سكرتير الحزب الشيوعي يحضُر حفلاً أيام الاختفاء الأول

[عبدالله الشقليني]

[align=center]سكرتير الحزب الشيوعي
يحضُر حفلاً أيام الاختفاء الأول[/align]
أوائل السبعينات من القرن الماضي و من بعد العام 1972 م
كنتُ ذات اليوم في شغل عما يجري في الكون . الجامعة : عمل منقطع وأرزاقها تطلُب الكَد . تتقلب العطلات ومواسم الدراسة بلا نُظم ، صيفاً أو شتاءً ، فما بعد يوليو ( 71 19) غير الذي قبله .

في الذهن أن جيراننا الذين يبعدون عن مسكننا قليلاً لديهم مناسبة حفل زفاف . الأوجه السمراء و الأجساد وكساؤها الملون : مزرعة تزهو في الليل . الإنارة : كشاف هُنا وهناك . أُغلقَ الطريق العام فالبيت يُطل عليه .

بيوت الطين وأسوارها جنوباً وشمالاً تُميز المساكن الغالبة في أم درمان . الأطفال يتحلقون حول العروسين والأمهات جلس بعضهُنَّ مع المُحتفين ، والبعض الآخر في الكواليس لصناعة الطقوس .

العروس والعريس على جانب من المكان يتجاوران بسعادة يشوبها قلق أن التجربة هي مرة في العُمر لن تتكرر في أحلامهما تلك الأيام ولم يتغير رأياهما رغم السنون. العروس في أبهى الهُندام و العريس كذلك . كلاهما يرتدي ما لم يُفكر فيه كثيراً ، رغم أنهما من أنصار التنوير مبدأ ومنهجاً. ربما الهوية ومفاتيحها تُطل من بين الزحام لمن يرغب النظر الفاحص .لقد تلونت الهوية بمؤثرات الكون والتاريخ ولم تستقر : استغرب هُندامه بلباس ورثناه من الغرب وتصالح لباس العروس مع الهوية . لم نكن جميعاً نُدقق في تلك الأيام أن في الأزياء هوية تتبدى ، فبعفوية يأخذك موج العادة ألا تُدقق في التفاصيل وتختلط الأشياء ببعضها فنحن مجتمعات في طور التشكُل . في عادة أصحاب الرؤى لا يُدققون في شكل الزفاف وتفاصيله ، يكفيهم أن خيار بعضهم كان بيدهم فتقلصت سطوة الأهل ، ولم يفرض العروسان إلا احترام المرأة وتحللا من سِلعية الزواج بحزم ولم يتنازلا عنه .

بلا ( كوشة ) مصرية جلس العروسان ينتظران الحفل ومن بعده : ( العديل والزين ). كُرسيان وثيران جلسا عليهما يميزاهما عن بقية الأضياف حتى لا تتوه أنتَ عند التهنئة ، فتجد نفسك ببشاشة الفرح أمامهما . في أبسط حفلات الزفاف صِنعة ، تجد بُرجاً من أبراج الإنسانية الناهضة بحلاوة المعاشر في مُشاركة الجميع . من دَعوتهم أنتَ ومن دَعاهم غَيرك . كم هي حبيبة للنفس البساطة التي ورثناها من إرث المتصوفة منذ قرون ، تبعث الألفة ولكنها تفتقد الترتيب والدقة والضبط .

على اليمين جلست العروس ( فوزية ) فتاريخها ناصعٌ : ناهضة من الإتحاد النسائي المحظور تلك الأيام . وجه هيَّ تورق خيراً ومحبة .على يمينها زوج المُستقبل ( الشيخ ) الباحث الذي سيضرب من بعد ذلك التاريخ الأفق بنظرية
( التحليل التفاعلي والإنسان ) قبل أن تعصف هي بالتراث الثقافي للكون ، فكان الرجل صاحب رؤية مُبصرة لم نر في أبطال تاريخنا الطويل مثيلها إلا ما ندر .

