ماذا سنفعل حين تضع الحرب أوزارها؟ !!! حسيــــن عبد الجليل

دعوة لمشاهدة فلمي ( إبرة و خيط ) !!! ناصر يوسف

قصص من الدنيا؛ وبعض حكاوي !!! عبد المنعم الطيب

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > منتـــــــــدى الحـــــوار

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 12-10-2016, 12:14 PM   #[1]
عبدالحكيم
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي البكاء على أطلال sudanyat.org

مررت على سودانيات هنا وهناك فقلت لسودانيات هناك مذكرا ..
مررت على المروءة وهي تبكي فـقلــت عــــــــلام تـنـتـحــب الفتــــــــاة
فقالـت كيف لا ابكي واهلي جـمــيعـا دون خــــلـــق الله مــــاتــــــــوا

فكتبت هناك ..

من الملاحظ أن المتواجدون في نسخة سودانيات القديمة sudanyat.org يفوق بكثير ممن هم متواجدون في النسخة الجديدة سودانيات نت sudanyat.net .. والموقع بنسختيه كما هو معلوم موجودان على النت جنبا إلى جنب القديم باسم سودانيات تواصل ومحبة والجديد باسم مجلة سودانيات .. المنتديات ..
إذن ما السبب في هذا التباين في التواجد ؟
سودانيات النسخة القديمة زاخرة بالمواضيع القيمة والكتاب ربما يكون هذا هو السبب .. وحنية الكتاب لها ومراجعة ما كتبوهوا هم وإخوانهم .. وبما يشبه البكاء على الأطلال كما يفعل العشاق لمحبوباتهم .. ففيها سلوى وذكرى ..

أتساءل ما الذي يمنع من أن يتواصل النشاط هنا وهناك إلى أن يتم الدمج أو يظل الوضع كما هو وهما يتممان بعضهما ؟ فالإجابة لا شيئ يمنع والدليل هو بإمكاني الكتابة هنا وهناك أو هنا أو هناك والنقل من هناك إلى هناك .. والشاهد هو تواجد الأعضاء والزائرين هنا يفوق هناك رغم أنهم لا يدخلون بأسمائهم ...

فليتواصل النشاط من هنا ومن كان عنده موضوع قديم لم يتمه فليتمه ومن أراد أن يضيف شيئ في موضوعه القديم فليضفه ومن أراد أن يتداخل ويشارك في أي موضوع فله ذلك ..
والفترة طالت على هذه الحالة بعد رجوع سودانيات أورغ من بعد غربة ..
دعوة لمواصل النشاط من جديد ..


وبمناسبة البكاء على الأطلال مررت على موضوع عجبني .. سأنقله .. فإليه





عبدالحكيم غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 12-10-2016, 12:20 PM   #[2]
عبدالحكيم
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

البكاء على الأطلال منقولا ...
لا مكانَ في الحياةِ، بالنِّسبةِ للإنسان، أجملُ وأبهى من المكان الذي ولد فيه وترعرع، وتفيأَ ظلالَه وارتوى من فراتِ مائِهِ، فالمكانُ هو تذكُّرٌ لمَراتِع الصِّبا، وضَحكاتِ الطُّفُولةِ البريَئةِ، وهو جزء من كِيانِ الإنسانِ، فمهما ابتعد عنه، وشطت به الدارُ، فلا بد أن تبقى أطلالُ بلادهِ في ثنايا مُخَيّلتِه، وهذا جُزْءٌ يَسِيْرٌ مِنَ الوفاءِ لهذه الأرضِ التي حملتكَ على ظهْرها وأنتَ تحبو، ثم وأنتَ تخطو، ثم تمشي، ثم بعد انتهاء الأجل تدفن فيها. فما أرأفها!

وكثير من الناس من ارتشف شراب الهجر والغربة، في كؤوس من الحنين والأشواق...


وكم من مغترب قال بلوعةٍ بيتَ الطائي:
كمْ منزلٍ في الأرضِ يَأْلفهُ الفتَى وحنينهُ أبداً لأوّلِ مَنزلِ

وكم من مهاجرٍ يتغنى صباحَ مساء:
بلاديْ وإنْ جارَتْ عليَّ عزيزةٌ وأهلِي وإنْ ضنُّوا عليَّ كِرامُ

ومثله لفوزي معلوف:
مهمَا يَجُرْ وطَني عليَّ وأهلُه فالأهْلُ أهلِي والبلادُ بلادِي

والكلُّ يعلم أنّ طريق الهجرة وعرةُ المسلك، ومليئةٌ بالمنغّصات، ومهما بقي الإنسان في بلاد الغربة فاسمه "غريب"، ولن يجد قلباً حنوناً، بين الحجارة الصماء، مما حدا بالقَرويِّ في قروياته أن يقول بعدما أفنَتِ الغربةُ شبابَه:
دفنتَ ربيعَ عُمرِك في بلادٍ لها طالتْ لياليكَ القِصارُ
بلادٌ ربّما فيها كِرامٌ ولكِنَّ اللئامَ بها كثارُ
إذا لمْ تحوِ تربتُها حِجارا فبيْنَ ضلوعِ أهليها الحِجارُ

وتبقى ساعةُ الوداع مؤثّرة، والوقوفُ على الأطلال يرافقه البكاء، حتى الصحابة رضي الله عنهم، عندما هاجروا إلى المدينة - كما تذكر عائشة رضي الله عنها - تذكّروا مكة وجبالهَا، وخاصة أنّ المدينة أوبأُ أرض الله من الحمّى، وقد أصابت الحمّى بعضَ الصحابة، وكان بلالٌ إذا أقلع عنهُ الحمّى اضطجعَ بفناء البيت ثمّ يرفعُ عقيرتَه[1] ويقول:
ألا ليتَ شِعْري هل أبيتنّ ليلةً بوادٍ وحَوْلي إذْخرٌ وجَليلُ
وهل أَرِدَنْ يوماً مِياه مَجنّةٍ وهل يبدوَن ليْ شَامَةٌ وطَفِيلُ[2]

قالت عائشة رضي الله عنها: ثم إني دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: "اللّهم حبِّبْ إلَينا المدينةَ كحبِّنا مكّةَ، اللّهم وصحّحها وبارك لنا في مُدّها وصاعِها، وانقلْ حُمَّاها واجعَلْها بالجحفَة"[3].


فغرس الله بعد ذلك حبَّ المدينة في قلب الصحابة ومَنْ بعدهم أبدَ الدهر.

ويبقى السؤال:
لماذا يحنّ الإنسان إلى بلاده؟

أجاب البعض جواباً جميلاً فقال:
"وكان الناسُ يتشوّقون إلى أوطانِهم، ولا يفهمونَ العلّةَ في ذلك، حتى أوضحها علي بن العباس الرّومي في قصيدةٍ لسليمان بن عبد الله بن طاهر يستَعدِيه على رجلٍ من التجار، يعرف بابن أبي كامل، أجبَره على بَيْع داره واغتصبه بعض جُدرها، بقوله:
ولي وطنٌ آليتُ ألاّ أَبيعهُ وألاّ أرى غيريْ لهُ - الدهرَ - مالِكا
عهِدتُ به شَرْخَ الشبابِ ونعمةً كنِعْمَةِ قوم أصبحُوا في ظِلالِكا
وحبَّبَ أوطانَ الرجالِ إليهمُ مآرِبُ قضَّاها الشبابُ هُنالكا
إذا ذَكَروا أوطانَهم ذكَّرَتْهُمُ عهودَ الصِّبَا فيها فحنُّوا لذلِكا
لقد ألِفَتهُ النفسُ حتى كأنّهُ لها جَسَدٌ إن بانَ غُودِرَ هالكا"[4]

وقال بعض الأعراب قريباً من هذا، وعلّل بكاءَه وشوقه بأمرينِ اثنين، ومرحلتين جميلتين في حياة الإنسان، براءةِ الطفولة، وفتوةِ الشباب:
ذكرتُ بلاديْ فاستهلَّتْ مَدَامِعي بشوقي إلى عَهْدِ الصِّبا المتقادِمِ
حَنَنْتُ إلى أرضٍ بها اخضرّ شارِبي وقُطِّع عني قَبل عقدِ التّمائمِ

