نعي أليم - فيصل سعد في ذمة الله !!! عكــود

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > منتـــــــــدى الحـــــوار

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 03-06-2017, 01:14 PM   #[1]
هاني عربي
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية هاني عربي
 
افتراضي كرمة

مسودة الجزء الأول من رواية كرمة - هاني عربي
(1)
" لملم عددك سوق معاك ولدك "
" انتهت مددك وعلم السودان يكفي لسندك "
أوتارُ العود تُطربُ المكان، وأنا على كومةٍ من الترابِ، وبيميني أبـي – عفواً – مذياعُه، ودموعي تبللُ حقيبتَه الجلديّةَ المُعتّقة بعطرِ الجازولين. إيقاعُ الـ "Lister" يختلطُ بالمشهد؛ يبدو أنّ خيالي هو من أضافه! فطلمباتُ المياهِ الصينيّة حلّت مكانَ أسلافها الهنديّة العتيقة التي تذكّرني بمشهد والدي رحمه الله يغوصُ في النيل ليُخرَج مضخّة الماء بعد أن غمرها الفيضانُ ويحملها بمشقّةٍ مع رفاقه لارتفاعٍ لم يَصله النهر بعد.
عملٌ شاقٌّ يتكرر كلّ خريف؛ لا يملُ منه الكادحون أو من زراعةِ القمحِ والفولِ في الشتاء؛ رغم عدم جدوى المحصولين اقتصادياً! "لقد سخّرنا الله لإطعام الناس"، هكذا كان يقول عمّ خضر وهو يجيب على سؤالي: "لماذا لا تَزرعون محاصيل مربحةً؟"
أكّدَتِ الشمسُ أنّها ما زالتِ الآمر الناهي رغم الشتاء، وتصببتُ عرقاً في نهار ديسمبر! عدتُ إلى كلماتِ يوسف مصطفى وصوتِ حسن خليفة: " يا غريب يلا لبلدك أمشي لبلدك "؛ في زمانه لم يكن التغريد محدوداً بـ 140 من الحروف.
تلّة الترابِ التي أجلس عليها هي ما تبقّى من خطِّ القطار النيلي الذي أنشأه كتشنر عام 1896م! أينَ ذهبتِ القضبان؟ أسعفتني ذاكرتي بمشهد السقوف البلديّة المصنوعة من القنا المسنود من المنتصفِ بقضيبٌ حديدي نسميه "كَمَر".
وجَدْتُ أمي تنتظر أمامَ البابِ وهي تضعُ يديها على رأسها وتنظر إلي قائلةً: "ويبيوه ... وين انتَ يا ودود من الصباح؟ عمّك عبد الرحيم قال ليك في عريس جاه لأختَك وداير يقعد معاك في الموضوع دا". أخذتُ بيدِها ودخلنا سويّاً إلى "أوّونوق" (وهي غرفةٌ داخليّة في البيوتِ النوبية لا يصل إليها إلا أصحاب المنزل) وجلسنا لنتكلّم بهدوء وانشغلتُ لدقائق بالتعاملِ مع "فطيرة الروب" الشهيّة ثم حمدتُ الله ورفعتُ رأسي فرأيتُ والدتي تنظر إليَّ بحنانٍ ممسكة بإبريقٍ تريد أن تَغْسِلَ يدي.
حلفتُ عليها ألا تفعل وأجْلَسْتُها بجواري. "محمد ود سيد أحمد قال عايز أختك والولد أهله مشكورين إلا ما بنعرفه لأنّه طوّل من البلد وما في زول خابر عنه حاجة يا ولدي" أطرقتُ إلى الأرضِ لبرهةٍ ثُمَّ نهضتُ من مكاني سائلاً عن رأي هيفاء في الأمر. قبل أن أتمَّ كلماتي خرجتُ من الغرفةِ باحثاً عن صاحبةِ الشأن وعدتُ بها قائلاً: "يا هيفاء محمد ود سيد أحمد قال عايزك وأنا ماشي أشاور واسأل إلا أحسن أعرف رأيك من الأول".
(2)
للمرأة في مجتمعنا مكانٌ خاص؛ فقد كان الملك يورث حكمه إلى ابن أخته! النساء يحترمهن الجميعُ ورأيهن مقدّرٌ ومسموع! وهنّ بالمقابل أيضاً يحترمُن الرجال ويعمل بجواره بصمتٍ وتفانٍ محافظاتٍ على نعومتهن وسحرهن. تضع الواحدة زوجها، وأبيها، وأخيها، وابنها دائماً تاجاً على رأسها ولا تخالفهم في أي أمرٍ إلا بمشاورةٍ رقيقة؛ هذا لا يعني أنَّ لكل قاعدةٍ ما يخالفها. ويرى بعض كبار السنِّ أنّ "بنات الزمن دا ما نافعات".