الأضياف وصحائف الطعام قبل الحفل للجميع ، و الغناء من بعد ذلك . مثل كل الذي اعتدناه في مناسبات الأفراح . و بدأ الحفل :

تبدأ الأغاني عندنا بالتهيؤ كموج الساحل يضرب الشواطئ ليلاً ببطء : أغنية للعروسين بهدوء و يتمايلان . ( يُبشِّر الأصدقاء والأقارب ) و تختلط الأسمار بالأطفال وهم يجوبون المكان بعفوية ، ثم تعقبها أغاني الغزل في منتصف زمان الغناء ، ثم الختم بأغاني ( السَيرَّة ) وإيقاع ( الدَلوكَّة ) الساحر يهُز الأجساد ويُطرب . يستل أشواق العقل الباطن من مواريث الأجداد والأسلاف ورقص القوة وأمجاد الفروسية الغاربة شموسها في أشباه المدائن .

انطلق الصدَّاح :

[align=center]إنتَ يا الفَرنيبْ
جَازِم ما بتجيب لي عيبْ
اسمَكْ في الرِجَال عَمَسيبْ
وإنتَ للضُرُس عَرديبْ
ما بِخاف .

...............

غَنيت بجُر قولُو
كَضَبُوا القَالُوا بِتنولو
هُو الدابِ العَرَكْ زولو
ما ترا الخَصيمْ قِصِر طُولو

...............[/align]
قفز في الساحة رجلٌ أسمر ضامر على رأسه عُمامة يرتدي ( العَرَّاقي ) و ( السِروال ) والثوب يرتمي من كتفيه . العصا يتدرعها ، ترقب أنت رقصة ( الصَقرية ) مع قفزات الفارس وهو المُتمرِّس على الرقص على الإيقاع مع زهو التطريب كأنه هبط من زمن ( عبد الرحمن النجومي ) الذي كُتبت الأغنية تمجيداً له من بعد موقعة توشكي وسقوطه في الأسر .

طرقت المفاجأة الأذهان ، ها هو الفارس الذي ذكَّر الجدَّات بأبطال الزمن الغابر فانفجرت الزغاريد تَصعَدُ من المكان والعيون تتسمر في وسط (السَّباتة ) . كان المشهد مُذهلاً ، لا يصلُح إلا لسينما العصر أن تختاره لو كان لديها من يقتنص الأحداث .

رقص الفارس الواثق الضامر الجسد رقص القوة ورباطة الجأش . من سفوح جبال الفوارس أمتعنا الرقص ، ثم أصلح الفارس هُندامه قبل انتهاء الملحمة الغنائية وتقدم لتهنئة العروسين . هُنا بدت الرِّقة في البسمة التي لن تُخطئها العين و تخير هو ألطف كلمات التهنئة ، فتذكرت حينها الملامح التي التقيتها ذات يوم برفقة عبد الله نُقد : ( نفس الملامِح والشبه ) إنه ( محمد إبراهيم نُقد ) سكرتير الحزب الشيوعي الذي تبحث عنه كل الأجهزة الأمنية وقتها . هو الذي يتربص به الجميع ، يبحثون عنه في كل الأصقاع و ينتظرون القبض عليه وتعليقه على حبل النفي من الدُنيا ، وهو الموعود بأن يُهنئ كل من ينتمي للتقدم ببشارة أن المحبة هي البيت الذي تحتمي فيه كل الرؤى .رفع يده بالتهنئة للجميع وغادر المكان تحت سمع و بصر الجميع .

وقفت سيارة سوداء اللون مُتعجلة تأخذه عندما لاحقته تحايا رفاق الدرب رغم التحذير الأمني . ذهب ( نُقُد ) وفي نفسه محبة البقاء لأنه بشرٌ ، يحتاج مثلنا جميعاً أن يكون وسط من يُحب . ما أتعس أن يبتسر المرء لحظات الود كلمح البصر مع من اختار الخيارات الصعبة .