وعندما طال مقام ابنُ الرومي بسُرّ من رأى, قال أيضاً وهو يتشوّق إلى بغداد:
بلدٌ صحِبْتُ به الشبيبة والصِّبا ولَبِسْتُ ثوبَ العيشِ وهْوَ جديدُ
فإذا تمثَّلَ في الضميرِ رَأيتُهُ وعلَيهِ أغصانُ الشَّبابِ تمِيدُ[5]

وكثيراً ما رأينا الشعراء يتشوقون إلى نجد، ويكثرون من ذكرها في أشعارهم، فها هو الصّمّة بنُ عبد الله القشيريّ يقول:
قِفا وَدِّعا نَجْداً ومَنْ حَلَّ بالحِمى وقَلَّ لَنَجْدٍ عِنْدَنا أَنْ يُوَدَّعا
وأَذْكُرُ أيَّامَ الحِمَى ثُمّ أنْثَنِي على كَبِدِي مِن خَشْيَةٍ أَنْ تَصَدَّعا
فلَيْسَتْ عَشِيّاتُ الحِمَى برَواجِعٍ عليكَ، ولكنْ خَلِّ عَيْنَيْكَ تَدْمَعا[6]

وهذا أبو عمرٍو البجليُّ يقول:
أقولُ لصاحبي والعيسُ تَخْدِي بنا بَين المُنِيفة فالضِّمارِ
تَمتَّعْ مِن شَمِيم عَرار نَجْدٍ فما بَعْدَ العشِّيةِ مِنْ عرارِ
ألا يا حبَّذا نفحاتُ نَجدٍ وريَّا رَوْضِه غبَّ القِطار
وأهلك إذ يحلّ القومُ نجداً وأنت على زمانِك غيرُ زَارِ
شهورٌ يَنْقَضِينَ وما شعرْنا بأنصافٍ لهن ولا سِرَارِ[7]

وقد يحنُّ الإنسان إلى أرض لم يرَها ولم يسكنْها، ولكن قلبَه تعلق بها، أعني مكةَ والمدينةَ المنوَّرة. كيف لا وقد جعل الله القلوب تهوي إليها؟! أمَا قال الله - عز وجل - في كتابه على لسان إبراهيمَ عليه السلام: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [سورة إبراهيم: 37].

فالشاعر محمد إقبال يقول في رائعة من روائعه الشعرية:
أشواقُنا نحْوَ الحجازِ تطلَّعَتْ كحَنينِ مُغترِبٍ إلى الأوطانِ
إنّ الطُّيورَ وإنْ قصَصْتَ جناحَها تسمُوْ بفطرَتِها إلى الطَّيَرانِ
إنْ كان لي نَغَمُ الهُنودِ وَلحنُهُمْ لكنَّ هذا الصّوتَ مِن عدنانِ[8]

وعندما كنتُ على أطلال مكة قلت:
يا طالَما شاهدتُ طيفَكِ في الكَرى ورأَيْتُ كلَّ الحُسْنِ فِيكِ تَصَوَّرا
يا طالما شبَّ الغَرامُ بخافِقِي والجَفْنَ في عينيَّ حبُّكِ أَسهَرا
يا طالما حَمَّلتُ يا أقصى المُنَى ريحَ الصَّبا منِّي السَّلامَ إذا سَرَى
ولَكَمْ بعثتُ معَ النَّسِيمِ قصيدةً والنَّفسُ وَلْهَى والفؤادُ تَحَسَّرا
والقَلْبُ منِّي كم يغادرُ أضلُعِي ويَهِيمُ وجْداً إنْ رُؤَاكِ تذكَّرا!
ولكَمْ تشبَّثَ في المطايا مُدْنَفاً وطلبتُ منه العَوْدَ لكِنْ أَنْكَرا!
وإذا الحُداةُ ترنَّموا بحُدائهمْ وحُداؤهمْ من غيرِ خَمْرٍ أَسكَرا
ألفَيْتِنِي أبكي كطِفلٍ كلّما رحَلوا إليكِ، ونورُ وجهِكِ أسفَرا
أتجرَّع الحسراتِ، أرتشفُ الأسى لله كم سَالتْ دموعي أنْهُرا!
يا طالَما أرجوْ وصالكِ بُرهةً واليومَ جئتُ إليكِ يا أمَّ القُرى

ومما قلت وأنا على أطلال المدينة:
على أطلالِ طيبةَ هامَ قلبي فوا لهفي.. متى فيها أكُوْنُ؟
وأطلالُ المدينة لي تراءتْ ونورُ المصطفَى نورٌ مُبِيْنُ

وبعضهم يحن إلى العراق، ويطلب من النسيم أن يحمل السلامَ إلى البلد التي استفاد منها الغرام، فتراه يقول:
أَلا يا نَسيمَ الريحِ مِن أَرضِ بابلٍ تَحمَّل إِلى أَهلِ العِراق سَلامي
وإني لأهوَى أنْ أكونَ بأرضِهم على أنني منها استفدتُ غَرامي

والآخر يجعل هواءَ بغدادَ مؤرِّقاً له، ومُهيِّجا لأشواقه:
طِيبُ الهَواء ببغدادٍ يؤرِّقُني شَوقاً إليها وإن عاقتْ مَقاديرُ
فكيفَ أصبرُ عنها الآنَ إذ جمعتْ طيبَ الهوائين: ممدودٌ ومقصورُ؟؟[9]

كما أن الشاعر اللبنانيَّ رشيدَ أيوبَ، عندما رأى الثلجَ يتساقط في المهجر، تذكّر ثلجَ بلاده، وأهلَه وأمَّه وأشياءَ أخرى ذكرها في قصيدته التالية:
يا ثلجُ، قد هيّجتَ أشجاني ذكَرتني أهليْ بلُبنَانِ
باللهِ عَنّي قُل لإخواني ما زالَ يرعَى حُرمةَ العهدِ
يا ثلجُ قد ذكّرتني الوادي مُتَنَصّتاً لِغَديرِه الشّادي
كم قد جَلَستُ بحضنه الهادي فَكأنّني في جَنّةِ الخُلدِ
يا ثلجُ قد ذكِرتني أمّي أيّامَ تقضي الليلَ في همّي
مشغوفةً وتحَارُ في ضَمّي تحنو عليّ مَخافَةَ البردِ
يا ما أُحَيلى النجمَ إنْ لاحا والثلجَ يكسو الأرضَ أشباحَا
والشّاعرَ المسكينَ نَوّاحَا يقضي اللّياليَ فاقدَ الرُّشدِ

والشاعر ابن الأبَّار بكى وطنه بقصيدة رائعة, أكثر فيها من التأوُّهِ, ومن ترويع الفراق, ومن عبرات البعد يقول:
أَبَيْنٌ واشتياقٌ وارتياعُ؟ لقد حُمِّلتَ ما لا يُستَطاعُ
تملّكني الهوى فأطعتُ قسراً ألاَ إنّ الهوى ملِكٌ مطاعُ
وروَّعني الفراقُ على احتمالي ومَن ذا بالتفرُّق لا يُراعُ؟
وليس هوى الأحبة غَير عِلقٍ لديَّ فلا يُعارُ ولا يُباعُ
فَلِلعبَراتِ بَعدهمُ انحدارٌ وللزفَرَات إثرَهُمُ ارتفاعُ
نأَوْا حقاً ولا أدري أيُقضَى تلاقٍ؟ أو يُباح لنا اجتماعُ؟[10]

وكذلك عندما رأَى عبدُ الرحمن الداخلُ نخلةً برصافته[11] أثارتْ فيه هذه النخلةُ شجونَه، فرآها شبيهةً به؛ فكِلاهما غريبٌ عن وطنه، فقال:
تبدَّت لنا وَسْطَ الرّصافةِ نخلةٌ تناءتْ بأرضِ الغَرب عن بلدِ النخْلِ
فقلت: شبيهي في التغرّبِ والنّوَى وطولِ اكتئابي عن بنيَّ وعن أهلِيْ
نشأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غريبةٌ فمثلكِ في الإقصاء والمُنتأَى مِثليْ
سقتكِ غواديْ المُزْنِ في المنتأى الّذي يسحُّ ويَستمرِيْ السِّماكَينِ بالوَبْلِ[12]

