نعي أليم - فيصل سعد في ذمة الله !!! عكــود

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > مكتبات > مكتبة أسامة معاوية الطيب

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 23-09-2010, 07:54 AM   #[16]
أسامة معاوية الطيب
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية أسامة معاوية الطيب
 
افتراضي

المبدعون السودانيون والرحيل في الليل (6-6)
كان فارساً أعزل كما يسمي ديوانه الثاني ، وهو يغوص في عقدة المكان ، ويقول باحتضار أم درمان في ديوانه الأول ( أم درمان تحتضر ) هاجسه العميق بالعزلة النفسية أسلمه لهذا الرهق المميت ، وغربته الذاتية أنكرت عليه الانتماء وأملت عليه محاولات الخروج من الجلد هذه :
لا أحبّ بلاداً لا ظلال لها يظلّها النيم والهجليج والعشر
………………… ………………….
سألتك الله ربّ العرش في حرقٍ إني ابتأست وإني مسنيّ الضرر
هل تبلغني حقول الرون ناجيةً تطوي الفضاء ولا يلقى لها أثر
قرب الجبال الألب دسكرةً قد خصها الريف ، لا همٌّ ولا كدر
تلقاك مونيك في أفيائها عرضاً غضّ الإهاب ووجهٌ ناعمٌ نضر
يقارن شارعاً بشارع ، وشجرةً بشجرة ، وتقاطيع مونيك حيال خضرة نساء أم درمان ، إذن فقد آثر أن يخاطب الجسد لا أن يسكن ضفاف الروح ، ولعله كان يرفض فيها الرمز لأنه يمور بنزاعٍ عنيف ، ويتعلق بنواصي الشكل في مدينة يسكنها الجوهر ، وهو النافذ نفسياً إلى الأنا الجماعية التي تخلق الفرد وتستحيل معه إلى مجتمع ، قد تهون الأرض إلا موضعا ، وهذا الموضع بأي حالٍ من الأحوال ليس مكاناً تتناطح فيه غابات الأسمنت الشاهقة ، وتلمع أبوابه الزجاجية ضاربة الزرقة وكأنها تغتسل رأس كل دهشةٍ بفائض البياض ، وتبالغ أسماك بحيرته الملونة في نقوش الأجنحة التي تخجل قسوة الزعانف ، ولكنه نسيجٌ من انفعال الماضي المحمّل بإرثٍ معرفي وأخلاقي شديد الالتزام مع تمرد حاضرٍ ينزع للتمسك والتجديد ، وعلى كلٍ كان محمد الواثق مصطفى هو الذي يحتضر – نفسياً أيضاً – ويرفض ذاته ، ويستريح لمقولة طلقها فإن النساء كثير ، ويغفل عامداً عن أن يفهم أن كل النساء باختلاف مقاطعها وتقطيعاتها ، وعلى كثير الوسامة أو بالغ الدمامة ، يختصرن حياتهن في نظرة من يهوى ، كيف كان هواه ، والهوى روح ، لأن الإنسان دائماً ما يصغر درجة الفناء ويكبر حد الخلود ، أمام عينيّ أمه – لم يشكو أحد من قبح أمه حيال جارته الحسناء لأن لكلٍ مقامها ، اللهم إلا الحُطيئة والذي كان يعيش عقدةً نفسية أودعته سجون ظنونه وسجن أمير المؤمنين – ويتشظىّ ألف قصيدةٍ وجرح قبالة حبيبته ، وينشقّ حجر قلبه منابع وعيون لأجل طفلته ، التي أسالت دموع الفاروق ، يحفر لها قبرها بيده لؤدها وهي تمسح الغبار عن لحيته ، ويجب أن يعلم محمد الواثق أن الرجوع إلى أم درمان لم يكن مجرد جنوح إلى المباني ولكنه نزوعٌ حاد للمعاني التي تمثّل الفهم الواعي للغربة والحضور ، وهنا تختلف الصورة ويشتطّ التناقض ، فقد كان لا منتمياً من صنع انبهاره الأجوف ، منتمياً صريحاً تقتله ذاته آلاف المرات وهو يكابدها عنداً وقهرا ، وهو الذي درس بمدرسة وادي سيدنا الثانوية بقلب أم درمان ، يخلع عنه ذاكرته ليتشح بصدارة الغرب التي تنهك أضلاعه وتخترق حصونه ، يأبى قميص يوسف على عيون ذاكرته موقوفة النظر ، تخضرّ أم درمان في أرضه اليباب ، وتكابر تلال هروبه الكبير وهي تموت عطشاً من أن تستجدي غمام روحها وتلفظ بيت المتنبي ( أين أزمعت يا هذا الهمام نحن نبت الربى وأنت الغمام )وتستعير ما تبقى من تداعي نفسٍ تتمزق
