نعي أليم - فيصل سعد في ذمة الله !!! عكــود

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > نــــــوافــــــــــــــذ > المكتبة الالكترونية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 17-11-2008, 09:55 AM   #[1]
الفاتح
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية الفاتح
 
افتراضي لــولابــيا : قصّة: جان ماري غستاف ليكليزيو الحائز على جائزة نوبل 2008

يوم قرّرت لولابيا أن تنقطع عن الدّراسة،كان ذلك في صباح يوم باكر من منتصف شهر أكتوبر. تركت فراشها و اجتازت غرفتها حافية، أزاحت السّتائر لتنظر إلى الخارج، كانت الشّمس قد طلعت بقوّة وحين انحنت قليلا استطاعت رؤية قطعة من سّحاب أزرق. على الرّصيف في الأسفل، رأت ثلاث أو أربع حمامات تقفز وقد نفشت الرّيح ريشها. و فوق سقوف السيّارات الرّاسية، أبصرت البحر، كان أزرق غامضا، وكانت ثمّة مركبة شراعية بيضاء تتقدّم بعسر. لمّا شاهدت لولابيا كلّ ذلك شعرت بارتياح لقرارها بألاّ تذهب إلى المدرسة أبدا….
استدارت باتجاه وسط الغرفة و جلست أمام طاولتها، ودون أن تشعل الضوء شرعت في كتابة رسالة:
أبي العزيز صباح الخير.
الطّقس اليوم جميل، السّماء….
كما أحبّ أن تكون، شديدة الزّرقة. كنت أرجو
أن تكون هنا لترى السّماء
البحر شديد الزرقة أيضا
قريبا يحلّ الشّتاء
إنها سنة طويلة أخرى تبتدئ
أرجو أن تستطيع المجيء قريبا لأنّي لا أعرف
إن كانت السّماء والبحر سيستطيعان انتظارك طويلا.
حين نهضتُ هذا الصّباح
(منذ أكثر من ساعة)،
خلتُ أننّي في اسطنبول من جديدٍ.
أريد أن أغمضَ عينيّ وحين أفتحهما يكون كلّ شيء كما في اسطنبول .
هل تذكر؟ لقد اشتريتَ باقتيْ ورد، واحدة لي وواحدة لأختي لورانس، ورود بيضاء طويلة ذات رائحة قوية “لهذا نسمّيها عطورا”. إنّها ذكيّة إلى درجة كان من الأجدى أن نضعها في بيت الحمّام. لقد قلت لي أنّه بإمكاننا أن نشرب فيها الماء،وذهبت إلى الحمّام وشربت طويلا حتّى فسدت أزهاري.
هل تذكر؟
توقفت لولابيا عن الكتابة. عضعضت طرف قلمها الأزرق لحظة وهي تنظر إلى ورقة الرّسالة دون أن تقرأ. كانت تنظر إلى بياضها فحسب. وفكّرت في أنّ شيئا ما سيظهر. ربّما يكون شيئا شبيها بطيور في السّماء أو سفينة صغيرة بيضاء تعبر رويدا رويدا.
نظرت إلى السّاعة المنبّهة على الطاولة، الثّامنة وعشر دقائق. كانت ساعة منبّهة صغيرة مغلّفة بجلد سحليّة أسود قد لا نحتاج إلى نزعه إلاّ مرّة واحدة في الأسبوع.
كتبت لولابيا على ورقة الرّسالة:
أبي العزيز، أحبُّ أن
تأتي لتستعيد السّاعة المنبّهة
لقد أعطيتَها لي قبل أن أغادر طهران
وقد قالت كلٌّ من أمّي وأختي لورانس إنّها جميلة جدّا
أنا كذلك أجدها جميلة جدّا.أعتقد أنّها لن تصلح لي بعد اليوم.
لهذا أحبّ أن تأتي لتأخذها
ستحتاجها من جديد.
إنّها تعمل جيّدا.
ولا تصدر ضجيجا في اللّيل.
وضعتْ الرّسالة في ظرف، وقبل أن تغلقه بحثت عن شيء آخر تضعه داخله، لكنّ لم يكن على الطاولة شيء سوى بعض الأوراق و الكتب وفتات من البسكويت. فأخذت الظرف وكتبت عليه العنوان:
السيّد بول فرلاند
ب.ر.و.ك.و.م
84 شارع الفردوسي
طهران. إيران.
وضعت الرّسالة على طرف الطاولة وذهبت مسرعة إلى بيت الحمّام لتنظّف أسنانها ووجهها. كانت ترغب في أن تستحم بالماء البارد، لكنّها خشيت أن تسمع أمّها صوت الماء فتفيق من نومها. عدلت عن فكرتها وعادت إلى غرفتها بقدميها الحافيتين. ارتدت ملابسها بسرعة، جمّازة من الصّوف الأخضر و سروال من المخمل الدّاكن وسترة بنيّة. ثمّ ارتدت جوربيها و حذاءها الطويل ذا النّعال المطاطية ومشّطت شعرها الأشقر دون أن تنظر في المرآة، ثمّ وضعت في حقيبتها كلّ ما وجدته حولها، فوق الطاولة وفوق الكرسي: أحمر شفاه، منديل ورقيّ، قلم، مفاتيح، علبة أسبرين، لم تكن تعرف بالضبط إلى أيّ شيء ستحتاج، لذلك أخذت تضع كلّ ما يقع عليه بصرها في غرفتها: خمار أحمر ملفوف، ألبوم صور قديم من القماش المشمّع، مُدية، كلب من الخزف. ثمّ فتحت الخزانة ومن صندوق أحذية كان داخلها أخذت رزمة من أوراق الرّسائل. وفي صندوق آخر وجدت رسما كبيرا طوتْه ووضعته في حقيبتها مع الرّسائل، في جيب معطفها وجدت بعض الأوراق البنكيّة والقطع النقديّة فتركتها تسقط في حقيبتها وفي اللحظة التّي همّت فيها بالخروج استدارت باتّجاه الطاولة وأخذت الرّسالة التّي كتبتها . ثمّ فتحت الدّرج الأيسر وشرعت تبحث بين الأشياء و الأوراق إلى أن وجدت هرمونيكا صغيرة كتب عليها :
صنع في ألمانيا
ECHO SUPER
Vamper
وعليها نقش بحدّ سكّين
(دافيد)
نظرت إلى الهرمونيكا هنيهة ثمّ أسقطتها في الحقيبة التي علّقت على كتفها الأيمن وخرجت.
كانت الشّمس خارج البيت حارّة أمّا السّماء والبحر فكانا يلمعان. بحثت لولابيا بنظراتها عن الحمامات لكنّها لم تجدها، رأت السّفينة الشّراعيّة تتحرّك ببطء منحنية نحو البحر، بعيدا، قرب الأفق.
أحسّت بقلبها يدقّ بقوّة ويتحرّك داخل صدرها. لماذا كانت على تلك الحال؟
ربّما كانت أضواء السّماء تسكرها.
توقّفت أمام منصّة وهي تضغط زنديها على صدرها بقوّة مغمغمة ” كم يضجرني هذا ” ثمّ استعادت طريقها محاولة ألاّ تعيره اهتماما.
كان الناس في طريقهم إلى العمل. يسيرون بسرعة بسيّاراتهم على طول الشّارع في اتّجاه وسط المدينة. الدرّجات النّارية تتسابق مصدرة ضجيجا، كان النّاس في عجلة من أمرهم، داخل السّيارات الجديدة ذات النّوافذ المغلقة، وإذْ يمرّون يديرون أعناقهم لينظروا إلى لولابيا ومنهم من يضغط على منبهاتهم لكنّ لولابيا لا تنظر إليهم . هي أيضا كانت تسير بسرعة في الشّارع دون ضجيج بحذائها المطاطيّ. إنّها تسير في الاتجاه المعاكس، نحو المرتفعات والصّخور وهي تنظر إلى البحر مغمضة عينيها فقد نسيت أن تحمل معها نظّارتيها السّوداء. كانت السّفينة الشّراعية البيضاء تسير في نفس الاتجاه بشراعها المنتفخ في الرّيح وكانت لولابيا تنظر إلى البحر والسّماء الزّرقاوين وإلى الشراع الأبيض وإلى صخور الخليج. كانت سعيدة جدّا لأنّها قرّرت ألاّ تذهب إلى المدرسة أبدا. كلّ شيء كان جميلا كما لو أنّ المدرسة لم توجد إطلاقا.
كانت الرّيح تنفخ في شعرها وتشوّشه. ريح باردة أحرقت عينيها واحمرّت من تأثيرها جلدة وجهها ويديها. فكّرت لولابيا في أنّ السّير في الشّمس وفي الرّيح ممتع، هكذا دون أن تعرف وجهتها.
