نحن و المناخ
نحن و المناخ
ولدنا و نشأنا في السودان، عرفنا التعدد في كل شىء، الذوق، الروائح، الألوان، الأشكال، الهيئات، السحنات، الألسن، اللهجات، الأيقاعات، وجهات النظر، فرق الرياضة و فرق السياسة، كل الأشياء عندنا متنوعة و متعددة، الا المناخ، فهو حار فقط. من بداية العام و حتي نهايته، حار حار حار، الا من رعشة يجيء بها تيار نفاث في اواخر ديسمبر تتيح لك ارتداء (السويتر) الذى حفظته في الدولاب حتي نسيت لونه، و تنويعات الصيف الممتد في بلادنا، تقتصر على موجتين قصيرتين، ( كتاحة) و ( امطار) هي في حقيقتها سيول، سمعنا بالربيع في الأغاني، و الثلج شهدناه على شاشة السينما، اما البرد الذي يساقط مع الأمطار في بعض الأحايين مثل قشر السمك، فأن بقاءه لا يتعدي جزءا من الثانية، تراكضنا وراءه و نحن صغار، فأنتهينا بمضغ قطع الزجاج ظنا منا بأنها ثلج، و حرارة السودان تجعل من الثلج نوعا من الحلوى، فمن الطبيعي ان تجد طفلا او بالغا ، يمص في قطعة ثلج بلذة لا تعادلها لذة، و ليس ادل على ذلك من قصة الرجل الذي شحن لوح تلج الى (منصور كتي) من الخرطوم، ليشرك أهله هناك في هذه المتعة العظيمة، و لك ان تتصور الرجل و هو يصعد الى سطح اللوري الساخن، فلم يجد اثرا للنشارة حتى. وقد تفلسف بعضنا في موقف الدفاع عن لالوب بلدنا، فقالوا تأففا في وصف حر الخليج ( حر السودان أحسن، (ميزتو) انو ما فيه رطوبة) !! فتذكرت شهادة صديقي عماد العطبراوي ( عطبرة بتسخن لمن الزول يحس ببرد)،
و للحرارة في السودان شواهق تعتليها في لحظات جنونها، وتجليات تجاريبها، اتاحت لنا الفرصة في غضون بأسها، لقاء رجل ذو هيئة ( فرانكشتاينية)، يحمل فرارا، فسميناه طبيعيا ب ( ابو فرار)، كان كلما التقيناه صاح بنا ( اقوم اديكم طقة هسة)، و قد قدر له النجاح في ( طق) من اراد فأرداه، و اكتفي بأعاقة من بقي على قيد الحياة، فتركه عائلا. لم يقيض حسن الطالع لأحد من شعوب العالم الأخرى رؤيته، مثلما رأينا رعبه الهازىء، فاكتفوا بتسميته ( السحائي).
و حر السودان ( عينة)، بكل ما تحمل الكلمة من معان، سواء في قاموس الفصحي وكل قواميس الدارجة، يجف في حضرته الزرع و الضرع، و شعر الرأس و خلايا الجلد، يحدث نوعا من ( الزهللة)، التي تجعل من مجرد و جود جريدة في يدك، مشروع ( مكيف هواء)، يبدأ في التبريد الفوري الأوتوماتيكي، في اللحظة التي تضع الجريدة فوق راسك، و قد يحسدك منتسبي الطرقات و الهاجرة على الهناء الذي انت فيه.
و قد تبينت لي بشاعة تأثير الحرارة في السودان على المخلوقات، أحياء و جمادات، حين قدر لى السفر خارج البلاد لأول مرة، و قبل ذلك لقاء العئدين من الخارج، مكتسيين هيئة جديدة ، اسماها الناس في بلادي ب ( النورة)، و هي لمعة جذابة بائنة بينونة كبرى في وجوه العائدين من الخارج، فبعد ثلاثة اشهر ، تبين لي ان شعر رأسي أسود في الحقيقة، و ليس بنيا محروقا كما يظن الناس، و بعد ستة اشهر، علمت علم اليقين ان لون بشرتي اصفر، و ان تلك الغبشة التي احتوتني و طوتني في احشاءها زمنا، ليست سوى خط دفاع وطواطي مستميت، بناه جسدي لحمايتي من الأشعاعات الكونية، و بعد سنة، يزيد او ينقص قليلا، غازلتني فتاة بقولها، ما أجمل وجنتيك عندما تضحك، و عندما نظرت وجهي في المرآة، وجدتني مثل منحوتة ( جيبيتو) ، اتحول من اراجوزه ( بينوكيو) الي ذلك الفتي الوسيم، و اكتشفت ان تلك ( الجلافيط) التي كانت مثل قوسين بارزين حول فمي، لم تكن سوى مشروع وجنات، ذبلت فاعليتها بفضل شمس السودان القاسية، فسارعت الى زواج الفتاة ، فبل ان يذوب الجليد ، و تكتمل استدارة القمر، فتعوي المرافعين.
