ألم قِشي
. عَلَّمَنَا هذا المكان قيمة العمل-
قالت لي بالتجرنة المرأة النحيفة المتوسطة الطول، وهي تعبث بقدر عليها ماء على موقد صغير، ثم أضافت باللغة العربية، لغة الحدود.
. راجلي ضعيف زيك-
رفعت عينيها إليّ وكأنها تريد أن تتأكد من موقعي في القطية
بالله، راجلك؟ عندك راجل؟-
كان تعليقي محرجاً، وأحسست بمرارة ذلك في حركة سريعة قامت بها، حركة غير مخطط لها، عندما أتى صوت جميل يغني في الخارج، قالت منادية
. يا ود أمونة، عليك الله تعال دقيقة-
دخل ود أمونة، أنيقاً ووسيماً كما هو، في جُلباب أزرق نظيف، حياني قائلاً
- كييف؟
تمام.-
ثم نظر إلى المرأة فأجابت
. عليك الله ظَبِّتْ الشِيشَة لصَاحِبَكْ دا-
سألني وفي فمه ابتسامة كبيرة
-عادي ولاّ تُفاح؟
عادي.-
- عليها شُوَيّةَ سيجارة خضرا؟
. لا، مُعسل بس-
أضاف ولمّا تفارقه الأبتسامة بعد
. عندنا حبشي وإريتري برضو، وأبو حمار-
. شنو الحبشي وشنو الإريتري وطبعاً أبو حمار معروف-
قال مندهشاً
. الجن والكونياك-
قلت ضاحكاً
. بعدين، بعدن... شكراً يا ود أمونة-
خرج يتبعه عطر فهرنهايت مُدهش، قالت بفخر
. ولد ممتاز.... اتربى هنا معانا في بيت الأم-
قلت لها مراوغا
. ولكنه قال لينا أنا اتربيت في سجن القضارف-
قالت مجيبة
- صاح، لمّان كان صغير، دخل السجن بيرضع، ودخله بيمشي، وطلع منه مراهق، الذنب ذنب أمه أمونة، ومن ما طلع من السجن دخل بيت الأم هنا، إلى اليوم.
وفي هدوء النسيم دخل ود أمونة، وضع الشيشة أمامي في أدب جم وخرج دون أن يقول شيئاً، أضافت ماءً نقياً للقدر الكبير، هدأ فورانه، أخذت تجمع حاجيات القهوة من مكان خارج القطية، لم اعتد لباس الملاءة، لونها أبيض، مما أظهرني كحاج تعب أرهقه التطواف، أعرف أن صديقي قد يفعل في ساعة ما سوف يقوم بفعله شخص مثلي في يوم كامل، أعرف عنه أن ما من غامض يقف أمامه، أنه مغرم بفض غموض كل شئ، امرأة، حجرة، كل شئ، لم أشغل نفسي كثيراً به، الزقني الذي أحبه، بالشطة الدليخ أكلته بـ(القِيِّحْ بَربَري) لذيذاً طاعماً كان عبق قلي البن الحبشي، أثار فيّ ذكريات كثيرة كثيرة وفيما بعد ارتبط عندي بصورة مدهشة بكل ما يخص علاقتي بـألم قِشي.
كنت تعباً ومرهقاً كحمار عجوز. السفر إلى (الحلة) بالمواصلات العامة وخاصة على ظهر (البربارا) يعتبره البعض نوعاً من الانتحار والمغامرة، و على أقل تقدير الطيش.
- الناس البعرفوا البلد دي، بيركبوا البص، البص أضمن وأسرع، البربارا موت أحمر عديل.