وهو مقسَّمُ القلب بين الأندلس وبين المشرق، لذلك نراه يقول:
أيّها الراكبُ الميمِّمُ أرضيْ اِقْرَ منّي بعضَ السلامِ لبعضِيْ
إنّ جسميْ - كما تراهُ - بأرضٍ وفؤادِيْ ومالكِيهِ بأرضِ
قدّر البين بيننا فافترقْنَا وطوَى البينُ عن جفونيَ غمضِيْ[13]

ولابن خفاجة كذلك قصيدةٌ رائعة في التشوق إلى الوطن مطلعها:
أجبتُ وقد نادَى الغرامُ فأسمَعَا عشيةَ غنّانيْ الحمامُ فرجَّعَا[14]

وإنني عندما كنت في مصر كان طيفُ مدينة حماةَ في مخيِّلتي، ونظمت قصيدة في الشوق والحنين إليها، منها:
أحنُّ إلى ربوع حماةَ شوقاً وأذكرُ ماضياً عذباً جميلا
نواعيرُ المياه بلا فُتورٍ تقلِّبُ في حماةَ السَّلسبِيلا
أحنُّ إلى أبي وأخيْ وأمّيْ وأذكُرُ يومَ أزمعتُ الرّحِيلا
تقولُ الأمُّ: يا طفليْ سلاماً وربُّ الكونِ يَهديكَ السَّبيلا
إذا بَعُدتْ ديارُ الأهلِ عنّي غدَا قلبيْ بساحتِهِمْ نَزيلا[15]

والإنسان يتشوق ويحن للوطن والأهل في ديار الغربة بجميع الأحوال، فكيف به إذا كان أسيراً وفي ديار الغربة؟! لا بد أنه سوف يتجرع ألم النوى، وعلقم البعد والفراق، ولا نزال نذكر قصيدة أبي فراس الحمْدانيِّ الرائعةَ التي قالها عندما كان أسيراً، وسمع حمامةً تنوح على شجرةٍ عاليةٍ بقربهِ، فأراد منها أن تشاركه في أحزانه، وتحملَ عنه بعض الهموم، فقال يخاطبها:
أقولُ - وقد ناحتْ بقربي حمامةٌ -: أيا جارَتا، هلْ باتَ حالُكِ حاليْ؟[16]
أتحْمِلُ محزونَ الفؤادِ قوادمٌ على غُصُنٍ نائيْ المسافةِ عاليْ؟
تعالَيْ ترَيْ رُوحاً لديَّ ضعيفةً تَرَدَّدُ في جسمٍ يعذَّبُ، بالِ
أيضحَكُ مأسورٌ وتبكي طليقةٌ ويسكتُ محزونٌ ويُندَبُ سالِ؟
لقد كنت أولى منكِ بالدَّمعِ مُقلةً ولكنَّ دمعِي في الحوادثِ غالِ[17]

وقد كتب إلى ابنِ عمِّهِ سيفِ الدولة من الأَسْر:
وما كنتُ أخشى أنْ أبِيتَ وبينَنا خليجانِ والدَّربُ الأشمُّ وآلسُ[18]
تشوّقنيْ الأهلُ الكرام وأوحشَتْ مواكبُ بَعديْ عندَهُمْ ومَجالِسُ

وعندما غادرَ مدينة حلب قال:
سقى ثَرى حلبٍ ما دمتَ ساكنَها يا بدْرُ غيثانِ: مُنْهَلٌّ ومُنبجسُ
أسيرُ عنها وقلبي في المقامِ بِها كأنّ مُهريْ لثقْلِ السَّيرِ محتبسُ[19]


وتبقى الغربة غربةً، والهجرُ هجراً، ويبقى ترابُ الوطن خيراً من الغربة وذهبها، فالإنسان يأْلف بلاده ويهواها حتى وإن لم تتوفر فيها مقومات الحياة البسيطة، لذلك قال الشاعر:
بلادٌ ألِفناها على كلِّ حالةٍ وقد يؤْلَفُ الشيءُ الّذي ليسَ بالحَسَنْ
وتُستعذَبُ الأرضُ التي لا هَوَاْ بها ولا ماؤُهَا عَذْبٌ ولكنّها وطَنْ[20]

وحتى إذا كان يعيش في بلاد الغربة مع الطبقة الراقية، وفي قصور الأسياد والأمراء "فالشاعرُ الأعشى مقِيم بين سادات نجرانَ منعّماً، ولكن نفسه مشتاقة إلى العراق، وحوله مطايا أصحابه مثله, ليس لهم همٌّ إلا الوصول إلى العراق، لذلك يقول:
واضعاً في سراةِ نَجْرانَ رَحْلي ناعماً، غير أنني مُشتاقُ
في مطايَا أربابُهُنَّ عِجالٌ عن ثَواءٍ وهمُّهُنَّ العِراقُ

ولعلّ خير شِعرٍ يُظهر العلاقة المتينة بين المغترب ووطنه قولُ حاتم الطائي - وهو في الحيرة - مخاطباً جبلَي طيئ:
فقلت: ألا كيفَ الزّمانُ علَيكُما؟ فقالا: بخيرٍ.. كلُّ أرضكَ سائلُ"[21]

ولعلَّ الوقوف على الأطلال، وبكاءَ الديار وأهلِها، من أروع الصفات التي تميز شعرَ الأسى والاغتراب والترحال وكلما ذكر الوقوف على الأطلال والبكاء، ذُكر امرؤُ القيس ومعلقتُهُ التي مطلعها:
قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ بسِقْطِ اللِّوَى بينَ الدَّخُولِ فحَوملِ
فتوضحَ فالمقراةِ لمْ يعف رسمُها لما نسجتْها مِن جنوبٍ وشَمألِ

"وقد عدّ القدماء هذا المطلع من مبتكراته، إذ وقف واستوقف وبكى وأبكى من معه وذكر الحبيب والمنزل"[22].

وكذلك النابغة الذبياني فقد بدأ معلقته بالوقوف على الأطلال عندما قال:
يا دار ميّة بالعلياء فالسَّنَدِ أقوَتْ وطال عليها سالفُ الأبدِ
وقفتُ فيها أصيلاً كي أسائلَها عيّتْ جواباً وما بالرَّبعِ مِن أَحدِ
أضحتْ خلاءً وأضحى أهلُها احتمَلُوا أخنَى عليها الّذي أخنَى على لِبَدِ[23]

فنادى الديار لا أهلها، أسفاً عليها وتشوّقاً إليها.

ومن أروع ما قرأت في تصوير الوقوف على الأطلال، قولُ جعفر بن أحمد السراج البغدادي:
وقفنا وقدْ شطّت بأحبابنا النَّوى على الدّارِ نبكِيها سقى رَبعَها المزْنُ
وزادتْ دموعُ الواكفين برسمِها فلو أرسلتْ سُفْنٌ بها جرَتِ السُّفْنُ
ولم يبقَ صبرٌ يُستعانُ على النّوى بهِ بعدَ توديع الخليطِ ولا جَفْنُ
سألْنا الصَّبا لما رأينا غَرامَنا يزيدُ بسكّانِ الحِمى والهوَى يدنُوْ:
أفيكِ لحملِ الشوقِ يا رِيحُ مَوضعٌ فقدْ ضعفتْ عن حملِ أشواقِنا البُدْنُ[24]

وقد يرحل الإنسان عن بلده ولا يعود إليها؛ بل يموت غريباً، فامرؤ القيس عندما "صار إلى بلدةٍ من بلاد الروم تدعى أنقرة احتُضر بها، ورأى قبر امرأةٍ من أبناء الملوك هناك، قد دُفنت في سفح جبلٍ يقال له عسيب، فسأل عنها، فأخبر بقصتها فقال:
أجارَتَنا إن المزارَ قريبُ وإنّيْ مُقيمٌ ما أقامَ عسيبُ
أجارتَنا إنَّا غريبانِ ها هُنا وكلُّ غريبٍ للغَريبِ نَسِيبُ


ثم مات فدُفن إلى جنب المرأة، فقبره هناك"[25].

