العزيز خالد
أثرت موضوعا صعبا شائكا حساسا تدل كل الحيثيات أن الوصول الى نتائج قاطعة بشأنه أمر أشبه بالمستحيل.
لقاء الصحفية فلورا شو مع الزبير باشا في جبل طارق سبق افادة الزبير باشا الى نعوم شقير بنحو 14 عاما. نعوم شقير أخذ شهادة طويلة من الزبير نفسه عام 1900. هنالك اختلافات طفيفة بين القليل الذي أوردته أنت من لقاء الصحفية وبين افادات الزبير لنعوم شقير. اختلافات (صغرت أم كبرت) لا تؤثر على الموضوع المطروح للنقاش مباشرة ، لكنها مؤشر الى ضياع (طاسة) الحقيقة بين عدة اطراف. في حالة جبل طارق ضاعت الطاسة بين ركاكة المترجم السوداني حامد، ولغة السرد الطرزانية لفلورا (كما ذكرت أنت) وبين محاولة الراوي الباس تاريخه حلة زاهية. وسط هذه المعمعة تضاعف احتمال الخطأ ثلاث مرات. والحالة أشبه بسؤال ذلك الأعجمي الى أحد الآئمة :
هل الخسن والخسين ثلاثتهم من بنات معاوية؟
لاحظ الخسن والخسين (بالخاء) ثم (ثلاثتهم) ثم (بنات) ثم معاوية.
(لم يعرف الامام أي خطأ يصحح)
ونحن كذلك لا نعرف مصدر الخطأ ، أهو حامد أم الصحفية أم الزبير نفسه.
هناك اختلاف مثلا في حكاية زواج الزبير من رانبوه بنت الملك تكمة . في روايته لنعوم شقير ذكر الزبير أنه قدم لتكمة هدايا فاخرة وأهدى له حماره، وكان قوم تكمة لا يعرفون الخيل والحمير، فزوجه تكمة بنته رانبوه. وفي روايته للصحفية يقول أن الزواج بسبب ما حدث في المعركة بين تكمة والملك مريسة وقصة الحربة التي روتها الصحفية. من نصدق ومن نكذب، الزبير أم الصحفية أم نعوم شقير أم المترجم حامد؟
وقبل أن أنفذ الى جوهر الموضوع أود أبداء الملاحظات التالية:
شهادة المرء عن نفسه لا يعتد بها كثيرا، ولا أحد يدين نفسه أو يبرز وجهها القبيح. واذا وضعنا في الاعتبار سطوة القبيلة في ذلك الوقت واعتداد أبناء القبائل بمفاخرهم ومناقبهم لما توقعنا أن يذكر الزبير الا ما يعلي شأنه، ولما توقعنا منه أن يذكر ما يدينه. ولو أتيحت الفرصة للناس أن يحكوا قصة حياتهم لخلق بعضهم من حياته ملحمة فريدة مطرزة بالبطولات والملاحم والانجازات.
تأمل قول الزبير :
هذا السفر رفع منزلتي الى مقام لم ينله أحد في السودان قبلي وهيهات أن يناله أحد فيه بعدي!
أليست هذه وحدها كافية بأن تجعلنا نقف طويلا أمام كل ما قاله الزبير بعد ذلك؟
ثم أنظر قوله :"وأشعلت فيهم النار وهزمتهم شر هزيمة بعد أن قتلت منهم خلقا كثيرا"
فعل هذا وحده!
ويقول :"ازدحام الناس عليّ كازدحام العطاش على المنهل العذب"
وأنظر المبالغة في قوله :"عندما ذبح النوير بقرة، أكل البعض بشره زائد وماتو بعد الفراغ من الأكل ببضع دقائق"
أنا لا أتهم الزبير بالكذب وان كنت لا أنفي عنه تهمة المبالغة. ويجب ألا ننسى أن آفة الأخبار رواتها. ثم أن الانسان قد يحكي الحدث بالفهم والرؤى التي استقرت في ذهنه والتي قد تختلف مع رؤى انسان آخر شهد نفس الحدث.
لكننا في النهاية يجب أن نكتب التاريخ اعتمادا على ما وقع فعلا من أحداث.