كانت تدلك ظهري بخليط من الحنظل،دهان أبي فاس، زيت الزيتون وعجين القمح، تتحدث بصورة مستمرة عن المكان والزمان وأديّ وود أمونة، البنك الذي سوف يفتح فرعاً في الحلة، شركة الاتصالات التي ستجعل الحلة قريبة جداً من العاصمة الخرطوم، بل يمكن الاتصال بأسمرا أو أديس أبابا حتى أمريكا ذاتها، كانت تقول عن ود أمونة إنه الرجل الوحيد والذراع الأيمن للنساء، هنا بالبيت، وفيما يشبه تقريراً قصيراً مقتضباً أفضت إليّ بأسرار المكان كلها، كانت ما فوق الثلاثين بقليل، تبدو عارفة بالحياة، خبيرة في كل شئ، تحيط بها هالة من القداسة، أو كما يبدو لي، مثلها مثل كل النساء جميلة وغامضة، و لديها ما تقدمه، وجهها يخبئ فرحة أو حزناً أو أنه يفصح عن الاثنين معاً في آن واحد. بحرفية وبراعة، سحبت رجلي اليسرى عكس دوران الساعة، ثم جذبتها إلى الأعلى في ذات اللحظة التي تناولت فيها يدي اليمنى جذبتها إليها بقوة، مما جعل جسدي يصدر صوتاً بائساً مثل كسر فرع لوسيانا يابس إثر ريح قاسية، ولو أن الأمر لم يتعد عدة ثوانٍ لصرخت. عندما تركتني، كنت أنعم براحة جسدية لا توصف وخدر لذيذ قالت لي فجأة:
؟ أنا ماشة البيت-
قلت
- البيت؟
قالت
- أيوة.
ثم أضافت
- بشتغل هنا مع أدىّ ولكن أنوم في بيتي، عندي أولاد وراجل هناك، ثم أضافت بحرفية
- عايز واحدة تنوم معاك ؟
في الحقيقة لم أكن متأكداً من هذه الرغبة، حيث إنني والحق يُقَال لست ميالاً للممارسات الجنسية، وربما لم أفعل هذا الشئ سوى مرات قليلة في حياتي وبصورة استطيع أن أسميها غير كاملة، بل أن ذكرياتي في ذلك الشأن مؤلمة، وستعيد لي ذكرى حكاية سيحكيها لي ود أمونة فيما بعد، عن علاقة له غريبة بسجينة تسمى عازة، أظن أنني كنت خجولاً عندما يتعلق الأمر بالمرأة ولكن فاجأت نفسي بالرد.
. عايز-
أجابت وكأنها تعد الإجابة مسبقاً
- ألم قِشي. ألم قِشي حتجي تنوم معاك الليلة، فاليوم هو يوم عملها، بت ظريفة وحلوة وحتعجبك.
ربما أرادت أن تقول شيئاً آخر عندما اقتحم صوت أديّ الأم هدوء المكان، كان صوتاً متميزاً حاداً، به رقة طاغية وربما سببها الطريقة التي تختتم بها الجُمل القصيرة، التي تلقي بها هنا هناك، استأذنت للدخول وتحدثت إليّ مباشرة
. صَاحِبَك دا أغرب زول في الدنيا-
لم أفاجأ لأنني أعرفه جيداً، هي لم تكتشف قارة جديدة، كما تشير الطريقة التي أعلمتني بها، قلت ببرود لم يعجبها كثيراً وربما أثار دهشتها لبعض الوقت
- أيوا، هو أغرب زول في الدنيا، عايزاني أمشي معاك ليهُ؟ ولا تجيبيهُ لي هنا؟ حيكون عمل مشكلة، أنا عارف.
قالت بطريقة استعراضية
. طردناهُ -
قلت منزعجاً، حيث إنني لم أتوقع أن يُطرد.
- ليييييه طردتوه؟ وين هو حَسّعْ؟
بينما كنت أجمع حاجياتي وأتحرر من الملاءة البيضاء، تأهباً للخروج، كانت الأم تحكي لي قصة لم أسمعها جيداً، لكنني فهمت منها أنه طُرد قبل ساعتين كاملتين وأنه لا يمكنني معرفة مكانه إلا إذا مضيت خلفها وبسرعة و الآن.