ويطلب مرار بن هباش الطائي ممن يحمل جنازته، أن ينزلوه في وطنه، ويدفنوه تحت ثراه:
سقى الله أطلالاً بأخيلةِ الحِمَى و إنْ كنَّ قد أبدَيْنَ للناسِ ما بِيَا
منازلُ لوْ مرّتْ بهنَّ جِنازتي لقال صدايَ: حامليَّ انْزِلا بِيَا[26]

وقدْ يعُود الإنسان إلى وطنِه، بعد فراقٍ طويلٍ، وعندما يصِلُ إلى أطلاله، تمتزج ذكرياتُ أطلال الهجرة، مع ذكريات أطلال العودة، فيناجيه قائلاً:
وطنَ النجومِ، أنا هُنا، حدّقْ.. أتذكُرُ مَن أنا؟
ألمحتَ في الماضيْ البعيدِ فتًى غريراً أَرعنَا؟
جذلانَ يَمرحُ في حقولكَ كالنّسيمِ مُدندِنَا
أنا ذلكَ الوَلَدُ الّذي دُنياهُ كانت ههُنَا!
أنا مِن مِياهكَ قطرةٌ فاضتْ جداولَ مِن سَنا
أنا مِن تُرابكَ ذرّةٌ ماجتْ مواكبَ مِن مُنَى
أنا مِن طيوركَ بُلبلٌ غنّى بمجدكَ فاغتنَى
حمَلَ الطّلاقة والبشاشةَ مِن ربوعكَ للدُّنا
كم عانقتْ روحِيْ رُباكَ وصفّقتْ في المُنحنَى![27]


وأخيراً؛ وللأمانة:
قد يعيش الإنسان لفترةٍ ما في وطنٍ غيرِ وطنه، وأرضٍ غيرِ أرضه، ويدخلها بداية غيرَ محبٍّ لها، لظروفٍ أجبرتهُ على الرّحيل، ولكنه ربَّما يحبُّ ذاكَ الوطن، ويحب أهله، لأنهم طيبون وجديرون بالمحبة، فالمحبة والطِّيب لا يعرفانِ وطناً ولا أرضاً، ولكنْ مهْمَا عاش بينهم فلا بدّ أن يفارقهم، ليعودَ إلى وطنه، مردّداً في طريق العودة:
دَخَلْنا كارِهينَ لهَا فلمّا ألفْناها خرجنا مُكرَهِينَا
وما حبُّ الدِّيارِ بنا، ولكِنْ أَمَرُّ العَيشِ فُرْقَةُ مَن هَوِيْنَا
تركتُ أقرَّ ما كانتْ لعَينيْ وخلّفتُ الفؤادَ بها رَهِينَا




عبدالحكيم غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 12-10-2016, 12:39 PM   #[3]
ناصر يوسف
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية ناصر يوسف
 
افتراضي

يا عبد الحكيم كيفنك ونعلك طيبة ياخ

ذات الكلام ده أنا قلته هنا وهناك أكتر من مرة


وما زلت في إنتظار الإخوة في الإدارة الفنية يفتونا في مسألة الدمج دي



التعديل الأخير تم بواسطة ناصر يوسف ; 18-09-2024 الساعة 09:14 PM.
التوقيع:
ما بال أمتنا العبوس
قد ضل راعيها الجَلَوس .. الجُلوس
زي الأم ما ظلت تعوس
يدها تفتش عن ملاليم الفلوس
والمال يمشيها الهويني
بين جلباب المجوس من التيوس النجوس
ناصر يوسف غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 13-10-2016, 07:48 AM   #[4]
بابكر مخير
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية بابكر مخير
 
افتراضي

هنا
يا ريت كل الأخلاق والطباع والصفات تتطابق والأسماء والعكس صحيح
ليتها كلها كحالك أيها الحبيب، وأنت عبد للحكيم والعليم تتقد حكمة وعلم
(يعني بالله حكامنا مش كانوا حيكونوا أحسن حال )
الحبيب
أسلوبك راقي وإختيارك منمق وموضوعك حيوي
كل سطر هنا، جُلَّ الولاء نحو موقعنا
وكل حرف في بوستيك يعكس من الغيرة أشدها على موقعنا
الحبيب
تعلم كما نعلم جميعنا بالجهد الغير محدود والعطاء غير منقطع النظير الذي يقوم به المسئوليين عن الموقع ونعرف كم الصعاب التي يواجهونها في تطويع الصعب وإمكان المستحيل
لكن العين بصيرة والإيد قصيرة
والله غالب
علآ!!
لا بد من صنعاء وإن طال السفر
بيجي اليوم الفيهو الأمور بتنحل
يديك ويديهم الصحة والعافية ودمتم



التوقيع:
بابكر مخير غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 13-10-2016, 08:27 AM   #[5]
عبدالحكيم
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ناصر يوسف مشاهدة المشاركة
يا عبد الحكيم كيفنك ونعلك طيبة ياخ

ذات الكلام ده أنا قلته هنا وهناك أكتر من مرة


وما زلتفي إنتظار الإخوة في الإدارة الفنية يفتونا في مسألة الدمج دي

حليلك يا ناصر ..
هسع أقولك أنا طيب أم أنا طيبة ..
نتمنى ذلك .. وحتى يتم فالحقوق محفوظة هنا وهناك ..



عبدالحكيم غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 13-10-2016, 08:45 AM   #[6]
عبدالحكيم
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بابكر مخير مشاهدة المشاركة
هنا
يا ريت كل الأخلاق والطباع والصفات تتطابق والأسماء والعكس صحيح
ليتها كلها كحالك أيها الحبيب، وأنت عبد للحكيم والعليم تتقد حكمة وعلم
(يعني بالله حكامنا مش كانوا حيكونوا أحسن حال )
الحبيب
أسلوبك راقي وإختيارك منمق وموضوعك حيوي
كل سطر هنا، جُلَّ الولاء نحو موقعنا
وكل حرف في بوستيك يعكس من الغيرة أشدها على موقعنا
الحبيب
تعلم كما نعلم جميعنا بالجهد الغير محدود والعطاء غير منقطع النظير الذي يقوم به المسئوليين عن الموقع ونعرف كم الصعاب التي يواجهونها في تطويع الصعب وإمكان المستحيل
لكن العين بصيرة والإيد قصيرة
والله غالب
علآ!!
لا بد من صنعاء وإن طال السفر
بيجي اليوم الفيهو الأمور بتنحل
يديك ويديهم الصحة والعافية ودمتم

يابا إتا الظريف .. مختلسة من أسلوبك ...
ولو لا بحبيتك المتواصل عن ذلك الثقيل لقلنا سودانيات أصبحت أطلالا فعلا ..
ولكن بصمودك وآخرين ستظل سودانيات صامدة ..
ومعك لا بد من صنعاء ..ولكن صنعاء حاليا مافي استعجال لبلوغها الله يخلصها من الفيها ..



عبدالحكيم غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 13-10-2016, 09:38 AM   #[7]
ناصر يوسف
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية ناصر يوسف
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالحكيم مشاهدة المشاركة

حليلك يا ناصر ..
هسع أقولك أنا طيب أم أنا طيبة ..
نتمنى ذلك .. وحتى يتم فالحقوق محفوظة هنا وهناك ..
عبد الحكيم

تحية طَيبَة

لو كَسرت حرف الطاء في كلمة طيبة لتقرأ في سياق الجملة ( لَعَلَك طِيبة )

لأستقام المعني يا صديقي

وأتمناك بكامل الطيبة



التعديل الأخير تم بواسطة ناصر يوسف ; 18-09-2024 الساعة 09:16 PM.
التوقيع:
ما بال أمتنا العبوس
قد ضل راعيها الجَلَوس .. الجُلوس
زي الأم ما ظلت تعوس
يدها تفتش عن ملاليم الفلوس
والمال يمشيها الهويني
بين جلباب المجوس من التيوس النجوس
ناصر يوسف غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19-10-2016, 09:38 AM   #[8]
عبدالحكيم
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ناصر يوسف مشاهدة المشاركة
عبد الحكيم

تحية طَيبَة

لو كَسرت حرف الطاء في كلمة طيبة لتقرأ في سياق الجملة ( لَعَلَك طِيبة )

لأستقام المعني يا صديقي

وأتنماك بكامل الطيبة

استاذنا / ناصر وصلت المعلومة ...
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ...
وقلنا ندردش معاك .. شوف لي التانية الـ بالأحمر دي قصتها شنو ..
وأتنماك

قدر ما حولتها ما جات معاي مرة من التنمية ومرة أقول من النميمة ومرة من التمني ..