استيقظتُ صباحاً على صوتِ سياراتٍ عديدة، آه إنه يوم الأحد موعدُ السوقِ الأسبوعي في كرمة؛ تنتعش البلدة كلّها وتمتلئ بالقادمين من أرقو والبرقيق وأرض الجرور يحملون بضائعهم الزراعية أو يشترون المواد التموينية بشكلٍ رئيسي مع قليلٍ من الأصناف الأخرى. لبستُ جلبابي ومررت بالسوقِ ملقياً التحيّة على الجميع وباحثاً عن أحد أعرفه لعلي أرتاحُ من مشوارِ واجبٍ أو أبثُّ أشواقاً قديمة لصديقٍ لم ألتقه منذ زمن.
ثم اتجهت إلى "مَشْرعِ بدين" حيث بادلتُ عمّ علي سائقُ المعديّة السلامَ وأنا أهمُّ بعبور النهر إلى الجزيرة لتقديمِ واجبِ عزاء. "زمان الزول ما يسكن الشرق إلا بعد يموت"! واصل كهلٌ يتكئ على حائط: "سنة 1943 الإنجليز عملوا مشروع البرقيق الزراعي وجو حنّسو ناس بدين يمرقو ونحن أبينا قلنا ليهم الشرق دا للدفن بس".
عبرتُ الجزيرة غرباً إلى الحفير حيث الوصول إلى دنقلا أسهل؛ إنّها فرصةٌ لأتابعَ بعضَ الإجراءات الحكومية المتعلقة بتسجيلِ أرضٍ زراعيةٍ أتعذب بسببها منذ سنين". في الطريق إلى عاصمةِ الولايةِ سارَ السائقُ بسرعةٍ فائقة لم تمنعه من التوقف فجأةً كلّما رأى شخصاً يريد الركوب ولم يبالِ أبداً بأن المركبةَ قد فاضت بالبشر.
يبدو أنه أدرك ما يجول بعقلي فبادرني بالرد: "إنني أشفق على الناس من لهيب الشمس أكثر من اهتمامي بجمعِ مزيدٍ من المال". الحديثُ عن الناس هو هواية الجميع؛ لم أر اثنين مجتمعين إلا وكانَ ثالثٌ موضوعَهما! أينَ يَجِد الناس الوقت والقدرة لالتقاطِ الأخبار ونشرها. لا عَجَب أنَّ السادات اعتمدَ على النوبيين في سلاحِ الإشارة عام 1973م.
لا أنفي أنَّ مجتمعنا وصل إلى قمةٍ في مسألة السِلْمِ الاجتماعي فنادراً ما يحتاج أفراد الشرطة قليلو العدد إلى العملِ أو نادراً ما يصل أمر ما إلى القاضي. الناس هنا ورغم كل التشاكس البادي يحلون خلافاتهم بهدوء ويبتعدون عن المشاكل لأقصى قدرٍ ممكن والجرائم أمر نادرُ الحدوث جداً.
(3)
شكلت أغنية عديلةُ لمكّي علي إدريس وجوداً طاغياً في كل مكان. لا يملّ الناس من سماعها وتمثل لهم نشيداً وطنياً اختاروه دون اتفاق يتغنى به الجميع ولا يكتمل أي لقاء لأي سبب إلا بها.
لحنُ الأغنيةِ حنينٌ ينسابُ في القلوب وكلماتها تتحدثُ عن الارتباط بالوطنِ في الحضر والسفر. انهارتِ العديد من المنازلِ في "كرمة" و"البرقيق" وما حولهما بسببِ ارتفاعٍ مفاجئ في منسوبِ المياهِ الجوفيةِ ورغم أنّ الأمر مأساوي جدّاً إلا أنّ "مصائب قومٍ عند قوم فوائد" فأصحاب المزارع الصحراوية في "الدفوفة" وغيرها عادتِ المياه إلى آبارهم بعد أن جفّت وأصبحت أراضيهم صالحةً للزراعةِ من جديد.
رغم أنَّ الجميع يعرف سبب ارتفاعَ المياه إلا أنّ الكلَّ يتحاشى الحديثَ عنه فلا أحد مستعد لإضافةِ المزيد من المتاعبِ إلى يومه المنهكِ أصلاً بينَ محاولة إيجادِ منزلٍ بديل والسعي لكسبِ الرزق والخلاص من باقي المشاكل اليومية العاجلة.
