتيقة أن تقاتل الميراج) وسقطت الضفة الغربية كلها ، وسقطت معها (القدس) واحتل الجيش الاسرائيلي مرتفعات الجولان والقنيطرة ، وهكذا أخذت الهزيمة عمقها العربي والاسلامي ، وجلل السواد المنطقة العربية كلها ، وتقيح الجرح في نفس كل عربي ، وكان من إيجابيات الهزيمة ، إن كان للهزيمة إيجابيات - أن ايقظت روح النضال والصمود في قلب كل مواطن عربي ، وزالت من النفوس كثيرا من السخائم وتطهرت من الرجس والدنس .
وترأس السيد (محمد احمد محجوب) رئيس الوزراء وفد السودان لمؤتمر وزراء الخارجية بالكويت ، حيث رأي إخواننا ان يكون رئيسا له ، ومع مشغولياتي المتعددة والحالة المالية التي تعانيها بلادنا اصر ان اذهب معه لأرأس وفد السودان حيث كان هو رئيس للمؤتمر ، وتقدم وفد السودان لمؤتمر وزراء الخارجية بالاقتراحات الاتية : -
1/ قطع العلاقات مع امريكا وانجلترا سياسيا واقتصاديا وثقافيا .
2/ سحب جميع الارصدة العربية العامة والخاصة من امريكا وانجلترا .
3/ إيقاف ضخ النفط .
4/ إنشاء صندوق النقد العربي ، وإعلان الدينار عملة عربية مستقلة وعالمية .
5/ إعلان الوطن العربي كله ساحة قتال .
6/ إحياء القيادة العربية العسكرية الموحدة ، وتسليح وتدريب الجيوش والجماهير العربية .
7/ إنشاء صندوق التنمية العربي .
ومع دفاعنا المستميت عن هذهـ المقترحات فلم نستطيع الحصول علي إجماع بشأنها ، وسافرنا لمتابعة الامر في هيئة الامم ، حيث ستبحث القضية العربية ، وفي طائرة واحدة كويتية سافرت كل الوفود العربية .
وفي اسطنبول شهدنا اولي ردود فعل (النكسة) علي العالم الخارجي ، وفي دولة إسلامية كنا ننتظر مؤازرتها ، أوقفت طائرتنا ، وأحاط بها الجند المدججون بالسلاح ، ولم يعط لنا الإذن بالوقود والاقلاع ، إلا بعد مشاورات دامت ساعات ، قضيناها داخل الطائرة وهي تلتهب من الحرارة .
وفي باريس ، إمتنع عمال المطار عن خدمة طائرتنا أو إنزال أمتعتنا ، وكانت الكراهية والشماته تنبعثا من كل الوجوهـ ، وحملنا أمتعتنا بأنفسنا وغادرنا صبيحة اليوم التالي لـ(نيويورك) حيث شهدنا العجب العجاب ، واستقبلتنا الهتافات ’’أقتل عربيا بدولار‘‘ وكانت هذهـ حملة تبرع لإسرائيل ، وأحاط بنا رجال الامن إحاطة السوار بالمعصم ، في المطار ، وفي الطريق وفي فندق (والدورف استوريا) الذي اقمنا فيه جميعنا .
كانت هذهـ مشاعر هذا الجزء من العالم ، لأمة فقدت ارضها ، وشرد اهلها وقتل ابناؤها ، والتفت الي (المحجوب) الشاعر المحب للشعر - وهو يترنم بهدوء ، وكان معنا الصديق الدكتور (عبدالمنعم الرفاعي) وزير خارجية الاردن آنذاك .
آمرتهم أمري بمنعرج اللوي ..
فلم يستبينوا النصح إلا ضحي الغد
وسكت .. فجاوبته ..
وهل انا إلا من غزية إن تموت
غويت وإن ترشد غزية ارشد

وشاركنا ملحمة عكاظ هذهـ الشاعر الملهم الرفاعي فقال :
ومن لم يزد عن حوضه بسلاحه
يهدم .. ومن لايظلم الناس يظلم
ومن لم يصانع في امور كثيرة
يضرس بأنياب ويؤطأ بمنسم

قلت في نفسي :
هل حقيقة إننا أمة من الشعراء ومن يتبعهم فقط ؟

والي الحلقة الثانية :
حيث نتحدث عن مباذل المهازل في هيئة الامم المتحدة ، ومسرح العرائس فيها ، وعن تفوقها علي عصبة الامم ، وحيث لا رأي ولا حق ولا عدل ولا امم ولا يحزنون .