يا صوت دعني فما أم درمان منزلتي لولا الأواصر من عمٍ ومن خال
مالي إذا الوخز أدماها ومزّقها لا الجلد جلدي ولا السربال سربالي
الكون كله ، فكراً وأدباً ، روحاً ومعنى ، هو خلاصة تحاور الذات مع الآخر ، كيف كان ومتى كان ، وتظلّ الذاكرة تحتشد بصور الآخر النقية ، تغربل الأحداث لتخلق في قالبها حلماً ترعاه مع الأيام ، وتختزن الفجيعة قبل بارق الوعد ليقوى مع عودها الإيمان الكامل بالطريق السالكة ، لذا فإن محمد الواثق ما استطاع أن يقرر احتضار أم درمان إلا بعد أن غيّب عقله ( وخلت في سكرتي أم درمان تحتضر ) وابن عربي يقول كل سكرٍ يكون عن شرب لا يعوّل عليه.
أم درمان حاضرة وعيينا الحديث ، لا تنهض بمبانيها قدر نهوضها بمعانينا ، تدخلها على تعرجات شوارعها ، تفضي بك إلى أواسط المنازل في أحيائها القديمة ، منازل تتصاعد على تلالها ترقى إليها بالدرج ، وأخريات يغرقها كوب الماء ينزلق على جدرانها المستغيثة من الظمأ والشمس ، ولكنها تصير منزلاً واحداً حين يشرع الخريف في تسميع أحاديث موسمه المطير ، يفضي بمائه لخور أبو عنجة ، يلبس ثوباً من العشب الأخضر ويدندن مع الشاعر مصطفى سند
لو زندها احتمل الندى
لكسوت زندك ما يشاء
ثوباً من العشب الطري
وإبرتين من العبير
وخيط ماء
لم تكن أم درمان مدينة مصنوعة كما صوّر البعض ولكنها مدينة من روح ، لأن كل الذين يكتبونها اليوم هم أهلها ، شأنهم شأن بوابة عبد القيوم وبيت الخليفة وبيت المال وسوق الجلود وأغاني الحقيبة ، وجدران أحيائها القديمة ميتة الطين من ندرة المطر ، وكورنيشها البكر ، يستمتع زائروه بالاستحمام على شاطئه المنهك ويمدّون ألسنة حالهم على اللافتة التي تمنع الاستحمام ، لا ترفض التحديث ولكنها لا تحتاج لشد وجهها المعافى بشباب فنونها وفتون معانيها.
كل المدن السودانية ميّزت نفسها بخصائص نادرة ، تسهم في خلق الهوية الكلية ، وسمّى السودانيون مدنهم بأنفاسها ، وتعارفوا على أوصافها المتسللة من وجوه ساكنيها ، فكانت عطبرة عاصمة الحديد والنار ، منجم ثوراتهم التاريخية ، تلهم السودان النضال والجسارة وتمنحه دلالةً جديدة من دلالات الصمود والإباء ، يرزح أهلها تحت رزيم قطاراتها ، تشقّ نهاراتهم ولياليهم شحيحة الكهرباء ، يخفون خلف ابتساماتهم الناصعة قطاراً آخر يرزم بداخلهم وهم يتجولون بدراجاتهم في أنحائها ، يزحمون الشوارع بأبواقها ، وتظلّ أنفاسها الحرّى عطراً يضوع في أردان القصيدة ، وحجراً يشق رؤوس الأحقاد والإحن ، وكانت كسلا ملهماً جمالياً يختصر كل السودان في حديقةٍ وقصيدةٍ ونهرٍ جامح ، وتنام مدينة نيالا على واديها مخضّر الحدائق ، تصهل خيول الأهلين على ضفافها وتشرق على الحقول شموس المانجو والبرتقال والجوافة ، ويكتب جبل مرة بأشجاره الباسقة وعيون مياهه بالغة الرقة والنقاء ، تكاد تعبرها النظرة إلى باطن الأرض الصخرية ، تنبت كل يوم أشجارها وشلالات ساورا الفضية ونجومها التي تلمع على كتف صنوبر مزهوٌّ بعالمه الفاتن ، يكتب روايةً تبهر نقّاد المواسم وأدباء الفصول ، وتقف مروي لتعزف أوتاراً أخرى ، النيل يصفق معها ، والطيور ، والنخل ، تلبس ثوب خضرتها وترفضُّ جدلة عرسٍ في الأيادي ، كانت الهجرات المتصلة والمتلاحقة لأهلها تصقل عود فهمهم للغربة فيبكون ويتجلدون ، ويكتبون بين الحالتين ، دماء القوافي ، فترهف آذان العالمين تسمعهم ( كلما تباعد بينّا عوارض كلما هواك يا طيبة مكني .. تلد الغربة القرب الواحد وبيكي أسمي الشوق وأكنّي ) وكل هذه المدن تقف فاتحةً صدرها وأذرع انتمائها تغني مع صلاح أحمد إبراهيم
