لتبلُّدٍ أصابَ غريزة الفلاّحة، أو لحداثة التجربة الأمومية، وَهَبَت “نخل البقيع” إلى العالم باكورة أبنائها في موسم الحصاد، متحمِّلةً بذلك حَرّ وذباب تشرين، إضافة إلى الوحدة القاتلة جراء انشغال الكل في حصاد العمر السنوي، تدندن في سرها بكنيتها الجديدة، باعتبار أنها سترتقي غداً إلى مصاف القدّيسات، باحتفالٍ رسميّ، وينتهي اسمها الأول للأبد، ويحلّ مكانه “أم سالم”. و“سالم” هو الاسم الذي اختارته سراً لصغيرها الذي لم يكمل اسبوعه الأول بعد.
في اليوم السادس للميلاد، وبينما هي تريح رأسها على كفها الأيمن، وباليد الأخرى تهشّ الذباب، وتستحلب قليلاً من الهواء بمروحة من السعف صُنعت خصوصاً لمناسبةٍ كهذي، قُطِعَت تلكم السكينة التشرينية بدخول رجلٍ ليس له ما يميّزه عن ذكور خلق الله سوى لحية طويلة يختلّ سوادها بشعيرات احمرّت من خضاب الحنّاء. لحية لا تتناسب وعمره العشريني, فهي أقرب إلى لحى الجواسيس في السينما الهندية، وبعلامة سوداء منقوشة على جبينة أقرب إلى الدمّل، يبدو أقرب إلى البلاهة حين يبتسم، مع مسحة نسوية خفيفة في صوته تحتاج إلى كثير من التفرُّس لتمييزها. ألقى التحية المعهودة، مما حدا بـ“نخل البقيع” إلى أن تغيّر وضعها، وذلك بفَرد الفِرْكة وتعديلها، حتى تغطي المناطق المحرمة من الجسد والذي يليه، وبهذا الوضع صارت نصف جالسة، بعد أن مدّدت أرجلها على الفراش مع النصف العلوي الذي صار منتصباً. بهذا الوضع الجديد ناولته إناء، وهي تعلم في قرارة نفسها علم اليقين أنه سيرفض، فقط ناولته حتى يكون هناك أمان أو حوار ما، ولكن لدهشتها ارتشف كل ما بالإناء وإنما تعدّاه ليلتقط ما علق بلحيته ويأكله. تحوّل خوفها وحرجها إلى غثيان من ذاكم الرجل الذي يقتات من طعام النفساء، ومن لحيته.
- أنا رسول ملك البر والبحر إليك.
هكذا أجاب على تساؤل داخلي لـ“نخل البقيع”؛ تساؤل لم يطفح إلى الحلق بعد: (دا منو يا ربي؟), ولم تفق من دهشتها بعد، حتى أجاب على التساؤل الذي يليه قائلاً:
- جئتُ كي أبارك النبي الجديد.
- ولكن قل لي كيف عرفت أني أنجبت نبياً؟، ومن قال ذلك؟.
ارتياحه لسؤال “أم سالم” تجلّى في ابتسامة البلاهة التي زيّنت فدقيه، وفتحت شهيته أكثر للحكي:
- أنجبته في ليلة الأربعاء قبل دور هذا اليوم صح؟.
لم ينتظر الإجابة وإنما واصل قائلاً:
- في أربعاء الشؤم تلك، عفواً سيدتي، إني أقصد أربعاء السعد لكلينا, في تلك الأربعاء غضبت الآلهة، وأطلقت نسخة جديدة من تسونامي, هذه النسخة الإعصارية أجبرت البحار أن تخرج عن ذاتها، وترسل جبالاً من المياه, أطفأت هذه المياه الجبلية نيران خزم التي أُعِدّ لها أزلاً أن تلتقي بجهنم الأصل، أي أنها نيران ليس في تركيبتها الداخلية خاصية الهمود، تصدَّعَت على أثر هذا الإعصار ناطحات سحاب ملك البر والبحر, وتلك الكوارث أو العلامات لا تحدث إلا لحظة ميلاد الأنبياء.
- ادَّعيتَ أن نبياً وُلد في الأربعاء، فبربك قل لي كم امرأة انجبت ذكراً في ذلك اليوم؟، فلماذا أنا بالتحديد؟.
