الصادق المهدي :والطغاة يجلبون الغزاة
في محاضرة ارتجلها في العاصمة الأردنية مثيراً دهشة الحضور ...الصادق المهدي: الغلو ركز اليمين الأمريكي وسهل تنصل النظام العربي من الإصلاح.
تطرف النظام خلق مشكلة دارفور.. أراد تأكيد هيبته فدول مشاكله الداخلية بـ 16 قرارا لمجلس الأمن
أراد فرض السلام من جانب واحد على الجنوبيين فانتهى إلى اتفاقية تمنحهم تقاسم الثروة وتقرير المصير
بوش أكفأ رقيب تجنيد لمنظمة القاعدة.. يحقق كسبا تكتيكيا وخسارة استراتيجية.. والطغاة يجلبون الغزاة
عمان - شاكر الجوهري :
فاجأ الصادق المهدي زعيم حزب الأمة السوداني مستمعيه في منتدى الوسطية للفكر والثقافة، ليس فقط بعمق افكاره وغزارة معلوماته وعمق ثقافته، إنما كذلك، بقدرته على ارتجال محاضرة متكاملة متماسكة استغرقت قرابة الساعة.
انصبت محاضرة رئيس وزراء السودان الأسبق على الغلو والتطرف والإصلاح، ثم تقديم السودان باعتباره نموذجا على دور الغلو في جلب الغزاة، وتحقيق الخسائر والإنكفاءات. وقبل ذلك، كان قد أوضح كيف أن الغلو لدى بعض الإسلاميين أدى الى تركيز اليمين الأمريكي، كما سهل تنصل النظام العربي من مشاريع الإصلاح.
واتهم المهدي النظام السوداني بالمسؤولية عن خلق مشكلة دارفور، حين أراد أن يفرض هيبته بشكل خاطىء، فكانت النتيجة تدويل المشاكل الداخلية للسودان.. تماما كما أراد هذا النظام من قبل، والكلام للمهدي، فرض السلام على الجنوبيين من جانب واحد، فكانت النتيجة منحهم اتفاقية تقر لهم بتقاسم الحكم والثروة وحق تقرير المصير.
هنا نص محاضرة المهدي التي قدمه فيها المهندس مروان الفاعوري رئيس النادي:
الغلو والتطرف كلمتان مترادفتان. الغلو هو التطرف.. أي الوقوف في الطرف البعيد عن الوسط، وأصله في الحسيات ثم نقل الى المعنويات. وقيل "خير الأمور الوسط، حب التناهي غلط".. "الزيادة عن المطلوب في الأمر افراط، والنقص عن المطلوب تفريط".. أي تقصير.
ما هو الإصلاح..؟
فكرا هو أن تمارس حاجة موضوعية للتأصيل وحاجة موضوعية للتحديث. والمطلوب هو تأصيل بلا انكفاء وتحديث بلا استلاب.
سياسيا الإصلاح يعني ـ في تقديري ـ في هذه المرحلة بالذات المشاركة في الأمر العام، والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون تحت ظل الحريات الأساسية.
اقتصاديا يعني التنمية المحققة للكفاية، والعدل والتوازن مع البيئة.
دبلوماسيا يعني النظام العالمي القائم على السلام العادل والتعاون.
هذا على الصعيد النظري. وسأتناول في سبع نقاط تنزيل التنظير من واقع الإسلام العربي، ثم استشهد بالحالة السودانية.
دين اعتدال
النقطة الأولى: الإسلام دين اعتدال "وكذلك جعلناكم أمة وسطى". وقال النبي صلى الله عليه وسلم في معنى الآية، كما روى أبو سعيد الخدري إن الوسط هو العدل بين طرفي الإفراط والتفريط. وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم الإمام علي ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما لليمن، وقال لهما "يسرا ولا تعسرا.. وبشرا ولا تنفرا". وعن عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم "ما خير بين امرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما".
هذا هو حال الإسلام ومرجعياته، لكن المسلمين بشر يسري عليهم ما يسري على سائر البشر من قوانين نفسية في حالة الغضب، والسرور وغيرهما.. والقوانين الجنائية في نزعات الفردانية والجمعية وغيرهما.. والقوانين الإنسانية في ولاء وبراء الثقافات.
