الطيب صالح ونظرية موت المؤلف
في الكتاب الثاني من سلسلة مختارات ، والذي جاء تحت عنوان : المضيئون كالنجوم – اعلام الفرنجة والعرب - انتقد الطيب صالح نظرية موت المؤلف التي روج لها النقد البنيوي والتفكيكي من خلال كتابات الفرنسيين ، رولان بارت وميشيل فوكو وجاك دريدا. ووصف النظرية بانها لا تعدو ان تكون عبثا فكريا ولغوا ومغالطات متعجرفة .
وختم حديثه بقوله : " اذا كان قد أمات الكاتب والناقد والعقل والعلم والقانون ، فاين وضع هو نفسه ؟ ومن أين استمد الحق ان يصدر هذه الأحكام ( اللاهوتية ) كأنها حقائق تنزلت عليه من السماء ؟
الأمر كما قال بودلير – كلام مثل هذيان المجانين . انه لا يعدو ان يكون محض لعب بالافكار والالفاظ ، من رجل يتيه بعلمه ، وهو فيما يتعلق بنا علي اي حال ، علم لا فائدة منه ولا خير فيه . "
وقد استهل الطيب صالح المقال باستشهاد ذي مغزي من الشاعر الفرنسي شاري بودلير :
________
رولان بارت *
بقلم : الطيب صالح
" يا لها من بدع عجيبة تسربت الي نقدنا الأدبي ! سحابة مظلمة ساقتها الينا ريح شؤم ، من جنيف او بوسطن ، او من الجحيم ، حجبت عنا شمس ( الجمال ) المضيئة . يا لها من فلسفة عبثية ! اي عدوي غريبة ، تصيب المروجين لهذه الترهات، فيبربرون بكلام مثل هذيان المجانين ؟ "
شارب بودلير – مارس 1859
* * *
حير العالم الفرنسي رولان بارت ، مريديه . انه لم يثبت علي موقف واحد ، بل ظل يغير مواقفه باستمرار . وسوف يجد القاريء أدلة كثيرة علي عبثه الفكري في مقالته الشهيرة التي اعلن فيها ( موت المؤلف ) وهي من كتابه ( الصورة – الموسيقي – النص ) الصادر 1977 .
وفيما يلي مقتطفات منها :
(( يقول بلزاك ، في قصته ( القرصانة ) التي يصف فيها خصيا متنكرا في هيئة امرأة : " كان امراة فعلا ، بمخاوفها المفاجئة ، وتقلبات مزاجها ، وقلقها الغريزي ، وتهورها واهتمامها بالامور التافهة ، ورقة شعورها المحببة " .
من الذي يتحدث ؟ هل هو بطل القصة الذي يجهل ان المراة ما هي الا خصي في زي امراة ؟ هل المتحدث هو بلزاك الشخص ، معتمدا علي تجربته وفلسفته عن المراة ؟ هل هو بلزاك المؤلف معبرا عن افكارا أدبية عما يظن طبيعة الأنثي ؟
هل هو صوت الحكمة عموما ؟ صوت السايكلوجيا الرومانسية ؟
اننا لن نعرف الاجابة ابدا ، لسبب بسيط هو ان الكتابة الغاء وتحطيم لكل صوت ، لكل مصدر . الكتابة هي ذلك الركام المحايد ، الفضاء المائل ، حيث ينزلق الموضوع ، السلبي الذي يقضي علي الخصائص الذاتية كلها ، بداء بخصائص الجسد الذي يقوم بفعل الكتابة .
لا شك ان الامر كان دائما هكذا بمجرد ان تروي حقيقة ما – ليس بنية التاثير المتعمد علي الواقع انما في نهاية الامر رهين بطبيعة الرمز ذاته ، وخارج اي وظيفة – حينئذ يحدث الانفصام ، الصوت بقفد مصدره ، المؤلف يدخل في موته ، الكتابة تبدأ (.. ) .
المؤلف شخصية مفتعلة ، بمعني انه نتاج مجتمعنا ، بارثه من العصور الوسطي ، والفكر التجريبي الانجليزي ، والعقلانية الفرنسية ، ودعوة حركة الاصلاح البروتستانية الي تاكيد ذاتية الفرد ، او كما يقال تجاوزا (الفرد الانساني ) . هذه النظرة الساذجة ، وصلت قمتها بشكل منطقي الي تهويل في الفكر الرأسمالي ، من اهمية الفرد ، اي المؤلف .
هكذا تجد ان المؤلف يتربع علي عرشه في كتب تاريخ الادب ، وتراجم الكتاب ، والمقابلات ، وفي المجلات ، بل وفي رغبات المؤلفين انفسهم الذين يستهويهم ان يخلطوا بين ذواتهم واعمالهم ، بواسطة نشر مذكراتهم ويومياتهم .
كل شيء في الثقافة العامة ، ينطلق من شخص المؤلف وحياته وذوقه واهوائه (..) . النقد ابدا يبحث عن تفسير العمل ، في شخص الرجل او المراة ، الذي صنعه ، كانما العمل في نهاية الامر شيء متاح ، ينبع من مصدر واحد هو صوت المؤلف الذي يهمس في آذاننا باسراره (..) .
ازاحة المؤلف عن عرشه ، ليس فقط حقيقة تاريخية ، أاو حيلة كتابية ، انه أمر يحدث انقلايا في النص الحديث . او بكلمات أخري ، النص بعد اليوم يكتب ويقرأ، بطريقة تجعل المؤلف غائبا عنه في جميع مستويات النص .. حين تعتقد في وجود المؤلف ، فانك دائما تتخيله كأنه " ماضي " كتابته .