عبد الله الشقليني
08/06/2007 م

[خالد الحاج]

يا لك من فخيم اللغة يا شقليني
تعرف يا صديقي هنا التفرد..أن تكون عاديا تماما..
ما يميز هؤلاء العمالقة هو تجزرهم في المجتمع جزء أصيل منه..
اختاروا الطريق الشاق يا شقليني وما أصعب الإختيار كما يقول الفرنجة
صعوبة الإختيار بين ما هو أسهل وما هو صحيح.
(between what is easy and what is right)

يديك العافية يا زول يا جميل

[عبدالله الشقليني]

[align=center]العزيز خالد

كان يوماً محفوراً في الذاكرة [/align]

[مهند بشير]

سكرتير الحزب الشيوعي
يحضُر حفلاً أيام الاختفاء الأول

عليك الله شوفتو بي عينك برقص؟؟؟
ماهو البشيل التقيله دا محل ما يقبل بشيلا

[محمد عبيد الفاضلابي]

معقول..
حياة النيل دى
كلها
مجرد مويه
ما
تعبت من المرقه الكتيره على البيوت؟
والريح
مخزًنه فى
رمال القوز
مطالبه بالخيام
ترحل
من الخلاء
ما ..تعود؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك العاده
عبدالله الشقلينى وجمال السرد مع اللغه الغنيه.. والخاطر والذكريات الجميله.

[عبدالله الشقليني]

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مهند بشير

عليك الله شوفتو بي عينك برقص؟؟؟
ماهو البشيل التقيله دا محل ما يقبل بشيلا

الحبيب مهند ،
تحية واحتراماً

تماماً كما ذكرت ،
كان ناصع الطلعة ، مُبين الملامح ، خلت الساحة إلا منه ،
فأغنية ( السيرة ) تستدعي العَرضة .
يوم بالفعل لا يُنسى

[شوقي بدري]

عزيزي الشقليني
لك التحية
احد رجال الأمن بعد الانتفاضة وجد نفسه في السجن والتحقيقات والزرزرة فستنجد قائلا يا جماعة كلموا نقد قولوا ليه زمان أيام اختفاءه كان بيجي لابس توب عرب وراكب جمل وأنا كنت عارف وما بلغت عليه
المناضل نقد وكثير من الشيوعيين أتقنوا لعبة الاختفاء والشعب كان يتفاعل معهم ويعينهم
في يناير 2003 كان مجدي الجزولي في أجازة في السودان وذكر انه كان في حفل في أمد رمان وكان نقد يحضر الحفل من المنزل المجاور ومعه شلة من الشيوعيين . وعندما أراد مجدي أن يأخذ صورة مع نقد قال له لا لأنو أنا ما عندي صورة حديثة وفي ناس في الأمن زاتو نسو شكلي .
في أيام الدكتاتورية الأولي شاهد ضابط البوليس ولاعب الهلال عصمت معني المناضل الوسيلة والبروف علي المك في برندات سوق أم درمان فناداهم قائلا اركبوا أوصلكم الحتة دي ما مضمونة
حكي لي المناضل سمير جرجس قائلا أنهم كانوا يستأجرون منزل من ضابط البوليس قرشي فارس في حي البوستة أم درمان وأنهم كانوا مختفين في منزل صغير في أب كدوك ويحسبون أنهم يرتدون طاقية الأخفاء والمدخل لمكان اختباءهم يمر ببقرة مربوطة وحيطان متهدمة وبعد فترة اتي احد الزملاء من خارج العاصمة يبحث عنهم فوجد بعض الصبيان يلعبون الكرة فقال له احد الصبية هامسا : يا زميل الزملاء رحلوا من هنا .