الحلقة الثانية :
صدور القرار (242) ومؤتمر المواجهة .
إبتدأت الجمعية العامة للأمم المتحدة في بحث القضية العربية في جو عاصف ومتأزم ، ملئ بالتوتر والتكتلات والمؤامرات ولقاءات الكواليس والسفارات ، وبدأ وزراء الخارجية إجتماعاتهم المستمرة برئاسة (المحجوب) وهو متمرس في النشاط السياسي ، ممتلئ بالاخلاص المطلق والايمان وتقدير الاوساط السياسية في العالم ، خاصة في العالم العربي ، منذ اللحظة الاولي بدأ إختلاف وجهات النظر يطفو علي سطح الاجتماعات التي كانت تعقد في البعثات العربية ، وأغلبها في بعثة الكويت ، ولم تكن خلافات انظمة ، فقد ذوبت الصدمة هذهـ الخلافات ، وكانت هذهـ الصدمة أكبر منها - ولكنها كانت خلافات بين (الصقور) و(الحمائم) وبين المحافظين والاحرار - إذا صح التعبير ، وبين المتعقلين والمتطرفين أمثالنا ، وللحق فلم تعليقات المتعقلين تنطوي علي إتجاهـ تصفوي أو إنهزامي ، ولكنهم كانوا يرون أن تعالج القضية بالوسائل الدبلوماسية وسياسات التوازن .
كان الاخ (المنجي سليم علي) رأس هؤلاء ، وهو دبلوماسي عريق يري ان التطرف لايخدم القضية ، وان علينا ان نتحلي بالواقعية ، ونقبل الواقع ونطوعه لمصلحتنا بالصبر والنفس الطويل ، وللتاريخ لم أكن أشك في عروبة الرجل ، ولكن اعصابي المتوترة نتيجة الصدام والمجابهة كانت تأبي أسلوب الدبلوماسية الهادئة في قضية مقهورة عليها ان تقاتل وفي الميادين ، وبكل الشراسة والضراوة لاسترداد حقوقها ، ولذلك كان الصدام بيني وبينه سمة تسود كل الاجتماعات ، وكنت أهمس لـ(المحجوب) خارج الاجتماعات (انه ليس المنجي سليم ، بل الملك سقيم) .
وأشعر الان بمرارة هذا الكلام ، ولم أجد وسيلة للإعتذار عنه إلا كتابة هذهـ المذكرات رحمه الله ، فقد كان رجلا واسع الاطلاع غزير التجربة ، بخدم قضيته بالطريقة التي يؤمن بنجاحها .
وكان المناخ في امريكا معاديا ، والرأي العام صعبا ضد العرب ، بطريقة لايمكن وصفها ، وكانت مختلف وسائل الاعلام ضدنا حتي الشارع ، ورجال الامن ينامون معنا في أماكننا ، وكنا نلزم اماكننا طوال الوقت ، وكنت اذهب بصفة مستمرة لقضاء بعض الاعمال في البنك الدولي وصندوق النقد ، وكان الاخ (بشير محمد سعيد) عضوا في الوفد ، واتصل بي وقال : إن السفير الامريكي السابق بالخرطوم يريد مقابلتي ، ولم ار ضررا في ذلك ، وفي ميعاد حدد مسبقا ، حضر السفير لمنزل القائم بالاعمال في (واشنطن) وحضر المقابلة الاخ (خليفة عباس) وكيل الخارجية وعضو الوفد ، كما حضرها القائم بالاعمال ، كنت هادئ الاعصاب ، ولكني لاحظت - منذ الوهلة الاولي ان الرجل مهتاجا وعصبيا ومتفجرا وبدأ حديثه قائلا :
(كيف تجرؤون علي قطع العلاقات مع دولة عظمي ، تستطيع ان تلتهمكم في أقل من ثانية ؟ الافضل لكم ان تعرفوا حجمكم ، إن واجبكم إعادة العلاقات فورا ، إذا اردتم إستقرارا أو بقاءا في الحكم!) .
ولاحظت اسلوب التهديد ، ولهجة التعالي والتحدي والارهاب ، وتمالكت نفسي . وقلت : (لايمكن ان نعيد العلاقات ، وإذا كانت اسبابنا ليست كافية قبل حضورنا هنا ، فإن الذي رأيناهـ وسمعناهـ من شعبكم وحكومتكم وصحافتكم وإعلامكم يجعل من المستحيل علي أي عربي ’’له ذرة من كرامة‘‘ ان يحافظ علي اية علاقات معكم دعك من ان يعيدها ، وقضيتنا في مثل هذا الوضع) .
قال : (إنكم سترون ما الذي سيجرهـ عليكم هذا الموقف ، ويومئذ فلن يبكي احد عليكم) . وعند ذلك إنبعث كل الحقد الذي كنت أخترته ، وقررت ان أؤدب الرجل بيدي وأؤدب في شخصه المتعجرف سياسات أهله وغطرستهم ومواقفهم إزاء قضايا الشعوب ، فوقفت وقلت له إنك لاتزيد عن ان تكون قاطع طريق ، في أمة من رعاة البقر ، إن المستقبل سيعلمكم ان هذا الوجه الامريكي القبيح سيجعلكم لعنة العالم ، وإذا كنتم تؤمنون بالقوة العارية وبالتهديد ، فسترون إنها مردودة عليكم ، إنكم تقفون دائما مع القضايا الخاطئة ، ومع الظالمين ، وتفترون بقوتكم ، ولكن قوي الشعوب أقوي منكم ومنهم ، ما الذي ستفعله ؟؟! أخرج مسدسك كما يفعل رعاة البقر أمثالك واضرب ، إن هذا كل الذي تعلمونه وتعملونه) .
وفتحت له الباب وإنتظرت بجانبه ، فلم ينبس ببنت شفة ، وخرج وهو يتلفت خلفه .
وبدأ الاخوان (خليفة عباس) و (مصباح المكي) يهدئان من روعي ، وأخبرني الاخ (بشير محمد سعيد) أخيرا ، إن الرجل لم يكن دبلوماسيا بالمهنة ، ولكنه كان سياسيا أختير للسودان ، ومثل هؤلاء يفقدون مناصبهم إذا قطعت العلاقات مع البلدان التي يعملون فيها كسفراء ، وقال لي إن الرجل كان يدافع عن منصبه ، وإعتقد إن هذا افضل اسلوب ، وذكرت المعارضة في بلادنا هذا اللقاء بالكثير من الكذب والتضليل ، ولكن الاخ (بشير محمد سعيد) رد عليها بالحقائق ، وكذلك فعل الاخ (خليفة عباس) وكيل الخارجية ، والذي حضر كل الاجتماع هو والاخ (مصباح) القائم بالاعمال وقتها .
كان موقفنا في عرض قضيتنا في الامم المتحدة واضحا وجليا ، وتمشيا مع مواثيق الهيئة ، ولم تكن هناك امور متشابهات ومداخلات ، هناك دول إحتلت اراضيها وهذا يخالف المواثيق الدولية كلها ، ولابد ان تنسحب الدولة المعتدية من هذهـ الاراضي ، ولم يكن هناك ما هو ابسط أو اوضح وأبلج ، وليس فيه لبس او حوله غموض ، وأوضحنا رأينا هذا في الخطاب الرئيسي لرئيس الوزراء نيابة عن العالم العربي ، وفي كل خطب وزراء الخارجية العرب ، وقد اشتركنا في صياغة خطاب السيد رئيس الوزراء ، وكان معبرا ومؤثرا وصادقا ، بحيث استقبلته كل الوفود استقبالا حماسيا إنسحب بعدهـ وفد إسرائيل .
ولكن كانت هناك قوي ضخمة ورهيبة وخفية ، ولها قدراتها ووسائلها وأتباعها ومرتزقتها ، وهي تعمل بغير حياء ولا خجل ، وبخرق واضح للميثاق ، بأن تضمن القرار إعترافا بوجود إسرائيل ، وبقائها وإستقلالها وحمايتها وشرعيتها ، واحترام حدودها وإيقاف حالة الحرب معها ، ومنع أي مقاومة لوجودها غير الشرعي ولا القانوني ، وحتي التجارة وتبادل العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية معها ، كانوا يريدون إعترافا من العرب بذلك ، مقابل وعد بالجلاء لايمكن لأحد ضمان تنفيذ إسرائيل له .
كانت هذهـ المعادلة تعني ، وبكل بساطة نهاية القضية الفلسطينية والي الإبد ، جلاء غير مصحوب بالتنفيذ عن اراض عربية ، وإعتراف بشرعية إسرائيل ووجودها ، وضياع لقضية الشعب الفلسطيني ، معادلة ومساومة لا يمكن ان يقبلها أي عربي ولا علاقة لها بميثاق الامم المتحدة .