أنت يا خالد توصلت الى نتيجة مفادها أن الزبير باشا كان تاجرا للرقيق وتقول يجب الاعتراف بذلك ومن ثم تلمس المبررات والبحث عنها. ثم تضيف قولا منطقيا جميلا وهو أننا لا يجب ألا نحاكم التاريخ بمعطيات الحاضر لأن هذا سيدفعنا الى ظلم وتجريم الكثير من الشخصيات والأحداث. ومسألة الزبير من المسائل التي يجب أن ينظر اليها من هذه الزاوية. يجب ألا نخضع صناع التاريخ لمعايير الحاضر ومفاهيمه وقيمه ومثله. الزبير باشا حفظ القرآن وتفقه على مذهب مالك، ولا أظنه يجهل الأبعاد الدينية والانسانية لهذه الممارسة. فهل استند الزبير على قناعات دينية؟ هذا يسبقه بالطبع سؤالنا الكبير : وهل أشتغل هو فعلا بالرق؟
من خلال ما حدث فعلا أعتقد أن الزبير اشتغل بالرق – على الأقل – في سنواته الأولى مع علي أبي عموري. فالأخير كان تاجر رقيق معروف ولم يك تاجرا للصمغ العربي، ولا أحد يصدق حكاية الخرز والودع القصدير التي تقال. الزبير أمتهن تجارة الرقيق في سنواته الأولى، وبعد أن جمع أموالا من هذه المهنة راودته شهوة المجد والجاه كما يحدث للكثيرين من أصحاب المال. بعضهم يدفعه الطموح الى رئاسة الدول كما في حالة الحريري وبيرلسكوني، وبعضهم يقف طموحه عند رئاسة أكبر ناديين رياضيين في السودان.
كان الزبير يبحث عن الجاه والسلطة ولا يمكن – كما ذكر أحد المتداخلين – أن نفسر رحلة الزبير الطويلة من بحر الغزال عبر ديار الرزيقات وصولا الى منواشي والفاشر وخوض معارك كثيرة الا من خلال البحث عن الزعامة والسلطة. لماذا يتجشم كل هذه المصاعب وقد أثرى في سنواته الأولى؟
ثم حتى لو قلنا أن الزبير كان يتاجر بالرقيق، لماذا يركز الناس على الزبير وحده؟ ولماذا كما ذكرت أنت نحاكمه بمعايير عصرنا وقد كان عمر تجارة الرقيق في السودان عندما دخلها الزبير ، كان عمرها 1200 سنة. كانت شيئا عاديا سائدا في المجتمع آنذاك، بل بعد ذلك وحتى خلال النصف الأول من القرن العشرين. لماذا نحمل الزبير وحده الوزر؟
في البوست الذي كتبته أنا أول أمس تحت عنوان (نحن بعيون الآخرين) أوردت الفقرة التالية :
بعث الرق من جديد واتسع فأصبح تجارة رئيسية. كان يعرض في سوق أم درمان – في أي يوم – حوالي خمسين أو ستين امرأة وبضعة رجال. وكانت أجسامهم النحيلة تدلك كالعادة بالزيت لتكتسب نعومة في المظهر ، ويروح أصحابهم ينادون بأنساب ضحاياهم ، كما يفعل الوسطاء في مزايدات بيع الماشية ، فهذا الرجل من قبيلة كذا، عمره ثمانية عشر أو تسعة عشر عاما، ابن زعيم ، وهكذا. وكان الطلب على النساء أكثر منه على الرجال، وعلى السوداوات أكثر منه على النحاسيات اللون. وتراوح ثمن الجارية الصغيرة الجميلة – التي كانت تخلغ ثيابها وتتقبل الفحص المعتاد قبل شرائها – بين 50 و 100 ريال.
حدث هذا في عهد الخليفة عبد الله التعايشي وكان الزبير وقتها بعيدا عن مسرح الأحداث.
تاريخنا المكتوب لا يمكن الوثوق به، خاصة عندما يتعلق الأمر بأخذ الأقوال مباشرة من المعني بالحدث مثل حالة الزبير باشا.
وحتى الذين أخذوا الأقوال من من مصادر مختلفة وقعوا في الأخطاء. محمد المهدي المجذوب يقول في رسالته الى علي أبو سن (رحمهما الله ) يقول:
هل شرعت في دراستك التاريخية ؟ أرجو أن تفعل.. وأنا أزعم أن سبب الفوضى في السودان هو جهل الناس بالتاريخ.. وزاد جهلهم حين كتب (فلان) عن التاريخ ... لا يصلح والله الا للتشاشة، يبيع لوبيا أو بصلا.
طالت مداخلتي
لك التحية والتقدير وأنت تطرح هذا الموضوع (الساخن) للنقاش. [/font][/size][/color][/B]
|