عندما خرجت من المدينة، بلغت طريق المهرّبين التي تبتدأ عند أجمة صنوبر صغيرة ثمّ تنزل على طول السّاحل إلى حدود الصّخور. هنا، كان البحر أكثر جمالا، عظيما ومغمورا بالأضواء.
كانت لولابيا تتقدّم في طريق المهرّبين ورأت أنّ البحر كان قويّا جدّا، الأمواج القصيرة تصطدم بالصّخور، ناشرة شفرات معاكسة. توقّفت الفتاة الصّغيرة بين الصّخور لتنصت إلى البحر. هي تعرف صوته جيّدا. الماء الذي ينتشر ويتمزّق ثمّ يتجمّع ليفرقع الهواء. إنّها تحبّ هذا، لكنّها تبدو اليوم وكأنّها تستمع إليه للمرّة الأولى. لم يكن هناك إلاّ الصخور البيضاء والبحر والرّيح والشّمس. كان الأمر كما على ظهر سفينة، بعيدا في عرض البحر أين يعيش سمك التنّ والدلافين.
لم تعد لولابيا تفكّر في المدرسة. البحر يمحو أشياء الأرض هذه. هكذا. لأنه أهمّ ما يوجد في العالم. الزّرقة والضوء كانا عظيمين، الرّيح وصوت الموج القويّ والرّقيق. البحر يشبه حيوانا عظيما يحرّك رأسه و يضرب الهواء بذيله.
كانت لولابيا على أحسن حال إذن. ظلّت جالسة على صخرة مسطّحة عند حافة طريـق المهرّبين، و تنظر. فترى الأفـق الصّافي، الخطّ الأسود الذي يفصل البحر عن السّماء،لم تعد تفكّر في الأنهج والمنازل و السّيارات و الدرّجات النّارية إطلاقا.
بقيت زمنا غير قصير على الصّخرة. ثم استعادت سيرها على طول الطّريق.لم تعد هناك منازل.كانت آخر الفيلات وراءها. التفتت لولابيا لرؤيتها فوجدت أنها على هيئة عجيبة، بمغاليقها المقفلة على واجهاتها البيضاء فكأنها تنام. انعدمت الحدائق، كانت ثمة أعشاب لزجة وغريبة بين الصّخور وكريّات مغلفة بالأشواك وصفائح مجرّحة ونباتات العوسج و العلّيق. لا أحد يعيش هنا، فقط عظايات تجري بين أكوام الصّخور ودبابير تطير فوق الأعشاب لها رائحة العسل.
كانت الشمس تلتهب بقوّة في السّماء. الصّخور البيضاء تلتمع والزّبد يتألّق كالثلج.كنّا سعداء، هنا، كما في آخر الدنيا. لم نكن ننتظر شيئا. لم نكن في حاجة إلى أيّ كان. نظرت لولابيا إلى الرأس الذي كان يكبر أمامها، والهضبة المتصدّعة بأكملها على البحر.كانت طريق المهرّبين تصل إلى مخبئ حربيّ ألمانيّ. و كان يجب النزول على امتداد ممرّ ضيّق تحت الأرض. الهواء البارد داخل النّفق جعل الفتاة الصّغيرة ترتعش. كان الهواء رطبا وقاتما كما في داخل كهف. وكانت رائحة البول تنبعث من جدران القلعة. في الجهة الأخرى يفتح النّفق على منصّة من الإسمنت محاطة بجدار قصير. بعض النباتات كانت تنمو في شقوق الأرض.
أغمضت لولابيا عينيها مبهورة بالضوء.كانت أمام البحر والرّيح مباشرة.
فجأة أبصرت العلامة الأولى على جدران المنصّة، كانت مكتوبة بالطباشير بأحرف غليظة وغير منتظمة تقول:
“ابحثوا عنّي”
نظرت لولابيا لحظة حولها، ثم ّقالت بصوت منخفض:
“نعم ولكن من أنت ؟”
مرّ خطاف بحر كبير أبيض اللّون فوق المنصّة وهو يعوي.
هزّت لولابيا كتفيها وواصلت طريقها التي صارت صعبة الآن. لأنّ طريق المهرّبين كانت قد تحطّمت.ربما كان ذلك خلال الحرب الأخيرة. حطّمها أولئك الذين بنوا المخبأ الحربيّ.كان يجب أن تتسلّق وتقفز من صخرة إلى أخرى مستعينة بيديها حتّى لا تنزلق. كان السّاحل يزداد انحدارا وصعوبة وفيما هي في الأسفل كانت ترى الماء الزّمرديّ العميق يرتطم بالصّخور.
لحسن حظّها أنّها تحسن السّير على الصّخور، بل إن ذلك هو أحسن ما تستطيع القيام به، يجب أن تحدّد خطوتها جيّدا حين تنظر، تعاين الطرق الجيّدة والصّخور الّتي تمثّل درجا ولوحات للقفز، يجب أن تتنبّأ بالمسالك الّتي تقود نحو الأعلى. تتجنّب الصّخور الهشّة والثّغرات وأدغال الشّوك .
ربّما كان هذا عمل حصّة الرّياضيات. نفترض صخرة تصنع زاوية ب45 درجة وأخرى تبعد 2،50 مترا عن كثيف من اللّزان. أين يمرّ المماس؟ كانت الصّخور البيضاء تشبه قماطر. تخيّلت لولابيا وجه الآنسة “لورتي” الحادّ وهي تجلس فوق صخرة كبيرة في شكل شبه منحرف ظهرها إلى البحر. ربّما لم تكن المشكلة رياضيّة بأتمّ معنى الكلمة. يجب في هذه الوضعيّة أن نحدّد مراكز الثقل: “سطّروا خطّا عموديا على الخط الأفقي لنحدّد الاتجاه بدقّة. هكذا كان السيّد “فيليبي” يقول. كان واقفا، باتزان على صخرة مائلة، وهو يبتسم بتسامح. شعره الأبيض يصنع تاجا في ضوء الشّمس وعيناه الزرقاوان تلمعان بطريقة عجيبة وراء نظّارتي قصر النّظر.
كانت لولابيا سعيدة لأنّها اكتشفت أنّ جسمها يجد الحلول للمشاكل بسهولة. مالت إلى الأمام ثمّ إلى الوراء. أخذت تتوازن على رجل واحدة. ثمّ قفزت بليونة فتحطّ قدماها على النقط الّتي تحدّدها بالضّبط “جيّد جدّا يا آنسة ” هكذا سمعت صوت السيّد فيليبي في أذنها. “الفيزياء علم الطبيعة. لا تنسوا هذا أبدا. واصلوا هكذا إنّكم على الطّريق الصّحيحة”.
همست لولابيا :”نعم ولكن إلى أين؟”
بالفعل لم تكن تعلم إلى أين يقودها هذا. توقّفت مرّة أخرى لتستعيد أنفاسها، ونظرت إلى البحر ولكن، هنا أيضا كان ثمّة مشكل. لأنّ الأمر يتعلّق بحساب زاوية انحراف الشّمس على مساحة الماء. فكّرت لولابيا أنّها لن تنجح أبدا.
سمعت صوت السّيد فيليبي في أذنها:
“لنر، طبّقوا قوانين ديكارت”.
بذلت لولابيا مجهودا كبيرا كي تتذكّـر:
” الشّعاع المنكسر…” قالت لولابيا وأضافت:
“لكن يبقى تخطيط زاوية السّقوط مجهولا … ”
سمعت فيليبي يقول :
“قانون ثان إذن ؟ ”
“عندما تكبر زاوية السّقوط تكبر زاوية الانحراف والعلاقة بين جيوب هذه الزّوايا ثابتة”
جيب إ
ـــــ = عدد ثابت.
جيب ر
“دليل الماء/ هواء؟ ”
“1،33 ”
“قانون فوكو؟”
“دليل وسط بالمقارنة مع آخر مساوٍ لعلاقة سرعة الوسط الأوّل مقسوما على الثاني”
“ماذا ينتج؟”
” ن 2/1 = ف1/ف 2 ”
كانت أشعّة الشّمس تتدفّق من البحر دون توقّف. تحوّلت الحالة من الانحراف إلى الانعكاس بسرعة إلى درجة أن لولابيا صارت عاجزة عن القيام بحسابات. فكّرت أنّها ستكتب فيما بعد إلى السيّد فيليبي لتسأله في الأمر. كان الجوّ حارّا، أخذت الفتاة الصّغيرة تبحث عن مكان تستطيع السباحة فيه. وجدت خليجا صغيرا غير بعيد به أنقاض رصيف. نزلت إلى حافة الماء ونزعت أثوابها.
كان الماء شفّافا جدّا وباردا. غطست لولابيا دون تردّد فشعرت بالماء يضغط على مسامات جلدها، سبحت مدّة طويلة تحت الماء بعينين مفتوحتين. جلست إثر ذلك على اسمنت الرّصيف لتتجفّف. كانت الشّمس في محورها العموديّ. لم تعد الأضواء تنعكس بل تلتمع داخل قطرات الماء بقوّة. تلك القطرات العالقة ببطنها وعلى زغب فخذيها.