ولذلك وقفنا بصلابة عند موقفنا : الجلاء عن الاراضي العربية كلها جلاء غير مشروط ومصحوب بالتنفيذ العاجل ، وإزالة كل آثار العدوان ، هذهـ هي القضية ، اما موضوع اسرائيل فلا وجود له هنا ، ثلاث دول أعضاء إنتهكت حرية استقلالها واحتلت اراضيها ، وهي اعضاء في المنظمة ، ووفق ميثاق المنظمة يجب ان يجلو المعتدي عن اراضيها ، وكان هذا المنطق ناصعا ، وفي غير حاجة لشرح او اقناع او توجيه ، فهو حق ابلج ليس فيه إلحاح أو نقاش .
وبدأت مشروعات المساومة والحلول الوسطي ، بإيحاء و إيعاز وسند من القوي الكبري ، وتقدمت دول امريكا اللاتينية بمشروعها ، وكان يقضي الانسحاب الفوري عن الاراضي العربية المحتلة والنقطة الثانية كانت تحتوي علي موضوع اسرائيل بطريقة إيحائية وليست واضحة تماما ، وعرض المشروع للتصويت ـ ووقفنا ضدهـ وبالاحري ضد الفقرة الثامنة منه ، ووقف معه الذين كانوا يريدون إستغلال النكسة لإكساب الوجود الاسرائيلي الشرعية الدولية ، وسقط المشروع وللحق والتاريخ كان مشروع الدول اللاتينية أفضل لنا الف مرة من القرار (242) ومع هذا فقد رفضناهـ وكنا نريد الجلاء عن الاراضي التي احتلت لدول مستقلة ، ولا ذكر إطلاقا لإسرائيل مهما كان مائعا .
ونشطت المؤامرات والمناورات ، وشعرنا بإهتزاز مواقف الكثيرين من الذين يقفون معنا ، وشعرنا بضغوط الدول الكبري وبإنه ليس هناك ميثاق - إذا وجد - فليس هناك من يقف بجانبه أو يدافع عنه ، وبدأ موقفنا يضعف أكثر مما كان ، تحت ضربات القوي الكبري ، وعلا صوت (المتعقلين) بيننا ، وإهتزت مواقف الاخرين ، الذين يؤيدوننا وطال بقاؤنا في (نيويورك) اكثر من شهر ، وفي وسط هذا المناخ الملئ بالضعف والانهيار داخل الجمعية ، وبالرأي العام الامريكي ووسائطه المشوشة ، إنهار الكثيرون .
وفي مثل هذهـ الحالة النفسية التي صنعها دهاقنة الاستعمار وخبراء قهر الشعوب ، تقدم الانجليز بمشروع أعدهـ وصاغه الامريكان هو القرار(242) كان يطلب الانسحاب عن (أراض) عربية احتلت وليس (الاراض) التي احتلت ، والفرق واضح ، فإن (الـ) - وكانت مكتوبة تعني كل الاراضي اما (اراض) كما وردت ، فقد تكون فرسخا أو هكتارا أو حتي شبرا ، وكان الشق الاخر منه اكثر بشاعة وشناعة ، فإنه يقرر شرعية الوجود الاسرائيلي ، وإحترام استقلاله وحدودهـ الآمنة ، وإيقاف حالة الحرب معه ، وبالتالي معاملته كوجود شرعي يتبادل معه العرب العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية والسياحية وحرية عبور سفنه ورعاياهـ ، وبالتالي ان يقبل العرب به كما يقبلون وجود مصر أو سوريا أو السعودية مثلا ، وكان الشق الثالث من القرار يتجاهل القضية الفلسطينية كلها وشرعيتها الازلية ، وحقها الطبيعي ، وحتي وجود شعبها وبصفة مجرد (لاجئين) يعاملون بالطريقة التي يعامل بها أي لاجئين ، ولم يكن هنا أي مجال إنساني أو سياسي أو عربي أو قومي أو حتي إقليمي لقبول مثل هذا القرار ، لقد حرمنا كل شئ - حتي (الاراضي) التي احتلت ، سميت (اراض) لكي يترك للعدو أن يختار ، ما الذي سيجلو عنه ، وما الذي سيحتله ، محققا فيه أمله من النيل للفرات .
وفي المرحلة الثانية اضفي علي اسرائيل صفة الشرعية القانونية العالمية ، وضمن اعتراف العرب بها وعلاقاتهم معها وضمن حدودها ، وبذلك كرس الاعتداء ، وجعله شرعيا وقانونيا عالميا ، بموافقة اهله العرب انفسهم ، وفي المرحلة الثالثة إفراغ قضية الشعب الفلسطيني من أي محتوي وطني أو قومي أو عربي سياسي أو حتي إنساني ، وإضافتها كقضية لاجئين مثل الاف قضايا اللاجئين التي يعج بها العالم ، والتي تعالجها وكالة الغوث .
أي إنسان أي دمي يرضي بهذا ؟ دعك من عربي تجري في عروقه ولو قطرة من الدم العربي ، وتسري في شرايينه ولو ذرة من الانتماء الانساني والاسلامي والبشري ، كان هذا يعني ذهاب حضارة بأكملها وقومية بأسرها ، وامة بكل رجالها ونسائها واطفالها ، وما يزال الحلال فيه بينا والحرام فيه بينا ، ولم تكن بينهما أية متشابهات .
ودار الصراع حول المشروع في إجتماع وزراء الخارجية العرب ، وبدأ واضحا ان الضغوط والايحاءات والاملاءات قد فعلت سحرها حتي بيننا نحن العرب ، كان هناك من ينصحوننا بقبوله علي اساس الواقعية وسياسة المراحل ، وشئ خير من لاشئ ، وهذا حال الدنيا ، وإن ما اخذ منا بالقوة ، لايمكن استردادهـ إلا بالخنوع والخضوع لمثل هذهـ القرارات ، فهذهـ إرادة العالم والقوي الاكبر والاعظم .
إشتدت حدة النقاش وتبودلت فيه الالفاظ القاسية ، قلنا إن هذا باطل وانه لايمكن ان يهزم حقنا - مهما كان ضعفنا - بباطل الاخرين ، وان هناك قضية امة وحضارة وقومية ، وإن هذهـ القضايا لا تحل بالحلول الوسطي والمساومات والخوف ، بل إنها تحل بالمواقف المبدئية والتمسك بالاهداف مما صعب تحقيقها ، وطالت مسيرتها ، نحن لايمكن - وبطوعنا وإختيارنا - ان نحقق شرعية ما لاشرعية له ، ولا يمكن ان نتنازل عن قضية امتنا الحضارية والقومية بمحض إختيارنا ، ولمجرد ان الاعداء اقوي منا وصيحاتهم تدوي حولنا ، فلنسجل موقف الرفض المبدئي - ولنري بما ذلك كيف تحول الرفض الي صمود ، وكيف نرتفع بالصمود الي إنتصار وليس ذلك علي ولا علي الشعب العربي بعزيز ، والتاريخ ملئ بحالة الانكسار لشعوب اصيلة ، رفضت ان تعلن حقها باطلا ، مهما كان ضعفها ، وسارت في ركبها البطولي نحو اهدافها الخيرة فبلغتها حتي بعد اجيال واجيال .
قيل لنا في لهجة التحقير ، ما هي قوتكم انتم الذاتية ؟ وما هي هذهـ المزالب التي تريدون ان تورطوا بها الاخرين ؟ وأنتم خلو من اي قوي ؟ قلنا إننا اقوياء بحقنا وليس بقوتنا ، وإن حقنا سيخلق من ضعفنا قوة ، وهذهـ قضية أجيال ، وهي ليست مرتبطة بقوة حالية او ضعف آني ، إنها مرتبطة بكونها حقا او باطلا ، إن الحق لايصير باطلا ، إذا لم تساندهـ القوة ، وإن الباطل لايصير حقا إذا أزرته كل قوي العالم .
ما الذي سنفقدهـ إذا وقفنا ضد هذا القرار ؟ ونحن الفاقدين لكل شئ ، الارض والعرض وشعب بأكمله مشرد ، يلد ويترعرع ويموت في خيام اللاجئين لماذا نسجل قبول هذا ، أمام العالم أجمع ؟ ليست هناك كلمة واحدة في هذا القرار يمكن ان يوافق عليها أي عربي ، وليس فيه مكسب بل خسارة وعار وبيع لقضية قومية ، وضياع لكل الاجيال القادمة من امتنا ، وحرمانها حتي من حقها الشرعي في الحياة والنضال والبقاء .
وإنكفأ الصراع داخلنا ، تحركه الاصابع الدفينة المتمرسة في تلعيب مسارح العرائس ، وإختلفنا - ومن وقتها - وللآن وجري التصويت علي القرار (242) فوقفنا ضدهـ ، ووقف معه كثير من الوفود العربية .
نقلا عن المجهر السياسي