- ليه ما قلتي لي من بدري، بعد ساعتين؟
قالت وهي تأخذ نفساً طويلاً من الشيشة
- كنا نحاول نعالج الموضوع.
تناولت خرطوش الشيشة بطريقة تلقائية
قلت منزعجاً وقد تحررت من الملاءة تماماً
وين هو هَسَّعْ؟ -
قالت وهي تطلق هواء الشيشة بعيداً في شكل دوائر صغيرة تتلاشى تدريجياً في فراغ القُطِية.
. أرح، تعال وراي-
انتعلت حذائي و بالتالي أصبحت بكامل هندامي، لم أكن قلقاً ولو أنها ألمحت ليّ بأنهم قد يقتلونه ويتخلصون من جثته في نهر بَاسَلام، إلا أنني أعرف أن لا أحد على الأقل بالحلة يستطيع أن يقتله، فهو من أولئك القِلة الذين لا يخطر ببال أحد أنهم سيموتون قريباً، بل دائماً ما يعطونك إحساساً بأنهم سوف يسيرون في جنازتك، يحفرون قبرك ويشيلون الفاتحة على روحك، متنطقين بابتسامة حزينة طوال أيام الحداد. مررنا أولاً أمام راكوبة صغيرة مضاءة بمصباح كهربائي يرسل ضوءاً ضئيلاً حوله، ولكنه يظهر بوضوح ود أمونة، يجلس على بَنْبَرٍ كبير متسع وهو يدلك قدميه بحجر خشن يستخدم لتنعيم القدم، تقف خلفه امرأة في عمر أديّ تقريباً، أربعينية طويلة ذات بشرة بُنِية تبدو داكنة بتأثير الإضاءة، ولكن ملامح وجهها تدل على أن لونها يميل إلى الإصفرار، كانت تستخدم الحلوى في التقاط الشعر من على ظهره، يتحدثان بصوت خفيض، توقفا عن الكلام تماماً عندما مررنا بهما، أنا وأديّ، خاطبتهما أَدْيّ بمرح
الولد دا شايلنُهُ الدلالة؟ -
ردّ ود أمونة ضاحكاً
. النظافة من الإيمان يا أديّ-
(بيني وبين نفسي قدرت أن ود أمونة ولد ما نافع، زول يشيل جسمه بالحلاوة، ويكرش رجله زي البنات بالحجر؟ وما معروف تاني بيعمل شنو، الله يعلم.)
عندما ابتعدنا قليلاً عنهما، قالت لي أديّ وكأنها قرأت ما يدور في خلدي
. ود أمونة دا أرجل زول في الحلة، أنا ربيته في يدي دي، تربية أديّ مية مية-
قلت لها محتجاً
. قال لي بلسانه إنه اتربى في السجن-
قالت ببرود
. سجن شنو يربي زول؟! أنا استلمته لا خلقة ولا أخلاق، ببصلة ما بينفع-
هززت رأسي إيجاباً ومضينا عبر طريق ضيقة تمر خلف القطاطي المثيرة الكبيرة، التي تبدو أحياناً مثل أشباح عملاقة تقبع في بحر من الظلمة، الأم تسير أمامي، سمينة قصيرة تتبعها رائحة صندلية التاج الأصلية، يُسمع لمِشيتها طقطقة يعطيها الليل سحراً خاصاً، كانت التحايا تصلنا من هناك وهناك متسللة عبر سياج القطاطي وأبواب الرواكيب وسقوف القش
. مساء الخير أديّ -
. مساء الخير أمي-
. أمي أديّ-
. أديّ-
تأتي التحايا مختتلطة بوحوحة العاشقين وثغاء السكارى، وبفحيح الفعل الليلي ونداء الأجساد الحية النشطة الشبقة، تستجدي ملائكة المتعة أو شياطينها، الأمر سيان
قالت لي وهي تتحدث باستمتاع خاص
. الدنيا لعبة وآخرها كوم تراب-
هززت رأسي إيجاباً، بالأحرى بما يعني: فهمت.