عم عبد الرحيم هو الوحيد الذي كسر هذا الصمت وصرّح بأنّ العديدُ من الأخطاء صاحبت إنشاء سدّ مَرَوي وأنّ القائمين عليه لم يهتموا أصلاً بدراسة تأثيره على السكان والمناطق الأثرية. إذ أنَّ الدفوفة تحتضرُ الآن بسبب زحفِ المياه من تحتها. ولا يدري كيف سيكون الحال بعد إنشاء سدّي "دال" و"كجبار".
ليسَ له ما يخشى عليه فبسبب آرائه الواضحةِ وجرأتهِ هذه خَسِر وظيفته عامَ 1991 فيما يسمّى "بالصالحِ العام" وحاصرته مطالبات الضرائبِ والزكاة حتى هجرَ الزراعة وأصبحَ الآن يعيش على تحويلات ابنه المغتربِ في المملكة العربية السعودية بعد أنْ كانَ يكفل عشرةَ بيوتٍ في "كرمة" من جيبه الخاص.
(4)
مباني البلدة في مُجملها مبنيّة من الطينِ الذي يوفّر لساكنيه طقساً معتدلاً طوال العام ويتكيّفُ تلقائياً مع برودة الجوّ أو حرارته. يبدو أنَّ التقنية الحديثة لم تجلب سوى المتاعب فالناس الآن يبنون بيوتاً من الأسمنت تكلف الكثير ثم يحتاجون إلى تبريد هوائها صيفاً وتدفئته شتاءاً. والدي – رحمه الله – أكّدَ لي دوماً أنَّ كَرمَةَ هي أقدمُ مدينةٍ في السودان بل وأفريقيا كلّها؛ وحين أحتجّ على قوله هذا يضحك قائلاً: "لا تبتئس لهذا الرمادِ الذي تراه فقد جاءَ من نارٍ متوهجةٍ هنا – اسم بلدتك القديمة كان دُكّي قيل وتعني بلغتنا العريقة التلّ الأحمر".
قادتني خُطاي إلى الدفوفةِ لعلّي أعثر على شعلة اقتبسها بحثاً عن نهضةٍ جديدةٍ؛ لم أجد سوى "شارل بوني" الذي قال: "كانَ الناس قديماً يبنون مدناً جديدة فوق مدنهم القديمة لذا يصعب الوصول إلى الشكل الهندسي الحقيقي".
أيقطع هذا الكهل الأوربي آلاف الأميال ويتركُ مباهجَ الحياة ليمضي عشرات السنين هنا تنقيباً في تاريخنا ونحن نمرّ عليه ولا يهمنا أكثر من أن نتشاجر حول أفدنةٍ من الأرضِ أو بضعة أرادب من حنطة؟ ديمقراطيةُ كرمة كانت وحيدةً في المنطقة المحيطة؛ فقد كانت للحاكم دواوين يلتقي فيها بعامة الناس، ويستمع إليهم، ويشاورهم في شئون الدولةِ، وأمورهم الخاصة. استخدمَ أهلنا القدماء الفخار بشكل رئيسي في أوانيهم واهتمّوا باقتناء الماشية وقاموا بإنشاء قلعتهم وتخطيطها هندسياً منذ ما يقارب العشرة آلاف عام.
هل نحنُ فعلاً أحفاد "الفراعنة السود"؟ الذين بقوا في سباتهم منذ آلاف السنين حتى قيّضَ الله لهم رجالاً شقراً ليحدّثوا العالم عن حضارةٍ تعامَلت بنديّةٍ مع روما واليونان وحكَمَت مصر حيناً من الزمان؟
(5)
عدتُ مساءً إلى البيتِ فاستوقفني فتى يشبه جاري بركات وسألني إن كان بإمكاني أن أوفّر له تأشيرةَ سفرٍ إلى الكويتِ وأكّد لي أنّه مستعدٌ لدفعِ التكاليف كاملةً. قلتُ له إنْ كانت لديك تكاليف السفرِ فأبدأ بها مشروعاً هنا وأسس نفسك في بلدكَ. قال لي بتهذيب شديد: "حاضر" لكن تعابير وجهه أبلغتني بأنني قد جئت أمراً نُكُراً.
كل الشبابِ يريدونَ السفر! وما الغرابة في الأمر؟ أنا أيضاً كنتُ مغترباً لعشراتِ السنين ولا بد أنَّ الكلَّ يرون حالي أفضلَ ممن بقي في البلد. هل كانَ والدي يسامرني يومَ أخبرني بأنّهم كانوا يجمعون التمر من كلّ البيوتِ ليرسلوه هديّةً إلى الفقراء في بلادٍ أصبحت غنية الآن؟ قبل أن أدخلَ إلى المنزلِ عدتُّ لأبحثَ عن بيتِ عم عبد الرحيم. إنه الثالث هناك وأنا أتوه عنه كلّ يوم. "الكُبُر حَصَل" قلتها وتلفتَّ مخافةَ أن يسمعني أحد. وصلت إلى الباب واستقبلتني ابنة عمّي التي ما زالت محتفظة بقوامها ووجها الصبوح.