التحية

شوقي

[omrashid]

حلوه دي يا شوقي (الزملاء رحلو من هنا )

لهولاء احني هامتي احتراما وتقديرا ومحبه

ومهما كانت معركة الاختلاف ولكنهم يظلون المثل الاعلي في التضحيه ونكران الذات الي درجة الصوفيه

لهم كل الحب والتقدير

[عبدالله الشقليني]

لك التحية أيها الأخ العزيز :
الأستاذ شوقي إبراهيم بدري

لم أكن لأعرفه لولا قربي منه صدفة و رقة التهنئة التي لا تصدر إلا من لغة تمدنت ، صاحبها ارتدى لباس البدو وأتقن كل شيء .
انتبهت أن الذاكرة نبضت في مكانها وعرفت الرجل ،
وبين الانتباه والدهشة ...
كان هو قد غادر المكان .

[عبدالله الشقليني]

[align=center]الشيخ محمد الشيخ :[/align]
ولد بمدينة الابيض، 1946، نشأ بمدينة النهود. تخرج في كلية العلوم، قسم الرياضيات ، جامعة الخرطوم. عمل مدرسا بالمدارس الثانوية .
حصل على الماجستير في العلوم الرياضية من مدرسة العلوم الرياضية ، جامعة الخرطوم. يعمل حالياَ رئيساَ لقسم الرياضيات ، كلية العلوم ، جامعة التحدي، سرت، ليبيا.


تطور الكائنات الحية و دالة الحيوية 1987
تطور الكائنات الحية ودالة الحيوية 1988
الإنسان والتحليل الفاعلي 1989
الحيوية وطبيعة الحياة 1990
نموذج لا خطي لا ارتدادي لتطور الكائنات الحية الدقيقة 1999
التحليل الفاعلي : نحو نظرية حول الإنسان 2000
التحليل الفاعلي : نحو نظرية حول الإنسان 2001
التحليل الفاعلي والأدب: نحو نظرية جديدة للأدب 2002
مركز دراسات الفاعلية 2003
نحو علم للفاعلية 2004
الفاعلية : تشكل الإنسان الكوني2004
تطور الكائنات الحية: نموذج معلوماتي شبه كمومي2005
مأزق الحضارة الغربية 2005

[Garcia]

عزيزنا الشقلينى سلامات
يالها من ذكريات جميلة سطرتها بقلمك الرصين ,
ومثل صدفتك هذه مع نقد , عرفت أيضا الشيخ محمد الشيخ
عبر صدفة فقد سكن لفترة طويلة فى حلتنا وكان حينها أستاذ
بمدرسة أم درمان الأهلية الثانوية... ولدى خالى كان يتردد
عليه ومعه مجموعة فى منزله لولا ذلك لما عرفته أبدا ..
وقرأت له عمل واحد التحليل الفاعلي : نحو نظرية حول
الإنسان , سوف ابحث عن بقية اعماله ..
كل التحايا والود يا بيكاسو

[عبدالله الشقليني]

[align=center]حبيبنا غارسيا
عن الشيخ محمد الشيخ [/align]

إن العلم يصنع المروءة والصبر ، والصبر والمروءة يُمهدان ليصبح المرء إنساناً .
قضينا أطيب الأيام في أيام الديمقراطية ، نلتقي في يوم خميس من كل أسبوع . كانت المجموعة تواظب وكانت مشاغلي تمنعني ، وعندما نحضر سوياً كانت المحبة أخت الأصدقاء . يتداولون كتاباً يشترونه شراكة بينهم ، ويقومون بقراءة رؤى الكتاب مع دراسة مقارنة ...
في تلك الأقمار المُشتتة في كون الزمان التقيت ( الشيخ ) من بعد ذلك التاريخ الذي قصصتكم قصته ، وتعارفنا وتصادقنا . كان صاحب رؤى كبيرة بحجم الإنسانية ، صبور هادئ الطبع ، رقيق الإحساس .

[عبدالله الشقليني]

[align=center]
نهدي المقال للصديق السر أحمد علي :
فهو إنسان بحق وناشط في العمل العام [/align]