تأريخ الشك
تأريخ الشك
Doubt can be as powerful and sustaining as certainty
انبعثت الموسيقى من جوف ملعب الأقراص، فملأت سماء الغرفة، سطعت الشمس عبر زجاج النوافذ العظيمة مثل حقيقة باهرة، عادت بعد غياب أسبوعين كاملين، صافح ضياؤها الوجوه و المقاعد و ذوائب الأستار و طلع الشجر، تلاشى صوت المعلم معلنا عن بدء مراسم الاحتفال، وسط مجرى هدير همهمة النساء و الرجال المنتظرين سماع أسماء أطفالهم تتلى لاستلام الجوائز الموعودة، الرجال يحلمون بصوت نسائي عذب،و النساء يبدلن من مواقع الشك و اليقين بين العيون التي تسترق النظر إلى عيون أخرى، تجلس في محاذاتها او قبالتها، تغنت بأعلى صوتها، امرأة قوقازية في منتصف العمر، تبعت مسار الأغنية في حرص ، مالت على ابنها هامسة، والزهو يملأ جوانحها (لا أزال احفظ كل كلمات هذه الأغنية رغما عن بعد عهدي بسماعها)، ضمت كفيها ، أغمضت عينيها فكأنما تستنهض ذكرى قدر قديم،صفقت تطرد الشك عن معاني الكلمات في نسختها الأولى، باعثة جدتها من بين طيات الهلاك اليومي على مطهر سباق الأغاني، هزت شعرها الأشقر مرات، و لوحت بما تبقى من خريف عجيزتها الملتصقة بالمقعد الضيق، و صاحت في لهف و كبد و عناد و ثقة
When you wish upon a star dreams
will take you very far, yeah
When you wish upon a dream
Life aint always what it seems, oh yeah
Once you see your light so clear
In the sky so very dear
Youre a shinig star, no matter who you are
Shining bright to see what you can truly be
That you can truly be
كان الوقت مبتدأ النهار، باكرا، شقيا، ماكرا، تبدى في عنفوان مجده بعد هزيمة المطر، و لكن الأغنية لم تشذ عن السياق، لا الوقت و الحال و المناسبة، اتسقت و الفرح الطليق، اعتدلت في إيقاعها و تردده المحسوب، أفرجت عن اسر أبواقها ، و أشاحت باستجدائها في غمرة سطوعها و تجليها، فاضت الحيوية على وجوه الصغار، و سرت عدوى الأنفعال في وجوه الذين فاجأهم ذهول الصحو الباكر، سدت يد عنيفة مجرى اللحن فجأة، ....طق....، فسكت الضوء و انفسد مزاج القوقازية، فعادت الى اعتمار بسمة بلهاء، و لهاث مكتوم.
جفت شفتا ابي، تلجلجت جوارحه و هو يتمتم بأجابات غير مستيقنة في حضرة مدرسه، أهمى برأسه على كتفي و شرع يمتص في كلف عصير برتقال ( ديزني)، يبلل روحه و يهدىء من تسارع دقات قلبه، داعبت شعر رأسه بكفي، فشهقت الشقراء من مقعدها في حنو، برقت عيناها فعاد الضوء إلى حديثه الصاخب، رن هاتفي دون قصد من صديقي، و لكنه حدثني حديث الكهرباء، و العطر العابق في قميص يوسف، لم تغضب لحديثه معي، و لكن فضولها لمعرفة ما اخط و امسح غلب على فطنتها، فأحكمت الغيرة قبضتها على خناق مشاعرها، ,ولوثة حنقها و مضت في غيها، فكممت حواسي في قسوة و حب.
رحت ابحث في صحراء سأمي، عن موقع الشوكة التي انتبذت مكانا قصيا في جسدي، دون جدوى، أضاعت امرأتي قرطها في تلك الأثناء، فكذبت أذنيها، و استعارت في عجل قرطا زائفا، و مضت إلى ليلة عرسها، أغمد أبي أحزانه في قارورة الخمر الرخيص، و مضى في ساحة الرعب الذي تألق في نفس ( ود أحمد)، و هو يتهيأ للموت في ( النخيلة)، أختنق الرجل الذي جلس بجانبي، نشهد معا وقائع المعركة المنقولة على الهواء، سعل في عنف و ضيق، ركض دون استئذان إلى خارج الغرفة وعيونه تطفر بالدمع، عاد بعد هنيهة، و الخجل يكسو وجهه، حدد مقياس حبة القمح التي سدت منافذ الهواء الى رئتيه، مشيرا إلى ثلث سبابته، تابعنا بأعيننا المغرورقة بالدمع القوم حتى لحظة اندحارهم، تم اسر ( ود أحمد)، و نحن منشغلون بانتشال الجثث التي طفت على نهر العطبرة، كان سهرا عصيبا، و أمسيات عامرة بالرعب و النحيب و المجون.
