فى بدايات ستينيات القرن الماضى خرج للحياه الطفل صلاح الدين سر الختم على ، وهو مواليد مدينة وادمدنى حاضرة ولاية الجزيرة وعاصة السودان قبيل الخرطوم .
كان صلاح الدين حاضر الذهن ، متقد الذاكرة ،مثله مثل نخلة أبوهشيم التى ذهب بها "ودالبشرى" ناقلا لها من أبوهشيم ولاية نهر النيل موطن صلاح الدين الى الهاشماب بإم درمان ، تلك النخلة تذكر جيدا طفولتها وأيامها هناك وتتوجع من غربتها فى ام درمان وتحن الى نخل أبوهشيم والى رفيقاتها هناك ...(!!) .
تفتحت عينا الروائى مثله مثل أى طفل سودانى فى ذلك الزمن قبل حوالى نصف قرن تقريبا على السرد من خلال حكايا جدتيه والتى كانت احداهن ضريرة . لكنها كما يصفها انبتت لنا أجنحة ترتاد قصور الملوك الظالمين والعادلين ونتعرف معها / معهما ، على حكايا فاطمة السّمحة والغول وبت النمير وغيرها من الأحاجي التي تعمل على شحذ الخيال. ... الخ .
فزينب بنت الحاج تركب حمارها وتذهب الى ريف أبوهشيم تجمع * الحقوق ، تنسج من السعف قفة ، تبيعها تشترى شايا ، فما هذه الزين الا احدى جداته الحقيقيات التى كانت تسكنه بإستمرار وأراد تخليدها من خلال الرواية ، فهى كانت قادرة دوما الى الحضور ، هذا الحضور الذى جعل كاتبنا صلاح يعنون احدى مجموعاته القصصية القصيرة الأولى بـ " الجدة ومواسم أخرى" وعنوان آخر اسمه " الشمس تنطفئ فى الظهيرة " حيث تقوم ثيما القصة على نهار ذا شمس قائظة حارقة بالسوق العربى ومجموعة من الناس يحيطون برجل رث الثياب ملقى على الأرض ويصيحون ده حرامى ، ويضربونه ، الى حين حضور الشرطى الذى لطمه حتى قبل ان يعرف ماهى الحيثيات ...(!!)
وفجأة تمتد يد لتمسح بمنديل بال الدم من فم الرجل ...
وإذا بالشرطى يساءل تلكم اليد
فيرد المواطن انت ماشايف الزول ده بينزف .. ألا ترى الدم ..؟
واذا بالشرطى يرد بجفاء وانت مالك بتعرفوا من وين ...
وينسحب ذلك المواطن فجاة من امام المتحلقين ويصوب نظراته تجاه الشمس فلا يجدها ووجد ....(لنترك القارئ يبحث عن الكتاب)
فيوسع الرجل الخطى ويهرب مهرولا
مشهد يظهر بجلاء عنف الإنسان المعاصر .
يزيد من هذا المشهد الغير عادل اللاإنسانى دراسة وتخصص القاص صلاح الدين الذى تخرج من جامعة القاهرة/الخرطوم ، ونال درسة الماجستير فى القانون ، ويعمل حاليا كقاض ، وعمل رجال العدل ماهو الا حالة سرد يومية لشتى مناحى الحياة من خلال منصة المحكمة .
فهو فى حالة إستماع يوميا ، وبالتأكيد تؤثر هذه القصص فى تكوينه الأبداعى فضلا عن طفولته وقراءته والكتاب الذين تأثر بالتكنيـك. لديهم ... الخ
يقول صلاح الدين عن نفسه :
توقظه الشخوص ليلا
يرتعش من الحمى
يعكف على القراءة
ينبهر بما قالته له الشخوص ثم يكتب
روح صلاح الدين وهو يحكى مليئة بالحنين فهو مثلا لاينسى ذلك المدرس الذى أصبح بفعل جور الزمن أن ينتهى به المطاف الى بائعا للسجائر حول السينما الوطنية بواد مدنى ، إنه منظر لشيخ فى الستين يكاد يخفى وجهه من تلامذته ...
