[align=center](13)[/align]
ذات يوم في مدينة زيندر، ونحن جلوس أمام ورشة النجارة إذ شخص مار يتظاهر أن به لوث يحمل مزماراً من قرون الغزلان، يثبت على كتفه بواسطة فأس قصيرة حقيبةً جلدية تنضح جنباتها بالدهن، يعزف موسيقى غريبة رغم عدم قدرتي على تمييز فرادتها، يجاهد الرجل الغريب في عزف مزماره وبعد فترة ليست بالسهلة يظهر على مسرح الحدث كلب يوزوز ذيله يأتي مطأطئاً ناحية الساحر حتى يقعى قرب رجليه، فيعاجله بضربة مسرحية تضوع منها الرأفة والتؤده فيصرع ذلك الكلب ثم يحشره في حقيبته النازة ويختفي عن الأنظار! (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) بكسر قاف القتلة.
علق صاحب الورشة بقوله: يوجد في النيجر أقليات وثنية تعتاش من أكل لحوم الكلاب .
خرجت أتمشى لوحدي من باب الفضول الذي سيطر على أغلب مجريات حياتي، فمررت بصاحب السجائر، أشتريت منه علبة سجائر روثمان إذ لا سجائر خلافه على طاولته الطبلية، جلست معه عشماً في تجسير علاقة حميمة وقد خلفت ورائي آصرة امتد عمرها شهراً كاملاً رغم أن لغة تواصلي مع السيد علي (التباكونست) معطوبة كثيراً، وقد طلب مني في آخر رؤية له وأنا أغادر صوب العاصمة نيامي أن أحضر له زوج حذاء هدية.
يممت ناحية الكنيسة الوحيدة التي أفادوني بأنها المكان الوحيد الذي يمكن أن أعثر فيه على من يتكلم اللغة العربية. و بناظري في كل صباح كالمعتاد يهرع سكان المدينة زرافات ووحدانا ناحية السوق الكبير يحملون الأواني والمواعين الفارغة أملاً بالعودة بها مليئة آخر النهار. أغلب الأطفال لا يذهبون إلى المدارس بل يقضون أواقاتهم بحثاً عن الرزق، فقد تواضع سكان تلك البقعة على أن كل فرد في الأسرة مسؤول منذ الصغر عن مصير رزقه، وفي داخل بيت الأسرة يتم إعداد الطعام للأب أولاً وعندما يفرغ يتحول الطعام للأم وهكذا من الابن الأكبر وحتى آخر العنقود ومتى ما انتهى الطعام شرع الجوعى الباقون في كسب رزقهم من عرق جبينهم. فصبي الست سنوات يجوب السوق حاملاً أكياس خضار أو أي عمل شاق ليسد به رمق حاجته، والفتاة تولي إلى منزل صديقها بحثاً عن لقمة عيش ولو كلف ذلك استطعامها ثدييها. وكثيراً ما هناك! أن تتزوج ابنة شخص كبير من رجل يخدم عتالاً مثلاً أو من غير طبقتها، ولا يجرؤ الأب على التدخل في شؤونها الخاصة نسبة للفصل الاقتصادي الذي واكب الأسرة في بكورها.
لم أر بأم عيني محراثاً واحداً للزراعة كما ولم ألحظ مصنعاً أو مشروعاً منتجاً يمكن أن يتزيى فيه العاملون بأبرولات العمل وديباجات المؤسسة في غدوهم ورواحهم طيلة مدة الثلاثة الأشهر التي جبت فيها دولة النيجر، وإنما شحيح من الرعي غير المنظم بين شعاب الوديان، أما هؤلاء الرعاة ليست لهم أدنى علاقة بالمدينة والسكن المكتظ الطرقات. فالمصنوعات مستوردة بكاملها من الكبريت وزهر الملابس وحتى الأواني (الطلس) المدموغة بصور علم نيجريا أو الزعيم بابانجيدا والنفط المهرب في باغات البلاستيك، فأدركت أن تلك البلاد لامحالة منذورة بمجاعة لا تبقي ولا تذر، وقد اجتاحتها المجاعة أخيراً حتى نفق البشر. و في رحلة عودتي من نيامي ميمماً إلى ليبيا مروراً بمنطقة تاوا علمت أن النيجر من أغنى الدول في العالم بمعدن اليورانيوم، إلا أن دولة فرنسا تتحكم فيه من الاستخراج وحتى تصديره وقد أنشأت مطاراً خاصاً بذلك في موقع حقوله مربوط مباشرة بباريس لا يمر عبر العاصمة و محمية بقوات أمنية عالية الدربة، وتلقي ببعض الفتات كعطية مزين في جيوب أفراد من الحكومة الفاسدة، ولا غرو إن علمت أن في كل وزارة نيجرية وكيل وزارة فرنسي الجنسية!