كان للماء البارد تأثير طيّب عليها لقد غسل الأفكار في رأسها، فلم تعد الفتاة الصّغيرة تفكّر في مشاكل المماسات ولا في الدّلالات المطلقة للأجسام. كانت بها رغبة في كتابة رسالة إلى والدها. بحثت عن كنّش أوراق الرّسائل في حقيبتها و بدأت تكتب بقلمها الجافّ في ذيل الصّفحة أوّلا. كانت يداها مبلّلتين تتركان آثارا على الورقة:
“لــلاّبي
تقبّلك.
تعال بسرعة حيث أنا”
ثمّ أخذت تكتب وسط الورقة:
” ربّما أكون بصدد ارتكاب قليل من الحماقات.
لا يجب أن تغضب منّي، كنت أشعر بالفعل….
أنّي داخل سجن. أنت
لا تستطيع أن تعرف. بل تعرف.
ربّما تعرف كلّ هذا لكنّك تمتلك الشجاعة
للبقاء، أمّا أنا فلا، تخيّل كلّ هذه الجدران.
في كلّ مكان ،جدران كثيرة إلى درجة لاستطيع إحصاءها
جدران بأسلاك حديدّية شائكة
وأسيجة وأعمدة في النوافذ
تخيّل السّاحة بكلّ الأشجار التي أكرهها. أشجار أبي خروع و الزّيزفون وخاصّة الدّلب.
أشجار الدّلب بشعة جدّا فهي تخلع لحافها كأنها مريضة ”
ثمّ أخذت تكتب في مكان عال من الورقة:
“تعلم، أرغب في أشياء كثيرة، هناك أشياء كثيرة، كثيرة، كثيرة.
أرغب في أشياء كثيرة، لا أستطيع أن أجزم إن كان بإمكاني إن أخبرك عنها.
أشياء مفقودة جدّا هنا.أشياء كنت أودّ رؤيتها…
في السّابق…
الأعشاب الخضراء والأزهار والطّيور والأنهار، لو كنتَ هنا،
لكان بإمكانك أن تذكرها لي فأراها تظهر حولي،
لكن ما من أحد في المعهد يستطيع الحديث عن هذه الأشياء.
البنات غبيّات إلى حدّ البكاء. الأولاد بلهاء
إنّهم لا يحبّون غير درّاجاتهم النّاريّة وستراتهم”
صعدت إلى أعلى الورقة تماما وكتبت:
“أبي العزيز، صباح الخير. اكتب إليك
من على ضفّة شاطىء صغير. إنّه صغير جدّا وأعتقد انّه شاطئ لشخص واحد، له رصيف مهدّم أجلس عليه أنا الآن (لقد سبحت كما ينبغي).
البحر يرغب بشدّة في ابتلاع هذا الشاطئ الصّغير، إنّه يرسل ألسنته إلى العمق. فلا مجال لنبقى غير مبلّلين! سيكون في الرّسالة بقع ماء كثيرة،أرجو أن يعجبك هذا. أنا وحيدة هنا لكنّني أتسلّى كما ينبغي. لن أذهب إلى المعهد. لقد قرّرت. يكفي. لن أذهب أبدا حتّى و إن هدّدوني بالسّجن.وليكن، لن يكون السّجن أسوأ”.
لم تبق مساحة بيضاء كافية على الورقة، فأخذت لولابيا تلهو بملء الفراغات الواحد تلو الأخر وهي تكتب كلمات وأعقاب جمل دون تخطيط:
“البحر أزرق”
“شمس”
“إرسال نباتات سحلب بيضاء”
“خسارة أنّ الكوخ الخشبيّ ليس هنا”
“اكتب لي”
“هناك سفينة تمرّ إلى أين؟ ما هي وجهتها يا ترى؟ ”
” أريد أن أكون فوق جبل عال”
“خبّرني عن الضوء عندك”
” حدّثني عن صيّادي المرجان”
“كيف حال سلوقي”.
أكملت ملأ آخر المساحات البيضاء بكلمات:
” طحالب”
“مرآة”
” بعيد ”
“دودة برّاقة ”
” سباق ”
” جزيرة ”
” نجمة”
طوت الورقة بعد ذلك ووضعتها في الظّرف مع ورقة عشب لها رائحة العسل.
عندما صعدت عبر الصّخور رأت نفس تلك العلامات الغريبة ثانية مكتوبة على الصّخور بالطّباشير كان هناك أسهم أيضا تبيّن الطريق التي يجب اتخاذها. قرأت على صخرة كبيرة مسطّحة :
” لا تيأسي ”
وغير بعيدة قرأت:
” قد تنتهي بذيل سمكة “.
نظرت لولابيا حولها من حديد. لكن لم يكن ثمّة أحد على امتداد البصر، فأكملت طريقها. تسلّقت ونزلت ثمّ قفزت فوق الشّروخ، وصلت في النّهاية إلى طرف الرأس أين يوجد سهل حجارة و المنزل اليوناني.
وقفت لولابيا مندهشة، فلم يسبق لها أن رأت منزلا جميلا كهذا. كان مبنيا بين الصّخور و النباتات الدّهنيّة، قبالة البحر على شكل مربّع وهو بسيط جدّا، به شرفة تحملها ستّة أعمدة وهو يشبه معبدا مصغّرا. كان بياضه يبهر البصر وهو صامت و منزو، قبالة مجمع صخور وعر يحميه من الأنظار و الرّيح.
اقتربت لولابيا من المنزل رويدا رويدا بقلب يخفق بسرعة. لم يكن ثمّة أحد، فلا بدّ أن يكون قد هُجر من سنين. فالشرفة قد غمرتها الأعشاب و العلّيق، أمّا الأعمدة فقد التفّ عليها اللّبلاب. حين دنت من المنزل رأت كلمة منقوشة على الباب وعلى جبس الرّواق:
” كزابيما”
قرأت لولابيا الاسم بصوت عال وفكّرت أنّه لا وجود لبيت يحمل هذا الاسم الجميل. كان هناك سياج يحيط بالمنزل، سارت بجانبه لتجد منفذا. وصلت إلى مكان كان فيه السياج مرفوعا، مرّت منه حابية على أربع، لم تكن تشعر بالخوف. وصلت إلى مكان صامت. مشت لولابيا في الحديقة إلى حدّ السلّم وتوقّفت أمام باب البيت. بعد لحظة من التردّد دفعت الباب . كان داخل البيت مظلما. انتظرت قليلا حتّى تتعوّد عيناها. رأت غرفة وحيدة بجدران مهدّمة، مفروشة بالفضلات من الخرق القديمة و الجرائد. كان داخل البيت باردا. أكيد أنّ النّوافذ لم تفتح من سنين، حاولت فتح مصاريعها لكنّها ظلّت ثابتة. عندما تعوّدت عينا لولابيا على العتمة اكتشفت أنّها لم تكن الوحيدة التي دخلت إلى البيت.
كانت الجدران مغلّفة بكتابات ورسوم فاحشة. شعرت بغضب كأنما كان البيت ملكا لها حقّا. حاولت محوها بخرقة ، خرجت بعد ذلك إلى الشرفة وجذبت الباب بقوّة فتكسّر مقبض الباب وكادت تسقط. كان البيت جميلا من الخارج، جلست في الشرفة مسندة ظهرها إلى أحد الأعمدة وأخذت تنظر إلى البحر أمامها. كان ذلك رائعا، صوت البحر والرّيح التي تنفخ بين الأعمدة البيضاء. كانت السّماء والبحر يبدوان بلا نهاية من بين البراميل المستقيمة. لم نعد فوق الأرض ولم تعد لنا جذور.كانت الفتاة الصّغيرة تتنفّس بهدوء وهي متكئة على العمود البارد تشعّ كلّما دخل الهواء رئتيها كأنّها كانت تصعد إلى السّماء الصافية فوق اسطوانة البحر. كان الأفق خيطا رقيقا ينحني كقوس وكانت الأضواء ترسل أشعتها المستقيمة، كأنّما في عالم أخر على حافة الهرم.
سمعت لولابيا صوتا آتيا مع الريّح، قريبا من أذنيها. لم يكن ذاك صوت السيّد فيليبي بل هو صوت ضارب في القدم اخترق السّماء والبحر. كان الصوت الرّقيق والخشن يدوّي حولها في الأضواء الدّافئة وهو يردّد الاسم القديم الذي أطلقة عليها أبوها ذات يوم قبل أن تنام: “أريال…أريال….”
صوتها كان هادئا في البداية ثّم اخذ يقوى شيئا فشيئا وهي تغنّي اللّحن الذي لم تنسه من سنين كثير ة:
“حيث تمتصّ النّحلة امتصّ.