المهم أنه مع وضوح موقف الإسلام المعتدل المتسامح الوسطي، فإن المسلمين يخضعون للقوانين التي يخضع لها سائر البشر.. الغضب والسرور والفردانية.. الخ..
الناس كلهم، حتى غير المسلمين، يحمدون الاعتدال، ويصفونه بالوسط الذهبي، ويبغضون الغلو، ولكن تأتي عليهم جميعا ظروف معينة نفسيا واجتماعيا تدفعهم من الاعتدال الى التطرف. (إذا غضبنا غضبة مضرية هتكنا حجاب الشمس، أو تقطر الدم).
أول ظاهرة غلو في الإسلام قام بها الخوارج. هؤلاء اغضبهم التظلم من خدعة عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري، الذي استغفل. وبذلك حدث في هذا الأمر غضب من الذين اعتبروا أن الحكم من قبل الإمام علي قد استغفل. ولذلك جاء نقدا لهذه الحادثة
لـو كـان للقـوم أي رأي يدفعـون بـه
رمـوكم بابـن عبـاس
ولكن رموكم بسيف من بني يمن
لايدري ما ضرب اخماس بأسداس
وتساءل الخوارج: كيف يمكن أن يقبل صاحب الحق التحكيم..؟ قبول التحكيم كبيرة، ومن هنا انتقلوا الى قاعدة "مرتكب الكبيرة كافر". وبذلك كفروا كل من قبل التحكيم باعتباره ارتكب كبيرة. وزاد الأمر سوءا في نظرهم قيام ولاية بني أمية، فتوحشت اجتهاداتهم التكفيرية، ودعموها بحملات باسلة.
أنا أعتقد أن الخوارج كانوا من أكثر الناس تقوى حسب اجتهادهم، ومن أكثر الناس فروسية وحماسا وشجاعة.. سجل التاريخ تضحياتها وبسالتها وتقواها وفروسيتها حتى أن "غزالة" من قادتهم قيل عن بأسها في مواجهة قادة بني أمية.
أسد علي وفي الحروب نعامة
ردّاء تنفر من صفير الصافر
هلا بزرت الى غزالة في الوغى
أم كان قلبك في جناحي طائر
الاستبداد والجمود الفكري
النقطة الثانية:
حالتان يجبن أن نعترف بهما قعدتا بالأمة هما الاستبداد والجمود الفكري.
الاستبداد غيب فريضة الشورى، وهي أساس المشاركة والمساءلة والشفافية. هي فريضة سياسية في ادارة الشأن العام. الاستبداد استسلمت له الأمة على حد تعبير ابن حجر العسقلاني. وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه.
الجمود الذي ترتب على قفل باب الاجتهاد، وهيمن بالتقليد، وصف نتائجه الإمام ابن الجوزي بالقول: "إن في التقليد ابطال لمنفعة العقل، لأن العقل إنما خلق للتدبر والتأمل، وقبيح بمن أعطي شمعة يستضىء بها أن يطفئها ويمشي في الظلام".
الاستبداد والكساد الفكري في رأيي تراكما على الأمة وخلقا ما أسماه مالك بن نبي حالة الاستدعاء للاستعمار..!
الطغاة يجلبون الغزاة
النقطة الثالثة: صراع الدول ونزعة الدول القوية للتغلب، أو الكيانات القوية للسيطرة، حالة مستمرة في الإنسانية كلها.. سواء بين الكيانات أو بين الدول، التي وصفها عمرو بن كلثوم بالكيانات القبلية.
لنا الدنيا ومن أضحى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا
ملأنا البر حتى ضـاق عنا
وظهر البحر نملأه سفينـا
كأنما عمرو بن كلثوم يحذر بكلامه هذا مقدما لوثيقة الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية الصادرة بعد ذلك بألفي عام في سبتمبر 2002 الوثيقة التي جاء فيها "حق شن حرب شاملة على الإرهاب بعون دولي أو بدونه، والإقدام على الهجوم الوقائي المنفرد، وعدم السماح لأي قوة في العالم أن تتأهل كي تنافس الولايات المتحدة". ونفس المعنى ردده الرئيس الأمريكي جورج بوش بقوله "ربما وجدنا انفسنا وحيدين في التصدي للأمور. هذا لا يهم. نحن امريكا".