إيه ... قِسْمَة ونصيب. أنا أحبُّ خيريةَ جدّاً وأردتُ أن أخطبَ ودّها لكن ابن عمّي الأكبر سبقني إليها وتوفي تاركاً لها ابناً واحداً أوْقَفَت حياتها من أجلِه ورفضت كثيراً من عروضُ الزواج حتّى رأته طبيباً ناجحاً في أيرلندة وما زالت مصرّةً على البقاء في بيتِ والدها رغم إلحاح ابنها المتكرر عليها لتزوره في غربته البعيدة.
رغمَ تأكيدي عدّةَ مرّات بأنني قد تناولتُ غدائي إلا أنّ عمي حَلفَ ألا يتحدّثَ معي في أي شيء قبل أن يكمل واجب الضيافةِ كاملاً وجبةً وشاياً ومشروباً بارداً. ثم ضحكَ قائلاً : "مفروض أجيب ليك دكاي لكن ما في داعي نتتلتل معاك بكرة في القسم والمحكمة".
(6)
تسعةُ أعجازٍ تحكي كلّ واحدةٍ منها عن نخلةٍ لم تكن بدءاً خاوية. تحرسُ مدخلَ كرمة الشمالي ويحكي الكبار عن أنّها كانت مخصصةً للصدقةِ إلى أن جاء "يعقوب" وأدّعى أنّ النخلاتِ آلت إليهِ كابراً عن كابرِ ولا صدقةَ بعد اليوم.
أنشأ الرجلُ سياجاً من الشوكِ حول الشجرات المباركات وانتظر محصولها الذي لم ولن يأتي! بلدة بهذهِ العراقة ما الذي منعَ تقدّمها عبر آلاف السنين ؟ لا بد أنها شَهِدت "يعاقيب" عديدين أوصلوها إلى ما هي عليه اليوم. يؤلمني منظرُ اليافعين الذين يجلسون القرفصاء ناظرين إلى أكفّهم ضاغطين على الأزرار "تك تك تك" ! أي شبابٍ هذا؟ "يا خسارة تعب أهلكم فيكم" وتشتكون بعد هذا من العطالةِ وقلّةِ الإنتاج. إنها متوالية لا منتهية إذ أنّهم يردّون عليك: "ونحن لقينا شغل وأبيناه؟".
قررنا الاعتذار لمحمد وأسرته عن طلبه الزواج من هيفاء لأنّي تلقيتُ أنباء لا تسرّ تفيد بأنّه عاشَ حياةً من المجونِ ولم يكن مسئولاً في يوم من الأيام! عارضت والدتي الأمر وقالت : "يمكن الله يهديه بعد يعرّس" قلت لها بأنني لن أترك مصير أختي رهناً لـ "يمكن" هذه. أرى "هيفاء" تنظر بحنانٍ إلى أي طفلٍ يلهو وتكاد تطير من الفرحِ حين تحمل بين يديها مولوداً غضّاً؛ إنّها تتوقُ إلى الزواجِ وأنا أيضاً أريد أن أشهدها مستورةً في بيتها ولكنّي أخافُ عليها من نوائب الدهر وأودُّ أن تخرجَ من منزل أبيها معززة مكرمةً إلى من هو "فزع" وليس "وجع".
تراودني أفكار الغربة من جديد رغم سنوات عمري التي شارفت على الستين. أنا الآن أعيش على مدخراتي وقريباً ستنتهي ولم أنجح في إنشاء أي مصدر دخل لي هنا في كرمة! لا بد من حل. "الزراعة ما جايبة همّها" هكذا يقول الجميع لكنني لم أر أحداً توقف عن الزراعة أو يبست مزرعته. فلأحقق فكرتي التي جادلت بها منذ صغري؛ بأن أزرع محاصيلَ مجدية تدر ربحاً وفيراً. ولكن ماذا أزرع؟ ألا يوجد من أبنائنا مهندس زراعي يساعدني في الوصول إلى قرار. كل الحكماء الذين كنّا نعتمد عليهم في مشاوراتنا سكنوا تحت التراب ولم ينجح أحدهم في توريث حنكته إلى أنجاله.
