حبائل المستر فرانك !
ظل أبي يعمل حلاقا للحمير في سوق بلدة الغبشاء ردحا طويلا من الزمان حتي أكتشف ذات يوم حين زاره الخواجة فرانك في صحبة عدد أخر من الخواجات , كانوا جميعهم ينقبون عن الاثار في تلك الخرائب الموبوءة بالجن و العفاريت في طرف الصحراء , أن أجرة الحفر ليوم واحد هناك تعادل ثمن ماقد يتقضاه عن حلاقة نحو خمسين حمارا و بالطبع فان أبي كان قد طار من الفرحة . أبصرت جلبابه في ذاك النهار يحلق مبتعدا عن جسده الناحل لشدة هزيم الريح الشتوية و هو يعدو مسرعا باتجاه البيت بعد أن قذف المقص علي الارض و بصق بوجه أخر حمار كان يعكف علي حلاقته . كانت فرحته لا تعدلها الا فرحة الانسان البدائي حين أكتشف النار و هكذا ظل يرقص النهار بطوله امام أمي المريضة بداء الرمد الحبيبي . يقفزمعانقا الهواء بساقيه المقوستين كأنه درويش في حلبة الرقص حتي يكاد راسه المخروطي الشكل أن يلامس سقف البيت . صارخا هكذا :
- فرجت , فرجت يا ولاد الكلب .!
في السوق كان أخر زبائن أبي من الحمير ما يزال ينهق و هو منتصب في الساحة بنصف ذيل و ذاك لان أبي و لشدة انفعاله بسخاء عرض المستر فرانك كان قد بتر ذيل الحمار ثم قفز في الهواء يزعق بالنشوة و كأنه في خضم جوقة غنائية تميد به الالحان فما يدري ما يصنع بما لديه من فائض الغبطة و الحبور .
و هكذا أنخرط ابي منذ يومه ذاك في نشاط الحفريات المحموم الذي كان يقوده المستر فرانك الي جانب بضعة أنفار أخرين من الخواجات . كانوا عبارة عن رجلين و سيدتين , اما الرجلان فهما المستر أرثر و المستر سميث و أما السيدتان فقد كانت احداهما قصيرة و دميمة الشكل تدعي كارولين و الأخري فارعة الطول , ذات وجه بيضاوي و جبين عال و عينان كبيرتان بعض الشيء و شعر يتدرج بين اللونين الكستنائي و الاسود , أسمها جانيت .
تورط هؤلاء الخواجات المجانين في صحراء بلدة الغبشاء ذات نهار شديد اللظي من شهر أغسطس قبل نحو عشرة اعوام , في صباح يوم الثلاثاء تحديدا , عند الثانية عشرة الا ربعا حينما كانت الشمس قد أخذت تتعامد علي البلدة و النيل ما يزال يتمطي علي فراش الشاطيء الوثير اوان قليلوته المعتادة و كانت البلدة كلها وقتذاك قد خرجت نحو الخلاء حينما حطم أزيز محركات السيارة الكبيرة سكون الظهيرة
اخذ أهالي الغبشاء يتفرسون ملامح القوم الغرباء في دهشة أقرب للبلاهة . المستر فرانك واقفا في وسط الدائرة , غارسا كلتا يديه في خاصرته و هو يبحلق في وجوه البشر المصطفين أمامه للفرجة , شعره الاصفر مغطي بالغبار , نظارته السميكة متعفرة بتراب الصحراء و فمه يابس كالارض الموات . كان يرتدي بنطالا من الجينز و قميصا بنصف كم ابيض و شفاف و علي عنقه سلسال اصفر يجول متأرجحا علي صدره شبه العاري ذي العظام البارزة . تقول أمي حين تتذكر ذاك اليوم أن شعر صدر الخواجة فرانك ذو الصفرة الذابلة كان أشبه بألياف جذوع النخل بينما جلد الخواجية الشقراء جانيت كان أملسا و ناعما كانه جلد السحالي , أما بالنسبة للاخرين و هم السيدة كارولين و المستر أرثر و المستر سميث فقد أكدت أمي أن رائحة جلودهم ظلت تفوح و كأنها اللبن المتخثر .
سموم الصحراء الحارقة تشوي وجوهنا . لا أحد بدا متأهبا لتبادل الحديث . أنهمك الجميع بتفحص وجوه الغرباء . عبثا حاول الخواجة فرانك تحطيم جدران الصمت السميكة و خلق حالة من الألفة مع الاهالي فشرع يمط شفاهه المتعبة بالابتسامات الباهتة , يحني قاماته بين الفينة و الاخري مرددا هالو ..هالو , باءت جميع محاولاته بالفشل الذريع حين تخندق الغبشاويين بالصمت و الدهشة . لقد بدا للخواجات في تلك اللحظات الرهيبة أن هؤلاء القوم مجرد امتداد للطبيعة الصامتة لا أكثر و في نهاية الأمر و عندما يئسوا من أمر استئناس الجمهور الواقف امامهم , استسلموا لحالة الرضاء حيال تلك الوحشة المفروضة قسريا بعد أن أحسوا بأنهم أشبه بفريق من الممثلين يؤدي ادوارا كوميدية أمام جمهور سيء المزاج و علي الرغم من أنهم كانوا قد قنطوا تماما من استئناس تلك الكائنات البرية الا أنهم راحوا يأمرونهم بالابتعاد عن السيارة و قد حدث ذلك حينما طفقوا يتأهبون لمزاولة نصب خيمتهم الكبيرة في المكان من أجل أخذ قسط من الراحة . تزحزح الرجال في البداية مفسحين لهم الطريق ثم تلاهم النسوة و الصبية و علي هذا النحو وجد رهط الخواجات أنفسهم في مسافة نائية بعض الشيء عن الاهالي ثم تراطنوا بكلمات اعجميات قبل أن ينصرفوا لمعالجة شأن متاعهم علي السيارة .
اطفأ المستر فرانك المحركات ثم قفز الي سطح المركبة فانتزع من بين اكوام العفش علبا للطعام و زجاجات مياه بديعة الشكل فطعم بقية الرهط و شربوا ثم أشعلوا السجائر و نفثوا دخانها في سماء البيداء غير عابئين باهوال الصمت و كمون الدهشة في الاحداق و بعد أن فرغوا من تناول أسرع وجبة يشهدها تاريخ الغذاء في ناحية الغبشاء علي الاطلاق , زاولوا نصب خيمتهم علي مقربة من تلك النصب المسكونة بالارواح الشريرة و الموبوءة بالعقارب و الافاعي بينما ظلت هبوب الصحراء تعوي كأنها ذئاب جائعة .!
( جزء من مسودة رواية ..........)
التعديل الأخير تم بواسطة معاوية محمد الحسن ; 24-10-2016 الساعة 09:04 PM.
|