استلقي في نواقيس الأسى
حينها أراه بحميميّة يعبق
فوق ظهر الخفاش سوف أطير
بعد الصّيف بسعادة في الزّحمة
بسعادة، بسعادة سوف أغادر الآن
تحت البراعم التي تتدّلى من الأغصان”
كان صوتها العذب يذهب في الهواء الطّلق الذي يحملها فوق البحر. كانت ترى كلّ شيء وراء السّواحل الضّبابية والمدن والجبال وطريق البحر العريضة أين تتقدّم صفوف الأمواج. كانت ترى كلّ شيء إلى حدود الصفّة الأخرى. ما يزال حزام الأرض البنيّ والغامض بعيدا كالسّراب، القمّة الثلجيّة لجبل ” كوهابي ألبورز” . بقيت لولابيا مدّة طويلة متكئة على العمود وهي تنظر إلى البحر وتغنّي لنفسها أغنية أريال وأغنيات أخرى كان أبوها قد وضعها. ظلّت هناك إلى أن صارت الشّمس قريبة جدّا من خيط الأفق وصار البحر بنفسجيّا. غادرت البيت اليوناني وقفلت راجعة إلى طريق المهرّبين باتجاه المدينة. عندما وصلت شاهدت طفلا عائدا من الصّيد. التفت الطفل لينتظرها.
” مساء الخير ” قالت لولابيا.
“سلام ” قال الطفل.
كان وجهه جديّا وعيناه الزرقاوان مخفيتين بنظارتين، كان يحمل بوصة طويلة وكيس صيد وقد ربط حذاءه حول عنقه ليمشي، سارا معا يتجاذبان بعض الحديث وحين وصلا إلى آخر الطّريق، كان النّهار قد أوشك أن ينتهي، جلسا على الصّخور ليشاهدا البحر.
ارتدى الطفل حذاءه وأخذ يروي للولابيا حكاية نظّارتيه ، قال إنّه منذ سنين أراد أن ينظر إلى كسوف الشّمس ومن يومها والشّمس مرسومة في عينيه.
كانت الشّمس في طريقها إلى الغروب، شاهدا النّاظور يضاء ، والانعكاسات وأضواء الطّائرات. أصبح الماء أسود، وقف الطفل صاحب النّظارتين أوّلا، جمع بوصته وكيسه ولوّح بيديه إلى لولابيا قبل أن ينصرف. عندما ابتعد قليلا صاحت به لولابيا:
” أرسم لي صورة غدا “. فوافق الطفل بحركة من رأسه.
(2)
مرّت أيّام عديدة ولولابيا تسير بجانب المنزل اليوناني. إنّها تحبّ هذا الوقت، بعد أن تكون قد قفزت فوق كلّ تلك الصّخور لاهثة بسبب ركضها وتسلّقها منتشية، هنا وهناك. كانت ترى ذلك الطّيف وهو يظهر قبالة الهضبة، أبيض وغريبا يشبه سفينة راسية. كان الجوّ في تلك الأيّام جميلا جدّا، كانت السّماء والبحر زرقاوين وكان الأفق صاف جدّا بحيث يمكّن من رؤية قمم الأمواج. عندما تصل لولابيا أمام البيت، تتوقّف ويزداد خفقان قلبها سرعة وقوّة وتشعر بحرارة غريبة في شرايين جسدها. كانت تحسّ بأنّ في ذاك المكان سرّا بلا شكّ.
كانت الرّيح تنزل دفعة واحدة وكانت هي تشعر بكلّ أشعّة الشّمس تلفّها بهدوء وتكهرب بشرتها وشعرها. كانت تتنفّس بعمق أكبر كمن يعتزم الغوص تحت الماء.
كانت تقوم بدورة حول السّياج إلى حدود الفتحة وتقترب من البيت بهدوء وهي تنظر إلى الأعمدة الستّة البيضاء المستقيمة ، ثمّ أخذت تقرأ بصوت عال تلك الكلمة السّحريّة المكتوبة في جبس الرّواق الدّاخلي، ربّما يكون بسببها قد وجد كلّ هذا السّلام وهذا الضّوء :
” كاريزما ”
كانت الكلمة تشعّ داخل جسمها، كأنّها كتبت فيها أيضا وقد كانت في انتظارها. كانت لولابيا تجلس على أرض الشرفة، ظهرها مسند إلى آخر عمود من أعمدة الجهة اليمنى و تنظر إلى البحر.
كانت الشّمس تلهب وجهها، وكانت أشعّة الضّوء تخرج منها، من أصابعها ومن عينيها وفمها وشعرها وتلتقي بلمعان الصّخور والبحر.
كان ثمّة الصّمت، صمت كبير و قويّ بشكل جعل لولابيا تشعر بأنّها ستموت بسرعة. كانت الحياة تنجذب عنها وتذهب في السّماء والبحر، كان أمرا يصعب فهمه، لكنّها كانت واثقة بأنّ الموت يكون بتلك الطّريقة، ظلّت في جلستها، جسدها في مكانه، ظهرها مسند إلى العمود الأبيض المغلّف بالحرارة والضّوء. لكنّ الحركات كانت تغيب أو هي تنحل أمامها. لم تكن تستطيع منعها. كانت تشعر بكلّ ما كان يغادرها يبتعد عنها بسرعة كبيرة كطيران الزّرازير أو كزوبعة غبار. كانت حركات يديها ورجليها كلّها والاختلاجات الدّاخلية والرّعشات و الارتجافات، كلّ ذلك كان يذهب عنها بسرعة إلى الأمام ، مدفوعا في الفضاء باتجاه الضّوء والبحر. لكنّه كان شيئا لذيذا لم تستطيع لولابيا الصّمود أمامه. لم تغمض عينيها، الحدقتان تزدادان اتّساعا، كانت تنظر مباشرة أمامها، دون أن ترمش، نحو نفس النقطة دائما، على خطّ الأفق الرّقيق، هناك حيث الانثناءة بين السّماء والبحر.
كان تنفسّها يزداد بطأ ودقّات قلبها تتباعد شيئا فشيئا، لقد انعدمت الحركة تقريبا، كأن لم تعد فيها الحياة. نظرتها فحسب كانت تتّسع وتمتزج بالفضاء كحزمة ضوء. شعرت لولابيا أنّ جسدها ينفتح بهدوء مثل باب وهي تنتظر أن تلتحق بالبحر. كانت تعرف أنّ هذا سيحدث بعد حين لذلك لم تعد تفكّر في شيء، إنّها لا تريد شيئا آخر، سيبقى جسمها وراءها بعيدا، سيصير كالأعمدة البيضاء والجدران المغلّفة بالجبس، ثابتا، صامتا، كان ذلك هو سرّ البيت. الوصول إلى أعلى البحر، تماما في قمّة الجدار الأزرق الكبير، حيث يمكن أخيرا أن نرى ما يوجد في الجهة الأخرى. كان نظر لولابيا ممدّدا يحلّق فوق الهواء وفوق الضوء وفوق الماء.
لم يكن جسدها باردا كما الموتى في غرفهم، كانت الأضواء تواصل الدّخول إلى عمق أعضائها بل إلى غاية دواخل العظام،كانت تعيش بنفس حرارة الهواء كالسّحالي.
كانت لولابيا مثل غيمة، مثل غاز تختلط بما يحيط بها. كانت كرائحة الصنوبر المدفّئ بالشّمس فوق الجبال، أو كرائحة العشب الذّكية بالعسل. كانت ضباب الأمواج أين يلمع قوس قزح السّريع، كانت الرّيح، ذاك النّفس البارد الآتي من البحر، ذاك النفس الدّافئ كاللّفح الآتي من الأرض المختمرة عند أسفل الأدغال. كانت الملحَ، الذي يلمع كالجليد فوق الصّخور القديمة، أو ملح البحر، ملح الوهاد البحريّة الثّقيل و الحامض. لم تعد هناك لولابيا واحدة تجلس في شرفة بيت يوناني مهدّم، كانت متعدّدة كومضات الضّوء فوق الأمواج.
كانت لولابيا تنظر بملء عينيها، من طرف إلى آخر، فترى أشياء لم تكن تتصوّرها قديما. أشياء صغيرة جدّا، مخابئ حشرات، وديدان وأوراق نباتات لزجة وجذور.كانت ترى أشياء كبيرة، ظهور السّحب، والكواكب وراء شاشة السّماء والقباب القطبية والأودية العظيمة والقمم في أعماق البحر البعيدة اللاّمتناهية. كانت ترى كلّ هذا في نفس الوقت وكانت كلّ نظرة تدوم أشهرا بل سنينا، لكنّها كانت ترى دون أن تفهم لأنّ ذلك لم يكن غير حركات جسمها وقد انفصل عنها يقطع الفضاء أمامها.
