العم بشير محمد احمد من بيت المال كانت له ورش ضخمة للنجارة فى المنطقة الصناعية . وكان يعلّم كثيرا من الصبية أصول النجارة فى ورشه ويرعاهم كابنائه
كان يندر ان ترى فى كل بقاع السودان شماله وجنوبه وغربه لوريا وليس منحوت فى ترباس صندوقه الحديدى كلمة (ختر) بضم الخاء والتاء وختر كان صاحب ورشة فى امدرمان يعمل فيها عشرات الناس وكثير من الصبية ويصنع اجمل صناديق للوارى ويعلم المهنة للصبية .
العم ناصر الحداد كان يتحمل مسئوليته كمواطن امدرمانى وعلى يديه تعلم كثير من الصبية الحرفة , منهم الفنان ابراهيم عوض عبدالمجيد وصديقه سليمان قلووظ . وصديقهم كان عمر ابراهيم بدرى الذى كان يدرس فى الاحفاد الا انه كان لا يفترق عنهم .
ملجأ القرش انشئ بجمع الفلوس قرشا قرشا. وكان بعض الطلبة يسكنون فيها ويدرسون .لقد تخرج منها اعظم الصنّاع , بعضهم اصدقاؤنا ومنهم الميكانيكين والبنايين والسروجية ... الخ .وكانت لهم فرقة موسيقية رائعة وفريق جمباز وفريق كرة قدم وفرقة كشافة وليتنا نتحمل مسئوليتنا ونحن الان مقصرون بالرغم من الفلوس التى تنهب من المواطنين من رسوم وزكاة وضرائب ؟ واين فلوس البترول ؟ .
فى الثمانينات كنا فى الطريق الى الخرطوم فى الصباح مع شقيقى الشنقيطى رحمة الله عليه . فلاحظنا مجنونا يقف فى الصينية امام صيدلية امدرمان فى السوق . وشاهدنا اثنين من المجانين فى صينية المجلس البلدى , وثالث متسلقا عمود النور فى وسط الصينية فى الموردة , فقال الشنقيطى ( بلد عجيبة , يعنى الواحد لو هسى جنه ما يلقى ليه صينية فاضية .)
حتى المجانين قديما كانوا يعاملون برقة , وهنالك من يهتم بهم .(كرضم)مثلا , كان يجلس امام المجلس البلدى طيلة اليوم وهو يحدق فى قطعة من الحديد يمسكها بيده اليمنى بالساعات الطويلة . ثم يذهب الى منزل العم الضابط المتقاعد سليمان ابراهيم بالقرب من بوابة عبدالقيوم ويجد الملبس والمأكل والمسكن .
بعد ملاسنة مع رفيق الدرب مامون يوسف المامون ابن الموردة والذى لازمنى فى براغ والسويد , قلت لمامون عاجبك الكلام دا ؟ فقال لى ما جعلنى انفجر ضاحكا : كرضم قال شنو يا شوقى . وكرضم لم يكن يتكلم ابدا . وعندما خوطب فى سوق الموردة لم يرد. فقالوا له تعال يا كرضم هاك حديدة , فغسل القائل بنظرة باردة وقال ما صار حكمة ( حديدكم ما بشتغل معانا) .
(قهوة اول) كان اسم عرف به شيخ متقدم فى السن يفتل الحبال فى الشارع وتمتد حباله من منزل آل البيلى فى نفس شارع المركز الثقافى البريطانى سابقا ومكتبة البشير الريح الحالية , والشارع يتجه نحو الموردة . وفى الشارع منزل آل ابوسنينة وآل شكاك وعبدالله الشيخ وآل اسحق , منهم صديق الطفولة والشباب (ابو رزقة) وشقيقه عبدالعزيز رحمة الله عليه حلاق سوق الموردة المشهور. وفى الحى آل فرج الله , وآل قسم السيد الكابتن وآخرون . وعندما يفرغ الشيخ من عمله يطرق اى باب فى الحى . وعندما يسأل اذا كان يريد طعاما او شايا يقول (قهوة اول) ولهجته كانت اقرب للهجة النايجيريين. وبالرغم من شيطنتنا لم نكن نعبث ابدا بحباله .
