حاج الماحي الشاعر المغني
حاج الماحي المادح الذي برع وأجاد في شعر المديح , أمدته طبيعة المنطقة والقرية التي عاش فيها وهي قرية الكاسنجر التي ولد وترعرع فيها بالكثير من الجماليات التي أضفت على شعره ومدائحه لونية خاصة ونكهة مميزة يتذوقها ويحسها السامع من أول وهلة ... ولا يجد صعوبة في نسبتها إليه وتمييزها عن بقية المدائح التي أشتهرت بها مناطق السودان الأخرى
, أمدته هذه البئة التي يحترف أهلها حرفة الزراعة بأدوات و مفردات شتى وأسهمت أيضا طبيعة الحياة التي يعيشونها ببساطتها وتقاليدها وتراثها الزراعي وبجمالياتها حيث الخضرة على ضفاف النيل وحيث تنوع الطبيعة نفسها من حوله كل ذلك أسهم في تغذية وجـدانياته وأستنطقته الطبيعة من حوله ليخرج لنا هـذا الزخم الكبير الكثير المتفرد من المدائح النبوية التي ظلت لعهود وأجيال محتفظة بنفس تأثيرها الأخاذ وبنفس رقتها وطلاوتها ومداعبتها للوجدان الروحي0
تربى حاج الماحي في منزل كان ربه مادحاً عاشقاً لأنغام الطار وصديقاً مقرباً لشاعر الشايقية ومادحهـم الأول علي ود حليب من منطقة المقل وهو اول مادح عرف من الشايقية ورغم أن حاج الماحي إنفلت في بواكير صباه من هذا الجو الصوفي وأخذ بناصية شعر الغزل وتقفى أثر الجمال في مواطن أخرى حيث كانت له صولات وجولات في أغاني الطمبور بل كان ناظماً للكثير من الأغـاني التي ذاع صيتها في ذلك الزمان وأكتسب من خلالها شهرة وسمعة جعلته من الرواد الذين تتهامس العذراوات في خدورهن باسمه وبراعته , إلا أن بيئة منزله الصوفية المتدينة ما لبست أن جـذبته اليها ليفرغ كل شحناته الروحية والعاطفية في وعائها , متخذاً من سيرة الرسول نبراساً ومنهجاً 0
نظم حاج الماحي الكثير من أغاني الطمبور كما أسلفنا والكثير من المدائح النبوية ولكن حينما أتى الانصار الى منطقة الشايقية في حملة ود النجومي المتجهة الى مصر ألقوا بجل قصائده والتي دونت على يد أحد أبناءه في نهر النيل ولم يتبقى منها الا النذر اليسير وهو ما يردده الآن أحفاده الآن .
(2)
وكنموذج من أغاني الطمبور التي نظمها في شبابه والتي لم يحصل أديبنا عمر الحسين إلا على هذه الشذرات منها :-
يا قزاز الرومي الرهاف والعطر في بطنو ينشاف
عاشة حبة دم الرعاف وشالا صقراً قالوا ختّاف
وخلا ناس التوم في سراف ومكوي ود داؤود كي خلاف
سـاقا ود كلية الخبير سـاقا شقـابا العتامير
وسكنا أرقو الفوق للحفير من ضهر ترقد فوق سرير
وتتكبت بى توبـو الكبير
ومناسبة هذه القصيدة , كما اورد أستاذنا وأديبنا عمر الحسين , أنه كانت هنالك فتـاة بارعة الجمال والحسن يتعشقها شاب يدعى ود داؤود ينافسه عليها آخر يدعى التوم ولم يظفر بها الاثنان , إنما زفت الى ثالث رحل بها الى منطقة أرقو الحفير0 فنظم هذه القصيدة مداعباً صديقيه0