(7)
قابلتُ صاحبَ الفندقِ الوحيد وسألته عن العمل؛ الحمد لله؛ أهل البلد كرماء جداً ويستضيفون معظم الغرباء القادمين إلى المدينة في بيوتهم أو في المساجد ويقدمون لهم كامل متطلباتهم طوال فترة وجودهم ولا يتبقى لنا إلا عدد بسيط جداً ممن يختارون الإقامة في الفندق. حتى أنّ بعض النزلاء يقيمون مجاناً رأفةً بظروفهم.
"البَرَكة" هي الحياة هنا؛ فأي باحث أكاديمي لن يستطيع أن يكتشف المعادلة التي يسير بها اقتصاد المنطقة، لا شيء هنا سوى رحمةُ ربك وتكاتف الناس مع بعضهم البعض وعيشتهم التكافلية؛ لولاها لكان الناس في كرب عظيم.
في شبابنا كان الفتيان والآنسات يتسامرونَ على الرمالِ تحت ضوء القمر بقلوبٍ نظيفةٍ إخوةً متاحبين لا يشوب بينهم إلا نزاعاتٌ طفولية سرعان ما تنطفئ. اليوم تغيّر المشهد وصارَ رجالٌ ذوو لحى يمنعون النساء من إقامة مراسم العزاء، ويتبادل الكبار همساتٍ عن مصيبة هنا أو هناك.
حتى طقوسُ الزواج اختلفت فإقامة حفل يقتضي الخروج من كرمة إلى ديار المحس حيث القانون لا يمنع التصديق للاحتفالات. لا تفرق بين بيت العزاء والفرح في البلدة الآن فكلاهما صامتٌ وأصحاب العصي واللحى يحرسون المكان.
مسكينة يا هيفاء لن تفرحي بزواجك مثلما فرحتُ أنا باقتراني بحبيبتي حينما استمرت الاحتفالات لسبعة أيامٍ متتالية. لكن يبدو أنَ لا أحد يعجبه حاله. ففي وقت عقد قِراني أيضاً احتجّ من هم أكبر مني بأن التفاصيل وقتها كانت تأخذ أربعين يوماً من الفرَح المتواصل. كانتِ حياتهم سهلة ولم يحتاجوا إلى الشقاء في العمل أو الارتباط بدوامات تبدأ الثامنة صباحاً.
زراعة محصولٍ واحد كانت تكفيهم طوال العام. ويقضون باقي وقتهم في حياةٍ اجتماعيةٍ عامرة. تغذيتهم الطبيعية المعتمدة على السمن والقمح والتمر تمنحهم صحة وعافية خاليةً من آثار الأسمدة الكيماوية الضارة.
( 8 )
حضرَ أخي في إجازة قصيرة؛ منحوه أسبوعاً واحداً، وهو مشتاقٌ جداً لأبنائه؛ لكن أمي تصرّ على أن يبدأ بالـ "الواجب" أولاً: عددت له قائمة طويلة من الأفراح والأتراح التي حدثت خلالَ سنين من غيابه وطلبته بأن يطوف على هؤلاء القوم أجمعين مباركاً أو معزياً. احتجّ سليمُ جداً على الأمر وصعبُ عليه أن تكون الحياة كلها محصورة في ثنائية الزواج والعزاء؛ لكن لا سبيل لمخالفة الملكة، وخفف عليه الأمر أنه اصطحب زوجته في جولاته هذه مكتفياً بأن ينظرَ إليها وهي تسير معه من بيتٍ إلى بيت.
جاء إليَّ حسام ابن صديقي عبد الحليم وطلب منّي أن أتوسّطَ في أمرٍ أشكل بينه وأبيه؛ قلت له يا بني هل ينفع أن أدخل بينكما؟ أجابني بأنَّ والده لم يفهم بأنّ الزمن تغيّر ويصرُّ عليه أن يتصرفَ وفقاً لما كان ينفع قبل عشرين سنة ولا يصلح الآن. "تعال ودّي أختك الدكتور" صوتُ أمّي منكسر وتسارع دقّات قلبها أثّر على مشيتها.
"هيفاء" غارقةٌ في عَرَقها وجسدها يرتجفُ من الحمّى. هَل أحبّت "محمد سيد أحمد؟" لا وجود لسيارات الإسعافِ في كرمة؛ علينا أن نضع مَرتَبةً في صندوق هايلوكس ثم نحملها إلى مستشفى البرقيق، آلمني المنظر جداً وأنا أمسكُ بكفِّ أختي بعد أن طلبتُ من والدتي الجلوسَ في المقعد الأمامي لأنها لن تحتمل اهتزازات الطريقِ.