في الزنقة نحن وقفنا كالأوتاد
في الصفّ الأول زجّونا في وجه الموت
وزحفنا كالحيّات يمزقنا شوك الأسلاك
نستقبل ألسنة النيران
ويظللنا لهبٌ ودخان
وتحتفي مع محمد المهدي مجذوب بسيرة العرس السوداني ، تسير من المنازل إلى النيل لا لترمي بين أقدام ماضيه ، عروس النيل التي كانت تحيا في خواطره كما تموت الأحلام ، ولكن ليقطعوا سعف النخيل يباركون به العروسين بين الخضرة والماء و ما يكفيهما من فائض الحسن ، يلوّنها الماء والزرع فتبدو الابتسامة أقرب ما تكون لخيوط وأنسجة ثيابهم تنام وتصحو قبلهم لتبارك الوجود
البنيّات في ضرام الدلاليك تستّرن فتنةً وانبهارا
من عيون تلفّت الكحل فيهن وأصغى ثم طارا
نحن جئنا إليك يا أمها الليلة بالزين والعديل المنقّى
نحن جئنا حاملين جريد النخل فألاً على اخضرارٍ ورزقا
موكب من مواكب الفرح عصراً في شاطئ النيل سارا
والعبير الحنون هلّل في صدري طيفاً مواصلاً واعتذارا
ومحمد المهدي مجذوب صاحب نار المجاذيب ، والشرافة والهجرة ، أوقف قلمه ، كاميرا تصوّر حالات السودان كلها ، فجاءت السيرة ، وبائعة الكسرة ، والجرو ، وغمائم الطلح ، يصف فيها الحفرة التي تجلس عليها النساء يتشربن دخان الطلح في مساماتهن فتنضح صفرةً جميلة ، ويفحن كالورود عطراً وندى ، وله كذلك القصيدة الرائعة والكبيرة التي اختزلت كل طقوس وعالم المولد في أبياتها
ليلة المولد يا سرّ الليالي
والجمال
وربيعاً فتن الأنفس بالسحر الحلال
وطني المسلم في ظلّك مشبوب الخيال
طاف بالصاري الذي أثمر عنقود سنى
كالثريا
ونضا عن فتنةِ الحسن الحجابا
ومضى يخرجه زيّاً فزيّا
بمثل ما اعتاد المبدعون السودانيون ، الرحيل ليلاً ، تاركين على نوافذنا أقمارهم ومناديلهم وأجنحة منتجهم الأدبي الأخضر وبقايا ابتساماتٍ تحلّق في ليل العبوس ، تظلّ أم درمان قبلة الأدب السوداني ، تفتح أذرعها وأبوابها وشوارعها في أوجه الباحثين عن إجاباتٍ لأسئلتهم المتناثرة ، ووسائد تتكئ عليها الرؤوس المجهدة بسهر الفكرة وانشغال النشيد ، وبمثل ما لوّنت صحائف الوجود بمدادها الأثير ، تظلّ ولزمانٍ طويلٍ قادم ، تملأ الدنيا وتشغل الناس.

أسامة معاوية الطيب
الشارقة 24/8/02



أسامة معاوية الطيب غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 23-09-2010, 09:00 AM   #[17]
elle
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية elle
 
افتراضي

كانت الدار وطناً يحتشد فيه كل الوطن






أنا وهذا البوست..وكلما أقرأ..أخاف

أتقزم...أقترب من التلاشي

أحسك عظيما يقتفي آثار من سبقوه على درب التفرد والإدهاش



لك محبتي

حالما أنتهي من "تهجي" الحروف

سأعود لأكتب



elle غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

تعليقات الفيسبوك

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 08:00 PM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.