(1)
في تقديري، يُمَثِّل هذا الفيلم واحداً من الأعمال المُمَيَّزة للغاية، والوثيمة بالإيشاء الجمالي والفلسفي، مما أنتجته السينما الأمريكية مؤخَّراً.
وأرى أهمّيتَه تعود بشكل أساسي -حسب تأملاتي- إلى الأرضية الفكرية المعقَّدة التي تنهضُ عليها ظلالُ هذا الفيلم. وهي أساسات غير منظورة للجميع، إلا من خلال تراميز شديدة الرهافة مزروعة في شكلانية الفيلم الصناعية، وقد جاءت هي الأخرى، أعني هذه القدرات الصناعية، في تَمَيُّز رفيعٍ وفَذٍّ. نلمحه من خلال مُكَوِّنات الفيلم جمعاء، البصرية، والمسموعة، وفي الفكرة الحائكة لهذه المُكوِّنات كلّها، وتربيطها ببعضها بعضاً، في نسق فكري وجمالية سينمائية، بديعة، وخلابة، ومتقنة حدَّ الإدهاش.
بطل الفيلم طفلٌ عمره اثنا عشر عاماً، هو الـ Airbender الأخير، أو الأفاتار Avatar، وأدَّى دورَه الصبيُّ نوح رينقر. ومع كل مفردة من هذه المفردات تبدأ تراكيب فكرة الفيلم الفكرية والجمالية، ذات الظلال شديدة الإيحاء والتعقيد كما أسلفت، في التنامي، والتَّكَثُّف.
فمن هو الإيربندر؟ وكيف يمكننا أن نفهم هذه الكلمة من ناحية الـ Etymology الإتمولوجيا، أي العلم المختص بدراسة أصول الكلمات ونشأتها؟ وما هو الأفاتار في عمومه، خصوصاً جذوره المستمدة من عموم تاريخ الأسطورة الإنسانية؟
الإيربندر لفظة مصنّعة حديثاً من الدمج بين المفردتين "بندر Bender" و"Air"، واللفظة الثانية تعني الهواء وهي معلومة في بيئات اللغة العربية وغيرها من اللغات، لأنَّها تستخدم في خطوط الطيران، ويقال سودان أيرويز، إيجبت أيرويز.. إلخ. أمَّا اللفظة الأولى وهي اسمُ فاعلٍ مشتقٍّ من الفعل Bend الذي له مدلولات كثيرة أهمّها وأشهرها يلوي أو يثني، وهذا ليس المعنى المُراد "حرفياً" هنا. وإنّما المعنى المقصود هو استخدامٌ آخر، أقَلُّ تداولاً، لهذا الفعل، وهو القدرة على توجيه طاقة الذهن وتركيزها، وأحياناً يستخدم في معنى الإخضاع. والمعنى المُراد بخصوص الفيلم، هو تجميع معنيي توجيه طاقة الذهن لأجل إخضاع الهواء. إذن الأيربندر هو الشخص الذي يستطيع أن يتحكّم في الهواء من خلال قواه الذهنية.
وبسؤال.. لماذا التحكّم في الهواء "تحديداً" من خلال الطاقة الذهنية؟ من هنا سنلج إلى ظلالٍ شاسعة من التصورات الفلسفية والعلمية والدينية والأسطورية، التي بدأت في التأسيس لأهميّة "الهواء" هذه، على نحو خاص منذ آمادٍ ضاربة في القدم من تاريخ الحضارة الإنسانية.
فالتاريخ الإنساني بشقيه، الفكري، والميثولوجي الذي يجثم تحت ظلال هذا الفيلم سيعود بنا بأبسط الحسابات إلى ما لا يقل عن ثلاثة آلاف سنة مما قبل ميلاد المسيح. منذ المعتقدات الميثولجية عن أوزيريس إله الأبدية.