الكتاب والكاتب يقفان بالضرورة علي خط واحد ، ينقسم الي قبل ، وبعد . المؤلف يظن انه يطعم الكتاب اي انه يوجد قبل الكتاب . يفكر ويعاني ويحيا من اجل الكتاب . انها علاقة تشبه علاقة الوالد بمولوده .
خلافا لهذا التصور ، فان الكاتب الحديث ، بولد في اللحظة نفسها التي يولد فيها النص ( الذي ) ليس له اطلاقا وجود يسبق كتابته او يزيد عليها . لا يوجد زمن عدا زمن الكتابة . وكل نص يكتب الي الأبد ، ويكتب هنا ويكتب الآن (..) .
نحن نعلم ، ان النص ليس خيطا من كلمات تصرح بمعني واحد . ليست رسالة لاهوتية مقدسة من (المؤلف / النبي ) .
انها فضاء متعدد الزوايا ، يحوي انواعا شتي من منابع الثقافة علي سعتها (..) . الكاتب الذي يجلس مكان المؤلف ، لم يعد يحمل في جوفه اية مشاعر ولا أفكار ولا أحاسيس ولا تصورات . انه بالاحري يحمل في جوفه معجما ضخما يغرف منه كتابة لا نهاية لها . الحياة ليست أكثر من محاكاة للكتاب . والكتاب ليس أكثر من مجموعة اشارات لفقد مؤجل باستمرار .
وهكذا يحين يزول المؤلف تصبح محاولة فك ألغاز النص ، محاولة لا جدوي منها . ان تعطي النص مؤلفا ، هو ان تفرض عليه مساحة وحدا . يعني ان تجد معني نهائيا . معناه ان تضع نهاية للكتابة .
ذلك التصور يناسب الناقد جدا ، لان الناقد حينئذ يعطي نفسه سلطة اكتشاف المؤلف وراء النص ، أو اكتشاف العوامل المؤثرة عليه – المجتمع ، التاريخ ، الذات ، الحرية . وحين يعثر علي المؤلف يكون قد وجد حل اللغز . انتصار للناقد . لا عجب اذا ان عهد سلطة المؤلف كان ايضا عهد سلطة الناقد .
في الكتابة المتعددة ، انت لا تفسر اي شيء ، انت تفكك كل شيء : لا توجد ألغاز تبحث لها عن حل . تتابع هيكل البناء . تسحب عناصره كما تسحب خيوط الثوب . في كل موضع ، وعلي كل مستوي . انما لا شيء يوجد تحت السطح . تتسكع في فضاء الكتابة . لا تنفذ فيه . الكتابة ترشح المعني باستمرار . كل ذلك في عملية اقصاء للمعني .
هكذا يصبح الادب ( ومن الافضل ان نقول بعد الآن الكتابة ) برفضها اضفاء طابع اللغز علي النص واعطاءه اي معني نهائي – تصبح حرة . يصبح النص والعالم طليقين من قيود ما يمكن ان يوصف بالطابع اللاهوتي .
ان تلك ثورة حقيقية في نهاية الأمر ، اذ ان رفض اعطاء النص معني نهائيا ، هو في الواقع رفض للخالق ( الله ) وآياته ، ورفض للعقل والعلم والقانون . ))
انتهي كلام الاستاذ رولان بارت . ولا يحتاج الانسان الي اعمال الفكر طويلا ، كي يدرك انه لغو مملوء بالمغالطات والعجرفة . وهو لم يترك للقاريء اي مجال للحكم . لم يترك شيئا تقيس به او مرجعا تستند اليه ـ لانه رفض كل شيء ضربة لازب .
ورغم ذلك ، فانه لم يفلح ان يخفي المغالطة الكبري في خطابه . اذا كان قد أمات الكاتب والناقد والعقل والعلم والقانون ، فاين وضع هو نفسه ؟ ومن أين استمد الحق ان يصدر هذه الأحكام ( اللاهوتية ) كأنها حقائق تنزلت عليه من السماء ؟
الأمر كما قال بودلير – كلام مثل هذيان المجانين . انه لا يعدو ان يكون محض لعب بالافكار والالفاظ ، من رجل يتيه بعلمه ، وهو فيما يتعلق بنا علي اي حال ، علم لا فائدة منه ولا خير فيه .
اصدر العالم السميولوجي الفرنسي ، رولان بارت ، حكمه بموت المؤلف ، في مقالة ظهرت عام 1977** . وفي عام 1980 أعلن ميشيل فوكو حكمه بموت الكاتب علي طريقته . مقالة شهيرة هي الاخري ، عنوانها ( ما المؤلف ) . وسوف يلمس القاريء المماحكة نفسها باسلوب آخر . . " - انتهي كلام الطيب صالح .
-------------
* من كتاب : مختارات 2 – الطيب صالح - المضيئون كالنجوم : من أعلام العرب والفرنجة – منشورات رياض نجيب الريس – الطبعة الاولي مارس 2005 – الفصل الثامن - رولان بارت –
ص 297 .
** هذا هو تاريخ صدور كتاب رولان بارت : ( الصورة – الموسيقي – النص ) والذي ضم مقالة موت المؤلف وقد ظهرت المقالة لاول مرة سنة 1968 . كذلك القي ميشيل فوكو محاضرة : ما المؤلف؟ في ذات العام 1968 ( عجب الفيا ) .
*** كنت قد تعرضت لنقد نظرية موت المؤلف في مقال نشر بجريدة الخرطوم سمة 1999 بعناون أصداء السيرة الذاتية في ادب الطيب صالح - وذلك قبل ان اطلع علي راي الطيب صالح حول هذه النظرية .
عبد المنعم عجب الفيا
|