مساء بعيد
عبد الجليل سليمان
بدا القمر ذاك المساء وكأنه لوحة تتأرجح على حائط مثقوب، ظلت تنتظره في ظلمة يشوبها (حفيف) ضوء، أشباح أنوار خافتة ترسل أشعتها إلى عينيها الشاردتين، فينبض قلبها ضربات متتالية عنيفة، تهزأ بذاك الجزء من الفستان الذي تنحني خطوطه أسفل النهد المتدثر بفستان (بمبي) بورود زرقاء وصفراء صغيرة جداً، تبدو وكأنها منمنمات فارسية قديمة.
وكانت جديلتيها تتربصان كتفيها بكسل ناعم، فتضرب بهما الريح بين الفينة والأخرى على ارتكاز صدرها الخارج للتو من مكان ما مُبهم، كانت تنتظر أول موعد غرامي لها، حيث أنها سمعت قبل أقل من (حول) جدتها تقول لأمها يا (مطموسة) البنت بلغت وإنتِ ما جايبه خبر.
(1)
تحسست شعرها المقصوص بعناية بالغة، ونظرت إلى المرآة ببطء لذيذ، أدخلت أصابع يدها اليمنى عميقاً إلى شعرها من جهة أسفل عنقها بعيد مهوى القرطين، وبدأت تستعيد تلك التفاصيل البعيدة والموغلة فيما يشبه الأحلام، وما يقترب من وشوشه النهار على أطراف الصبح إذ يطرد آخر خيوط الظلمة من متنه، ليركب مكانه ويصعق الرؤوس بشمس تغلق الذاكرة على آخر صورة رأتها ليلة أمس وهي مستلقية على ضوء القمر.
(2)
هه. كنت صبية مدهشة، انتظرته في تلك الليلة وحيدة اختبئ في ظلمة باهته أنتجها حائط الجيران الآيل للسقوط، ارتعشت يداي ما أن سمعت وقع خطواته قادمة كحوافر فرس البدوي تجس صفحة رمل الصحراء فتُحدِث ما يشبه الخشخشة، وانخلع قلبي بينما أنفاسه تقترب ويده تجوس في راحتي.
سوت شعرها المقصوص بعناية، و أخفت ببعض مما داخل حقيبتها من مساحيق بعض التجاعيد المقوسة على جبتها الدقيقة، و(كربت) ثوبها على خصرها، ونهضت.
(3)
في الطريق إلى حيث هو، كان شيئاً ما يرتج في قلبها فتسمع همسه في أذنيها، وهو يقول: لا أظن أنه سيأتي، لكن كانت تتقدم بعزم نحو المكان. دخلت الآن، اختارت طاولة في ركن قصي ومظلم من المطعم الأفرنجي، وانتظرت.
الرجال لا يهتمون كثيراً بمواعيدهم مع من هن في مطلع الأربعين، خاصة اللاتي لا أزواج لهن، وإذا فعلوا فإنهم غالباً ما يفكرون في أمور عميقة، أصاخت باهتمام بالغ لصوت صديقتها الصادر من مكان ما بذاكراتها القوية، وتمتمت: وينك يا (شذي)، أختك وقت وقعة.
نظرت إلى ساعة الهاتف الجوال، وهي تنظر بحسرة إلى شريط خافت من عصير المانجو يصعد ويهبط داخل أنبوب (المص)، فبدا لها المطعم كله مختبر للفحص. لم يأت، سأمنحه بضعة دقائق إضافية؟
ثم وبلطف قلق، سحبت فستانها الذي تحت ثوبها الشفاف بخفة، و فتحت علبة (الكريم)، وبطرف سبابتها اليمنى أخذت نقطة واحدة، وضعتها في منتصف باطن يدها اليسرى، وبدأت تدلكها بكلتي يدبها برفق، قبل أن أن تمسح بهما ساقيها وفخذيها، وهي تجوس بنظرها ماسحة المكان، لئلا طفيلي ما يتربص، أو يأتي هو حاملاً إليها بعض الكلمات الغضة.
(4)
استعادت بسرعة كامل (مكياجها)، وسوّت شعرها بمشط ناعم، ثم أعادت المرآة والأدوات الأخرى إلى الحقيبة، وخرجت.