زوجتي تغار جداً من هيفاء، ولا تطيق اسمها ولا تحتملُ أبداً اهتمامي بها؛ أحسّها تفتعل المشاكل مع أختي لذا لم أرفض طلبها بالسفرِ إلى أهلها لفترةٍ بحجّة اشتياقها إلى والدتها؛ وجودها جوار المسكينة في هذا الوقت لن يساعد على الشفاء.
آلمني جداً تعامل شريكتي معي بعد أن عُدنا من الخارج، لم تعد توليني نفسَ الاهتمام وأصبحت كثيرة الشكوى من كرمة وظروفها. رغم أنّها درستِ المرحلة المتوسطة والثانوية في مدارسها حين كان والدها يعمل هنا وابتدأت بيننا قصّة حبٍّ قصيرة توجناها سريعاً بالزواج.
اعتَرَضت سماحُ على قراري بإنهاء الاغتراب، وطَلَبَت أن أصبرَ لفترةٍ بحثاً عن عمل آخر؛ قلت لها لن نجد وضعاً بديلاً يوازي ما وصلت إليه بعد عشراتِ السنين ولن أقبل أن أعمل بأقل من نصف ما كنت أحصلُ عليه، علينا أن نرضى بقضاء الله وقدره، فقد قاربت سنّ المعاش وهم استغنوا عنّي لأنّ دولاب العمل يحتاج شاباً قادراً على العطاء والإنجاز. ابننا الوحيد محمود يدرسُ الطيرانَ في الفلبين وأنتظر تخرّجه بفارغِ الصبر.
وضعت في حسابه البنكي مبلغاً يكفيه حتى يتخرج ويحصل على شهادته وآمل ألا يسيء التصرف فيه فليست لي قدرةٌ على تعويضه عنه حتى إن أردت فعل ذلك.
(9)
أسافرُ اليوم إلى دلقو، لأعود بسماح من أهلها الذين لم أقابلهم منذ سنين؛ دخلتُ إلى سوقِ كرمة مبكراً وطلبتُ كوبَ شاي ريثما تبدأ حركة المسافرين، دلني صاحب المقهى على سائقٍ ماهرٍ نصحني بأن أسافر معه.
استأذنتُ الرجل في مشاركة طاولته وسألته عن الطريقِ إلى دلقو؛ أجابني بوجود ثلاثة طرق الأول يستغرق ساعة واحدة عبر الإسفلت الواصل إلى حلفا والثاني يستلزم قضاء ثلاث ساعاتٍ عبر الصحراء مروراً بفرّيق والثالث يضيع نصف اليومِ مروراً بأرضِ الحجر (كدين تو).
طلبتُ منه أن أستأجرَ سيارته ونمضي في الذهاب عبر أرضِ الجرور ونعود بالشارع الممهد، ضحكَ وقال لي: "جن المغتربين دا شنو؟ على كيفك لكن انت فيك حيل للسفر بالسكة دي؟" أشرت إليه بإبهامي فواصل بنفس ابتسامته: عليك بشراء بعض الفيكس والبندول قبل المضي إلى هذا المشوار".
خرجنا من كرمة شمالاً وسألتُ السائقَ هل نحن في الخليج؟ أجابني إنها "أشكان" : الكل هنا منقبات متوشحات بالسواد والرجال يرتدون القصير ويحملون العصي. هل هؤلاء هم من يمنعون أهل كرمة من الفَرَح؟ صمتَ السائقُ وأشار إلي بأن أشاركه بعضَ الترمس.
ارتفعتِ السيارةُ إلى نقطةٍ عاليةٍ جداً: إنها الحدود الجنوبية لديار المحس بعد أبي فاطمة. طلبَ منّي السائق أن أتحصّنَ وأقرأ المعوذتين فنحن على وشكِ دخول "تمبس"؛ أراد أن يدور حول القرية ّليتجنبها لكنني أصررت عليه بأنني أريد رؤية تمثال تحتمس الثالث.
تعطلتُ السيارة في منتصف القرية، وتأفف سائقها: " ما قلت ليك الناس ديل عينهم حارة" ، "هداك التمثال امشي شوفو واتصور جنبو مسافة أنا اشوف حل مع العربية دي". آلمني الأثَر الملقى على الأرضِ مشوَّهاً بكتابات بالفحم تدعو لتشجيع نادي رياضي! "عمو انت بتعبد الصنم دا!" لم أنتبه لوجودِ الطفلِ إلا بعد كلماتهِ هذه فالتفتُّ نحوه بهدوء وقلت له لا هذا ليس وثَناً إنّه جدّك تحتمس الثالث ملك هذه البلاد؛ عينا الصغير تقولان لي: "أنت أهبل يا راجل" قاطعني بوقُ السيارةِ والسائق يصرخ لكي نخرج بسرعةٍ قبل أن تصيبه عين أخرى إذ يبدو أنّه مقتنع جداً بالفكرة ولم يلتفت إلى رجاء بعض أهلِ القريةِ له بالبقاء والراحةِ قليلاً.