مررنا بصوت سيدة تستجدي عَلناً وبصوت عالٍ بائس أن يأتي من ينقذها، وأنها سوف تموت الآن إذا لم. كانت تسترحمه وتستجديه أن يتركها، أن يُخْرِجه، أن يخليها تتنفس، تتنفس لا أكثر، أن يرفع جسده الثقيل منها، أن يقذف بسرعة، إنها تموت.
وبشهامة معروفة عني، إنطلقت نحو القُطِية قاصداً فك الاشتباك، ولكن أديّ أمسكت بيدي بقوة قد لا تصدر من امرأة في عمرها، وخاطبتني قائلة
. ما تَصَدق النُسوان يا ولدي: من صَدّقْ النُسوان؛ كَذّب الرُسُل-
ثم انتهرتَها بحزم، موبخة إياها
. يا بِتْ أخجلي.... عَيب -
فصمت الصوت صمتاً تاماً مضيفاً للمكان رهبة الموت، عبرنا نحو زقاق أكثر ظلاماً خارج مجمع أديّ السكني، كان السُكارى والعابرون يلقون علينا التحايا في كلمة واحدة سريعة.
. أديّ-
فتجيب أديّ بصورة ميكانيكية حنينة
. أهلاً ولدي-
. أهلاً بتي-
. أهلاً أخوي-
. أهلاً أمي-
. أهلاً حَوَيْ-
كانت تميز وجوههم السوداء المظلمة وجهاً وجهاً، تعلم أصواتهم المخمورة المخدرة المبحوحة وتراً وتراً، أشباحهم هيئاتهم، إيقاع مشيهم، أنفاسهم خاطبتني فجأة
صَاحِبَكْ دا أول زول ينطرد من بيتي. -
في أكثر من تلاتين سنة قَبلُهُ كان واحد بس، هو منقستو.
قلت مندهشاً
- منقستو؟
- أيوه.... منقستو هايلي ماريام، قبل ما يكون رئيس في الحبشة، كان فالول في غابة زهانة وخور الحٌمرة، كان زول صعب، الله يرحمُهُ.
سألتها
وين الزول دا؟-
قالت مشفقة عَليّ
. الله يرحمُهٌ.. مات زمان-
لم أقل لها أنا أقصد صديقي وليس منقستو هايلي ماريام،ولكني هززت رأسي إيجاباً.
يمكن سماع طقطقة شبشبها، في ظني، في كل البيوت المجاورة، مررنا بامرأة سوف تكون لها حكايات كثيرة في قادم أيامنا بالحلة، وهي الصافية، امرأة نحيفة سوداء كالعادة هنا حيث الظلام يصبغ الجميع ببهائه، تحمل شيئاً في يدها ويتبعها رجلان، تبادلتا التحايا بينما سكتُ أنا وصمتَ الرجلان، عبق العرقي البلدي مختلط بصنان نفاذ وعرق كادح: عبرا في وجهينا.
عندما ابتعدوا قالت لي أدي
- الليلة الجنقو نزلوا، ما شايفهم شايلين القُوقُو كيف؟
سالتها ما إذا كانت المرأة أيضا جنقوجوراية، فأجابتني بأنها أشهر الجنقوجورايات في الشرق كله، من الحُمَرة الى أقصى صعيد القَضَارِفْ، من الحَواتة إلى الفَشَقَةْ، كل الناس يعرفونها، ثم أكدت لي أن جدودها و الشياطين هم الذين أفتتحوا هذه الأراضي، كانت تتحدث بيقين وعلم راسخ وتُقْسم بين الحين و الآخر بالله، بأن هذه الأنحاء مسكونة بالجن، ثم أضافت قائلة.
- و الكلام دا مذكور في الكتاب.