المرضى والمجانين يعاملون الان وكانهم مجرمون . والمجرم هو المجتمع الذى يهملهم والغريب ان المسيحين والرهبان , خاصة فى الجنوب , كانوا ينشئون معسكرات كبيرة للمجزمين ويتعهدونهم بالرعاية والعلاج والأكل , وكذلك مرضى الكلزار والسل . وفى نهاية حكم عبود طرد المبشرون والقسسة وانتشر المجزمون فى السودان.
ويخبرنا العزيز هلال زاهر سرور فى كتابه ذكريات التونج كيف كان الناس يقفون بالعصى الغليظة لضرب المجزمين وابعادهم عن براميل (المريسة) حتى لا يدخلوا ايديهم فيها فيعافها الناس ويتركونها لهم . والسؤال لماذا لم يكن المجتمع يهيىء براميل خاصة للمجزمين فى الاحتفالات ؟ ولماذا ننفر نحن من المجزمين ؟ صديقى كمال كان مجزما , وكان يسكن فى العرضة كجار للخالة مريم والدة المبدع محجوب شريف فى
مواجهة منزل اختى فاطمة ابراهيم بدرى والسفير ولاعب الكرة قاقارين وشقيقه وزميل الدراسة النرب . تعرفت بكمال عن طريق ابن عمتى عثمان عبدالمجيد على طه . والغريب أنه كان هنالك أسرة ة هندية تشاطرهم السكن . والزوج على عكس الهنود منفتحا على السودانيين يحب العرقى والبنقو, وسجن لفترة لأنه زور روشته فى غياب طبيبه وتحصل على حبوب لا تصرف الا عن طريق الطبيب .وأخذ أهل الحى بالهم من أسرته فى غيابه .
وكان لنا صديق آخرمجزما اسمه رمضان فى فريق السوق . تعرفت به عن طريق صديقى الملاكم عبدالرحمن ككس(بكسر الكاف) عجلاتى فى السوق . وأخيرا جمع المبشرون المجزمين فى مستشفى التجانى الماحى فى بداية السبيعنيات . وكنا نشاهد الأطباء الأمريكان يحملون المونة على أكتافهم ويبنون الحمامات فى الجزء الشمالى. الا ان السلطات انتزعت المستشفى وصار مستشفى التجانى الماحى . وفى الاربعينات والخمسينات كان الاستاذ الأديب المبارك ابراهيم المذيع فى امدرمان ومقدم برنامج الحقيبة كاتب هذه المستشفى ومسئول الادارة . وكان العم جادالله والد الاخوة محمود وعلى ومنصور وآخرين , الدينمو المحرك فى ذلك المستشفى ويسكن هو وعائلته فى حوش الارسالية الذى حوى فصولا لمحو الامية وهو شرق المستشفى مباشرة , لعلاج كان مجانيا . الم نكن نحن قديما ارحم من اليوم ؟ .
على ظهر شهادة الميلاد السودانية , وهى الوثيقة التى كانت تقدم مجانيا , هنالك صيغة تقول (ان الوالد ملزم بتطعيم ابنائه فى خلال ستة اشهر من تاريخ الميلاد والا تعرض للسجن أو الغرامة أو العقوبتين معا . العلاج كان يفرض مجانيا وبالقانون . والان لا يجده الانسان بالفلوس.
بعض الناس كان يظن ان التطعيم ضد الجدرى مضر. وفى احد الايام وأثناء محاكمة مهمة سمح المفتش الانجليزى بدخول الناس الى حوش المحكمة على غير عادته . وحثهم على الدخول وعندما امتلأ الحوش قام بقفل الابواب وكشف ذراعه للتطعيم وقال (ما فى زول يتلأ بدون قراهة) . التحية
شوقى بدرى
|