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 11-06-2021, 10:44 PM   #[13]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

اقتباس:

جريدة المجهر السبت 10 نوفمبر 2012م الموافق 25 ذوالحجة 1433هـ العدد 201
رحلة في طيات الكتاب - لوطني وللتاريخ .. مذكرات الشهيد الشريف حسين الهندي
الشرق الاوسط بعد (النكسة) .. جهود المواجهة لوقف المد الاسرائيلي ..
الحلقة الثامنة

إعداد خادم التراث / محمد الامين الشريف عمر الهندي
هو الشريف الحسين بن الشريف يوسف (الهندي) بن الشريف محمد الامين ، بن الشريف يوسف بن الشريف احمد بن الشريف زين العابدين بن الشريف حمد بن الشريف آدم بن الشريف محمد الشهير بالهندي ، الذي علق به لقب الهندي لأن مرضعته في مكة كانت هندية الاصل .
ولد الشريف حسين في عام 1924م ، ونشأ وترعرع بضاحية بري الشريف شرق الخرطوم ، وقد الحقه والدهـ بالخلوة لحفظ القرآن الكريم ، فأتم حفظه في سن باكرة .. ثم حضر خاله الاستاذ احمد خير وأخذهـ معه ليتم دراسته بمدينة ود مدني والحقه بالصف الرابع بالمدرسة الاولية .. وفي منتصف الصف الرابع ذهب الشريف الحسين لتلقي دراستهم الثانوية بكلية فكتوريا بالاسكندرية بمصر .
وإنضم معظم زملاء الشريف الي الاحزاب الاتحادية التي اندمجت في الحزب الوطني الاتحادي عام 1953م ، وكان عدم إنضمام الشريف لهذه الاحزاب مثار تساؤل ، غير أن بعض المقربين كانوا يعرفون ان من رأي الشريف أن الطائفية ينبغي ان تبتعد عن العمل السياسي الحزبي ، وبعد إعلان دمج (الحزب الوطني) في (الوطني الاتحادي) سجل الزعيم اسماعيل الازهري رئيس الوزراء ورئيس (الحزب الوطتي الاتحادي) علي رأس وفد من الحزب والحكومة ، زيارة الي قرية (العقدة) والتقي بآل الهندي في معقلهم .. وبعد تلك الزيارة ، أعلن الشريف حسين إنضمامه رسميا الي (الحزب الوطني الاتحادي) .
وفي عام 1958م ترشح الشريف في دائرة الحوش عن (الحزب الوطني الاتحادي) وكان في الوقت نفسه مشرفا علي الانتخابات في دارفور ، وقد فاز في دائرته فوزا كاسحا .
وكان الشريف علي صلة وطيدة بكثير من حركات التحرر الوطني ويساعد بعضها في الحصول علي السلاح ، وكان يشرف علي معسكرات المقاتلين السودانيين المقامة بليبيا واثيوبيا ضد نظام نميري العسكري ، وكان من المناصرين بشدة لحركات المقاومة من اجل التحرر في العالم عموما وفي افريقيا ، وقد كلفه عبدالناصر القيام بمحاولة لخطف الرئيس الكنغولي ’’باتريس لوممبا‘‘ وكادت محاولته ان تصل الي غايتها لولا ان خصوم ’’لوممبا‘‘ أقتادوهـ قبل وصول ’’الشريف‘‘ الي مكان مجهول وقتلوهـ .
ولخروج الشريف من السودان قصة طويلة معروفة في تاريخ السودان - تخللتها وحدثت بعدها احداث جسام في رحلة حياة عامرة بالمواقف .
وقد قضي الشريف اخريات ايام حياته في العبادة وتلاوة القرآن .. وتوفي في اثينا في يوم 9 يناير 1982م .. وكان قد تزوج في أخريات العهد الحزبي الثاني من كريمة الخليفة احمد عبدالوهاب .. ولم يخلف أبناء ، ولكنه خلف في الدنيا صوتا داويا .
****