قلت لها مندهشا
- ياتو كتاب؟
قالت بسرعة
- كتاب الدين، في كتاب تاني غير كتاب الدين؟
هززت رأسي بما يعني: لا و الله.
بين حين و آخر أجد نفسي منشغلا بمصير صديقي ولكن أدي لا تترك لي فرصة للتفكير، فهي إما تتحدث، أو تسحبني خلفها بسرعة رهيبة في الظلام، هي تحفظ تضاريس الطريق و شعاب المكان و أنا كالسكران لا استطيع أن أمشي غير متعثرٍ ، وكدت أن أسقط عدة مرات. مشينا مسافة قدرتها بالميل،ربما عبرنا صفين آخرين من بيوت القصب و القش و القطاطي الكبيرة،تهيأ لي أننا كنا نسير في زاوية منفرجة،حينما بلغنا ما إعتقد أنه زاوية المثلث، سمعت صوته، عالياً، بل يكاد أن يكون صراخاً،وهذه أيضا إحدى عادات صديقي السيئة،وهي ليست علامة غضب ولكن دليل على أن الأمور تسير في صالحه،وبصورة جيدة.
كان يهتف قائلاً، إنه لا يدفع و لا قرشاً واحداً، ويكرر أن هذا مبدأ؟
كانوا داخل حوش كبير من القصب و الأشواك،في وسطه قطية كبيرة وراكوبة،ترسلان ضوءاً شحيحاً من عمقيهما،كانوا يجلسون و يقفون تحت ظل الضوء الشحيح، تبدو أشباح الرجال الخمسة جلية واضحة، طلبت منهم أن يتركوه، هتف في أحدهم
- انت منو؟
قالت لهم الأم أدّي وفي وجهها البُني تتحرك عينان قلقتان كبيرتان تلمعان في الظلام كعيني قط يتربص فأراً.
. خلوه صاحِبُهُ دا حيحل معاه المشكلة-
قال مخاطباً إياي
- أنا عايز أفَهِمْ الناس ديل الفرق بين الرذيلة والفضيلة، الفرق هو القروش العايزني أدفعها دي، القروش بتحول اللقاء الحار الإنساني البديع الخيّر المبارك الحصل بيني وبين الزولة الجميلة القاعدة جوه دي، (مشيراً إلى عمق ظلام القُطية) إلى نوع من الدعارة والشرمطة.
فجأة أتى صوتها من عمق سحيق مظلم قائلة ببجاحة
- أنا عايزة حقي يا زول، دا شُغُل!! أنا ما بتنفع معاي فصاحة الشوعيين الكفار دي، عايزة حقي، عايزة حقي، حقي وبس..... دُوُرين زَي السِمْ!! دورين يا ظالم وتقول لي دعارة!! دورين.. دلكة وعِصير رجلين وطقطقة أصابع ومص وعض دا كلهُ مِلِحْ؟
أنا بعرفك من وين؟ لا حبيبي ولا ولد حِلتنا و لا أخو صاحبتي..
يبدو أن الحوار كان يدور بهذه الشاكلة لأكثر من ساعتين، حوار الطرشان، في تجمعات صغيرة بين هنا وهناك يُرى الندماء قرب راكوبة باهتة تحت فيما كان ظلاً عصرياً ابتلعه الظلام وتركهم، رائحة سمسم يُشوى، قرقرة شيشة قريبة جداً، سيدتان تضحكان بتحفظ، قال لي
المره دي جابتك؟ -
قالت أدّي منفعلة
أنا أدْي مُشْ المره دي!! سامع؟-
انتهره أحدهم
. اتكلم مع أدّي بأدب-
قلت لأدّي متجاهلاً كل شئ
. أنا عايز أرجع-
قالت لي مندهشة
ترجع وين؟ -
؟ للقطية-
قالت
-عايز تَرِجّعْ قروشك؟
حيث إنها كانت قد رأتني أدفع (للمرأة) نقوداً كثيرة جداً
قال لي صديقي محتجاً
. إنت دفعت قروش؟! إنت زول داعر-
لم أرد عليه، قلت مخاطباً أدّي
-عايز أرجع القُطية.... ممكن؟
قالت بانشراح وقد فهمت ما أرمي إليه
. إنت زول مختلف... ما زي صاحِبَكْ -
خاطبني بسخرية
. نتقابل الصباح يا أبو الشباب، يا فالح -
هززت رأسي إيجاباً أو بما يعني: على كيفك يا بُنيّ.