تجاه الكنيسة ممر طويل يقود إليها مع انقطاع المارة، المدخل الكبير مفتوح نصفه لدخول السائلين عن الله ، لم أعثر على جرس لأطلب الاستئذان فدلفت إلى الداخل تجللني هالة من قداسة المكان، ثم شرعت في المناداة خفيفاً ثم توالت نبراتي في العلو والصياح، فخرج من أحد المنازل الجانبية داخل الكنيسة رجل أوروبي طويل في زي قبائل الموسوية التي تقطن بوركينا فاسو التي غير الليبيون مسماها إلى (وركينا فالصو)!
تبادلنا التحايا ورحب بي داخل نزله الخاص وذهب لأمره داخل المنزل ، تفرست فإذا بالغرفة سرير عال من شاكلة أسرة المستشفيات يحتل نصف الغرفة على قائمتيه تتدلى ملابس داخلية مشرورة كيفما اتفق، على الجدران صورة أثرية للمسيح (عليه السلام) وعلى مبعدة، يقبع طقم جلوس من تحته تناثرت زجاجات سوداء فارغة.
قدم لي القس الماء فشكرته ثم جلس وشرع في الاستجواب البريئ ، فعلم أني جئت من بلاد غير البلاد التي يأتيه منها أغلب المؤمنين من غرب أفريقيا التماساً لمباركة سفر أو طلباً لمساعدة عينية.
عندما وصل به السؤال عن جنسيتي.
قلت له من السودان.
هتف كالملدوغ: يا زوول!
فأخدت لغة الحوارمنعطفاً آخر ليس من حيث الموضوع بل في اللغة كليةً لدرجة أن طلب مني كتاب عاميتنا الفصحى للدكتور عون الشريف قاسم !
علمت أنه أمضى اثنتي عشر عاماً في أفريقيا قضى منها حولين كاملين في السودان إبان حكم النميري في المعسكرات شرق السودان، وقد تعلم عربية سودانية كافية للخوض في أي غمار فكري دون تلجلج. أكد وجوده في السودان بتذكره لمشهد عند زيارته للخرطوم قادماً من شرق السودان فشاهد في بناية ستي بانك الجيش وثوار آخرين يتبادلون إطلاق النيران. أما آخر دولة له قبل وصوله إلى النيجر فقد كانت بوركينا فاسو التي أخذ منهما الكثير من العادات واللباس واللغة.
يتحدث القس هنري الهولندي أكثر من ست لغات أفريقية بطلاقة ويعرف عن المجتمعات الأفريقية ما لم تضمه الكتب في أرقى الجامعات الأفريقية. لم يقم ولو مرة بالتحدث عن الدين المسيحي أو الإشارة إليه، كما ولا يستخدم عبارات دينية مقعرة. رجل طويل في أول الأربعينات غير طقس أفريقيا سحنته فأصبح أقرب لملامح قبائل الطوارق منه إلى الأوربيين.
دخل شخصان إلى حجرة القس وطلبا منه بلغة إنجليزية أن يدعو لهما. استغرق عدة دقائق يلحف الله بالسؤال ليبارك خطواتهما وختمها مع الرجلين بأمين غير آمين الطويلة ذات الست حركات.
خرج الرجلان وبعد برهة دلف إلينا شيخ متأبط سلة مخاطة شفتيها إلا فوهتين صغيرتين تبرز من خلالهما منقارا بطتين. سلم و حرر البطتين وسلمهما إلى القس الذي بدوره جسهما ثم أطلقهما داخل ذات الغرفة ليعبثن بقداستها بنفض ريشهما وينزوين تحت الأثاث المنزلي، ثم ينفح القس الرجل ثمن بطتيه فيحمل سلته ويغادر الكنيسة.
لم يتعلم القس هنري لغة السودان فحسب بل عاش ثقافته وتقاليده، فقد تكلم عن قبائل الخاسة في الشرق وما يجدون من معاملة غير كريمة ، كما خبر مشروبات السودان الروحية وسألني إن كنت أعرف (أبوحمار)!
فقلت له لأول مرة أسمع بهذا الاسم السوداني المخترع. فقال إنه مشروب العرقي الذي يحول شاربه إلى حمار بالتمام في الصباح الثاني.
ذكر أنه أصيب في السودان بالإحباط لمرتين: مرة عندما هم بزيارة الكعبة في مكة فسافر إلى مدينة جدة ومنها إلى مكة وقبل دخولها تم التحقيق معه وكشف عليه داخل حجرة فوجد أنه غير مختون فمنعت السلطات دخوله وكان يحدوه الأمل في زيارة بيت الله.
أما الثانية، بعد أن غادر السودان لكنه ترك نصف قلبه مع الأحبة والأصدقاء فذهب إلى سفارة السودان في مصر وطلب تأشيرة دخول ولكن قوبل طلبه بالرفض لوجود تأشيرة إسرائيلية في جوازه ولم يتسن له تحقيق أمنتيه أو إحديهما.
|