وتكرر حكاية المعلم أيضا فى أبوهشيم حيث "الطيب ودمحمود" الذى يربط تلامذته بالمكان لكنهم ذهبوا كما ذهبت تلك النقود الصّغيرة اللامعات ، فتركوا ابوهشيم ليعمروا بلادا أخرى .
ماذا يريد أن يقول صلاح الدين من خلال عمله الثالث حتى الآن والذى تناوله بالنقد ، أو النص الموازى ، الجزائرى عبدالله بكو والسودانى عز الدين ميرغنى .
إنه ينقل لنا ببساطة مسالة الهوية ، وهى ثيما مطروقة فى الأعمال الأبداعية بشدة مؤخرا فى ظل اى تحولات اجتماعية وخلخلة سياسية ، بل صلاح نفسه يضرب مثالا برواية عراقية تحكى عن فتاة عراقية نشأت فى أمريكا وعادت للعراق كمجندة ومترجمة فى الجيش الأمريكى وتحدث بينها وبين شقيقها من الرضاعة الذى ينتسب لجيش المهدى مواجهة ، انه صراع الجذور الحقيقى كما يصفه صلاح الدين الذى يقول ان السبب الرئيسى والمباشر لترك الانسان بيئته يعود الى الصراع ، فهو المحرك الأساسي
فمثلا ودالبشرى احد أبطال روايته يترك أبوهشيم بسبب غرق توأمه تنافسا من يبقى فى الماء لأطول فترة ، ثم هناك ليلة زواج طه أبوضراع ، حيث لم يحضر ودالبشرى زواجه بسبب رفضه لعادة (البطان*) وتقدم حامد ود نورالدّائم .
سافر لأم درمان أقام بالهاشماب وأصبح تاجرا يشار اليه بالبنان ، لكنه لم ينس قريته وجذوره ولم ينفصل عنها ، حيث قام بدعم أهالى أبوهشيم بعد انهيار البنك الزراعى كأى مواطن سودانى ميسور يهب لنجدة أهله ، هذا فضلا عن حكاية النخلة التى أشرت اليها فى فقرة سابقة والتى نقلها الى الهاشماب .
وبطلنا "عمر" ابنه الذى قام بهجرة اخرى ذهب لأمريكا وهاجر مرة ثالثة بالزواج من امريكية وعاد لمطار الخرطوم فى صندوق ( تابوت ) مقتولا فى ظروف غامضة تصحبه زوجته الوقحه "سارا" .
يصيح ودالبشرى فى الجمهرة بالمطار
لاتتركوا عمر يذهب الى هناكـ
كان يريد أن يطلق صيحة ضد الهجرة بصورة عامة
وفى ذات الوقت نجد ليس فقط مسالة الهوية إن لم نقل صراع الحضارات أيضا .
نعود الى المراة التى أبتدرنا بها الحديث ،فهى حاضرة فى روايته ، ياسمين فى أمريكا ، آمنة فى أبوهشيم ، وأمونة التى ماتت بلدغة ثعبان كان اخوتها يعيشون عيشة الملوكـ ، إذا فالأنثى هى المكان .
فالرواية فضلا عن إنصافها لقضايا المراة بصفة عامه ، رغم وجود ( سارا وكاثرين ) فيما يبدو تعمد أن تكون المقارنة بين " سارا" "وسارة ".
وفى الإهداء يكتب صلاح
الى امه
بشير الطاهر ، دكتور بابكر محمد على
وفى الغلاف مكتوب :
اقتباس:
هاهى أبو هشيم ترقد نهاراً فى أحضان كتل من اللهب وترقد ليلاً فى أحضان الظلام . لكن النور الذى يستوطن القلوب فيها يكفى لاضاءة العالم كله . والوطن ليس الأضواء والحنفيات أو المبانى الشواهق . الوطن هو الحنين الغامض إلى أناس تحبهم ويحبونك بلا مقابل .
|
___________________
الحقوق
* الأطيان والميزاث بلغة أهل تلك المنطقة
البطان
* جلد بالسوط اثناء ليالى العرس السودانى الممتدة .