عبر زقاقين قصيرين مظلمين قادني رجل كلفته أدّي إلى بيت الأم. حيث التقيت لأول مرة بامرأة انتظرتني طويلاً في القُطية اسمها: ألم قشي
الصَافِيَةُ
قابلناها في سوق القَنْذي، وهو سوق للملابس المستعملة الرخيصة، يُقَامُ على هامش السوق الكبير، قرب زريبة المواشي في مكان خجول منزوٍ حتى تُضمن خصوصية الرواد، البائع والبضاعة، يرتاده الجنقو بين حين وآخر، إما لبيع ملابسهم وأحذيتهم وما تبقى من زينتهم، استبدالها، أو شراء أخرى وذلك في شهور الفلس قبل موسم الحصاد أو عندما يقبضون على ما تحصلوا عليه من نقود نتيجة للعمل في الحصاد، ولا يمنع أن يمروا عليه كذلك للبحث عن ملبوسات خاصة قد لا تتوفر في مكان آخر غيره.
شاهدناها من بعيد تقف أمام البائع، تتفاوض في شراء جلباب، قال لي فيما يشبه الهمس
: الصافية
- الصافية الرهيبة...... أنا عايز اتكلم معاها... يا صديق.
وكان يُطْلِقْ عليّ هذه الصفة عندما يشرع في الحديث عن موضوع يظنه بالغ الأهمية.
- المخلوقات البسيطة الصغيرة المهملة المرمية على هامش المجتمع والمكان، تجد فيها أسراراً لا حد لها، أن الله دائماً ما يستودع حكمته في نوع زي ديل.
أنا عايز أصل لأصل الحكمة فيها
قلت له ساخراً بذات اللغة التي تحدث بها
. عايزها مشروع حياة-
بالضبط، حتكون إضافة حقيقية لتجاربي الإنسانية، -
تصور لو عرفت كل تجربة مرت بحياتها، لو عرفت أحلامها وأحزانها وآمالها، لو عرفت كيف بتفكر الزولة دي، كل زول لاقيته في الحلة دي يحكي لي عنها حاجات أقرب للأساطير، كلمني عنها مُخْتَارْ عَلِيْ، أنا عايز أصل للحقايق بنفسي، وليس من سمع كمن شاف.
سألته
منو هو مختار علي دا؟ -
واحد عجوز مريض اتعرفت عليه أمبارح بالليل رجل طيب، بت معاهو في البيت. -
وبأسلوبه المباشر، المعروف، طلب منها أن تسمح له بدفع ثمن الجلباب، مانعت قليلاً ولكنها قبلت أخيراً، وشكرتنا الاثنين وتبعناها إلى سوق الكَجَيكْْ، دفع لها ثمن رطلين من السمك الجاف الكَجيكْ وكوم الكَوَلْ، الفَُرندو و ربع اللّوبة البيضاء، كُرَاعات الشَرمُوطْ، لفتين المُصران وربع رطل الكمبُو. قالت ممتنة:
- كدا تكونو وفرتوا لي قروش المريسة لأسبوع كامل، ووفرتوا أكل لخمسة عمال مساكين لأنه دا (الميز) بتاعهم... بعد يومين حنرجع الخلاء.
قال لي، وكأنه يهمس همساً
- ليه ما نمشي معاهم الخلاء؟! أنا عايز أشوف الجنقو في مواقع عملهم، في بيئتهم الطبيعية.. حتى ولو اشتغل معاهم. أنا عايز أدرس حياتهم، دراسة من شاف وعايش وعاش.