والتصوُّر الفرعوني بشقيه المصري والكوشي يعتقد بأنَّ الحياة كلّها جاءت مما يمكن أن نسميه بـ(فوضى المياه) أو الـنو Nu، دوّامة المياه الأسطورية، وهي المفردة التي تولّدت منها مفردة "الأنواء" وعلومها في الثقافة العربية. أي من فوضى المياه تلك التي بَزَغ عنها أوَّلُ إلهٍ وهو أتوم Atum، المعروف بالإله الغامض، أو الخفي، والذي من ضمن تراميزه الكثيرة التي يُصَوَّر عليها، هيئةُ الضفدع. ومن تولّدت عن اسمه مفردة الخريف Autumn في اللغات اللاتينية، على نحو خاطئ ولّدته الوثنية الأولى، ظنّاً منها بأنَّ الاسم يعود في أصله إلى هذا الإله المرتبط بتلك الفوضى الكونية، والدوامة الأسطورية للمياه، من الأسطورة.
وهذا التصوّر الأسطوري جعل الملوك/ الآلهة الفرعونيين بعدها ينسبون أنفسهم إلى (المياه) بشكل أعم وإلى غيرها من العناصر كذلك. فبخصوص المياه مثلاً يرد في كتاب "برت إم هرو" الذي عُرف خطئاً بـ"كتاب الموتى" مع أنَّ الكتاب ذاته لا يعترف بالموت ويسمّي الميّت بـ"الواهن"، يرد الآتي:
{يقول "أوزيريس-آني" الكاتب: أنا –بالحقيقة أنا (2) مَن بَزَغ من الفيضان الذي جعلته يتدفَّق والذي يصير عظيماً كالنيل (حابي)}.
وهذا انتسابٌ لفرعون من شمال الوادي، مصر الحالية، إلى المياه. وأدناه انتسابٌ لفرعون من جنوب الوادي، ما عُرف بالحضارة الكوشية، في السودان الحالي، يرد على لوح أماني بَيَّا قوله:
{وإنِّي سأستولي عليها "أي المدينة" بوصفي فيضان الماء فقد أمرت} يقول بَيَّا منتسباً إلى فيضان المياه أيضاً، والمدينة المعنية هي مدينة "منف" بمصر، هذا حين غزوه للشمال ومحاصرته للمدن المصرية واحدة تلو الأخرى، حتى أسقطها جميعاً، وأحكم سيطرته على الشمال.
والإله "أتوم" هذا نفسه، يُعْتَبَرُ نصيراً لثلاثة أشياء، تهمّنا منها الآن واحدة بخصوص موضوعة الأيربندر، وهي أنَّه الإله الذائد عن ثلاثٍ هُنَّ "مصر" و"الخصوبة" و"الهواء".
فهو إذن أيربندر أسطوري قديم، منذ تصوُّراتٍ إنسانية أولى تفصلنا عنها آلافُ السنين. وليس هو الأيربندر الوحيد في الحضارة الفرعونية، أبداً.. فهناك أيضاً الإله "رع" الذي استمنى، أو مارس العادة السريّة، ومن نُطَفِ منيّه تشكّل له ابنٌ وابنة، هما الابنة تفنت Tefnut التي تُتَرجم على أنَّها إلهة الرطوبة ومنهم من يترجمها النَّدى. أمَّا ابنُ رع الذي أنجبه لنا ذلك الاستمناء فهو الأيربندر شو Shu إله الهواء.
مع تثبيت الفوارق بين آلهة الهواء القديمة بحسبانها آلهة في تمامها، ووصفة الهواء هنا شيءٌ من التخصصية فحسب، وبين جميع أنواع الأفاتار، الذين ما هم بآلهة، ولا يُمَثِّلُ الأيربندر إلا نوعاً واحداً فقط منهم. وبلغة الرياضيات، ونظرية المجموعات تحديداً، الـSet Theory، فمجموعة الأفاتار هي "مجموعة شاملة"، وكذلك "غير منتهية" ما دمنا لا نعرف ما يمكن أن تفاجئنا به تلك الآلهة الأسطورية. بينما الأيربندر "مجموعة جزئية" من أولئك الأفاتار الكثيرين.
فما هو الأفاتار إذن؟ ولماذا يُسمّي صُنّاع هذا الفيلم بطلهم الصغير بالأيربندر، وكذلك يسمونه بالأفاتار!؟