تحول شعر رأسي الى سبيبي، و تحسن سمعي، و اتسعت حدود صبري، حتي وصلت الى نهاية أغنية كاملة لأم كلثوم، و لم تعد أغنياتها نواح منتصف نهار الجمعة القائظ في الخرطوم، و تطور الذوق في لساني، فعرفت ان ملعقة سكر واحد في الشاى كافية لا خمس، و لم أعد اشتم رائحة البمبان و اللساتك المحروقة، و (الكوش)،و تعرفت على عالم فسيح بهيج من النكهات ، و تعرفت على سويعات جديدة في النهار، استمتعت برفقتهن، و قضيت في صحبتهن شئونا تعذر قضاءها من قبل بفعل ( الدي هيدريشن) المقيت، و نومته التي تشبه الأغماءة.
ثم انني تعرفت على الربيع، فلم أجد اى علاقة بينه و بين ميدان الربيع، تداعب الكرة بقدمك فيه، فتتساقط الأزاهير ، و تفوح روائح البنفسج، عدا ميدان الربيع، تداعب الكرة فيه، فتخرج قدمك و قد تعلق على اطرافها ( كانون ) قديم، أو ( كبك) وفي افضل الأحوال، فك حمار.
و حدثني صديق عزيز عن رحلته الأخيرة الى بلاد ما بين النهرين، فقال بأن حكة استشرت في جسده وهو واقف في انتظار المواصلات، مع مجموعة من أقاربه، و حينما اشتد عليه امر الهرش، صاح مستفسرا، ( يا جماعة الناموس شنو البقرص بالنهار ده)، فما كان من الشباب الا ان سخروا منه قائلين( ناموس شنو يا زول انت ما شادي حيلك.. دي شمس الله دي)، و قد وصلنا ايضا ، خبر الكلاب البوليسية صعبة المراس، والتي استجلبت من المانيا لتساعد في بسط الأمن و الطمانينة، فنفقت و هي لم تكمل مسيرتها من الطائرة حتي تصل الى التيرمينال، سقطت فطائس صرعي لنفث السموم في مطار الخرطوم، مثلما قضي عثمان في الصحراء الغربية ( لا مسلم طمأنه أو قال له في غرغرة الموت تشهد)، ما لحقت ان تبعث الرعب في اوصال الخارجين على القانون و لو ( بهوهو) واحدة.
ثم اننا سعدنا في تجوالنا ببلاد الله الرطبة، و تعمدنا أغاظة أهلنا و اصدقائنا في البلاد، حين نهاتفهم يبدأونك بالسؤال التاريخي ( بالله الساعة عندكم كم هناك؟؟)، و نثني نحن ( الجو كيف عندكم)، و كأننا لا نعلم شيئا عن قيظ السنين الذي لا يلين، ( و الله جنس حر اليومين دي)، و كأنه كان غائبا قيل اليومين دي ، أوأنه سينقشع بعدهما بفعل السحر.
نعمنا بالربيع، أعقبه الخريف، ثم اتانا الشتاء...و ما ادراك ما الشتاء....
هو ما قاله صديق اسايلي..(.تشيل سريرك و غتاك و تمشي تنوم في ديب فريزر)، ( شي مو شى) حسب وصف حاجة دار السلام للأمر الجلل، هبط هذا الشيء دون انذار، و هو غير ( السقط) الذي مثل ( جومو كينياتا) الذي نعرفه، هبط ندف الثلج من السماء، و عوت الأرض بريح صرصر باردة، تجمدت الأرصفة و الطرقات، و سمعنا بالثلج الأسود الذي لا تراه، مشيت فوقه و أخي أبراهيم، و حينما التفت ثانية و الدخان يخرج من فمي أحادثه، وجدثني أحدث حذائه، ثم ( واى)، ثم صوت ارتطام رأسه بالأرض، معلقة قدميه في السماء، مثل خرفان الضحية. و رأيت ( عرابي) ، يقود سيارته التي تعطل فيها نظام التدفئة، أو انه اشتراها دون تحسب لعدم العلم لرخص سعرها، رأيته متلفعا ببطانيتين، ماركة النمر الأصلية، يغذ السعي نحو محل البيتزا، حتي اذا ادرك مبتغاه، انتزعه العاملين من داخل العربة و يده منكمشة على عجلة القيادة لا يقدر على فكها.