كانت وكأنّها تستطيع في النهاية، بعد الموت، أن تفحص القوانين التّي تكوّن العالم. نواميس غريبة لا تشبه تلك التّي تقرأ في الكتب وتحفظ عن ظهر قلب في المدرسة. كان هناك قانون الأفق الذّي يجذب الجسم، قانون طويل ورقيق جدّا، خطّ صلبٌ يجمع كرتي السّماء والبحر المتحرّكتين. كلّ شيء، هناك، يولد ويتوالد مكوّنا تشكيلة من الأرقام والعلامات تعتّم الشمس وتبتعد نحو المجهول. كان هناك قانون البحر دون بداية أو نهاية، حيث تنكسر أشعة الأضواء. و كان هناك قانون السّماء وقانون الرّياح وقانون الشّمس، لكنّها لا تستطيع فهمها لأنّ علاماتها لم تكن تنتمي إلى عالم الإنسان.
عندما كانت لولابيا تستفيق، بعد ذلك، كانت تحاول أن تتذكّر ما شاهدت، كانت تودّ لو يكون بإمكانها أن تكتب كلّ ذلك إلى السيّد فيليبي، فقد يفهم هو معنى كلّ هذه الأرقام وكلّ هذه العلامات لكنّها لم تجد غير أجزاء جمل ردّدتها مرّات عديدة بصوت عال:
“هناك أين نشرب البحر”
” نقط ارتكاز الأفق”
” عجلات( أو طرق ) البحر ”
وكانت تهزّ كتفيها لأنّ ذلك لا يعني شيئا كبيرا.
غادرت لولابيا إثر ذلك مكانها. غادرت حديقة المنزل اليوناني ونزلت إلى البحر، كانت الرّيح تعود دفعة واحدة، تحرّك شعرها وأثوابها بعنف كأنّما لترتّب كلّ شيء من جديد.
كانت لولابيا تحبّ هذه الرّيح كثيرا. و كانت ترغب في أن تعطيها أشياء لأنّ الرّيح تحتاج إلى الأكل أحيانا، الأوراق والغبار وقبّعات الرّجال وقطرات الماء تقتلعها من البحر والسّحب.
جلست لولابيا في تجويف صخرة قريبة جدّا من الماء بحيث كانت الأمواج تأتي تلحس قدميها. كانت الشّمس تلتهب فوق البحر وتبهرها عند انعكاسها على جوانب الأمواج.
لم يكن هناك أحد غير الشّمس والرّيح والبحر. أخذت لولابيا كنش الرّسائل من حقيبتها وجذبت الأوراق واحدة واحدة مزيحة المطّاط وقرأت بعض الكلمات و التّعابير بلا تبصّر، لم تكن تفهم فتعيد قراءتها بصوت مرتفع لكي تصبح حقيقيّة أكثر:
” القماش الأحمر العائم كأعلام…”
” النّرجسات الصّفراء فوق مكتبي، قرب نافذتي، هل تراها يا أريال؟
“أسمع صوتك، إنّك تتكلّم في الهواء……”
” هذا لك لكي تتذكّر دائما”
ألقت الأوراق في الرّيح فطارت بسرعة محدثةً صوت تمزّقٍ محلّقة للحظات فوق البحر مرفرفة كفراشات في عاصفة. كانت أوراقا يميل لونها إلى الزّرقة، ثمّ تغيب فجأة في البحر. كانت عملية إلقاء الأوراق للرّيح وبعثرة هذه الكلمات رائعة وكانت الفتاة الصّغيرة تنظر إلى الرّيح وهي تأكلها بفرح.
كانت تودّ إشعال نار. أخذت تبحث عن مكان بين الصّخور لا تنفخ فيه الرّيح بقوّة. غير بعيد عن مكانها وجدت الخليج الصّغير ذا الرّصيف المهدّم، هناك قبعت. كان مكانا مناسبا لإشعال النّار، الصّخور البيضاء تحيط بالخليج وهبّات الرّيح لا تصل إلى هناك. كان في قاعدة الصّخرة خضرة صلبة، ودافئة وفي الحين ارتفع اللّهيب خفيفا، باهتا بوشوشة رقيقة. كانت تدفع بالأوراق دون توقف فتشتعل دفعة واحدة لأنّها كانت جافة ورقيقة فتتأجّج النّار بسرعة. كان مشهد الأوراق الزرقاء وهي تتآكل في اللّهب جميلا وكانت الكلمات تهرب كأنّها تتقهقر لا ندري إلى أين، فكّرت لولابيا أنّ والدها كان سيسعد لرؤية رسائله وهي تحترق لأنّه لا يكتب كلماته كي تبقى. لقد قال لها هذا ذات يوم على الشاطئ . لقد وضع رسالة في قارورة قديمة زرقاء ورمى بها بعيدا في البحر. كانت كلماته لها هي وحدها، لتقرأها وتسمع صوتها. الآن صار بإمكان الكلمات أن تعود إلى المكان الذي جاءت منه هكذا بسرعة في الضوء والدّخان والهواء لتصير غير مرئيّة. ربّما يرى أحدهم في الجهة الأخرى من البحر الدّخان الصّغير واللّهيب اللامع كمرآة وسيفهم.
لولابيا تذكّي النّار بقطع الخشب والأغصان الصّغيرة والطّحالب الجافة لتديم اللّهيب. كانت هناك كلّ أنواع الرّوائح التي تهرب في الهواء ، رائحة أوراق الرّسائل الحقيقيّة والمائلة إلى رائحة الفحم القديمة ودخان الطّحالب الثّقيل. لولابيا تنظر إلى الكلمات التي تغيب بسرعة كبيرة إلى حدّ أنّها كانت تخترق أفكارها كبريق و من حين إلى آخر كانت تتعرّف عليها في السّياق أو مشوّشة وغريبة، معوجّة بتأثّير النّار وكانت تضحك قليلا:
” مطرورا”
” سف…ن ”
” إيتيتيتي ”
” أويال ، إيّال، أأمي ”
فجأة شعرت بوجود شخص وراءها فالتفتت. كان ذلك الطّفل الصّغير صاحب النّظارتين ينظر إليها واقفا على صخرة، كان يمسك دائما بوصته وحذاءه مربوط حول عنقه فسألها:
” لماذا تشعلين أوراقا؟ ”
ابتسمت لولابيا وقالت:
” لأنّ هذا مسلّ” ” آنظر ”
أمسكت صفحة زرقاء كبيرة، رسمت فيها شجرة ، قال الطفل:
” إنّها ستشتعل جيّدا”
ففسّرت له لولابيا قائلة:
” لاحظ، لقد كانت راغبة في الاحتراق .”
” إنّها تنتظر هذا من زمن بعيد ولهذا تشتعل بهذه الرّوعة.
وضع الطّفل ذو النّظارتين بوصة الصّيد وذهب للبحث عن أعشاب للنّار. تسليّا لمدّة طويلة بإشعال كلّ ما يستطيعان. كانت عيونهما تؤلمانهما لقد تعبا كثيرا. كانا يلهثان بسبب الاعتناء بالنّار التي صارت هي بدورها متعبَةً. صار لهيبها أقلّ ارتفاعا وانطفأت الأوراق و الأعشاب الواحدة بعد أخرى.
قال الطّفل الصّغير وهو يمسح نظّارتيه:
” ستنطفئ النّار”
” لم يعد هناك رسائل، هذا ما كانت تحبّ.”
أخرج الطفل الصّغير ورقة مطوية، فسألته لولابيا:
” ما هذا؟ ”
أخذت الورقة وفتحتها كانت بها صورة امرأة ذات وجه أسود تعرّفت لولابيا على صدريتها الخضراء:
” إنّها صورتي”
فأجاب الطّفل الصّغير:
” لقد رسمتها لك، لكن يمكن إحراقها ”
أعادت لولابيا طيّ الورقة ونظرت إلى النّار وهي تنطفئ فسألها الطّفل:
” ألا تريدين إحراقها الآن؟ ”
فقالت لولابيا :
” لا ليس اليوم”
بعد النّار خمد الدّخان، كانت الرّيح تنفخ في الرّماد. قالت لولابيا:
” سأحرقها حين أحبّها كثيرا ”
بقيا طويلا جالسين على الرّصيف ينظران إلى البحر، دون كلام تقريبا. كانت الرّيح تمرّ فوق البحر رافعة القطرات الطّائشة التي كانت تحرق وجهيهما كانا كمن يجلس في جؤجيء سفينة في اليمّ، لا يسمعُ شيئا غير صوت الأمواج وصفير الرّيح المتواصل.
عندما بلغت الشّمس وسط السّماء نهض الطفل الصّغير ذو النظّارتين والتقط بوصته و حذاءه قائلا:
” أنا ذاهب”
” ألا تريد البقاء؟”
” لا تستطع ، يجب أن أعود ”
نهضت لولابيا بدورها فسألها الطّفل :
“ستبقين هنا؟”
” لا سأذهب لأرى هناك، في البعيد ”
أشارت إلى الصّخور في طرف الرأس.