عبدالحكيم غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19-10-2016, 09:48 AM   #[9]
عبدالحكيم
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

التحية لك الأستاذ /* فتح العليم الإمام


الشاعر زهير بن أبي سلمى الوقوف على الأطلال ..

أمِن أُمِّ أوفَى دِمنةٌ لم تكَلّمِ

بحُومانة الدّرّاج فالمُتثلِّمِ

ديارٌ لها بالرّقمتينِ كأنّها

مراجِعُ وشمٍ في نواشِرِ مِعصَمِ

بها العينُ والأرَامُ يمشِيْنَ خِلفَةً

وأطلاؤُها ينهَضْنَ مِن كُلِ مَجثَمِ

وقفتُ بها مِن بعدِ عِشرينَ حِجّةً

فلأيّاً عَرفْتُ الدّارَ بعد توهُمِ

أثافي سُفعاً في مُعرَّسِ مِرجَلٍ

ونُؤْياً كجذمِ الحوضِ لم يتثّلمِ

فلمّا عَرَفتُ الدّارَ قلتُ لربعها

ألاَ انْعِم صَبَاحاً أيُّها الرّبْعُ واسْلِمِ

الشاعر لبيد بن ربيعة العامري قائلا ..

عفَتِ الدِّيارُ محلُّها فمُقامُها

بمِنَىً تأبّد غولُها فرِجامُها

فمَدافعُ الريّانِ عُرِّيَ رسمُها

خَلَقاً كما ضمِنّ الوُحيَّ سلامُها

دِمَنٌ تَجَرّم بعدَ عَهْدِ أنيسها

حِجَجٌ خَلَونَ حَلالَها وحَرَامَها

رُزِقَتْ مرابيعَ النجومِ وَصَابَها

ودَقُ الرّواعِدِ جُودُها ورِهَامُها

مِن كُلّ ساريَةٍ وغَادٍ مُدجِنٍ

وعشيّةٍ مُتجاوب إرزامُها



عبدالحكيم غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19-10-2016, 11:20 AM   #[10]
imported_wageeda
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية imported_wageeda
 
افتراضي

يا عبد الحكيم حبابك شكرا لك
بس ياريت تفرتق لينا صيوان العزاء سودانيات عمرها ما بتكون أطلال ننوح ونبكي علي اطلالها ستظل شامخة بشموخ أسيادهم أصحاب الفخامات وفرسان الإبداع



التوقيع:
هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ،
معجزةً تطهّرُنا بها،
وبها تُخَلِّصُ أرضَنا من رجْسِها،
حتى تصالحَنا السماءُ، وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟
علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
فنّ النّهوضِ من الجراحْ.

(عالم عباس)



(نسأل الله لك فراديس الخلود)
imported_wageeda غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19-10-2016, 11:21 AM   #[11]
فتح العليم الإمام
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالحكيم مشاهدة المشاركة
البكاء على الأطلال منقولا ...
لا مكانَ في الحياةِ، بالنِّسبةِ للإنسان، أجملُ وأبهى من المكان الذي ولد فيه وترعرع، وتفيأَ ظلالَه وارتوى من فراتِ مائِهِ، فالمكانُ هو تذكُّرٌ لمَراتِع الصِّبا، وضَحكاتِ الطُّفُولةِ البريَئةِ، وهو جزء من كِيانِ الإنسانِ، فمهما ابتعد عنه، وشطت به الدارُ، فلا بد أن تبقى أطلالُ بلادهِ في ثنايا مُخَيّلتِه، وهذا جُزْءٌ يَسِيْرٌ مِنَ الوفاءِ لهذه الأرضِ التي حملتكَ على ظهْرها وأنتَ تحبو، ثم وأنتَ تخطو، ثم تمشي، ثم بعد انتهاء الأجل تدفن فيها. فما أرأفها!

وكثير من الناس من ارتشف شراب الهجر والغربة، في كؤوس من الحنين والأشواق...


وكم من مغترب قال بلوعةٍ بيتَ الطائي:
كمْ منزلٍ في الأرضِ يَأْلفهُ الفتَى وحنينهُ أبداً لأوّلِ مَنزلِ

وكم من مهاجرٍ يتغنى صباحَ مساء:
بلاديْ وإنْ جارَتْ عليَّ عزيزةٌ وأهلِي وإنْ ضنُّوا عليَّ كِرامُ

ومثله لفوزي معلوف:
مهمَا يَجُرْ وطَني عليَّ وأهلُه فالأهْلُ أهلِي والبلادُ بلادِي

والكلُّ يعلم أنّ طريق الهجرة وعرةُ المسلك، ومليئةٌ بالمنغّصات، ومهما بقي الإنسان في بلاد الغربة فاسمه "غريب"، ولن يجد قلباً حنوناً، بين الحجارة الصماء، مما حدا بالقَرويِّ في قروياته أن يقول بعدما أفنَتِ الغربةُ شبابَه:
دفنتَ ربيعَ عُمرِك في بلادٍ لها طالتْ لياليكَ القِصارُ
بلادٌ ربّما فيها كِرامٌ ولكِنَّ اللئامَ بها كثارُ
إذا لمْ تحوِ تربتُها حِجارا فبيْنَ ضلوعِ أهليها الحِجارُ

وتبقى ساعةُ الوداع مؤثّرة، والوقوفُ على الأطلال يرافقه البكاء، حتى الصحابة رضي الله عنهم، عندما هاجروا إلى المدينة - كما تذكر عائشة رضي الله عنها - تذكّروا مكة وجبالهَا، وخاصة أنّ المدينة أوبأُ أرض الله من الحمّى، وقد أصابت الحمّى بعضَ الصحابة، وكان بلالٌ إذا أقلع عنهُ الحمّى اضطجعَ بفناء البيت ثمّ يرفعُ عقيرتَه[1] ويقول:
ألا ليتَ شِعْري هل أبيتنّ ليلةً بوادٍ وحَوْلي إذْخرٌ وجَليلُ
وهل أَرِدَنْ يوماً مِياه مَجنّةٍ وهل يبدوَن ليْ شَامَةٌ وطَفِيلُ[2]

قالت عائشة رضي الله عنها: ثم إني دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: "اللّهم حبِّبْ إلَينا المدينةَ كحبِّنا مكّةَ، اللّهم وصحّحها وبارك لنا في مُدّها وصاعِها، وانقلْ حُمَّاها واجعَلْها بالجحفَة"[3].


فغرس الله بعد ذلك حبَّ المدينة في قلب الصحابة ومَنْ بعدهم أبدَ الدهر.

ويبقى السؤال:
لماذا يحنّ الإنسان إلى بلاده؟

أجاب البعض جواباً جميلاً فقال:
"وكان الناسُ يتشوّقون إلى أوطانِهم، ولا يفهمونَ العلّةَ في ذلك، حتى أوضحها علي بن العباس الرّومي في قصيدةٍ لسليمان بن عبد الله بن طاهر يستَعدِيه على رجلٍ من التجار، يعرف بابن أبي كامل، أجبَره على بَيْع داره واغتصبه بعض جُدرها، بقوله:
ولي وطنٌ آليتُ ألاّ أَبيعهُ وألاّ أرى غيريْ لهُ - الدهرَ - مالِكا
عهِدتُ به شَرْخَ الشبابِ ونعمةً كنِعْمَةِ قوم أصبحُوا في ظِلالِكا
وحبَّبَ أوطانَ الرجالِ إليهمُ مآرِبُ قضَّاها الشبابُ هُنالكا
إذا ذَكَروا أوطانَهم ذكَّرَتْهُمُ عهودَ الصِّبَا فيها فحنُّوا لذلِكا
لقد ألِفَتهُ النفسُ حتى كأنّهُ لها جَسَدٌ إن بانَ غُودِرَ هالكا"[4]

وقال بعض الأعراب قريباً من هذا، وعلّل بكاءَه وشوقه بأمرينِ اثنين، ومرحلتين جميلتين في حياة الإنسان، براءةِ الطفولة، وفتوةِ الشباب:
ذكرتُ بلاديْ فاستهلَّتْ مَدَامِعي بشوقي إلى عَهْدِ الصِّبا المتقادِمِ
حَنَنْتُ إلى أرضٍ بها اخضرّ شارِبي وقُطِّع عني قَبل عقدِ التّمائمِ