وسقطت التصنيفات القديمة ، فوقف ضدهـ حتي الذين كانوا يوصمون وقتها بالرجعية ، والوقوف مع الاستعمار ، ولم نتبين قوة اصابع مسرح العرائس الناعمة إلا عندما دوي صوت السيد بابكر عوض الله يوافق ، وفي اول بيان علي القرار (242) عند إعلانه إنقلاب 25 مايو الاسود ، ويومها ادركنا فوق إدراكنا ، انه ليست هناك امم وهي ليست متحدة ، وليس هناك حق عالمي ولا سلم عالمي ولا عدل عالمي ، وان علي كل مقهور مظلوم ان يقاتل حتي يتغير واقعه ، ويبتعد عن الاعتماد علي منطق المواثيق ومبادئ الحق والعدالة في العالم وإحاجيها واساطيرها ، فقد عشناها ولمسناها واكتوينا بشرها ونارها .
وللحقيقة والتاريخ فقد كانت مشروعات القرارات التي سبقت القرار (242) احسن منه واقوي ، هذا إذا كان الامر أمر دبلوماسية ومقارنة بين الحلول الوسطي ومضاهاة بين خيارات المساومة ، ولكن القضايا المصيرية - قضايا الشعوب - وقضايا الحضارة - وقضايا القومية - وحتي قضايا الانسانية - ليست معرضا للمساومات والتفضيل بين الطرق المختلفة للاستسلام والهزيمة وبيع قضايا الامم .
هكذا كان موقفنا العسكري غداة النكسة ، وهكذا كان موقفنا في المسرح الدولي يوم إقرار القرار (242) .. فما الذي بقي ، إنه كفاح الشعب العربي الطويل الدؤوب اليومي الملئ بالدم والدموع - إنها مسيرته المليئة بالتضحيات والبطولات المفعمة بدماء الشهداء المطرزة بقبور الشهداء والمعطرة بفوح الدماء .
فلنر كيف تضيع الامة العربية هنا ، انفض السامر في نيويورك بعد شهرين من الضني والسهر ، وفي القلوب ما فيها ، ووصلتنا برقية عاجلة تطلب من وفد السودان الحضور العاجل لمؤتمر دول المواجهة الذي يعقد في القاهرة ، لكي نشرح موقف القضية في المحافل الدولية ، وكان السودان وقتها من دول المواجهة مع مصر والعراق والجزائر والاردن ، وكان الرئيس الشهيد اسماعيل الازهري قد سبقنا للقاهرة ، فهرعنا الي هناك بعد ان اعددنا تقريرنا وعلي رأسنا المحجوب ، وفي قلبه كل الالم ، وفي عيونه الحسرة وبين جنباته عزم وتصميم وفي قصر البعثة - قصر (الطاهرة) بمصر الجديدة - كان ينتظر الرؤساء ، وكان يقبع (مالك) المندوب السوفيتي يحمل بين إبطيه المشروع الروسي للصلح ، وهناك كان يرابط عبدالناصر ، بين جوانحه الاسي ، وفي قسماته الاصرار ، وكان هناك بومدين ومعه المليون شهيد ، وعلي وجهه صرامة المجاهد ، الذي لم تترك الملاحم له إبتسامة تلمع أو سنا تضحك ، وكان هناك الملك حسين وهو لا يزال ينفض عن كسائه غبار معركة قاسية ضارية خاضها بكل الاخلاص والجسارة وخسر فيها كل شئ ، وكان هناك الازهري مليئا بالايمان ، واثقا بالعروبة متسلحا بالاسلام ، لاينفذ الاحداث مهما كانت جساما - الي هدوئه وقوة اعصابه .
لم يكن في تقريرنا اي لبس بأنه لاجدوي ولا مستقبل للقضية في هيئة الامم المتحدة أو مجلس الامن ، وإنه ليس هناك حلفاء او اصدقاء للقضية العربية ، ألا العرب انفسهم ، وأي اعتماد علي أي قرار يصدر عن هذهـ الجهات لن يكون في مصلحة العرب - وحتي إذا كان - فسيظل قرارا ورقيا - لا امل إطلاقا في تنفيذهـ في الميدان - وحتي لو كان للعرب اصدقاء ولو كان للحق والعدل اصدقاء ، فإنهم بطريقة أو اخري يخضعون أو يتأثرون أو يتبعون لوسائل القوي الكبري التي تسير العالم - ليس بحق الفيتو الظالم فقط - بل بكل ثقلها ووزنها وتأثيرها علي الدول الاعضاء وإنه ليس هناك هناك حق او عدل مجردان ، بل هناك تلوين وتنويع وتصميم وتطويع للحق والعدل ، حتي يخضع لمصالح الدول الكبري وتوزيع مناطق النفوذ بينها ، وإن هيئة الامم ليست الا ساحة جدالية ونقاشية ، يتباري فيها الخطباء ، وتطلق فيها الشعارات ، وإذا قدر لنا ان نفرض قضيتنا هناك فليس هناك نتائج ملموسة أو اهداف محققة أو عدل يفرض او ظلم يرفض ، إنما هي مجرد استعراض كلامي وإعلامي وذرائعي نشترك فيه كما يشترك الطلبة في جمعية ادبية ، او الشعراء في أي (عكاظ) .
إن هناك من يقاتل معنا بالنوايا ، ومن يعارك معنا بالقلوب ، ومن يناضل معنا باللسان ، وعلينا ان نكتفي بأضعف الايمان هذا ، إن كل هؤلاء يتعاطفون معنا ويعطفون علينا ، ويعلمون إننا علي حق ، ولكن كل هؤلاء يقولون لنا بعيونهم - لا بألسنتهم - إن الحقوق تؤخذ ولا تعطي ، وما أخذ بالقوة لايسترد الا بالقوة ، إن كل هؤلاء يكادون يصرخون امامنا ، إن حقكم لايمكن ان ينتصر هنا في قاعة المحاضرات الكبيرة هذهـ ولا بالخطب البليغة المؤثرة هذهـ ، بل هو يكسب هناك في نفس الميادين التي ضاع فيها ، في ساحات القتال ، وعبر النضال الدامي والدامع والطويل والمرير مرورا علي اجساد الثكلي والجرحي واليتامي والارامل ، وان ثمنه هو الارواح والدماء تسفك بلا حساب والنضال يحصد الرقاب تتلوها الرقاب .
إن العالم يحترم القوة ويخضع لها ، ويتظاهر بالعطف علي العدل ، ولا يقاتل أو يقتل من أجله ، فهو لايحترم الاستجداء ، ولكنه يخضع للاستيلاء والاستعلاء ، وإن لم يكن يعلن جهرا خضوعه للقوة فهو يخافها ويهابها ويتجنبها - إن لم يكن يحترمها ، فالحق يؤخذ إمتدادا من فوهة المدفع ولايعطي بلاغة من فوهة المذياع .