ضحكت من كل أعماقي، أنا أعرف أنه لا يستطيع فعل ذلك، وأعرف أنه لا ينفك من كونه برجوازياً صغيراً متخماً بالمتناقضات والادعاء والأحلام الكبيرة، يحاول أن يقضي عطالته وصالحه العام في مكان يقدم له الدهشة والانفعال، المتعة والإثارة متعة المشاهدة أما أن يعمل في قطع السمسم، فهذا مستحيل. العلاقة بيني وبينه قائمة على الصراحة والوضوح، بالإضافة إلى أننا كنا نعمل في مؤسسة حكومية واحدة، طُردنا للصالح العام معاً، إلا أننا عشنا طفولة واحدة في قِشْلاقِ السجون بمدينة القضارف، ولو أنه كان يسكن في قِشْلاق الضباط حيث إن والده كان ضابطاً كبيراً ومديراً للسجن، ووالدي جندياً بالسجن، امتدت علاقتنا من المدرسة إلى الحي إلى البيت، ثم لم ننفصل عن بعضنا البعض منذ أكثر من ثلاثين عاماً، كلانا كان كتاباً مفتوحاً مفضوحاً أمام الآخر، حيث إننا كّوِّنا نَفَسِيّاً ومعرفياً بصورة تكاد أن تكون متطابقة، قرأنا في مدرسة ديم النور الابتدائية، لعبنا خلف البَيطري وعلى تُخوم مقابر المدينة معاً، تشاجرنا مع أطفال دَلَسَا وسَلاَمَةْ البَيِهْ جنباً لجنب، سَبحنا في خُور مجاديف وبِرَكْ مَكِي الشَابِكْ، ولعبنا جيش جيش في وسط غابة الحسكنيت على سفح جبل مكي الشابك، قرأنا ذات الكتب واندهشنا معاً باكتشاف جُبران خليل جُبران، مخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي، ومهرجان المدرسة القديمة، ونحن نكبر تدريجياً عرفنا معاً نيتشه والنساء، ودقات ريشة ڤان جوخ، ثم حفظنا أشعار أمل دنقل، ناظم حكمت، محمد محيي الدين، المُومِس العمياء، ماريا وامبوي، عشقنا البنات أيضاً معاً، في باكورة مراهقتنا أحببت أخته وأحب أختي، كأول مغامرات غرامية لكلينا، ولو أنني ما كنت أدري ماذا يفعل وأختي بالضبط حيث إنهما كانا يحرصان على إخفاء نشاطاتهما عني، إلا أنني، ولأن أخته تكبرني بعامين أو ثلاثة، كنا نعمل على اكتشاف جسدينا بصورة محمومة وممتعة، أختي تصغره بعامين، مما جعلني أفترض أن شأنهما قد يختلف، لأن البنات الأكبر سناً هن دائماً يبتدرن ما يخص الجسد وأنهن يعرفن كل شئ، ونسبة لصغر سن أختي ما كنت أظن أنها بمهارة أخته، دائماً ما أتخيلها بريئة مسكينة عويرة، على كل ليس فيها ما يُعجب ولداً ما، فهي في أحسن الأحوال مملة ومضجرة، وكنت لا أطيقها لحظة، لا تفلح في شئ غير فضح كل ما أقوم به عند أبي، ثم قرأت وإياه ذات الجامعة، ذات الكلية، ذات التخصص، وأول امرأة أجرينا معها فعلاً جنسياً كانت هي نفس المرأة محاضرة شبقة بالقسم. أقول كنت أعرفه تماماً، قلت له
.أنا مُشْ حأمشي معاك للخلاء حانتظر هنا-
قال ضاحكاً
مع ألم قِشي، مُشْ كِدا؟-
قلت له
. بالتأكيد-
قالت الصافية فجأة
. إنتو الليلة معزومين معاي في بيت أدّي-
قال فزعاً
- تاني بيت أدّي؟! من قبل قلعوا ساعتي الجوڤيال الأصلية وشالوا كل القروش الفي جيبي ولو ما ستر الله كانوا كتلوني عديل كدا.
