ثم عرض لي " منسي " كما عرض ابليس لآدم في الجنة !!
بقلم الطيب صالح*
لولا " منسي " رحمه الله وغفر له ، لعل الرياح كانت تمضى بي رخاء في عملي في هيئة الإذاعة البريطانية . كنت سعيدا مرضيا عني ، يضرب بي المثل . وقد رفعوني إلى رتبة مساعد رئيس قسم ولم أبلغ الثلاثين ، وكان ذلك أمرا عزيزا تلك الأيام . أصبحت أحضر اجتماعات رؤساء الأقسام ، ولي مكتب مستقل وسكرتيرة . شاهدت حفل تتويج الملكة من داخل ضيعة " وستمنستر أبى " مع علية القوم الذين دعوا لتلك المناسبة من الشرق والغرب ، وبعدها جالست رؤساء ووزراء في الحفل الذي أقيم في " وستمنستر هول " . صحيح أن هذا الزي الذي أرتديه لتلك المناسبة ، كان " عارية " مستأجرا من محلات " موس برذرز " في " كوفنت غاردن " . سترة سوداء ذات ذيل تجعلك تبدو مثل طائر البطريق ، وقبعة طويلة وياقة منشاة . وصحيح أنني بعد أن انتهى الحفل وانفض السامر ، جاءت السيارات الفاخرة تحمل أولئك الرؤساء والوزراء . أما أنا فقد سرت على قدمي إلى محطة القطار الذي يسير تحت الأرض ، وكان القطار مزدحما ، فظللت واقفا والناس يعجبون مني وأنا في زي الوجهاء ووضع الدهماء . ذلك وضع كان أليق بمنسي . إذن لاستغله أحسن استغلال وحوله إلى قصة أخرى تروى . لكنني على أي حال تمتعت بذلك العالم السحري في ذلك اليوم القصير ، وما كنت أعلم أن الحياة كانت تعابثني مثل امرأة لعوب ، كما ظلت تفعل ، لأنها كانت تراودني لأمر لم يكن يخطر على البال .
كذلك كنت أول عربي يرسلونه إلى نيويورك لـ " تغطية " اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ، ذلك الحدث المشهود الذي أمه معظم زعماء العـالم ، وكنت شاهدا حين خلع نيكيتا خروشوف حذاءه ، وضرب به المائدة احتقارا ، ورئيس وزراء بريطانيا واقفا يخطب . رأيت أعضاء نيجريا يدخلون القاعة في ثيابهم الفضفاضة ، والدنيا لا تسعهم من الفرح ، يتقدمهم ذلك الرجل الوقور سير أبو بكر تفاوا بليوه . كانت نيجريا قد استقلت توها وقبلوها عضوا في منظمة الأمم المتحدة . ذبحوه ذبحا بعد ذلك ، كما ذبحوا أحمدو بللو السردوانا الجليل في هوجة من هوجات الجند التي يسمونها ثورات . وكنت شاهدا حين أعلن داج همرشولد الأمين العام للأمم المتحدة أنه لن يستقيل كما طالب الاتحاد السوفيتـي . مرت الأعوام ولعبت الولايات المتحدة الدور نفسه ازاء صاحبنا أحمد مختار امبو مدير عام منظمة اليونسكو .
يومذاك في نيويورك شن خروشوف حربا شرسة ضد همرشولد وأتهمه بأنه ذيل الغرب وأنه مسؤول عن مقتل باتريس لومومبا وكل المآسي التي حدثت في الكنغـو . وأذكر جملة قالها همرشولد في خطابه القصير الذي أعلن فيه أنه باق في منصبه . قال موجها حديثه لزعماء دول العالم الثالث " هذه المنظمة لم تقم لخدمة الدول الكبرى أنها أنشئت لخدمتكم أنتم ، فأنتم الذين تحتاجون لها لا الدول الكبرى " .
كان العرب في ذلك الاجتماع مجتمعين على نصرة القضية الفلسطينية وتأييد كفاح الجزائر الذي كان قد اينع وحان قطافه ، ومختلفين على كل ما عداهمـا . لكنني كنت غض الاهاب جدا ، وكذلك العالم العربي ، ومصر وسوريه متحدتين ، ودمشق " الفيحاء " فيحاء بحق وحقيقة ، والقاهرة الظافرة تصنع أحلاما تبدو كلها قريبة المنال . صلاح جاهين يكتب وأم كلثوم تغنى ، وعبـد الوهاب . وصباح تهتف ، كأنها تصدق ما تقول " أنا عارفة السكة لوحديـة ، من الموسكي لسوق الحميدية " . مسكين سوق الحميدية . كان تلك الأيام حول الجامع الأموي العتيد ، كما كان على أيام هشام بن عبد الملك . لم يكونوا قد أزالوه بعد ، ذلك الماضي السحيق العريق ولم يشقوا طرق الإسفلت .
ولبنان كأنه في حلم جميل لن ينتهي . المال يتدفق من كل الجهات ، كما قال الشاعر القطري " البيب فاض ومصب السيل لبنان " والمصارف لا تدري أين تضع " البيزات " ، والليرة مثل الذهب ، والمطاعم والمراقص والملاهي غاصة بالخلق من مغيب الشمس حتى مطلع الفجر ، ونساء بيروت على طول الساحل يستقبلن شمس البحر المتوسط وكأن ذلك الزمان الرغد سوف يدوم إلى الأبد ، كان أخونا نزار قباني يكتب شعرا يبكي العذارى في خدورهن ويجعل العجائز يتحسرن على شبابهن ، وقال بيتين سار بهما الركبان :
أيلول للضــم فعد لي زندك
هل أخبروا أمي أني هنا عندك
آه يا صفاء . ما أقسى ما عبثت بي وبكم الحياة منذ ذلك العهد ا أجل كانوا احفيا بي حقا . أرسلوني لفترات طويلة إلى مكتبهم في بيروت ، وكانت تلك ميزة لا ينالها إلا أصحاب الحظوة ، وحاضرت في معهد التدريب عدة مرات ، وكان مستر ووترفيلد رئيسنا الأعلى يقول لي ضاحكا : " أنهم دعوني مرة واحدة ثم لم يدعوني بعدها . لماذا أنت دعوك مرة وثانية وثالث كان نصيبي من السفر في مهمات رسمية أكثر من غيري ، وكان كلما يجد أمر يضفي بريقا ويزيد من الحسنات التي تسجل في التقارير السنوية ، يقولون " فلان " في أغلب الأحيان .
لا عجب إذا كنت مغتبطا بوضعي ، راضيا عن نفسي ، أرى الدنيا مثل حسناء مرغوبة تدعوها فتستجيب . وبينما أنا كذلك ، إذا بمنسي رحمه الله وغفر له ، يعرض لي كما عرض إبليس لآدم عليه السلام في الفردوس .
-----------
* من كتاب منسي : انسان نادر على طريقته
رياض نجيب الريس - الطبعة الاولى 2004
|