خفض صوته حتى أضحت كلماته كأنها خارجة من بطنه، مقلداً بذلك طرق الكهنة في الحوار، وربما كانت اللحظة الحالية حضرةً في نوبة كهنوت حقيقة. وبالصوت الذي يشبه الخرير نطق قائلاً:
- نعم سيدتي، في تلك الأربعاء التي ظهرت فيها تجلّيات النبوءة الكونية، جمع ملك البر والبحر كل السحرة والعلماء، وأمهلهم ثلاثة عشر ساعة لتحضير كل المنجبات ذكوراً في تلك الليلة، ويا سيدتي المبجّلة، لحسن طالعك كنتِ ضمنهن، وعندما كشف العلماء على المواليد عثروا على علامة النبوءة على “سالم”, وهي وحمة سوداء بمقدار حبة الفلفل على جانبه الأيمن.
عندما ذكر اسم “سالم” أحسّت بفقدان الجزء الذي يلي الحوض من جسدها، وبحركة ميكانيكة تحسست رجلها اليسرى حتى تتأكد من وجودها, وبنفس تلكم الحركة أجالت النظر على جسد الصغير، وتحقّقت من ادّعاء ذاكم الرسول غير المرغوب فيه. حاولت النطق لكن لسانها لم يسعفها, فاسْم “سالم” هذا فقط كان يدور بخاطرها، حتى لم تنطق بها جهراً لنفسها، فكيف عرفه هذا الرجل؟. بالنظر إليها تأكد الرسول أن اللحظة المناسبة قد حانت، وبكل ثقة تكلّم قائلاً:
- أرسلني الملك لآخذ الغلام حتى يرى تدرج العلامات النبوية عليه.
بذات لغته ونبراته الكهنوتية قالت له:
- فما أنا بتاركةٍ طفلي.
- أنتِ معه يا أمة الله مأخوذة.
- لن أترك بعلي.
- وماذا تفعلين ببعلك بعد أن أعطاك نبياً؟!، ولكن لا ضرر أن يكون برفقتنا.
- ولمن أترك تراب بيتي؟.
قالت هذه الجملة بإصرار يتطاير رذاذاً من العناد.
هزّ الرسول رأسه في أسى، ضاغطاً على أسنانه، محدثاً صوتاً كصرير الأبواب الصدئه، ورَدّ قائلاً:
- لا حلّ لدينا سوى أخذ الغلام وحده.
بخطوات محسوبة خطا تجاهها، وما زال محتفظاً بابتسامته البلهاء.
في هذه اللحظة من عمر الزمان، نسيَت كل الآلام ووهن ما بعد المخاض، وصارت أمازونيةً لا ينقصها سوى قطع ثديها لإحكام القوس, نسيت كل شيء، إلا “سالم”، تحايلت على وهنها فحزمت وسطها بفركة النفاس التي كانت تغطي المناطق السفلى من الجسد, تكلّب شعر رأسها الأكرت، حتى أصبح مثل برادة الحديد الموضوعة في ورقة خفيفة ومُرّر عليها مغنطيس، أخذت عيناها لون الدم، صاحت بكل مدَّخَر صوتها المستقبليّ مزمجرةً:
- لن تأخذه، أنا لم أحْمَل كي أنجب نبياً، وهل هو ذنبي إذا أنجبتُ نبياً كما تدّعي؟، اذهب إلى سيّدك وقل له أن أُمه لن تمنحه إلى أي أحد، وإذا كان يريده فليأتي هو.
سكتت كي ترى وقع كلماتها عليه، ولكن لم تر سوى ابتسامة رعاة الضأن، بالأيادي اشتبكا في بادئ الأمر، ثم تطوَّر العراك إلى التحامٍ مثيرٍ وخادشٍ لحياء الدنيا والعالمين، استخدمت فيه كل الأدوات والحيل، كان أعتى، كان أقوى، وكاااااااااااااااااااان. تحت أقدامها مادت الأرض، وصارت لا ترى سوى بقع برتقالية في الفضاء، مع طنين حاد في الأذنين إثر ضربة محكمة بمفرق الرأس سدّدها الرسول، هَوَت على الأرض لا تعي شيئاً، طفر اللبن من ثديها، ورغم الطنين التقطت صوت “سالم” جائعاً ويموء, هذا اللبن أيقظ فيها قوةً بركانيةً غير مألوفة، وبتلكم القوة هوت عليه بالعود الذي يستخدم كركيزة لأبواب الفقراء يمنع دخول الأغنام وأحياناً الهواة من اللصوص، هوت عليه بذاكم العود بكل ما بقي لها من قوة، صرخ بأعلى صوته:
- آآآآآآآآآآه يا أمة الله، قد جعلتِني أعرج.