Don't you hate that??
Hate what??
The uncomfortable silence!!
....و عندما صدقت طمأنينتي، و أوليتها ظهري، أهمت على أغراضي تبعثرها، و تنقب في محتوياتها، قلبت جيوب ردائي و عيونها تلمع بشره و غيظ و متعة، و على حقول القمح، و تحت ظلال النخل المستطيلة، تبعثرت أجسادهم، و على وجوههم ارتسمت آيات الغضب و علائم النقمة، و شلوخ مستقيمة متوازية، انطفأت ضجة السلاح الناري، و سرت رائحة البارود في اتجاه مجرى النهر، اختلط بالهواء و تلوى مثل أفعى، قفل جنود الباب العالي إلى أسفل الوادي، دون نصر يحتفون به و بذكره، عادوا إلى شطف البداوة، أودعوا أحزانهم إلى زكائب النسيان، و غسلوا دمع الهزيمة بفرح الكحول، و لم يقرؤوا الفاتحة على أرواح ضحاياهم من المسلمين.
سلكنا طريقا إلى الجنون، لا يفضي إليه، اهتدينا بهدى نجم الحقيقة، ذلك الذي احتجب وراء السحب، فأضحت الحقيقة المزعومة، بقايا من ذكريات غامضة مبهمة ، غائمة متكدرة، بيد أنها هناك، عام مضى، و السحب لا تني تتكاثف ، حلت الظلمة، و الشك، حتى انتفت الفروق بين البحر و الصحراء، و الزاد أوشك على النفاد، و لكنها كانت تلتقي بعشاقها سرا، لم تكن تطارحهم الغرام، و لكنها لوحت به مثل بشارة أوقربان. كانوا رهطا من الأدعياء و الدجالين، يداعبون غرورها تسمعت في غيظ ضحكاتها الصاخبة، من وراء خيمة في مشارف الأفق، مقيد كنت في أصفاد الغمام، أغمط عشاقها على احتفالهم بسعادة جهلهم، أحسدهم على غضارة حدسهم، كان الماء حقيقتهم الوحيدة التي يؤمنون بها و يعيشون من أجلها، و حينما يخرجون في طلبه، كانت تجيئني دون موعد، إلى باب خبائي المرتجل ، عارية الا من غطاء رأس، تلسع في سعيها الأحجار من فرط شكوكها، و الرمل و الحصى و عشب الطريق، ثم تسكن إلى جواري منهكة تستجدي عطفي و سماحي، فلا املك غير أن امنحها الأمان.
وقفت في مدخل خيمتي، ذات صباح، موقف ( اني جيراردو) في صفحات ( الموت حبا)، إلا أنها كانت تبغض تلميذها في هذه النسخة، تبغضه و تحرشاته الجنسية الرخيصة، لم تكن وزوجها يساريين كما يبدو للوهلة الأولى،
و لكنهما عاشقين لشعر ( النور عثمان)، و أقاصيص ( اريك سيغال)، و المدائح بصوت ( السماني أحمد عالم)، و لا يريان باسا في شخصية ( منصور خالد). الفت تجوالهما طرقات الجامعه الضيقة، رافقتهما في تجوالهما، ابتسامات الحرس الجامعي و عيونهم التي لم تكن تخلو من تطلع الى إثارة، و ابتسامة حارس ( متحف التاريخ الطبيعي) و التي يتبعها بسؤال ملح عن موعد زواجهما.
و في المساء كانا يأويان الى موقع قبالة ( كازينو حماد)، يحتميان بالظلمة و شرف القصائد من عسف الحياة، و فضول البشر، و حينما فاجأهما وكيل العريف بوجهه المحتقن بالشر، أجابته وهي ترتعد فرقا ( قاعدين هنا ساى)، و حينما علم بأخاها ضابط الأمن، نزع عنه قناع حقده، فاستبانت أسنانه القذرة و بدا وجهه أكثر تسامحا ( نحنا ما كلنا شباب)، أخذهما معه في المقعد الأمامي للكومر، حتى أتى إلى بوابة وزارة الداخلية، و أشار إلى مقعد خال يطل على النهر ( الحتة دي امان) ، ثم انصرف و هو يقهقه. و لكنها ظلت ترقب من وراء كتفها، شحوب أضواء النيون التي تزين مدخل الوزارة بألوان الباستيل، ما عادت تؤمن غدر القصائد، و لا عيون حبيبها المطمئنة، و لا وجوه الشرطة و عيونهم المتشككة المتلصصة. حدقت في جانب وجهه في صمت الظلمة، وهو غارق في حيرته، يحدق في أضواء الضفة المقابلة تستحم في رماد الطمي، متسائلا في سره، اى من الأغنيات لحنها ( كمال الطويل)؟؟.