فقال الطفل موضّحا:
“هناك بيت آخر في تلك الجهة لكنّه أكبر بكثير، إنّه يشبه المسرح، يجب أن تتّسع الصّخور وبعد ذلك يمكن الدّخول من الأسفل. ”
” هل ذهبت إلى هناك ؟ ”
” نعم … مرّات، إنّه بيت جميل لكن من الصّعب الوصول إليه. ”
وضع الطفل الصّغير ذو النظّارتين فردتي حذائه حول عنقه وابتعد مسرعا:
” إلى اللّقاء … ”
” مع السّلامة ”
سارت لولابيا باتّجاه قمّة الرّأس، كانت تجري قافزة من صخرة إلى أخرى، لم يعد هناك طريق. كان عليها تسلّق الصّخور متعلّقة بالجذور والأعشاب صارت بعيدة ضائعة وسط الصّخور البيضاء معلّقة بين السّماء والبحر. ورغم برودة الرّيح كانت لولابيا تشعر بحرارة الشمس، كانت تزفر تحت أثوابها، تعوقها حقيبتها فقرّرت إخفائها في بعض الأماكن لتأخذها فيما بعد. طمرتها في حفرة تحت نبتة ندّ وأغلقت المخبأ. بحجارتين أو ثلاث.
فوقهما تماما، كان بيت الاسمنت الغريب ذاك الذي حدّثها عنه الطّفل الصّغير. كان لا بدّ من الصّعود على طول مرتفع لكي تصل إليه. كانت الأنقاض البيضاء تلمع في ضوء الشّمس. تردّدت لحظة، لأنّ كلّ شيء في ذلك المكان كان غريبا وصامتا فوق البحر. كانت جدران الاسمنت الخالية من النّوافذ معلّقة بالحواجز الصّخريّة. كان ثمّة طائر يجري فوق الأنقاض يرسم دوائر وفجأة اشتهت لولابيا أن تكون في الأعلى. شرعت تتسلّق على طول المرتفع، شفرات الحجارة تخدش يديها وركبتيها، كان الحصى ينزلق خلفها . عندما وصلت إلى الأعلى التفتت لترى البحر، عند أقصى حدود النظر عند السفح لم يكن ثمّة غير هذا، أغلقت عينيها حتّى لا تشعر بالدّوار. البحر عظيم أزرق يغمر الفضاء إلى حدود الأفق المتضخّم، كان البحر كسقف بلا نهاية، قبّة عملاقة من معدن غريب مظلم، أين تتحرّك تجاعيد الأمواج. الشّمس تشرق فوقها، كانت لولابيا ترى طرق التيّار الغامضة ، غابات الطّحالب، آثار الزّبد، الرّيح تكنس البحر دون توقّف وتصقل مساحته.
فتحت لولابيا عينيها وشاهدت كلّ هذا وهي تتعلّق بالصّخور بأظافرها. كان البحر جميلا جدّا إلى درجة شعرت وكأنه يخترق رأسها وجسدها بسرعة ويزيل آلاف الأفكار دفعة واحدة.
اقتربت من الأنقاض ببطء وحذر، كان البيت كما صوّره الطّفل الصّغير ذو النظّارتين، شبيها بمسرح بجدران كبيرة من الاسمنت المسلّح وبين الجدران العالية كانت تصعد نباتات العوسج والعلّيق وتغطي الأرض، وعلى الجدران سقف من تربيعات خرسانة مهدّم في أماكن عديدة . كانت ريح البحر تدخل من جوانب البناء بهبوب عنيف يحرّك قطع الحديد في هيكل السّقف.
كانت الشّفرات تتضارب مصدرة موسيقى غريبة. ظلّت لولابيا ثابتة في مكانها لتنصت إليها. كانت مثل صياح خطاف البحر ومثل غمغمة الأمواج، موسيقى غريبة خياليّة وخالية من الإيقاع تجعلك ترتعش. شرعت في المشي، كانت ثمّة على طول الجدار الخارجي طريق ضيّقة تخترق أعشاب العوسج و تصل إلى السلّم أين يمكن رؤية البحر من خلال ثغرة هناك. جلست لولابيا قبالة الأفق تماما في الشّمس وهي تنظر إلى البحر ثمّ أغلقت عينيها.
ارتعشت فجأة. لقد أحسّت بقدوم أحدهم، لم يكن هناك غير الرّيح تحرّك شفرات السّقف الحديديّة ورغم ذلك كانت تشعر بالخطر. كان هناك شخص في الجانب الآخر من الأنقاض على الطّريق وسط العوسج، إنّه آت. بالفعل كان رجلا يرتدي سروالا من نسيج القّنب وسترة، وجهه يميل إلى السمرة بفعل الشّمس وكان شعره أجعد. كان يمشي دون أن يحدث ضجّة ويتوقّف من حين إلى آخر كأنّه يبحث عن شيء ما. ظلّت لولابيا ثابتة بجانب الجدران قلبها يخفق وهي تكتم تنفّسها حتّى لا يسمعها. لكن حين صار الرّجل في منتصف الطريق رفع رأسه بهدوء وشاهد الفتاة الصّغيرة. كانت عيناه الخضراوان تلمعان بغرابة في وجهه الغامض. إثر ذلك ودون أن يسرع شرع من جديد في المشي باتجاه السلّم. لم يعد ثمّة إمكانيّة للنزول. بوثبة خرجت لولابيا من الفتحة وتسلّقت إلى السّقف. كانت الرّيح تعصف بقوّة، كادت تسقط، أخذت تجري بأقصى ما تستطيع من سرعة باتّجاه الطرف الآخر من السّقف.
سمعت ضجّة قدميه تتردّد في الغرفة الكبيرة المتهدّمة. كان قلبها يدقّ بقوّة في صدرها. عندما وصلت إلى طرف السّقف. كان أمامها جبّ عميق يفصلها عن قمّة الهضبة. استمعت إلى ما حولها . لم يكن هناك غير صوت الرّيح في شفرات السقف الحديديّة، لكنّها كانت تعرف أنّ الرجل المجهول ليس بعيدا، إنّه يجري في الطّريق وسط العوسج ليقوم بدورة حول الأنقاض ويأخذها على حين غرّة من الخلف. قفزت لولابيا على منحدر الهضبة فجرحت كعبها الأيمن فصاحت بألم:
” آه ”
ظهر الرجل أمامها دون أن تفهم من أين خرج. كانت يداه مخدوشتين بالعوسج وهو ينفخ قليلا. ظلّ ثابتا أمامها وقد تيبّست عيناه الخضراوان كقطعتين صغيرتين من البلّور. هل يكون هو الذّي كتب فوق الصّخور بالطّباشير على طول الطّريق؟ وقد يكون دخل البيت اليوناني الجميل ووسّخ الجدران بكلّ تلك الكتابات الفاحشة. كان قريبا جدّا من لولابيا فقد كانت تشمّ رائحته، الرائحة الباهتة و الفجّة للعرق الذّي تشرّبت به ملابسه وشعره. فجأة تقدّم خطوة إلى الأمام بفمه المفتوح وعينيه الضيّقتين، قفزت لولابيا رغم ألم كعبها وبدأت تنزل الهضبة وسط الحجارة المتساقطة. توقفت والتفتت. لقد بقي الرّجل واقفا أمام الجدران والأنقاض البيضاء ويداه منفرجتان كما للحفاظ على التوازن.
كانت الشّمس تضرب البحر بقوّة، وبفضل الرّيح شعرت لولابيا بقوّاها تعود وشعرت أيضا بمقت وغضب يعوّضان الخوف شيئا فشيئا وفجأة إثر ذلك فهمت أن لا شيء يهدّدها أبدا، كانت هناك الرّيح والبحر والشّمس. تذكّرت ما كان يقول والدها بشأن الرّيح والبحر والشّمس، إنّها جملة طويلة تتحدّث عن الحريّة والفضاء، شيء كهذا، جلست على صّخرة لها شكل مرنحة سفينة فوق البحر وألقت برأسها إلى الوراء لتشعر أكثر بالحرارة والأضواء على جبينها وجفونها. إنّه أبوها من علّمها أن تفعل هذا لتستردّ قواها. كان يسمّي هذه الحركة “شرب الشّمس” .
شاهدت لولابيا البحر وهو يتأرجح تحتها ويضرب قاعدة الصّخور محدثا دوائره وسحاباته و
الفقاعات الهاربة.
تركت لولابيا نفسها تسقط مقدّمة رأسها ودخلت في الموجة. غمرها الماء البارد وضغط على طبلتي أذنيها ومنخريها ورأت في عينيها بريقا مبهما. عندما صعدت إلى السطح هزهزت شعرها وأصدرت صيحة.
خلفها كان هناك شيء شبيها بسفينة بضائع رماديّة وعظيمة، الأرض تتذبذب معبّأة بالحجارة والنباتات. في القمّة كان البيت الأبيض المتهدّم يشبه جسرا مفتوحا على السّماء.