قالت الصافية بثقة
. إنت حتكون في ضيافة الصافية-
قالت الجملة الأخيرة وهي تندفع أمامنا مثيرة عاصفة من الصُنَانْ مختلط بعرق المريسة أضافت.
أنا لازم أكرمكم، بِتِشْرَبُوا؟
قلنا معاً في آن واحد
. بِنِشْرَبْ-
ثم أضاف صديقي
. المستورد علينا-
قالت
. أنا عليّ أبو حمار-
ضحكنا ونحن نتوغل في أزقة الحي الضيقة، تحيط بنا القَطَاطِي وأصرفة الشُوك والقصب ورائحة المُشُك من كل جانب، يَمُر بِنَا السُكارى والعُشاق والأطفال، يحييون الصافية بكلمة واحدة
. -الصافية
فترد بكلمتين حنينتين تسعا الجميع
. أهلاً أبوي-
. أهلاً أمي-
فاجأتني الصافية قائلة
- قالوا إنت سِبتْ صَاحِبك للمجرمين، ومشيت لألم قِشي، كييف لو كتلوهُ؟
قلت مندهشاً
- منو القال ليك؟
قالت ببرود
. كل الناس بيعرفوا الموضوع دا، مافي شي هنا يندّسْ-
قلت لها مبرراً
. أنا عارف مافي زول بيقدر يكتلهُ-
أضاف ضاحكاً
- على الأقل قبل عشرين سنة، عندي مشروع ما بيخلص قبل عشرين سنة، بعد داك أصبح مستعد للموت.
سألتْ الصافيةُ في براءة
مشروع في الفَشَقَةْ؟ -
حاول أن يشرح لها معنى مشروعه العشريني، ولكنه فشل فشرحت لها أنا، فَهِمتْ، قالت
. ولكن الموت بيد الله-
قال
. نعم، ولكن الحياة بيد الإنسان-
قالت بيقين عميق
. الحياة والموت الاثنين بيد الله، الزول ما بيدُهُ حاجة-
قال مغتاظاً
- أذن الإنسان قاعد ساكت؟
قالت في هدوء
. والله ما عارفة، أنا بس بعرف إنو الموت والحياة دي بيد الله-
أعرف أنه اغتاظ قليلاً لفشله في كسب الحوار، وأعرف أنه لن يتنازل بسهولة، ولكنه الآن يوفر نفسه لمعركة أخرى في ميدان آخر، ظهرت طلائعها عندما همس في أذني
- عارف يا ولد، الصافية دي فيها أنوثة مجنونة عديل، أنوثة وحشية... أنوثة كلبة معوبلة، أنا شاميها شَمْ.
قلت له
. وإنت كلب عاير-
قال بسرعة
. تماماً.... تماماً.... كلب عرمان-
في حوش طرفي من بيت الأم حيث جلسنا، أنا وود أمونة وألم قِشي، وقد هيأ ود أمونة بخفة محترف كل شئ وجلس قريباً من الباب، كنت أحس برغبته العارمة في التحدث معي، ورغبته أيضاً في أن يتركني وألم قِشي وحدنا، وتحسست بميتافيزيقية رعنة رغبة ألم قِشي في أن تطارحني الفراش، ورغبتها في أن يبقى ود أمونة كما هو في موقعه. المهم حسمت الأمر بأن قلت لود أمونة جملة اعتراضية
قلت لي اتربيت في السجن مش كدا؟-
أحسست حينها أن ألم قِشي وود أمونة كادا أن يطيرا من الشعور بالراحة، قال وهو يأخذ نفساً عميقاً من الشيشة:
. آهـ.... السجن، صاح.... اتربيت في السجن-
|