لم تكن هذهـ الحقائق المجردة العارية جديدة علينا ، ولكننا عايشناها وجربناها فزادت مناعتنا ضدها ، وكانت مسؤوليتنا كبيرة ، فإن الذين يجتمعون في القاهرة يريدون ان يعلموا ما الذي ستساندهم به المحافل الدولية ؟ والي أي مدي يعتمدون عليها في إسترداد حقوقهم ؟ وكان جوابنا واضحا : لاشئ . وكان في تقريرنا أجزاء خاصة بموقف القوي الكبري ، واتجاهاتها ، خاصة امريكا وروسيا ، وما هو موقف كل من منظومة الدول الاشتراكية ، والدول الاسلامية والدول الافريقية ، وما موقف العالم الثالث ، وموقف دول عدم الانحياز ، وكان تقريرنا واضحا ومفصلا ودقيقا ، وكان اوضح واشد تفصيلا في موقف الدول العربية نفسها . يحمل كل مرارة الحقيقة ومذاقها العلقم ، وفي ختام التقرير ، كانت توصياتنا وإقتراحاتنا واضحة وصريحة ، لاتحمل إلا تفسيرا واحدا ، لا تعقيد فيه ولا الغاز .
وكنا علي استعداد للدفاع عن تقريرنا بكل الحزم والمكاشفة ، وان نقف بجانب توصياتنا بكل العزم والمجابهة ، ونرد بشجاعة علي كل تساؤل او استفسار اوغموض ، وكنا نعرف اقدار الرجال الذين سنواجههم ، ونعلم أيضا خطورة القرار الذي سيتخذونه بعد مداولاتهم ونقاشهم ، وانه علي نتيجة هذا القرار يتوقف ويحدد مصير الامة العربية .
كان إجتماع دول المواجهة مغلقا - يحضرهـ رئيس كل وفد واثنان من زملائه فقط ، وفي هذا الاجتماع المحدود ، المطلق السرية ، دار نقاش مثير وساخن ، واصطرعت افكار وتضاربت أراء وحددت مواقف واتخذت قرارات اشفقت بالتنفيذ العاجل ، ابتداء من رحلة موسكو الشهيرة - الي المظلة الجوية ، ولا أعتقد ان كثيرا منها قد تسرب خارج القاعة حتي الان - فالي هناك .
* مواجهة الاصدقاء .. ومجابهة الاعداء .
لم يصدر القرار (242) في دورة الانعقاد هذهـ ولكننا حضرنا وعملنا باستعداد له وكان موقفنا إزاءهـ واضحا ، وكنا نعلم بالاعداد له ، وحتي بصياغته قبل ان نغادر نيويورك ، فالقرارات التي عرضت ، كانت قرارات المنظومة الاشتراكية ، ومشروع قرار دول عدم الانحياز - ولم يكتب له مناخ او عرض .
كان (تيتو) يحاول في كل العواصم العالمية خلق مناخ له - ومشروع قرار الدول اللاتينية ، وكنا نعلم ان مشاريع ستمضي . حتي تصل المشروع الانجليزي - الامريكي ، ولذلك كنا علي علم بالمواقف كله في هيئة الامم المتحدة وفي مجلس الامن .
وقد صدر القرار (242) بعد إنعقاد مؤتمر القمة في الخرطوم ، من هنا كان رفضنا واجبا قوميا ، خصوصا بعد قرارات مؤتمر القمة ، وقد حاول تغيير رأينا أؤلئك الذين نقف معهم ، والذين يعز علينا ان نختلف معهم في أي قرار ، وحضر الاخ حسن صبري الخولي في محاولة لإقناعنا بقرار (242) ولم يكن هناك من سبيل ، فقد كان إقتناعنا واضحا وملتزما بالموقف القومي ، وبقرارات مؤتمر الخرطوم ، واختلفنا عند ذلك .
لم يكن الامر يخص بلادنا او نظامنا ، بل ان الامر قومي والتزام عربي ، حدث في بلادنا ، والتزام منا وكنا نتمزق من مجرد تصور الاخلاف ، ولكنها قضية قومية ومصيرية ، والتزامنا جلي وواضح ، ولذلك تمسكنا بالرفض ، رغم شعورنا بخطورة الخلاف ، وبعواقبه وإنعاكاساته وردود فعله ، التي كان من بينها المغامرة بنظامنا .
لم نكن نجهل ذلك إطلاقا ، لكن كان الالتزام بالموقف القومي أكبر منا ومن نظامنا ، وحتي مستقبل الديمقراطية في بلادنا ، وعندما ذهبنا الي القاهرة لحضور (مؤتمر دول المواجهة) كنا نعلم ان الاتحاد السوفيتي يريد أي قرار من هيئة الامم وكان يعمل له ، ويخشي الهزيمة السياسية بعد الهزيمة العسكرية ، كان يوافق - كما هي سياسته دائما - علي بقاء اسرائيل ، وعلي امنها وحدودها ، وكان يخشي ايضا ان تنفض الهيئة في دورة انعقادها هذهـ بلا قرار ، وكان منطقه اقبلوا ببقاء إسرائيل حتي تتمكنوا من إعادة إستعدادكم العسكري ، وكان يقدر له مدة سنتين أو اكثر ، وكان منطقه ان الارض لاتهم ، إنما المهم هو الانظمة التقدمية ، ويضرب الامثال بتخلي لينين عن (اوكرانيا) كلها ، وكان (غروميكو) في نيويورك يسعي لكل ذلك ويستعجله ويضغط من أجله ـ و(مالك) في القاهرة يعمل من أجل الهدف نفسه .
ولم يكن هناك من سبيل ، فالاتحاد السوفيتي يخشي من عدم المرونة مع الاستعمار ، ويحذر من عواقبها ، وقد تكون هذهـ خطة ، وقد يكون هذا منطقا ، وقد يكون (تكتيكا) أو مرونة مرحلية ، ولكنه كان من الناحيتين المبدئية والقومية ، غير مقبول ، وكنا نعلم ذلك ونصر عليه ، كان (بودقروني) قد حضر الي القاهرة علي رأس وفد سياسي وعسكري في 13 نيويو 1967م ، ودار نقاش بينه وبين عبدالناصر ، كانت الهزيمة لاتزال خضراء ، ولذلك لم يستطيع (بودقورني) ان يعرض كل ما في سلته من أقتراحات ، وكان عبدالناصر يري أن مصر - والعالم العربي - يجب ان يتركا سياسة عدم الانحياز السلبية ، وينحازا كليا للمعسكر الشرقي ، حتي يكون من دول حلف وارسو ، وبذلك يواجه ابجديات وقوة الامبرالية العالمية .