تركت حركات الموج البطيئة تحملها. التصقت أثوابها بجسدها مثل الطّحالب ثمّ أخذت تسبح على بطنها طويلا في اتّجاه الأعماق إلى أن ابتعد الرأس وسمح برؤية شريط عمارات المدينة الباهت بعيدا. بالكاد يظهر.
جلست إذن على صخرة على حافة الطريق وحاولت تذكّر البيت، إنّه صغير جدّا، جاثم قبالة الهضبة، مصاريعه مغلقة وكذلك بابه ، ربّما لن يدخله أحد. فوق الأعمدة على تيجانها المثلثة كان الرّسم مضاء بالشّمس. إنّه يقول دائما:
“كزابيما”
إنّه الاسم الأكثر جمالا في العالم.
تنظر لولابيا إلى البحر طويلا مستندة إلى الصّخرة، كأنّه لم يكن بإمكانها رؤيته من جديد. الأمواج المضغوطة تتحرّك إلى حدود الأفق، الأضواء تنعكس على قممها كالبلّور المسحوق. كانت الرّيح المالحة تنفخ، البحر يزأر بين رؤوس الصّخور. أغصان النباتات تصفّر. تركت لولابيا نفسها تأخذ بسكرات البحر والسّماء الفارغة الغريبة مرّة ثانية. ثمّ بعد ذلك عند منتصف النّهار تقريبا أدارت ظهرها للبحر ورجعت إلى الطّريق التي تقود إلى وسط المدينة.
لم تكن الرّيح في الأنهج هي نفسها، كانت تدور حول نفسها وتمرّ بهبوب تلطم دفّات الشبابيك وترفع سحاب الغبار. النّاس لا يجبّون الرّيح. كانوا يخترقون الأنهج بسرعة ويحتمون في أركان الجدران. لم يكن هناك غير الرّيح والجفاف. النّاس يتقافزون بأعصاب متوتّرة ويتساءلون ويتصادمون. أحيانا تتلامس سيّارتان على الرّصيف الأسود فتحدثان زئيرا وتسمع أصوات منبّهاتهما.
تسير لولابيا في الأنهج بخطى طويلة وعينين نصف مغلقتين بسبب الغبار. حين وصلت إلى وسط المدينة شعرت بدوّار في رأسها. كانت الجموع في جيئة وذهاب، تدور كأوراق ميّتة مجموعات من النّساء والرّجال يتزاحمون ثمّ يتفرّقون ليعودوا إلى التجمّع من جديد بعيدا كنفايات معدن في حقل مغناطيسي.
ما هي وجهتهم يا ترى؟
مضى وقت طويل لم تر فيه لولابيا كلّ هذه الوجوه، كلّ هذه العيون والأيادي التي لم تستطع فهمها . كانت حركات الجموع على امتداد الأرصفة تأخذها وتدفعها إلى الأمام دون أن تعلم إلى أين تذهب. النّاس يمرّون حذوها فتشعر بأنفاسهم وبلمسات أيديهم. انحنى رجل نحو وجهها وغمغم كلمات غير أنّه كان يتكلّم بلغة غير مفهومة أو هكذا يبدو.
دون أن تشعر دخلت لولابيا مغازة ملأى بالأضواء والضّجيج. كأنّ الرّيح كانت تنفخ في الدّاخل أيضا. على طول الأروقة وفي الدرجات كانت محركات اليافطات ومقابض الأبواب ترسل شحنات كهربائيّة وكانت جعبات الغاز تلمع كومضات باهتة. بحثت لولابيا عن مخرج المغازة مهرولة، عندما وصلت أمام الباب اصطدمت بشخص فهمست:
” عفوًا سيّدي”
لم يكن غير تمثال ملابس من البلاستيك يرتدي برنيطة من قماش اللّودن الأخضر كانت يدا التمثال المنفرجتان ترتعشان قليلا، أمّا وجهه العسليّ الحاد فكان يشبه وجه المديرة . انزلق شعر التمثال المستعار بسبب الاصطدام ونزل على عينها ذات الرّموش الشبيهة بأرجل الحشرات فأخذت لولابيا تضحك وترتجف في نفس الوقت.
كانت تشعر بأنّها متعبة وخاوية، ربّما لأنّها لم تأكل منذ الأمس. دخلت مقهى وجلست في عمق القاعة حيث قليل من الظّلال. كان النادل واقفا أمامها فقالت له:
” أريد عجّة بيض ”
نظر إليها النّادل لحظة كأنّه لم يفهم ما قالت ثمّ صاح باتّجاه المصرف:
” عجّة بيض للآنسة” وواصل ينظر إليها.
أخذت لولابيا ورقة من جيب سترتها وحاولت أن تكتب. كانت تريد كتابة رسالة مستفيضة لا تعرف لمن سترسلها. كانت تريد الكتابة لأبيها وأختها لورانس والسيّد فيليبي والطفل الصّغير ذي النظّارتين لتشكره على رسمه لكنّها لم تفلح. دعكت الورقة وأخذت واحدة أخرى وبدأت تكتب:
” السيّدة المديرة”
أرجو أن تعذري لابنتي فهي لا تستطيع العودة إلى حصص الدّراسة الآن لأنّ حالتها الصحيّة تتطلّب…. ”
توقّفت مرّة ثانية… تتطلّب ماذا؟ … لم تستطع التفكير في شيء. فجاءها صوت نادل المقهى:
” عجّة للآنسة ”
وضع الصّحن على الطّاولة ونظر إلى لولابيا بطريقة غريبة.
دعكت لولابيا الورقة الثانية وشرعت تأكل عجّة البيض دون أن ترفع رأسها، لقد كان للأكلة السّاخنة تأثيرها الطيّب عليها. ستستطيع النّهوض بعد ذلك وتمشي.
عندما وصلت أمام باب المعهد، تردّدت لحظة ثمّ دخلت، فغمرها لغط الأطفال دفعة واحدة وتعّرفت في الحين أشجار أبي فروة و الدّلب التي كانت أعضاؤها النّحيلة تتحرّك تحت تأثير العاصفة فتدور أوراقها في السّاحة. تعرّفت كذلك كلّ قطعة آجر وكلّ مقعد من البلاستيك الأزرق وكلّ نافذة من البلّور الخشن. جلست على أحد مقاعد السّاحة لتتحاشى الأطفال الذين كانوا يجرون. انتظرت. غير أن أحدا لم يعرها اهتماما.
انتشرا الإشاعة بعد ذلك. كانت مجموعات التلاميذ تدخل الأقسام وكانت الأبواب تغلق الواحد تلو الآخر. لن يبقى بعد حين غير الأشجار مهزوزة بالرّياح والغبار والأوراق الميّتة التّي ترقص في دائرة وسط السّاحة. شعرت لولابيا بالبرد فنهضت وشرعت تبحث عن السيّد فيليبي. فتحت أبواب المبنى المركّب أين توجد المخابر وكانت في كلّ مرّة تفاجأ بجملة تبقى معلّقة في الهواء ثمّ تغيب حين تغلق الباب.
اخترقت السّاحة مجدّدا، طرقت باب الحاجب البلّوري وقالت:
” أريد مقابلة السيّد فيليبي ”
نظر أليها الرجل باستغراب وأجابها:
” لم يصل بعد ”
ثمّ فكّر لحظة وأضاف :
” لكن… أظنّ أن المديرة تبحث عنك… تعالي معي ”
تبعت لولابيا الحاجب برضى إلى أن توقّف أمام باب مبرنق وطرقه. دخل بعد ذلك مشيرا إلى الفتاة لتدخل.
كانت المديرة وراء مكتبها تنظر إليها نظرات ثاقبة:
” آدخلي، آدخلي، إنّي أنصت إليك ”
جلست لولابيا على الكرسيّ ونظرت إلى المكتب المشمّع، كان الصّمت مهدِّدا جدّا فرغبت في قول شيء ما.
” أريد أن أرى السيّد فيليبي، لقد كتب لي رسالة”
قاطعتها المديرة، كان صوتها باردا مثل نظرتها:
” أعرف لقد كتب إليك كما فعلت أنا أيضا. ليس هذا موضوعنا، بل إنّه يتعلّق بك. أين كنت؟ لابدّ أن لك أشياء هامّة ستحكيها لنا. إذن ها أنا أنصت إليك يا آنسة”
تجنّبت لولابيا نظراتها وشرعت تقول:
” أمّي ”
فأردفت المديرة قائلة و هي تكاد تصرخ:
” ستعلم أمّك بكلّ هذا فيما بعد، وأبوك أيضا بطبيعة الحال. ”
ثمّ عرضت أمامها ورقة تعرّفت عليها لولابيا في الحال. أضافت المديرة:
” وسنعلمها كذلك بهذه الرّسالة المزيّفة”
كرّرت المديرة قولها:
” إنّي أستمع إليك ”
لقد أخرجها عدم اكتراث لولابيا عن طوعها أو ربّما هي الرّيح كهربت كلّ شيء.