حدثت ( بشير) بكل ما لدي من أسرار صغيرة ثمينة، آمالي و أحلامي و تطلعاتي، أرجو مساعدته و أتوسل بعونه، العمل و الاغتراب و الزواج، ربت على ظهر أحزاني بأمهرية اشك في صحتها، و عربية تعمد تهشيمها، فلم تنطل الخدعة على، و لكنني تظاهرت بالتصديق ( انتي تمشي تسوي بخور)، تململت في مقعد اعترافي الضيق، و انا اشهد كل أسراري الحميمة ملقاة مبعثرة دون حذر على ارض الغرفة المغبرة، كان الهواء خانقا في الداخل، عدا لحظات تستدير فيها المروحة التي تقف على ساق واحدة مستقيمة، معتمدة على قرص حديدي صلب في نهايتها، تحرك الستائر المرتجلة الحمراء في عنف مفاجئ، و عقود من الخرز الصناعي المنسدل على المدخل مثل سياج من الحصى، و روائح نفاذة، طلح و صندل و سوار دي باري، و شهوات عابرة مثل سحب منتصف مايو الخادعة. لم تمنعني خنثته الفادحة من الجلوس إليه في تلك العزلة، مستقبلا نظرات عيونه الواسعة المستديرة، عيون يسكنها الخوف و الاشتياق و اللوعة و الحرمان ، و بعض عزم و قوة، يستطيل الشك و لا ينحني ، ماتت آمالي الكبيرة عندما التقت في منتصف سماء الغرفة، بضآلة مقدرته و ضعف سحره، فامتنعت عن ذكر شأنها معي، كدت أحدثه عنها، فبدد هواء المروحة المسعورة صدى صوتي، ثم راح يطرق الخرز بعضه ببعض، و ارتد به هسيسا من الإبر على أذني، فتذكرت أغنية ( كمال الطويل) للحظة قبل أن تغيب عني مرة أخرى.
في غرفة الاستقبال انتظرت عودته في توجس و نفاد صبر، أطل بقامته الفارعه، كان قد ارتدي جلبابا مغربيا آخر، ووجه خال من المساحيق، و لسان فصيح، لم يكن هو هو ، و لكنه كان هو، ابتدرني ضاحكا بصوت لم تفارقه الخنثة ( بشير قاليك شنو؟؟)، حدثته ببعض ما حدث، و أخفيت بعضا، مخادعا نفسي حتى صدقت كذبتي، استمع الى و هو ينظر الى فراغ مغيب في وعيه متظاهرا بمتابعة حديثي، مؤمنا على اهتمامه بهزات قصيرة من رأسه بين الفينة و الأخرى، كان كمن يستمع الى هذا الحديث لأول مرة، حتي راقت لى فكرة أن اغير في الكلام حتي اكشف كذبه، فما استطعت. بيد انه استدرك في لحظة حاسمة من غيبته الظاهرة، كان كمن انتبه لأمر صحا لفجائته عنوة، فقاطعني بسؤالي ( أتعشيت؟؟)، شعرت بألم حارق في امعائي حال سماعي لذكر الطعام، داهمني الجوع كذئب البرية، و عطش و رغبة في التدخين و العدو، داهمتني أحاسيس ناج من تحطم طائرة، ذابت كل التفاصيل الصغيرة الحميمة الأثيرة، انطمست معالمها و اندثرت قيمتها إلى الأبد، هب سعيدا حين اجبته بالنفي، و عكف بصدق على إعداد الطعام.
خرجت الى الشارع مثل ممسوس يمشي على عسل منسكب، و من على البعد رأيت الرجال يتسامرون على بساط بال عقب فراغهم من صلاة العشاء، اختلطت ضحكاتهم بالسعال و الاستغفار ، أغذذت الخطو بخطى واسعة هربا من شكوكي، عدوت الى مقعدنا الآمن امام مبنى الوزارة، فلم أجدها في انتظاري هناك، تحسست جيوب ردائي، و الضوء المستحم برماد الطمي، فأدركت أنني أسقطتها ضمن تفاصيلي الحميمة الصغيرة في حضرة ( بشير)، هممت بالعودة، و لكن ضحك الرجال المختلط بالسعال اوقع الرعب في قلبي، جلست وحدي ارقب الضوء و الطمي، غير عابئ بالنيون الذي يزين مدخل الوزارة، و لا الأغنية التي لحنها ( كمال الطويل)، و لكنني تمعنت في تفاصيل الرقم الذي دسته القوقازية في جيبي.
|