وعندما طال مقام ابنُ الرومي بسُرّ من رأى, قال أيضاً وهو يتشوّق إلى بغداد:
بلدٌ صحِبْتُ به الشبيبة والصِّبا ولَبِسْتُ ثوبَ العيشِ وهْوَ جديدُ
فإذا تمثَّلَ في الضميرِ رَأيتُهُ وعلَيهِ أغصانُ الشَّبابِ تمِيدُ[5]

وكثيراً ما رأينا الشعراء يتشوقون إلى نجد، ويكثرون من ذكرها في أشعارهم، فها هو الصّمّة بنُ عبد الله القشيريّ يقول:
قِفا وَدِّعا نَجْداً ومَنْ حَلَّ بالحِمى وقَلَّ لَنَجْدٍ عِنْدَنا أَنْ يُوَدَّعا
وأَذْكُرُ أيَّامَ الحِمَى ثُمّ أنْثَنِي على كَبِدِي مِن خَشْيَةٍ أَنْ تَصَدَّعا
فلَيْسَتْ عَشِيّاتُ الحِمَى برَواجِعٍ عليكَ، ولكنْ خَلِّ عَيْنَيْكَ تَدْمَعا[6]

وهذا أبو عمرٍو البجليُّ يقول:
أقولُ لصاحبي والعيسُ تَخْدِي بنا بَين المُنِيفة فالضِّمارِ
تَمتَّعْ مِن شَمِيم عَرار نَجْدٍ فما بَعْدَ العشِّيةِ مِنْ عرارِ
ألا يا حبَّذا نفحاتُ نَجدٍ وريَّا رَوْضِه غبَّ القِطار
وأهلك إذ يحلّ القومُ نجداً وأنت على زمانِك غيرُ زَارِ
شهورٌ يَنْقَضِينَ وما شعرْنا بأنصافٍ لهن ولا سِرَارِ[7]

وقد يحنُّ الإنسان إلى أرض لم يرَها ولم يسكنْها، ولكن قلبَه تعلق بها، أعني مكةَ والمدينةَ المنوَّرة. كيف لا وقد جعل الله القلوب تهوي إليها؟! أمَا قال الله - عز وجل - في كتابه على لسان إبراهيمَ عليه السلام: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [سورة إبراهيم: 37].

فالشاعر محمد إقبال يقول في رائعة من روائعه الشعرية:
أشواقُنا نحْوَ الحجازِ تطلَّعَتْ كحَنينِ مُغترِبٍ إلى الأوطانِ
إنّ الطُّيورَ وإنْ قصَصْتَ جناحَها تسمُوْ بفطرَتِها إلى الطَّيَرانِ
إنْ كان لي نَغَمُ الهُنودِ وَلحنُهُمْ لكنَّ هذا الصّوتَ مِن عدنانِ[8]

وعندما كنتُ على أطلال مكة قلت:
يا طالَما شاهدتُ طيفَكِ في الكَرى ورأَيْتُ كلَّ الحُسْنِ فِيكِ تَصَوَّرا
يا طالما شبَّ الغَرامُ بخافِقِي والجَفْنَ في عينيَّ حبُّكِ أَسهَرا
يا طالما حَمَّلتُ يا أقصى المُنَى ريحَ الصَّبا منِّي السَّلامَ إذا سَرَى
ولَكَمْ بعثتُ معَ النَّسِيمِ قصيدةً والنَّفسُ وَلْهَى والفؤادُ تَحَسَّرا
والقَلْبُ منِّي كم يغادرُ أضلُعِي ويَهِيمُ وجْداً إنْ رُؤَاكِ تذكَّرا!
ولكَمْ تشبَّثَ في المطايا مُدْنَفاً وطلبتُ منه العَوْدَ لكِنْ أَنْكَرا!
وإذا الحُداةُ ترنَّموا بحُدائهمْ وحُداؤهمْ من غيرِ خَمْرٍ أَسكَرا
ألفَيْتِنِي أبكي كطِفلٍ كلّما رحَلوا إليكِ، ونورُ وجهِكِ أسفَرا
أتجرَّع الحسراتِ، أرتشفُ الأسى لله كم سَالتْ دموعي أنْهُرا!
يا طالَما أرجوْ وصالكِ بُرهةً واليومَ جئتُ إليكِ يا أمَّ القُرى

ومما قلت وأنا على أطلال المدينة:
على أطلالِ طيبةَ هامَ قلبي فوا لهفي.. متى فيها أكُوْنُ؟
وأطلالُ المدينة لي تراءتْ ونورُ المصطفَى نورٌ مُبِيْنُ

وبعضهم يحن إلى العراق، ويطلب من النسيم أن يحمل السلامَ إلى البلد التي استفاد منها الغرام، فتراه يقول:
أَلا يا نَسيمَ الريحِ مِن أَرضِ بابلٍ تَحمَّل إِلى أَهلِ العِراق سَلامي
وإني لأهوَى أنْ أكونَ بأرضِهم على أنني منها استفدتُ غَرامي

والآخر يجعل هواءَ بغدادَ مؤرِّقاً له، ومُهيِّجا لأشواقه:
طِيبُ الهَواء ببغدادٍ يؤرِّقُني شَوقاً إليها وإن عاقتْ مَقاديرُ
فكيفَ أصبرُ عنها الآنَ إذ جمعتْ طيبَ الهوائين: ممدودٌ ومقصورُ؟؟[9]

كما أن الشاعر اللبنانيَّ رشيدَ أيوبَ، عندما رأى الثلجَ يتساقط في المهجر، تذكّر ثلجَ بلاده، وأهلَه وأمَّه وأشياءَ أخرى ذكرها في قصيدته التالية:
يا ثلجُ، قد هيّجتَ أشجاني ذكَرتني أهليْ بلُبنَانِ
باللهِ عَنّي قُل لإخواني ما زالَ يرعَى حُرمةَ العهدِ
يا ثلجُ قد ذكّرتني الوادي مُتَنَصّتاً لِغَديرِه الشّادي
كم قد جَلَستُ بحضنه الهادي فَكأنّني في جَنّةِ الخُلدِ
يا ثلجُ قد ذكِرتني أمّي أيّامَ تقضي الليلَ في همّي
مشغوفةً وتحَارُ في ضَمّي تحنو عليّ مَخافَةَ البردِ
يا ما أُحَيلى النجمَ إنْ لاحا والثلجَ يكسو الأرضَ أشباحَا
والشّاعرَ المسكينَ نَوّاحَا يقضي اللّياليَ فاقدَ الرُّشدِ

والشاعر ابن الأبَّار بكى وطنه بقصيدة رائعة, أكثر فيها من التأوُّهِ, ومن ترويع الفراق, ومن عبرات البعد يقول:
أَبَيْنٌ واشتياقٌ وارتياعُ؟ لقد حُمِّلتَ ما لا يُستَطاعُ
تملّكني الهوى فأطعتُ قسراً ألاَ إنّ الهوى ملِكٌ مطاعُ
وروَّعني الفراقُ على احتمالي ومَن ذا بالتفرُّق لا يُراعُ؟
وليس هوى الأحبة غَير عِلقٍ لديَّ فلا يُعارُ ولا يُباعُ
فَلِلعبَراتِ بَعدهمُ انحدارٌ وللزفَرَات إثرَهُمُ ارتفاعُ
نأَوْا حقاً ولا أدري أيُقضَى تلاقٍ؟ أو يُباح لنا اجتماعُ؟[10]

وكذلك عندما رأَى عبدُ الرحمن الداخلُ نخلةً برصافته[11] أثارتْ فيه هذه النخلةُ شجونَه، فرآها شبيهةً به؛ فكِلاهما غريبٌ عن وطنه، فقال:
تبدَّت لنا وَسْطَ الرّصافةِ نخلةٌ تناءتْ بأرضِ الغَرب عن بلدِ النخْلِ
فقلت: شبيهي في التغرّبِ والنّوَى وطولِ اكتئابي عن بنيَّ وعن أهلِيْ
نشأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غريبةٌ فمثلكِ في الإقصاء والمُنتأَى مِثليْ
سقتكِ غواديْ المُزْنِ في المنتأى الّذي يسحُّ ويَستمرِيْ السِّماكَينِ بالوَبْلِ[12]