توقفنا في القرية التالية لأداء الصلاة وحين دخولنا إلى "المسيد" هبَّ أحد الموجودين من مكانه وسألني: هل أنت ابن حاج محمود؟ قلت له نعم! قال أبوك كان راجل بَرَكة؛ يأتي ليؤدي الفرض، ويسقي الأشجار بالـ "الجوز"، ويوزع ما في جيبه من النقود لنا - حينما كنا أطفالاً -، ثم يعود على قدميه إلى كرمة! عانقتُ الرجل وبكينا حتى تجمع أهل "كُبُدّي" ظناً بأنَّ أحداً توفي.
أقسَمَوا علينا بأن لا نغادر قريتهم حتى يقدموا لنا واجب الضيافة، لم يرضَ السائق الذي يريد أن ينتهي من المشوارِ ليجد زبوناً آخر؛ ذبحَ الحاضرون كبشاً سميناً أمامَ السيارة ولم يجد الرجل إلا الانصياع لأمرِ الكَرم.
شارفتِ الشمس على الغروبُ، وسارعَ مضيفونا إلى تشغيل مولّدِ كهرباء بدائي، واستأذنّا للرحيل؛ ساءني أنّ القرية منقسمة بسبب خلافٍ حولَ إدارة مشروعٍ زراعي وأنّ العمل فيه متعطّل لحين حلِّ النزاع!
لماذا أهلي النوبة يغوصون في وحلِ الاختلافِ رغم كلّ الصفات الطيبة التي فيهم؟ هممت أن أتكلّم معهم في الأمر، لكنّي رأيتُه شيئاً معيباً أن أفكّر - ولو سرّاً - في سوءات من أكرموا وفادتي واستضافوني في بيوتهم؛ إنه كشفٌ لعوراتِ من ائتمنوني على سرّهم! لكنّي أريد دفع الضرر عنهم! إيه فلأعد لهم مرّة أخرى ولأفتحِ الموضوع بهدوء لعل الله يفتح عليهم ويشتغل مشروعهم من جديد.
تأخر الوقت ولم نجد فرصة للتوقف في سمت وسعديك وحبراب وحمبكول وشرق فاد؛ حيّانا الأهالي في كلّ هذه القرى يرجوننا التوقف للعشاء والمبيت إلا أننا كنا نعتذر بأنّنا نمضي لأمر مستعجل لا يقبل التأخير.
وصلنا إلى فَرّيق؛ إنها ليلة 12 سبتمبر، نفس اليوم الذي دخَل فيه كتشنر إلى هذه البلدة عام 1896م ومنها سار إلى كرمةَ في سبعة أيامٍ، حاول بعدها العبور إلى الحفير حيث منعته قواتُ المهدية التي كانت تغلقُ الطريق إلى دنقلا.
رغم أنّ أبناء المحسِ شاركوا في حملاتِ المهدي ببعضِ أبنائهم شأنهم شأن كثير من أبناء السودان وخاضوا قتالاً قاسياً لصد جيش الاحتلال عن "فِركة"؛ إلا أنّ ذكريات حملة جيش النجومي لا تسر.
تحكي "الحبوبات" أنّ الرتل السائر إلى الشمال جاء بلا مئونةٍ وخاضَ حرباً شديدةً ضد السكان لينهب منهم أغذيتهم البسيطة وقام الجنود بتخريب النخيل والزروع وقاموا بأعمال عديدةٍ لا إنسانية قاومها السكان بكل بسالةٍ وكانوا أشدَّ على العابرين مما ينتظرهم في مصر. أضواء السيارةِ هي المصدر الرئيس للنور فيما تتناثر نجومٌ خافتة من الفوانيس والبطاريات، تبينتُ على الحائط كتاباتٍ من نوع: "لا للسد ، لا للتهجير ، حق الشهداء" وشعارات أخرى.
جلتُ ببصري في هذه الأرضِ الطاهرة التي لم تشهد رصاصةً واحدةً منذ مائة عام، ورأيتُ التهميشَ بأجلى صوره، وعجبتُ لصمودِ أهليِ في مناطقهم رغم غيابِ الخدمات. فيما مضى كانت هناك مراكز صحية يشرف عليها مساعدون طبيون لكني الآن أراها كلّها مغلقة متآكلة الجدران.