- أنت لا تستحق العرج فقط، وإنما تستحق القتل.
ثم رفعت العود عالياً بغرض التحطيم النهائي، لكنه استجداها صائحاً:
- وصغيرك الذي في المهد لا تفعليها، لا تقتليني فقد فداه الله بي يا أمة، قد أعطيناه عمر نوح، لا تفعليها لا تقتليني، لا تقتليني لا تفعليها.
كان يصيح بتلكم الكلمات رافعاً يديه، في محاولة يائسة لاتقاء الضربة التي حتماً ستدكّ رأسه:
- لا تفعليها لا تقتليني.
هكذا خرج وهو يتعود على عرجه الجديد، ولكن في عينيه إصرار عنيد يصعب التكهُّن بمقصده، ذاك البريق لم تنسه “أم سالم” لحظةً، حتى أضحى وسواساً يُقلق راحتها، إلى أن حبلت الأرض، وأنجبت أربعاء أخرى بعد سنين عدداً. في تلك الأربعاء، أربعاء النصر، كما يحلو لجنود ملك البر والبحار تسميتها، أو أربعاء الرماد، كما أرغمت “أم سالم” على ذلك، فالنصر والرماد سيان.
فبينما “سالم” مسافر لجلب سن الفيل مهراً لخطيبته، رأته أمه نائماً على دفء النار التي أوقدها اتقاء الحشرات والوحوش كعادة البدو، بالقرب منه يجلس الرجل الذي تعاركت معه قبل 27 عاماً. هو هو، لم يتغير فيه شيء. اللحية لم تزل داكنة السواد, الدمل الذي على جبينه يزداد تقززاً، عرجه المكتسب, لم يتغير فيه شيء. كأنه تحوصل في شرنقة اللاعمر، أو أنه انسرق من قطار العمر خلسة. جالس دون أي حراك، فجأة رفع عينيه، وعندما التقت أعينهما تدفقت كلماته مخلوطة بالنصر والتشفي:
- نحن جنودك يا ملك البر والبحار، نتحمل الإهانة ولكن لا نغفرها.
واتسعت ابتسامه البلاهة حتى فاقت الحد المعقول، كاشفةً عن أسنانٍ متآكلةٍ ولسان أسود مدبوغ.
- ولكنك قلت أنكم منحتموه عمر نوح.
قالت هذه الجملة بحزن كسير.
كانت الأسنان هي الشيء الوحيد الذي يكشف عن عمره الحقيقي، وبتلكم الابتسامة ذاتها ردّ ساخراً:
- الحرب خدعة، ومن يضحك أخيراً يبكي العمر كله، فاختاري الآن يا لبوة، أي موت تختارين لهذا الشبل؟.
نادت بكل أمومتها يا سااااااااااااااااااالم، رغم عدم اكتشاف التلفونات في ذلك الزمن، ولكن هبّ “سالم” كالملدوغ، وفي الحين وجد نفسه في عراك استغرب كثيراً لأهدافه، انتهي العراك بالموت الدماغي لرسول الملك، حاول “سالم” أن يهوي بكل قوته لإعطاء ضربة الرحمة للجسد الذي بدأ في الاحتضار، ولكن العنقاء حطّت على قطية أم “سالم”، فأصابتها بالخرس، ومن غرفة تحكّم إدارة الحرب استُنسخ صوتها، وصاح هذا الصوت المغشوش عاتباً على “سالم” قائلاً:
- يا “سالم” لا تجهز على القتيل، فالذي يحتضر صار أخاك بالرضاعة، سبعة خطوات على اليمين ستجد نبتة الساركيا، لها زهور من كل الألوان، من هذه الأزهار خذ مقدار كف، اغْلِه مع قليل من الدعاء واسقِه إياه، فبإذن من تحبّ سيعود أخوك سليماً معافى. فعل “سالم” ما أُمر به، ولحظة انهماكه في غلي زهور الساركيا ببطء وحذر القط، جمع المحتضر قوته، ومعها التقط المدية الملقاه بإهمال شاهدة على العراك الذي انتهى قبل قليل، في الجانب الآخر من الحياة تشاهد أم “سالم” هذا الفيلم، وهي تصارع وتقاتل لتُرجع صوتها المسروق، وعندما أحكم رسول الملك يده على المدية طارت العنقاء، وصاحت أم “سالم”:
- يا سااااااااااااااااااااااااا.
ولكن القدر كان أسرع من الصوت، واستيقظت على بوق الإسعاف، وعرفت كل شيء
بس
|