وهو مقسَّمُ القلب بين الأندلس وبين المشرق، لذلك نراه يقول:
أيّها الراكبُ الميمِّمُ أرضيْ اِقْرَ منّي بعضَ السلامِ لبعضِيْ
إنّ جسميْ - كما تراهُ - بأرضٍ وفؤادِيْ ومالكِيهِ بأرضِ
قدّر البين بيننا فافترقْنَا وطوَى البينُ عن جفونيَ غمضِيْ[13]

ولابن خفاجة كذلك قصيدةٌ رائعة في التشوق إلى الوطن مطلعها:
أجبتُ وقد نادَى الغرامُ فأسمَعَا عشيةَ غنّانيْ الحمامُ فرجَّعَا[14]

وإنني عندما كنت في مصر كان طيفُ مدينة حماةَ في مخيِّلتي، ونظمت قصيدة في الشوق والحنين إليها، منها:
أحنُّ إلى ربوع حماةَ شوقاً وأذكرُ ماضياً عذباً جميلا
نواعيرُ المياه بلا فُتورٍ تقلِّبُ في حماةَ السَّلسبِيلا
أحنُّ إلى أبي وأخيْ وأمّيْ وأذكُرُ يومَ أزمعتُ الرّحِيلا
تقولُ الأمُّ: يا طفليْ سلاماً وربُّ الكونِ يَهديكَ السَّبيلا
إذا بَعُدتْ ديارُ الأهلِ عنّي غدَا قلبيْ بساحتِهِمْ نَزيلا[15]

والإنسان يتشوق ويحن للوطن والأهل في ديار الغربة بجميع الأحوال، فكيف به إذا كان أسيراً وفي ديار الغربة؟! لا بد أنه سوف يتجرع ألم النوى، وعلقم البعد والفراق، ولا نزال نذكر قصيدة أبي فراس الحمْدانيِّ الرائعةَ التي قالها عندما كان أسيراً، وسمع حمامةً تنوح على شجرةٍ عاليةٍ بقربهِ، فأراد منها أن تشاركه في أحزانه، وتحملَ عنه بعض الهموم، فقال يخاطبها:
أقولُ - وقد ناحتْ بقربي حمامةٌ -: أيا جارَتا، هلْ باتَ حالُكِ حاليْ؟[16]
أتحْمِلُ محزونَ الفؤادِ قوادمٌ على غُصُنٍ نائيْ المسافةِ عاليْ؟
تعالَيْ ترَيْ رُوحاً لديَّ ضعيفةً تَرَدَّدُ في جسمٍ يعذَّبُ، بالِ
أيضحَكُ مأسورٌ وتبكي طليقةٌ ويسكتُ محزونٌ ويُندَبُ سالِ؟
لقد كنت أولى منكِ بالدَّمعِ مُقلةً ولكنَّ دمعِي في الحوادثِ غالِ[17]

وقد كتب إلى ابنِ عمِّهِ سيفِ الدولة من الأَسْر:
وما كنتُ أخشى أنْ أبِيتَ وبينَنا خليجانِ والدَّربُ الأشمُّ وآلسُ[18]
تشوّقنيْ الأهلُ الكرام وأوحشَتْ مواكبُ بَعديْ عندَهُمْ ومَجالِسُ

وعندما غادرَ مدينة حلب قال:
سقى ثَرى حلبٍ ما دمتَ ساكنَها يا بدْرُ غيثانِ: مُنْهَلٌّ ومُنبجسُ
أسيرُ عنها وقلبي في المقامِ بِها كأنّ مُهريْ لثقْلِ السَّيرِ محتبسُ[19]


وتبقى الغربة غربةً، والهجرُ هجراً، ويبقى ترابُ الوطن خيراً من الغربة وذهبها، فالإنسان يأْلف بلاده ويهواها حتى وإن لم تتوفر فيها مقومات الحياة البسيطة، لذلك قال الشاعر:
بلادٌ ألِفناها على كلِّ حالةٍ وقد يؤْلَفُ الشيءُ الّذي ليسَ بالحَسَنْ
وتُستعذَبُ الأرضُ التي لا هَوَاْ بها ولا ماؤُهَا عَذْبٌ ولكنّها وطَنْ[20]

وحتى إذا كان يعيش في بلاد الغربة مع الطبقة الراقية، وفي قصور الأسياد والأمراء "فالشاعرُ الأعشى مقِيم بين سادات نجرانَ منعّماً، ولكن نفسه مشتاقة إلى العراق، وحوله مطايا أصحابه مثله, ليس لهم همٌّ إلا الوصول إلى العراق، لذلك يقول:
واضعاً في سراةِ نَجْرانَ رَحْلي ناعماً، غير أنني مُشتاقُ
في مطايَا أربابُهُنَّ عِجالٌ عن ثَواءٍ وهمُّهُنَّ العِراقُ

ولعلّ خير شِعرٍ يُظهر العلاقة المتينة بين المغترب ووطنه قولُ حاتم الطائي - وهو في الحيرة - مخاطباً جبلَي طيئ:
فقلت: ألا كيفَ الزّمانُ علَيكُما؟ فقالا: بخيرٍ.. كلُّ أرضكَ سائلُ"[21]

ولعلَّ الوقوف على الأطلال، وبكاءَ الديار وأهلِها، من أروع الصفات التي تميز شعرَ الأسى والاغتراب والترحال وكلما ذكر الوقوف على الأطلال والبكاء، ذُكر امرؤُ القيس ومعلقتُهُ التي مطلعها:
قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ بسِقْطِ اللِّوَى بينَ الدَّخُولِ فحَوملِ
فتوضحَ فالمقراةِ لمْ يعف رسمُها لما نسجتْها مِن جنوبٍ وشَمألِ

"وقد عدّ القدماء هذا المطلع من مبتكراته، إذ وقف واستوقف وبكى وأبكى من معه وذكر الحبيب والمنزل"[22].

وكذلك النابغة الذبياني فقد بدأ معلقته بالوقوف على الأطلال عندما قال:
يا دار ميّة بالعلياء فالسَّنَدِ أقوَتْ وطال عليها سالفُ الأبدِ
وقفتُ فيها أصيلاً كي أسائلَها عيّتْ جواباً وما بالرَّبعِ مِن أَحدِ
أضحتْ خلاءً وأضحى أهلُها احتمَلُوا أخنَى عليها الّذي أخنَى على لِبَدِ[23]

فنادى الديار لا أهلها، أسفاً عليها وتشوّقاً إليها.

ومن أروع ما قرأت في تصوير الوقوف على الأطلال، قولُ جعفر بن أحمد السراج البغدادي:
وقفنا وقدْ شطّت بأحبابنا النَّوى على الدّارِ نبكِيها سقى رَبعَها المزْنُ
وزادتْ دموعُ الواكفين برسمِها فلو أرسلتْ سُفْنٌ بها جرَتِ السُّفْنُ
ولم يبقَ صبرٌ يُستعانُ على النّوى بهِ بعدَ توديع الخليطِ ولا جَفْنُ
سألْنا الصَّبا لما رأينا غَرامَنا يزيدُ بسكّانِ الحِمى والهوَى يدنُوْ:
أفيكِ لحملِ الشوقِ يا رِيحُ مَوضعٌ فقدْ ضعفتْ عن حملِ أشواقِنا البُدْنُ[24]

وقد يرحل الإنسان عن بلده ولا يعود إليها؛ بل يموت غريباً، فامرؤ القيس عندما "صار إلى بلدةٍ من بلاد الروم تدعى أنقرة احتُضر بها، ورأى قبر امرأةٍ من أبناء الملوك هناك، قد دُفنت في سفح جبلٍ يقال له عسيب، فسأل عنها، فأخبر بقصتها فقال:
أجارَتَنا إن المزارَ قريبُ وإنّيْ مُقيمٌ ما أقامَ عسيبُ
أجارتَنا إنَّا غريبانِ ها هُنا وكلُّ غريبٍ للغَريبِ نَسِيبُ


ثم مات فدُفن إلى جنب المرأة، فقبره هناك"[25].

