كـوابيـــس أكــوانــج ...
الهالة الكروية الضخمة نفسها ، الضباب المسود ، الاراضي المسطحة لانهائية النهايات ، الأشياء المتحركة غريبة الملامح وبعض المعارف ، منذ البداية وحتى الفزع والشهقة ، ليتقرفص خوفا ويتثآب من جديد .
الهالة تهرب .. يطاردها .. كان يخاف منها حد الهلع فهي كرة موت ، دوائرها الملتصقة كا(الخيش) تماما بخيوط هلامية كأهداب ملك الموت .. كالنار في اختفاء الأشياء فيها وكالظلام في وضوحها و التماهي ، كانت تتدحرج هاربة ولكن تكاد تخلع قلبه ، ليسيل الدم زيتا في معصرة الخوف .. يركض خلفها ويصرخ ملء حنجرته ويستغيث الأشياء المتحركة في الضباب لتوقفه وهي في آليتها المخيفة لاتراه حتى . يصرخ وينادي وأرجله تتحرك رغما عنه خلف ذلك الموت ..
يتكرر الكابوس ، لايفيق منه الا داخله بحلم لثواني ثم يستمر من جديد ، تطل عليه (سانريا) .. بملامح يومها الأول ، في كنجو كنجو وهي القادمة مع الصغار من فشودة على ظهر ثور مغبر اللون ، فارعة الهيبة ، عارية الكتفين لامعة الملمس مفلجة الخواطر .. تطل في منتصف الكابوس كالرحمة ، يسرح في عينيها ويغيب فيهما . ليغيب المشهد بظهور الهالة من جديد ، تهرب يطاردها وعيناه تشتعلان ورجليه لا يحس بهما الا وهما يركضان خلفها وهو مايعتصر قلبه خوفا ونزاعا داخله ، تحاول بطنه ايقافهما فتنتهي المحاولة بإرتفاع اسفلها خوفا ثم يهبط حين تبطئ قليلا .يطمئن قلبه لوهلة ...
تظهر (سانريا) من جديد وحولها الأطفال ترمي بالمرتبة المبللة لشمس الخرطوم الحارة لتحمل رياح سوق ستة مااحتوته من صنان مع ماحملته من أصوات المحطة (مايو مايو مايوو، عربي خرتوم عربي طالع ) . ينقطع الحلم . هالة صغيرة تنفصل من الكرة المخيفة العملاقة ، تتقافز بين رجليه ، قرب اذنه تنفجر بدوي كبير تكاد تثقب طبلة أذنه ، تستحيل دخان ينسرب الى اذنه ..عليّ الطلاق .. بصوت السماسرة المتحلقون حوله ليبتاعو البيت بمراتبه ، أغلظهم حلفا كان البيع من نصيبه ، (سبعين مليون) لبيت سعره (تسعين مليون) ولكن تحذيرات الأراضي من شراء بيوت الجنوبين هدت من اسواره وهتكت سقفه فكان سعره كذلك ..
الهالة تخرج من اعين السمسار تطل بخوفها المميت في عيني أكوانج تهرب لتتحرك رجليه خلفها في متوالية الفزع ، تطل من الهالة أعين اخرى يعرفها ، جيرانه وآخرون قابلوه في مكان ما ويعرفوه ، فأكوانج لاينساه من يقابله ، زملاء العمل والدراسة واصحاب الوجع ، لم يخبرهم بالرغبة في الذهاب حيث قابلهم ولم يخبروهو كيف يبتعد عن اعينهم والهالة . ولم يخبرو بعضهم عن سر ذلك الكابوس .. فقط تدحرجت اعينهم وتشابكت ايديهم في ظلام الهالة المخيف .
برودة القاهرة وأزقتها الضيقة تبدو مشوشة ، وسانريا والأطفال ينتظرون على بعد كيلو متر يدور حولهم ولايقدر الوصول اليهم ، متنازع بين شوقه لسناريا وخوفه من خذلانها ، متنازع بين حنينه للأطفال وخوفه من لمعان الحاجة في اعينهم ، متنازع بين جنيهات ثمن التاكسي الى سانريا و (مليون) هو كل ماتبقى له ، فقد خسر مثله في المحكمة خلف السمسار غليظ الحلف ، ثم خسر البيت حين خسر السمسار نصفه في أزقة المحكمة وتحت الطاولة .
لم يخذلها يوما منذ قدومهما الى الخرطوم هربا من خطوط الإستواء المشتعلة وحتى وصولها القاهرة هربا من خطوط التماس في الوحدة السوق . بما أخذه من حقوقه قرر مواصلة الهجرة الى الشمال فالجنوب لم يعد يؤمَن ولم يعد هو يؤمِن به .. الأطفال يكبرون يتعلمون ويعرفون ، والأمور ستسير في ظل أكوانج الطويل كما وعدها .. لن تخاف ..
الهالة تخرج من أعين الأطباء المصريين بخوف اكبر هذه المرة او اقل هو لايعرف لم يكن لخوفه حد ليقيس . تهرب فيطاردها ، إحدى عينيه فقط تبكي ، جاحظة ، ربما نضب دمعها ، الصراخ لا يتوقف والأشياء في الضباب بآليتها لاتعيره انتباهاً . يقترب من الهالة يزداد انقباض صدره ، يختنق ولايتوقف الصراخ ، يصرخ يصرخ ويصرخ .. كابوس الصراخ .. تبتعد الهالة قليلا فيحس بإبرة المخدر تنغرس في وريده ، يفقد وعيه بالأشياء تدريجيا ، على فراش أبيض ، و(سوق) ابيض يسمى تمويهاً (مسشفى) ، في قاهرة المعز امتطى رجولته وافترش وعوده لسانريا في غرفة العمليات تاركا ابناء العزيز يشترو كليته بثمن بخس لأنها منهكة كما قالو ، لكن ثمن كلية منهكة يمكن ان يرطب اكباد العديد من من ينتظرونه .. ثم تدركه الهالة في تخديره .. الأطباء في خطوط الهالة مع آخرون رآهم في الشاشات .. الأطباء يتدحرجون في الهالة ، هاربين ، ينادونه بأن يأخذ كليته ويدفنها فقد فشلت عملية النقل .. كاذبون كالجزارين تماما بمعاطفهم الدامية ، سرقو كليته واعطوه نصف كيلو من مشيمة الخدعة ، هم الأقرب في ثقوب الهالة المخيفة اكثر الآن .. سوداء العمق مظلمة الحواف .. عينه المعطوبة تبكي دما .. يصرخ يترجى رجليه ليتوقفا ، يختنق بالصراخ ، البيت والكلية الواحدة .. يصرخ اكثر حين يقترب من الهالة الخوف يخترق عينيه وتقترب الهالة ، رجليه يسرعا ودوائر الهالة تمد أيديها اليه لتجره اليها يقاوم رجليه ويصرخ تقترب الهالة وتقترب ..
يشهق .. يضم ارجله اليابسة الى صدره المقبوض خوفا ، حين توقظه سانريا ممسكا ببطنه وهو يتلوى على الرصيف ..
|