” أين كنت طوال هذه المدّة؟ ”
بدأت لولابيا تتكلّم ببطء وهي تكاد تبحث عن كلماتها لأنّها لم تتعوّد بعد أن تحكي. كانت ترى أمامها عوضا عن المديرة البيت ذا الأعمدة البيضاء والصّخور والاسم اليوناني الجميل يلمع في الشّمس. هذا كلّ ما حاولت أن تحكيه للمديرة، البحر الأزرق والانعكاسات التي تشبه الجواهر، صوت الأمواج العميق، الأفق ذالك الخيط الأسود، الرّيح المالحة. كانت المديرة تستمع وقد علت وجهها علامات الاندهاش الكبير. في حالتها تلك كانت تشبه تمثال الملابس تماما بشعرها الأسود المزيّف. لا بدّّ أنّ لولابيا كانت تجاهد نفسها حتّى لا تبتسم. عندما توقّفت عن الحديث عمّ الصّمت للحظات وتغيّر وجه المديرة مرّة أخرى كأنّها كانت تبحث عن صوتها.
استغربت لولابيا عند سماع رنين صوتها. لم يعد أبدا ذات الصّوت، لقد أصبح أكثر غلظة وأكثر رقّة. قالت لها:
” اسمعي يا ابنتي…. ”
ثمّ انحنت على مكتبها المشمّع وهي تنظر إلى لولابيا ممسكة بقلم أسود ملفوف بخيط ذهبيّ وقالت مضيفة:
” إنّي مستعدّة أن أنسى كلّ هذا. بإمكانك العودة إلى القسم كما في السّابق لكن يجب أن تقولي لي. ”
تردّدت لحظة وقالت:
” هل فهمت؟ إنّي أريد سلامتك يجب أن تقولي كلّ الحقيقة ”
لم تجب لولابيا، لم تفهم ما أرادت المديرة قوله:
” سيبقى كلّ شيء بيننا يمكنك التحدّث دون خوف”
ولم تجب لولابيا فبادرتها المديرة بصوت خفيض:
” لديك صديق، أليس كذلك ؟ ”
أرادت لولابيا أن تعارض لكن المديرة منعتها من الحديث قائلة:
” لا فائدة من الإنكار هناك من زملائك من رآك مع ولد. ”
فردّت لولابيا :
” هذا غير صحيح ”
لم تصرخ ولكنّ المديرة فعلت كما لو أنّها صرخت فعلا وقالت بقوّة:
” أريد أن أعرف اسمه”
” ليس لي صديق ”
فهمت لماذا تغيّر وجه المديرة فجأة . لأنّها كذبت. شعرت لولابيا بوجهها يتحوّل إلى صخرة باردة وناعمة ونظرت إلى المديرة مباشرة في عينيها لأنّها لم تعد تخشاها الآن. ارتعدت المديرة وكادت تدير نظرتها وقالت بصوت رقيق يميل إلى النّعومة:
” يجب أن تقولي لي الحقيقة يا ابنتي من أجل مصلحتك ”
شعرت لولابيا بالغضب يكبر داخلها، كان شديد البرودة وثقيلا كالحجارة وهو يلزم رئتيها وحنجرتها وبدأ قلبها يخفق بسرعة كما وقع لها حين شاهدت الجمل الفاحشة على جدران البيت اليوناني.
فصاحت :
” أنا لا أعرف أيّ ولد، هذا غير صحيح. ”
وهمّت بالنهوض لتذهب لكنّ المديرة قامت بحركة لتمنعها وهي تقول:
” ابقي … ابقي، لا تذهبي”
انخفض صوتها من جديد وبدا متقطّعا شيئا ما وأضافت قائلة:
” أنا لا أقول هذا لك… إنّه من أجل مصلحتك يا بنيّتي فقط، لإعانتك، يجب أن تفهمي ” أريد أن أقول…”
تركت القلم الأسود ذا الطّرف المذهّب وجمعت يديها النّحيلتين بتوتّر. كانت لولابيا تتنفّس بصعوبة وقد ابيضّ وجهها تماما كقناع من الحجارة. كانت تشعر أنّها ضعيفها ربّما لأنّها لم تأكل جيّدا خلال هذه الأيّام على شاطئ البحر.
قالت المديرة :
” إنّه من واجبي أن أحميك من مخاطر الحياة وأنت لا تستطيعين أن تعرفي، إنّك ما تزالين صغيرة جدّا. لقد حدّثني عنك السيّد فيليبي وأثنى عليك ولا يجب أن يفسد كلّ هذا بحادث تافه.”
كانت لولابيا تستمع إلى صوتها وكأنّه آت من بعيد، من فوق جدار متموّجا بحركة الرّيح. كانت ترغب في الكلام لكنّها كانت عاجزة عن تحريك شفتيها ” لقد مررْت بفترة صعبة منذ ما حدث لأمّك والمدّة التّي قضّتها في المستشفى. هل رأيت إنّي على علم بكلّ ما حدث وهذا سيساعدني على فهمك لكن يجب أن تساعديني أيضا، اجتهدي قليلا.”
أخيرا نطقت لولابيا:
” أريد مقابلة السيّد فيليبي.”
” سترينه فيما بعد، سترينه لكن عليك أن تقولي لي الحقيقة. أين كنت؟ .”
” كنت أنظر إلى البحر، كنت مختبئة أنظر إلى البحر”
” مع من؟ ”
” قلت لك كنت وحدي… وحدي…. ”
” هذا غير صحيح ”
صاحت المديرة لكنّها تراجعت في الحال وقالت:
” إذا لم تقولي لي، سأكون مضطّرة لمراسلة والديك. أبوك…. ”
عاد قلب لولابيا إلى الخفقان بسرعة وقالت:
” لو فعلت هذا لن أعود إلى هنا ثانية ”
شعرت بقوّة في صوتها فكرّرت كلامها ببطء ودون أن ترفع عينيها:
” إذا أخبرت والدي فلن أعود ثانية إلى هنا ولا إلى مدرسة أخرى ”
سكتت المديرة لمدّة طويلة فغمر الصّمت القاعة كريح باردة، نهضت المديرة وأخذت تنظر إلى الفتاة الصّغيرة بانتباه ثمّ قالت:
” لا يجب أن تكوني على هذه الحالة، إنّك متعبة وشاحبة اللّون سنتحدّث في هذا مرّة أخرى، ثمّ نظرت إلى ساعتها وقالت:
” ستبدأ حصّة السيّد فيليبي بعد دقائق بإمكانك أن تحضريها. ”
نهضت لولابيا ببطء ومشت باتّجاه الباب الكبير ثمّ توقّفت وقبل أن تخرج قالت:
” شكرا سيّدتي ”
صارت السّاحة تعجّ بالتلاميذ من جديد. كانت الرّيح تحرّك أغصان أشجار الدّلب وأبي فروة وكانت أصوات الأطفال تحدث جلبة مسكرة . اخترقت لولابيا السّاحة على مهل متجنّبة جموع التّلاميذ الذّين كانوا يجرون. كان بعض الفتيات يشرن إليها من بعيد دون أن يجرأن على الاقتراب وكانت لولابيا تجيبهن ببسمة خفيفة ولمّا وصلت إلى مبنى المخابر أبصرت خيال السيّد فيليبي بجانب العمود ” ب” كان ما يزال يرتدي كسوته الزرقاء الدّاكنة وهو يدخّن سيجارة ناظرا أمامه. توقّفت لولابيا. رآها الأستاذ فتقدّم لاستقبالها ملوّحا بيده في فرح ثمّ قال لها:
” آه جيّد … جيّد ”
كان هذا كلّ ما استطاع قوله.
بدأت لولابيا كلامها :
” كنت أريد أن أسألك ”
” ماذا ؟ ”
” بخصوص البحر والضّوء، كانت لديّ أسئلة عديدة ”
لقد اكتشفت فجأة أنّها نسيت أسئلتها . نظر إليها السيّد فيليبيّ بانبساط وسألها :
” هل كانت السفرة جيّدة؟ ”
” آه نعم، كانت جيّدة ”
رنّ الجرس فوق السّاحة والأروقة. أطفأ السيّد فيليبي سيجارته تحت قدميه قائلا:
” إنّي سعيد جدّا ”
ثمّ أضاف، وقد لمع في عينيه الزّرقاوين بريق انشراح:
” ستروين لي كلّ هذا فيما بعد ”
” لن تسافري، الآن ”
” لا ” أجابت.
” إذن يجب أن تذهبي.” وكرّر:
” إنّي سعيد جدّا ”
وقبل أن يدخل المخبر التفت إلى الفتاة الصّغيرة قائلا:
” اسأليني فيما بعد، إثر الحصّة عن كلّ ما تريدين فأنا كذلك أحبّ البحر كثيرا … “.



الفاتح غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

تعليقات الفيسبوك

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 05:12 AM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.