كرمةٌ - مع بؤس حالها – جنّة مقارنة بما أراه هنا، كان الله في عونهم، لاحظ السائق تعابير وجهي وقال: "المحس ما عندهم دين يستاهلو أكتر من كدا هم ذاتهم المقعدهم تحت الحجر دا شنو؟ الليمرقو يمشوا يشوفوا ليهم بلد يسكنوا فيها"! لم أردّ عليه وآثرت الاستمرار في تيهي المقدّس إلى أن قاطعني الرجل من جديد مشيراً إلي: هذه "سبو" وعلى غربها تقع "كجبار" والسد سيكون من هنا إلى هناك وسيولد الكهرباء ويأتي بالخير الكثير على المنطقة، همست له بأن: "كرمة أيضاً ستغرق"، أصرَّ عليَّ : "لا لن تغرق كرمة؛ بل المحس فقط".
جاوزنا "سعدٍ كورتي" ولاحَ جبل دلقو تلته منازلُ السكان ومبانٍ حجرية تذكرنا بإمبراطورية البريطانيين العظمى التي غابت عنها الشمس. اغتظت من محاولةٍ بائسة لترميم حائطٍ حجري منمق جَرَفَ السيلُ جزءاً منه وقام البنّاء بتشويهه بدلاً من إصلاحه. لماذا لم نواصل التعمير من حيث توقف الإنجليز؟
(10)
هل سندخل على الناسِ وهم نيام؟ سألتُ السائق الذي أجابَ: "فلنبحث عن (مسيد) نأوي إليهِ إلى الصبح"، وأفسد نسيبي خطّتنا حين أشارَ علينا بالوقوف قائلاً: أين أنتم؟ أنا انتظركم هنا منذ الصباح قادنا إلى الديوان حيث أكرم ضيافتنا. خصص أهل دلقو منزلاً لي وزوجتي بجوارِ بيت نسيبي فيما أعدَّوا للسائقِ مكاناً مريحاً للمبيتِ في الديوان ويبدو أنّه لم ينم فمع تباشير الفجر الأولى بدأ في الاستعداد للعودة إلى كرمة فهو لا يريد أن يفقد يوماً آخر في مشوارٍ غريبٍ خَططَ لأن ينهيه في اليوم السابق.
(أعمدة كهرباء!) نطقتها كأني اكتشفتُ كنزاً أثرياً ونسيتُ تماماً أنني في القرن الأول بعد العشرين والأقمار الصناعية تدور فوق رأسي؛ رؤية الأسلاكِ في دلقو كانت حدثاً غريباً بعد العذاب الذي شاهدته منذ أن فارقتُ كرمة.
صعدَ السائقُ شرقاً بطريق مخالفٍ للذي أتينا منه ووصل بعد دقائق إلى طريق مسفلت محاط بمخيمات مزدحمة بالباحثين عن الذهب. نشاط اقتصادي جديد يستهوي الكثيرين من أبناء الولاياتٍ الأخرى. يشتكي السكانُ من بعض المشاكل التي يسببها وجود هذا العدد الهائل من الناس دون تنظيمٍ.
أهلِ المنطقة لا يحتجون على وجود الغرباء؛ حيث أنَّ أكثر القادمين أناس طيبون يبحثون عن لقمة حلال؛ بل أن اعتراضهم على عدد قليل ممن استغلوا تجمعات التعدين للقيامِ بأنشطة أخرى تضرّ بالسكان. إضافة إلى أن الوسائل المستخدمة في التعدين خطرة على البيئة وصحة الإنسان.
فكرتُ بأنَّ المنطقة غنيّة بالآثار والتنقيب بهذا الشكل العشوائي قد يدمر العديد منها بقصد أو بدونه. الطريق المسفلت بعيدٌ جداً عن النيل ولا تستفيد منه القرى التي مررنا بها في رحلة الأمس إذ أنّه مخصص بالأساس لربط دنقلا بوادي حلفا مروراً بدلقو وعبري.

يتبع إن شاء الله
2014



التوقيع: =======
صباح الخير ؛ مساء العسل
=======
هاني عربي غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 09-06-2017, 02:36 AM   #[2]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

سلام هاني
من قلب كرمه أو كرمة
ورمضان كريم وتصوموا وتفطروا علي خير
وربنا يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام ...

احكي لنا عن هذه الأرض ....



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 20-06-2017, 05:52 PM   #[3]
Hassan Farah
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية Hassan Farah
 
افتراضي

لك التحية اخى هانى عربى
حكى رائع يا ريتك تنقله لنسخة سودانيات الاخرى حتى يطلع عليه عدد اكبر من الناس
وحتى يتم ذلك دعنا نشاركك الاستماع لعديلة




Hassan Farah غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

تعليقات الفيسبوك

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 08:35 AM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.