ونظم حاج الماحي أيضاً في ملك الشايقية المشهور المعروف الملك صبير الذي كان يهيم بفتاة من فتيات الشايقية ذوات الحسن والجمال الذي يأخذ بالالباب وكان هنالك حفل عرس أقيم بقرية الملك صبير , وعلم الملك ان هذه الفتاة آتية لحضور هذا الحفل فما كان منه إلا أن أتى متخفياً ليظفر منها بنظرة وكانت تجيد فن الرقص إجادة تامة , وكان حاج الماحي من ضمن الذين يحضرون هذا الحفل , فعرف الملك برغم تخفيه وعرف انه انما أتى من أجل هذه الفتاة ,فنظم فيه وفيها قائلاً :-
شوفو اللبيب من خلتو
يابى الدقس شن علتو
حجـلاً سمح شلشلتو
جاب الملك من حلتو
واللبيب : يقصد بها نفسه ( حاج الماحي )
والدقس : الفتيات كاحلات الاعين
شلشلة : صوت الحجل ( صلصلة او وسواس )
(كيفية إقامة حلقات المديح )
عـادةً يفتتح حفل المديح والناس جلوس , بعد أن يهيأ له مكان في فناء رحب فسيح يسع الجميع من الرجال والنساء والاطفال , وتدور المباخر بالبخورعلى الحاضرين , وعادة ما يتم تجهيز أسِّـرَة
( عناقريب ) بفرش وثير للمـادحين , أما بقة الحضور فتفرش لهم البروش والمفارش الارضية من أكاليم وخلافه , ويخرج المادحون ( المدَّاح ) بعد أن يكونوا قد تناولوا وجبة العشاء الدسمة والتي تكون عادة من لحم الذبيحة الطازج ( فطير بالتَّبَان ) والتبان هو ( الدمعة ) واللحم المحمّر , وحين يتهيأ الناس للسماع وقبل البدء , توقـد نار في ركن قصي بجريد النخل لتحميس الطارات وجعلها مشـدودة لتخرج صوتاً قوياً متماسكاً ثم يبدأ المديح بالنغمات التقيلة نوعاً ما لتهيئة المستمعين نفسياً وروحياً , ثم يأتي الانتقال الى النغمات الخفيفة حـتى تسري القشعريرة في الجسد , ويتملك العشق والطرب نفوس المستمعين فيتقافز بعضهم بعصيِّهم وعكاكيزهم الى سـاحة المديح فيقف المادحون تجلة وإكراماً لهم وإحتراماً لعشقهم النبي , وعـادة ما يكون هؤلاء الاشخاص من كبار السن الذين لم يتشرفوا بالذهاب الى طيبة الطيبة ورؤية ( السهوة ) أو ( أم قلّة ) أو ( الخضراء ) وهي الحجرة الشريفة ويقع بعضهم على الارض من فرط الطرب والعشق للنبي حتى يغمى عليه , ويتوافد الناس عليه ويرشونه بالماء البارد ليستفيق فينصب واقفاً وهو ملئ بالتراب والطين , أما الذين إستطاعوا أن يكبحوا جماح النفس من القفز والرقيص , إما لكبر سنهم الذي يحول بينهم وبين ذلك أو لعلة أخرى فتجدهم يلوحون برؤوسهم وهم جلوس يمنة ويسرةً , ويـذرفون الدمع هطالاً وهـم يرددون ( صلى الله عليه وسلم )
وأذكر أن أحد المطاميس من أصدقاءنا ذهب يوماً الى الجبل بنوري الى أحد البيوتات التي ترفع الرايات وذهب من قبل مغيب الشمس وأتى من بعد صلاة العشاء بعد أن أفرغ في جوفة أرطالاً من ( الدكَّاي ) المعتق ( كَبَيق اللِّيل مَرِيسي ) وأتى من هناك منتشياً , وتصادف أن كانت هنالك ( ليلية مديح ) بقريتنا فأتى وجلس بيننا متلثماً بعمامته وعينيه تقدح حمرة كعيني الورل , وبحسب خبرتنا وحنكتنا في مثل هذه الامور لم يفت علينا أمره ... وفجأة في إحدى المدحات الراقصة إنفلت صاحبنا من بيننا قافزاً الى ساحة الرقيص وفعل ما لم يفعله مايكل جاكسون طيلة حياته , والنّاس يهللون له ويصلون على النَّبي والمادحون وقوفٌ .... والنساء وقوفُ , وهو كالقشة في مهب الريح يدلف الى أقصى يمين الساحة وتارة الى أقصى يسارها وتارةً يتوسطها وهو في قمّة النشوة الى أن خبط الارض كالنخلة العجفـاء وتوافـد عليه