والغريب أن (بودقورني) كان هو المتردد . والذي يخشي عواقب هذهـ السياسة ، ويعتقد انها تأتي بحرب عالمية أو مواجهة نووية ، ولذلك كان ينصح بالتمهل فيها وإعادة النظر في كل عواقبها ، وحتي أستشارة (تيتو) صديقه اللدود فيها ، كان حذر السوفيت وخشيتهم أكثر من ما كنا نتوقع ، وربما كان لهم عذرهم ، فقد كانت الهزيمة سياسية ساحقة وشاملة ، وكانوا يريدون الحل السياسي ، إما حقيقة ، وإما لكسب الزمن ، وكانت لهم أسبابهم فربما لم يتوقعوا هزيمة عسكرية في مثل هذا الحجم ، وكانوا يخشون هزيمة سياسية أكبر منها ، وكانوا يعتقدون ان الاسرائيليين قد يهاجمون وهم علي بعد لايزيد عن مائة كيلومتر ، من كل من القاهرة ودمشق وعمان ، ولذلك كانوا ينصحون بالمرونة وبالحل السياسي ، ويخافون أن تنفض دورة انعقاد الامم المتحدة بلا قرار - أي قرار سياسي - حتي لو كان فيه تنازل ، وإلا فقد تصبح كل الاحتمالات للمجهول ، ومن بينها المواجهة العالمية ولم يكونوا يريدونها .
وفي هذا المناخ .. إنعقد مؤتمر دول المواجهة كانت سوريا هناك ، وكان الرئيس الاتاسي يمثلها ، وفي اول إجتماع شرحنا الموقف في المحافل الدولية ، ومجلس الامن وبدأ واضحا إنه لايخدم القضية وكان الاقتناع بذلك جليا ، وتكلم ناصر بصدق ووضوح وصراحة ، وكان همه الاول كما قال لنا : (أرجو ان تساعدوا ان يحل مالك عنا) .. وكلف المحجوب وشخصي الضعيف بذلك ، وذهبنا لزيارة مالك في قصر (الطاهرة) وتكلم - صورة متكاملة من غروميكو : (لابد من موافقتكم علي قرار سياسي قبل إنتهاء فترة الانعقاد) .
ولكننا تمكنا من شرح موقفنا له ، وهو موقف القادة المجتمعين ، ربما لم يقتنع - واظنه لم يقتنع - لكنه علي اي حال ، وحسب تعبير ناصر سافر (وحل) عنا وعنه ، وعدنا للإجتماع . قال ناصر إنه ليس بين القاهرة والعدو غير مائة كيلو متر ، وربما بضعة اسلحة صغيرة وقال إن مالك يعرض الصلح ، ولم أسمع الكلمة إلا وإنفجرت وقلت له : (كيف يتم الصلح هذا ؟ إن أي حد منا لايستطيع ان يواجه به اسرته ، حتي زوجته وابنائه ، دعك من ان يواجه به شعبه والامة كلها؟!!) .
نظر الي ناصر في ألم وهدوء ، وقال بالحرف الواحد ، وانا هنا أردد نفس الكلمات ، فقد علقت بذهني ، ولا تزال ترن في أذني : -
(إنك علي حق .. إن إبني خالد الصغير يسألني : كلما ادخل المنزل ، الي متي سيبقي الاسرائيليون في ديارنا ؟ ولا أستطيع له جوابا ، وفي بعض الاوقات ، يخيل إلي أن أذهب واقود القليل من الجنود ، بالقليل من الاسلحة واحارب حتي اموت) .
وصمت .. وصمتنا جميعا ، إحتراما لحزن الرجل العظيم وانفعاله ، الذي قل ما يظهرهـ وشعرت ان حديثي لم يكن دبلوماسيا ، ولكن كيف تسعفني الدبلوماسية في مثل هذا الموقف ؟!.
وبعد مداولات اشترك فيها الجميع تقرر : (ان الاسبقية الاولي هي إعطاء السلاح لمصر وسوريا ، وإننا لابد ان نتبين موقف الاتحاد السوفيتي هنا ، فقد كان هو المصدر الاول والوحيد ، واردف ناصر : (إن القاهرة مكشوفة ولابد من غطاء جوي ، وليس هناك طيارون ولاطائرات لقد ارسل الروس بضع طائرات قليلة ومستعملة ، وهناك طيار واحد فقط لكل 3 طائرات ، ولذلك لابد من المظلة الجوية لكي تحرس القاهرة ، بطياراتها وطياريها ، وقد شرحت هذا لبودقورني عند زيارته ، ولكنني لم اجد ردا واضحا ، كان يخشي - فيما اعتقد - وجود الطاريين الروس هنا ويخشي تدخلا من الامريكان عند ذلك ولكنه لم يصرح .. ولابد ان تعرف موقفهم في هذا) .
إتفق الجميع ، إنه لابد من معرفة موقف الروس من إمدادات وتعويضات السلاح ، ومن المظلة الجوية وبدون هذا ، فلا يمكن للمؤتمر ان يحدد سياسة ، او يقرر مسارا . واقترح السفر الي موسكو ومناقشتهم ، ومعرفة نتائج ذلك قبل انفضاض المؤتمر ، ودار نقاش طويل ، اتفق بعد الاجتماع علي ضرورة سفر رئيسين لموسكو ، وان يظل الاجتماع منعقدا حتي رجوعهما ومعرفة نتائج الرحلة . وتم الاجماع علي سفر الرئيسين : بومدين وعبدالرحمن عارف ، وان يصحبهما بعض الوزراء . وهنا حدثت نادرة بددت جو الجدية الذي يسود الاجتماع ، قال الرئيس عارف بعذوبته المعروفة : (ولكني لم أحضر معي جواز سفري) .
وقلت بنفس الجفاف وعدم الدبلوماسية : (من الذي يسأل رئيس دولة عن جواز سفرهـ ؟ وأي مسؤول جوازات سيعترضه ؟) وضحك الجميع .
حدث إتصال عاجل بموسكو ، وجهزت طائرة الرئيس بومدين ، وغادرت من قاعدة جوية الي قاعدة عسكرية في موسكو ، أو الاصح بالقرب منها ، كانت رحلة طويلة وشاقة ومضنية ، وكان الجو داخل الطائرة يسودهـ الصمت والانقباض ، وكنت سمرت نظري علي بومدين ولا اذكر انه حول عينه من امامه ، لم يلتفت ولم يتحرك ، ولم تظهر علي وجهه خلجة تدل علي شئ طوال الخمس ساعات ، كنت اتصور في سلوكه كل الموقف العربي : مأساته ، هزيمته ، حزنه ، وإصرارهـ علي الثبات والمقاومة والنضال .
نقلا عن المجهر السياسي