ويطلب مرار بن هباش الطائي ممن يحمل جنازته، أن ينزلوه في وطنه، ويدفنوه تحت ثراه:
سقى الله أطلالاً بأخيلةِ الحِمَى و إنْ كنَّ قد أبدَيْنَ للناسِ ما بِيَا
منازلُ لوْ مرّتْ بهنَّ جِنازتي لقال صدايَ: حامليَّ انْزِلا بِيَا[26]

وقدْ يعُود الإنسان إلى وطنِه، بعد فراقٍ طويلٍ، وعندما يصِلُ إلى أطلاله، تمتزج ذكرياتُ أطلال الهجرة، مع ذكريات أطلال العودة، فيناجيه قائلاً:
وطنَ النجومِ، أنا هُنا، حدّقْ.. أتذكُرُ مَن أنا؟
ألمحتَ في الماضيْ البعيدِ فتًى غريراً أَرعنَا؟
جذلانَ يَمرحُ في حقولكَ كالنّسيمِ مُدندِنَا
أنا ذلكَ الوَلَدُ الّذي دُنياهُ كانت ههُنَا!
أنا مِن مِياهكَ قطرةٌ فاضتْ جداولَ مِن سَنا
أنا مِن تُرابكَ ذرّةٌ ماجتْ مواكبَ مِن مُنَى
أنا مِن طيوركَ بُلبلٌ غنّى بمجدكَ فاغتنَى
حمَلَ الطّلاقة والبشاشةَ مِن ربوعكَ للدُّنا
كم عانقتْ روحِيْ رُباكَ وصفّقتْ في المُنحنَى![27]


وأخيراً؛ وللأمانة:
قد يعيش الإنسان لفترةٍ ما في وطنٍ غيرِ وطنه، وأرضٍ غيرِ أرضه، ويدخلها بداية غيرَ محبٍّ لها، لظروفٍ أجبرتهُ على الرّحيل، ولكنه ربَّما يحبُّ ذاكَ الوطن، ويحب أهله، لأنهم طيبون وجديرون بالمحبة، فالمحبة والطِّيب لا يعرفانِ وطناً ولا أرضاً، ولكنْ مهْمَا عاش بينهم فلا بدّ أن يفارقهم، ليعودَ إلى وطنه، مردّداً في طريق العودة:
دَخَلْنا كارِهينَ لهَا فلمّا ألفْناها خرجنا مُكرَهِينَا
وما حبُّ الدِّيارِ بنا، ولكِنْ أَمَرُّ العَيشِ فُرْقَةُ مَن هَوِيْنَا
تركتُ أقرَّ ما كانتْ لعَينيْ وخلّفتُ الفؤادَ بها رَهِينَا



تحياتي عبدالحكم
البكاء على أطلال سودانيات .
رغم تواجدنا الحديث فيها لكننا تأثرنا لتشتت كتابها وفراقهم هذا البيت .
مقالك جميل يستحق اعضاء زمان للقراءة والتحليل والبكاء ايضاً .
مودتي لك



فتح العليم الإمام غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19-10-2016, 12:43 PM   #[12]
عبدالحكيم
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة wageeda مشاهدة المشاركة
يا عبد الحكيم حبابك شكرا لك
بس ياريت تفرتق لينا صيوان العزاء سودانيات عمرها ما بتكون أطلال ننوح ونبكي علي اطلالها ستظل شامخة بشموخ أسيادهم أصحاب الفخامات وفرسان الإبداع
wageeda

لا أدري ما الذي فهمتيه .. ؟
لم أنعى لك سودانيات .. سودانيات لن تموت لطالما هي تستمد روحها من كتابها ...
البكاء على الأطلال يفهم منه مدى المعزة التي يكنها الباكين لمن يحبون أو لما يحبون .. فيزورون تلك الأماكن ليرشفوا ويرتوا ويبكوا من ... الذكريات والأحداث التي دارت على أو فوق أو تحت هذه الأطلال .
ومرة تانية هذا الكلام الجميل ... وتشكري على تحريكك لفتحي وعودته لا نقول ليبكي وخلينا نقول ليغرد .. على أطلال سودانيات ..

وطنَ النجومِ، أنا هُنا، حدّقْ.. أتذكُرُ مَن أنا؟
ألمحتَ في الماضيْ البعيدِ فتًى غريراً أَرعنَا؟
جذلانَ يَمرحُ في حقولكَ كالنّسيمِ مُدندِنَا
أنا ذلكَ الوَلَدُ الّذي دُنياهُ كانت ههُنَا!
أنا مِن مِياهكَ قطرةٌ فاضتْ جداولَ مِن سَنا
أنا مِن تُرابكَ ذرّةٌ ماجتْ مواكبَ مِن مُنَى
أنا مِن طيوركَ بُلبلٌ غنّى بمجدكَ فاغتنَى
حمَلَ الطّلاقة والبشاشةَ مِن ربوعكَ للدُّنا
كم عانقتْ روحِيْ رُباكَ وصفّقتْ في المُنحنَى!



عبدالحكيم غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19-10-2016, 12:57 PM   #[13]
عبدالحكيم
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فتح العليم الإمام مشاهدة المشاركة
تحياتي عبدالحكم
البكاء على أطلال سودانيات .
رغم تواجدنا الحديث فيها لكننا تأثرنا لتشتت كتابها وفراقهم هذا البيت .
مقالك جميل يستحق اعضاء زمان للقراءة والتحليل والبكاء ايضاً .
مودتي لك

هلا فتح العليم الإمام .. وأنت تقود حملة سودانيات لن تموت ..
أتمنى لك التوفيق في مسعاك .. ولسودانيات الشموخ فتعود كما هي .. ولم شمل كتابها ( أعضاء زمان ) لينثروا عبرها ما علموه وفقهوه ..



عبدالحكيم غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 17-09-2024, 02:13 PM   #[14]
عبدالحكيم
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالحكيم مشاهدة المشاركة
wageeda

لا أدري ما الذي فهمتيه .. ؟
لم أنعى لك سودانيات .. سودانيات لن تموت لطالما هي تستمد روحها من كتابها ...
البكاء على الأطلال يفهم منه مدى المعزة التي يكنها الباكين لمن يحبون أو لما يحبون .. فيزورون تلك الأماكن ليرشفوا ويرتوا ويبكوا من ... الذكريات والأحداث التي دارت على أو فوق أو تحت هذه الأطلال .
ومرة تانية هذا الكلام الجميل ... وتشكري على تحريكك لفتحي وعودته لا نقول ليبكي وخلينا نقول ليغرد .. على أطلال سودانيات ..

وطنَ النجومِ، أنا هُنا، حدّقْ.. أتذكُرُ مَن أنا؟
ألمحتَ في الماضيْ البعيدِ فتًى غريراً أَرعنَا؟
جذلانَ يَمرحُ في حقولكَ كالنّسيمِ مُدندِنَا
أنا ذلكَ الوَلَدُ الّذي دُنياهُ كانت ههُنَا!
أنا مِن مِياهكَ قطرةٌ فاضتْ جداولَ مِن سَنا
أنا مِن تُرابكَ ذرّةٌ ماجتْ مواكبَ مِن مُنَى
أنا مِن طيوركَ بُلبلٌ غنّى بمجدكَ فاغتنَى
حمَلَ الطّلاقة والبشاشةَ مِن ربوعكَ للدُّنا
كم عانقتْ روحِيْ رُباكَ وصفّقتْ في المُنحنَى!




عبدالحكيم غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 17-09-2024, 02:30 PM   #[15]
عبدالحكيم
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

الإخوة والأخوات في سودانيات تواصل ومحبة ...
هي دعوة للعودة لمنبركم رمز التواصل والمحبة ... وكما لايخفى على الجميع والبلاد السودان بمحنة وهي الحرب الدائرة منذ 15 أبريل من العام 2023م ولا زالت فنحن في أمس الحاجة للتواصل والمحبة لإثراء الموقع بالكتابات من كتاب سودانيات لتوضيح ما يدور في وطننا الحبيب السودان من مؤآمرات وفتن أدت إلى تدمير السودان ونهب ثرواته وممتلكات المواطنين وتقتيلهم وتشريدهم ونزوحهم وترويعهم ...
فنسأل الله السلامة والحفظ ليعودوا متواصلين متحابين ... ولا ندعه لقمة سائغة تتلقفه المطامع الشخصية والنزوات تاذاتية والمطتمع الخارجية لاستغلال موارده ..
هي دعوة للعودة .
سودان العزة والشموخ ....



عبدالحكيم غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

تعليقات الفيسبوك

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 03:04 AM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.