الحاضرون وأهراقوا عليه صفيحتان من ماء بارد ولم يفق صاحبنا حتى ظننا أنه سيودعنا بعد حين الى غير رجعة , وكان حديث القـرية في صبيحة اليوم التالي ... وبالطبع إنكشف أمره للقاصي والداني فكان كبار السن العاشقين للنبي عليه أفضل الصلاة والسلام يقولون له :- الله يخربك آ المطموس .. الشي نحنا كُنّا قايلنك عشقااان .. أتاريك إنت شبعان ..؟ بعد أن يصل النّاس الى مرحلة الطرب والعشق هذي تبدأ الطلبات الخاصة , كأن يطلب صاحب الليلية المقامة في منزله أو الذي أقيمت الليلية على شرفه إن كان قادمـاً من سفر او عريساً .. يطلب مدحة معينة لها وقع في نفسه فيلبي المادحون طلباتهم الواحد تلو الآخر الى أن يتسلل الكرى الى أجفان الحاضرين وينعس النّاس فيبدؤون في التسلل لواذاً .. فتجد أحدهم يذهب قريباً من البروش والمفارش التي تجلس عليها النساء ويرفع يده اليمنى مشيراً الى ناحية منزله أو ينادي بصوت مسموع .. إنتِن فاطني راحت .. ولا قاعدِي .. ؟ وهـو يعلم يقيناً أن فاطني قاعدِي ولا تستطيع أن تشق جنح الليل الى منزلها وحدها في تلك الساعة المتأخرة من الليل , وحين يحس المادحون أن النّاس كَثُرَ تثاؤبهم , وبدأت أفواههم تنفتح وتنغلق كأفـواه الضفادع في الحفير الفوق من فرط النعاس ... حينها يهبون وقوفاً لختم هذه الليلية بمدحة :- ( يا الله السلامة ... ) وقد يتعجل البعض قبل أن يقف المادحون للختام قائلين لهم :- سووا لنا السلامي .... سووا لنا السلامي .... وهذه إشارة كافية على أن النّاس قد بلغ منهم النعاس مبلغا , وهكذا تختم هذه الليلية .. وتظل حاضرة في وجدان الناس متملكة مشاعرهم ردحاً من الزمن حتى تأتي مناسبة أخرى تقام فيها ليلية تحل محل سابقتها , وتجد النّاس يؤرخون بهذه الليلية لبعض الاحداث التي تحدث في القرية ... دحين آ فلان ..إنت البوغة اللَّتَك كانت قبّال الليليّي اللّت ناس ود الزّين ولا بعدها ...؟ و ... ولاد أبراهيم ديل دحين ساعة جوا من السفر طهروهن بعد الليليّي ولا قبالها .. ؟ وهكذا لم يمت حاج الماحي .. بل ظل حيّاً .. طيلة هذه السنين الطويلة , وعبر هذه الاجيال ... يجدد للناس عشقهم و حبهم الفطري للرسول ويقوي إيمانياتهم ويثقفهم ويفقههم في سيرة الرسول الحبيب وفي الدين أيضاً , حتى إنك تجد أكثرهم ممن لم يرتاد مدرسة ولا خلوة يحفظ سيرة الرسول عن ظهر قلب من خلال مدائح الماحي فقط .. بل تجد بعضهم ممن لم يحج بيت الله الحرام ملماً بمناسك الحج وشعائره منسكاً منسكاً وشعيرةً شعيرةً وأيضاً من خلال مدائح حاج الماحي فقط ...
"عبد العظيم الطاهر"
"منقول من موقع البركل"
|