أشتدت قبضة الجنرال ثلج، فصاحت جارتنا الأمريكية من جزع ( ويحكم ايها الأفارقة المأفونين، ما لكم لا تعلمون كيف تلبسون؟؟؟)، فتسارعنا تحت قيادتها الرشيدة الى شراء ( اللونق جونز) و القفازات، و جوارب الصوف، أقسم محمد انه دفع مائة و خمسين دولارا، لمجابهة احتياجات الشتاء من الملابس، غاضبا ، حانقا، ناقما، فكيف يجوز للبني كجة دفع هذا الثمن الباهظ، و قد تعودوا على ( تي شيرت) الدولارين، و مجاني في معظم الأحيان، تمنحه الشركات و المنظمات الطوعية، و المارونية و المورمونية و الهندوسية و المثلية و الكيبوتزية، و في مناسبات ( الفاميلي ريونيون)، حتى و ان لم تكن تنتسب الى تلك العائلة بأى نسب، لا نهتم كثيرا با( اللوقو) المرسوم على صدر القميص، و لا الوان قوس قزح، و التي تعني سياسيا و اجتماعيا بقجة من الأحتمالات، فشعار ( شل) الكبير على ظهر الجاكيت ( و كذا حيوان أجيب)، لم يردعانا عن ارتداءها و القشرة بها في المناسبات الأجتماعية، و قد كان ان اشترى صديق لنا ، دستة من التي شيرتات، عليها علامة ( الرينبو)، بسعر زهيد، و في اليوم التالي و هو يتجول في ردهات الشركة، التي يعمل بها، فاردا صدره، لحقت به أحدى العاملات، و هي نادرا ما تحدثت اليه، أخذته بين ذراعيها، و بكت من انفعال و فرح، تهدج صوتها منسربا من بين دموعها ( ميهاميد....انني سعيدة بأعلانك عن نفسك بهذه الشجاعة)، و حينما سأل ميهاميد عن اي اعلان و اي شجاعة، أجابه بعض المغرضين من زملاءه، مطأطئى الرؤوس، حيث أعلموه بأن فلانة سحاقية، و ان علامة الرينبو هي شعار المثليين، فأخذ ميهاميد بقية القمصان، و تبرع بها مشكورا الى جمعية لرعاية لأجئي ( رواند)، و مضى يبحث عن السبابي الأيراني الذي باعها له.
سقط الشتاء علينا سقطة، تحول التلفزيون بكل قنواته، الى بوم ينعق يبشر بالثبور و عظائم الأمور ..الهايبوثرميا..الفروست بايت، و كثير من الأشياء التي لا نقدر على تمييز أعراضها، و علمنا في سنوات قدمت، اننا قد اصبنا بكل هذه الأشياء و لكننا لم نكن تعرف اسماءها، حمنا بها مثلما حمنا بالحمي في السودان ( بالله هي دي اسما النمونيا، طقتني تلاتة مرات قبل كدة و ما عملت لى حاجة القرض ، عليك بالقرض).
و ما أن يشتد اوار التحذيرات التلفزيزنية، حتى يتملك حب الحياة الأمريكيين، و حالة من الهلع، يختفي الطعام و اللبن و قنائن المياه،و البطاريات و الكواريق، يلجأون الى منازلهم، فلا يعمر الطرقات غير ( البني كجة)، من كل اقطار الدنيا، يتناطحون بالسيارات عن غير دراية بالقيادة في الجليد، يحطمون المخاريق و الركب،في دروب ( المعايش الجبارة)، و عندما يفيقون، تصفعهم فواتير الغاز، و فواتير السمكرة، و فواتير المستشفيات، فيتحسرون على على بلاد، لا تحتاج الى غاز للعيش فيها، و لكن صفحة رياضية واحدة من جريدة، تعمل عمل المكيف ، و تزيد.
|