لكن الغزاة بنفوذهم هذا دخلوا من مداخل هيأها لهم الطغاة. فالطغاة اطفأوا روح الأمة، ودجنوا شعوبها، على حد تعبير نزار قباني:
يا سادتي لم يدخل الأعداء من حدودنا
لكنهم تسربوا كالنمل من عيوبنا
إن حالة الغزوة الصهيونية في فلسطين لها خصوصيتها، وقد تطرقنا لها في مجال آخر. ولكن الغزو في المجالات الأخرى، وآخرها افغانستان والعراق، فالقاعدة المطردة فيه "الطغاة يجلبون الغزاة، والغزاة يستدعون الغلاة".
إن حلقة السببية بين الطغاة والغزاة والغلاة في افغانستان والعراق واضحة المعالم. الغلاة قسموا العالم كله الى فسطاطين، واعلنوا فتوى في فبراير 1998 أن قتل الأمريكي مدنيا أو عسكريا في كل مكان في العالم فرض عين على المسلم. والغزاة، والغزو من مظاهر الغلو، بادلوا الغلاة تطرفا بتطرف، في المجالات المختلفة، دعما لحماقات اليمين الإسرائيلي، واهدارا لحقوق الإنسان، كما في غوانتانامو، ولدرجة جعلت ايجور روبرت سفير بريطانيا لدى ايطاليا يقول في عام 2002 مشيرا لهذه السياسات: "إن الرئيس بوش هو أكفأ رقيب تجنيد لمنظمة القاعدة". وفي عام 2005 ظهر كتاب لعالم امريكي هو روبرت بل عنوانه "الموت من أجل الفوز"، يقول فيه: "لقد احصيت كل تفجير وهجوم أودى بحياة فاعله (انتحاري) بين العامين 1980 ـ 2003 في كل العالم، وكان العدد 315 تفجيرا أو هجوما". ثم قال "لا صلة لهذا السلوك بأية ديانة معينة.. فرواد هذا العمل هم نمور التاميل في سيرلانكا، وهم ماركسيون من خلفية هندوسية، وقد نفذوا 76 هجوما انتحاريا من أصل الـ 315 حادثا". وأضاف "إن الهدف المشترك لكل هذه العمليات، مع اختلاف الإثنيات والديانات هو اجبارالدول الديمقراطية على سحب قواتها من اوطان مدبري التفجير أو الهجوم".
هل تنجح هذه الأساليب في تصفية الطغاة وطرد الغزاة..؟
الجواب: لا. بل ربما كانت لها نتائج عكسية. ففي الولايات المتحدة ساهمت الهجمات في تمكين المحافظين الجدد، وحولت الرئيس بوش من رئيس مشكوك في شرعيته الانتخابية الى زعيم قومي، إذ عندما انتخب في المرة الأول كان انتخابه مهزوزا للغاية، ولولا قرار المحكمة لما اعتمد رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية.. ذلك أن الأصوات كانت لصالح منافسه آل غور.
الهجمات أمنت كذلك انتخاب بوش لولاية رئاسية ثانية.
لولا استمرار تحدي الغلاة لما كان انتخب لولاية ثانية لسبب بسيط جدا هو أن ادارة الرئيس بوش كانت ولا تزال ادارة فاشلة وفقا للمقاييس الأمريكية العادية، لأنها حققت أعلى درجات العجز في موازنة الولايات المتحدة، لكن الظرف الأمني تغلب في هذه الحالة على المقياس الاقتصادي.. وأعطى الطغاة أقوى الذرائع لتمكينهم بحجة الحفاظ على الأمن والنظام في كل مكان. وقديما قال العز بن عبد السلام "أي عمل يحقق نقيض مقاصده باطل".
معالم المشروع النهضوي
|