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 12-06-2021, 03:28 AM   #[14]
بابكر مخير
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية بابكر مخير
 
افتراضي

في

http://sudanyat.net/vb/showpost.php?...61&postcount=7

عن حسين الهندي مادحا "للأنصار" والجزيرة ابآ معقلهم. قبلها في واحدة من الحلقات السابقة محمد الامين الشريف عمر الهندي قال: أنهو حسين الهندي بقى إتحادي ومعروف أن الزعيم أزهري كان ميلهو وحدوي مع مصر ووجد في الميرغني ("زعيم الختمية" وهي حسب رأي محمد الأمين وما إستشفاه من عن حسين الهندي أنهو ضد الطائفية). أنا في شوفي؟؟ جميل جدا أن البعض يجمل في ناسهو لكن كمان ما يلخبت في التأريخ... طرفة تحكى عن سبب إنضمام حسين الهندي لمجموعة الإتحاديين وهو ربيب "طائفة" الأنصار (مش جدهو كان أمير في المهدية وبي شهادة سلاطين؟). قيل حين سئل ليه بقى مع الإتحاديين. رد وقال: حزب الأمة كلهو فراودة وصعب تلقى معاهم فرصة



التوقيع:
بابكر مخير غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 12-06-2021, 04:11 AM   #[15]
بابكر مخير
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية بابكر مخير
 
افتراضي

تباين رؤى إتنين من المواطنيين الغيورين على السودان. أحدهم برابط الدم والإنتماء السياسي والتاني دون الإتنين... وحسين الهندي في النسختين بعض من الإختلاف...

https://www.alrakoba.net/31573573/%d...f%d8%a7%d9%86/



التوقيع:
بابكر مخير غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

تعليقات الفيسبوك

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 07:20 PM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.